Sunday, February 01, 2004

في اطار تحليل الرؤية الامريكية لمسألة الديمقراطية السياسية في تونس


في اطار تحليل الرؤية الامريكية لمسألة الديمقراطية السياسية في تونس

أقلام أون لاين العدد العـــاشرالسنة الثالثة/ فبراير 2004
ملاحظات حول المواقف الامريكية من دورالاسلاميين عامة والحركة الاسلامية في تونس خاصة في عملية البناء الديمقراطي
الأستاذ الطاهر الأسود (*)
"هؤلاء الاوتوقراطيين (في العالم العربي) يحاولون القول: 'حسنا لولانا لوجدتم انفسكم وجها لوجه مع هؤلاء الاسلاميين 'الاصوليين'. هؤلاء الاشخاص يعشقون هذه الحجة اي ان الاسلام يقف عقبة في الطريق لأن ذلك يبرر تواصل حكمهم الاوتوقراطي." 1
نوح فلدمان - كبير مستشاري بريمر ومؤلف كتاب "ما بعد الجهاد" - 30 سبتمبر 2003
"(...) مثلا رجل علماني قوي (مثل بن علي تونس او صدام من دون وحشية). فهذا المخرج سيكون له بعض ملامح ترسيخ الاستقرار (في العراق) على الاقل على المدى القصير."2
مقتطف من تقرير لـ"مجلس المخابرات القومي" التابع لوكالة المخابرات المركزية الامريكية في الاحتمالات المستقبلية التي سيتطور اليها نظام الحكم في العراق - 8 ديسمبر 2003
لا يخفى على اي كان ان احد المسائل الرئيسية بالنسبة للنقاش حول المسار الديمقراطي في المنطقة العربية عموما بما في ذلك تونس، هي مسألة وضع الحركات الاسلامية في علاقة بهذا المسار. و بالنسبة للولايات المتحدة فمن المعروف ان احد المخاوف الشائعة لدى السياسيين الامريكيين هو "خطر" سيطرة المناهضين للسياسات الامريكية، بما في ذلك الاسلاميين، على اي انتخابات جدية يمكن ان تقام في الاقطار العربية. لهذا نرى ان احد الزوايا الاساسية التي يمكن من خلالها التعرف على حقيقة الرؤية الامريكية لمسألة الديمقراطية السياسية في الاقطار العربية بما فيها تونس هي موقفها من الحركات الاسلامية ودورها بالنسبة للبناء الديمقراطي.
ويلخص الاستشهادان اعلاه بعناية احدث المؤشرات على وجهتي نظر تتنازعان الادارة الامريكية الحالية في علاقة بمسألة موقفها من "ديمقراطية اسلامية" ومن الدكتاتوريات العربية الحالية. و يشمل هذا النزاع مسائل اخرى متداخلة وبنفس الاهمية الاجرائية بالنسبة للسياسة الامريكية في المنطقة مثل: الموقف الواجب اتخاذه من الحركات الاسلامية وهل فكر كل الاسلاميين مماثل لفكر القاعدة؟ وهل هناك اسلاميون معتدلون؟ وهل من الضروري بالنسبة للولايات المتحدة فرض إقامة أنظمة علمانية في المنطقة العربية؟ وهل ان حكومة يقودها اسلاميون هي بالضرورة حكومة غير ديمقراطية؟...الخ.
خلفية وجهة النظر الامريكية المتطابقة مع الموقف التونسي القائل بتعميم تهمة "الارهاب" على جميع الحركات الاسلامية
على العكس من الموقف الفرنسي العام - بفصائله اليمينية واليسارية المهيمنة على الساحة السياسية - والذي يعرف انسجاما فيما يتعلق بالموقف الاستئصالي تجاه الحركات الاسلامية من اللعبة السياسية، وفي التعصب ضد اي مشاركة اسلامية فعلية في الحكم، فإن الموقف الامريكي يعرف انقساما معلنا، و لم تغير احداث 11 سبتمبر من جوهر هذا الانقسام. غير ان الاستتباعات السياسية للموقف الفرنسي، تتطابق مع موقف امريكي سائد لدى عديد الاطراف الامريكية المؤثرة في تقرير السياسية الامريكية. فبالرغم من اختلاف اسس مثل هذا الموقف الامريكي عن الموقف الفرنسي الا انه يلتقي معه على مستوى الاستنتاجات والسياسة العملية الواجب اتباعها، و التي تتلخص في اقصاء الاسلاميين من المشاركة السياسية الداخلية وتعميم تهم "التطرف" و"الارهاب" عليهم، اي عمليا موقف يدافع عن إقامة "ديمقراطيات" عربية من دون اسلاميين، حسب وصف تقرير صحفي امريكي تمت صياغته اثناء تصاعد الازمة الجزائرية سنة 11992.[3]
و الازمة الجزائرية مدخل مناسب هنا، ليس لأهميتها بالنسبة لتطور الاوضاع في تونس فحسب بل ايضا لملاحظة التقارب الامريكي الفرنسي من جهة والنزاع الامريكي الداخلي حول مسألة المشاركة السياسية الفعلية للاسلاميين في السلطة من جهة اخرى. وبطبيعة الحال ليس هناك الى حد الآن وثائق رسمية تكشف اسرار الموقف الامريكي خلال الازمة الجزائرية، غير ان كتابات حديثة تكشف لنا ما خلف كواليس الموقف الرسمي. ففي مقدمة مؤلفه الهام الذي نشر أخيرا "ما بعد الجهاد" (After Jihad)، لاحظ القانوني الشاب نوح فلدمان Noah Feldman المقرب من الاوساط الرسمية الامريكية والذي يلعب دورا مهما في صياغة الموقف الامريكي الراهن تجاه الظاهرة الاسلامية أهمية تطور الوضع الجزائري في صياغة الموقف الامريكي من الظاهرة الاسلامية بشكل عام. 4 ويكشف فلدمان كيف ان توتر الحكومة الفرنسية وموقفها المناهض من قيام حكومة جزائرية بأغلبية اسلامية قد ساهم في حسم الموقف الامريكي في اتجاه دعم انقلاب الجيش الجزائري على المسار الانتخابي، وهو ما تجسد في تصريح لمساعد وزير الخارجية الامريكي في بداية التسعينات ادوارد دجيريجيان لمح فيه الى اعتقاد الادارة الامريكية بحتمية انقلاب اي حكومة اسلامية الى الدكتاتورية حتى لو وصلت الى الحكم عبر المسار الديمقراطي، وهو ما يشير الى الموقف الذي ستتمسك فيما بعد بترديده الحكومة التونسية في جميع المحافل الدولية، حول تعميم تهمة "التطرف" على ظاهرة الاسلام السياسي.
مثال آخر عن موقف بعض الساسة الامريكيين المعادي للحركة الاسلامية اساسا، لكن في علاقة بالحركة الاسلامية التونسية هذه المرة، هو ما أحاط بمحاولة زيارة رئيس حركة النهضة، الشيخ راشد الغنوشي، الى الولايات المتحدة سنة 1994 من اشكالات. 5 فقد كان مقررا ان يشارك الغنوشي كمتحدث رئيسي في لقاء حول الشؤون الاسلامية بجامعة "جنوب فلوريدا" في اواسط شهر ماي من تلك السنة، غير ان احتجاجات قوية صدرت رئيسيا من بعض الاوساط المؤثرة في الكونغرس الامريكي، اتهمت الغنوشي بـ"التحريض على الارهاب" وبالتالي دعت الى عدم تمكينه من الحصول على تأشيرة لدخول الولايات المتحدة. وبفعل قوة نفوذ هؤلاء، ومع التردد الواضح انذاك للموقف العام لوزارة الخارجية الامريكية، مُنع الغنوشي في النهاية من دخول الولايات المتحدة وهو ما ادى الى احتجاج الباحثين الامريكيين المنظمين للندوة، والغائهم لها. ومما يثير الانتباه بالنسبة للتصريحات التي ادلى بها المعارضون لهذه الزيارة هو حرصهم على تشبيه الغنوشي بشيخ الجماعة الاسلامية المصرية عمر عبد الرحمان، والذي اتهمته الحكومة الامريكية بالتورط في هجمات ارهابية في نيويورك قبل ذلك بسنة.
و قد بالغ البعض انذاك في مدى تأثير معارضة الحكومة التونسية للزيارة في قرار منعها، وخاصة حول "الضغوطات" التي قامت بها. فسبب تجند اسماء كبيرة من الاوساط السياسية الامريكية في تلك الحملة لا يرجع بالتأكيد لتدخل النظام التونسي. ومن الاسماء المعروفة التي قادت الحملة لمنع الزيارة عضوا مجلس الشيوخ الجمهوريين والمعروفين بدعمهما المطلق لاسرائيل، الفونسو داماتو وجيسي هلمز. و لم تكن مشاركة اوساط اللوبي الاسرائيلي في التصدي لهذه الزيارة محصورة في اعضاء الكونغرس، بل شملت بشكل علني الجمعية الاساسية الممثلة للمصالح اليهودية في الولايات المتحدة "جمعية مكافحة التشهير". وفي الواقع لم يكن هذا الموقف مبنيا على فراغ فقد قدم المعترضون على الزيارة سواء في رسالتهم الى الخارجية الامريكية او في حملتهم الصحفية، مؤشرات كثيرة، تفسر موقفهم المتصلب. وتتلخص اساسا في تصريحات معادية للاحتلال الاسرائيلي وللحرب الامريكية على العراق يدعو فيها الغنوشي لشرعية المقاومة المسلحة للاحتلال. غير انهم لم يقدموا اية معطيات جديدة حول التهمة الاساسية التي قدموها للخارجية الامريكية والقائلة بتخطيط الغنوشي لعمليات ارهابية في تونس وذلك بناء على نص محاكمة النظام التونسي له بداية التسعينات والتي شككت في عدالتها الاوساط الامريكية المهتمة بحقوق الانسان.
وفي الواقع تعكس لنا هذه الحادثة مسألة اساسية تفرق بين موقف بعض الساسة الامريكيين القاضي بتجريم الاسلاميين جملة وتفصيلا عن نظرائهم الفرنسيين. فالخلفية الاساسية لموقف الامريكيين هو موقف الحركات الاسلامية من اسرائيل، وبالنسبة لهم فما دام هؤلاء يرفضون التطبيع ويدعمون المقاومة فإنهم "متطرفون". وبالتالي فالموقف الامريكي المناهض للتيارات الاسلامية هو بالاساس موقف سياسي وليس له علاقة بحجة تهديد الاسلاميين للديمقراطية وبالتاكيد ليس له علاقة بمسألة فصل الدين عن الدولة. وحتى تكتمل الدائرة نشير في المقابل الى حرص الحكومة التونسية منذ امد طويل على كسب الاطراف الامريكية المؤثرة من خلال دعم علاقتها بالاسرائيليين (انظر مقالنا حول العلاقات الامريكية التونسية في هذا العدد).
من جهة اخرى فإن الاشارة الواردة أعلاه في تقرير 8 ديسمبر 2003 لخبراء "مجلس المخابرات القومي" التابع لوكالات المخابرات المركزية والذي يضم في الواقع مسؤولين تنفيذيين سابقين في عدد من الادارات الاستخبارية الامريكية، حول "الاستقرار" الذي يمكن ان يجلبه "رجل علماني قوي" مثل بن علي الى العراق، تعكس لنا اسبابا اضافية تفسر عقلية نافذة في قطاعات مهمة من اوساط القرار في الولايات المتحدة تدعم "علمانية" النظام التونسي الحالي ومن ثمة تناهض الحركات الاسلامية. فـ"استقرار" نظام يقبل بالتطبيع مع اسرائيل ويعمل على استئصال الحركة الاسلامية معادلة لم تتحقق بالنسبة للامريكيين الا في امثلة قليلة في المنطقة العربية، خاصة عند استحضار المقارنة الازلية بين الوضعين في تونس والجزائر. فليس من الغريب ان يفضل هؤلاء الخبراء في بقية سردهم لاحتمالات تطور الوضع في العراق نظاما "علمانيا" مثل النظام التونسي على ديمقراطية توصل الاطراف الاسلامية الى السلطة.
وتتردد تفس هذه الرؤية في الولايات المتحدة في اوساط سياسية نافذة ومنابر اعلامية مؤثرة ومن آخر المؤشرات على ذلك مقال "كيف يحارب العرب التيار الاسلامي: رسالة من تونس" صادر في عدد الخريف لنشرية ناشيونال انترست وهي مقربة من تيار المحافظين الجدد حيث أنشأها مؤسس مدرستهم النظرية ارفينغ كريستول. ويدافع كاتب المقال مارشال بريغر بوضوح عن ان افضل طريقة للتعامل مع التيار الاسلامي هي تلك السياسة الاستئصالية التي تعرض لها في تونس، و ينهال في المقابل بالنقد على المنظمات الحقوقية لتقاريرها التي تكشف وضعية المساجين الاسلاميين في تونس. 6
حول الموقف الامريكي القائل بضرورة تشريك "الاسلاميين المعتدلين" في المسار الديمقراطي

لقد اعتقد البعض ان احداث 11 سبتمبر وما تلاها من تعليقات كثيرة في الاوساط الامريكية مست حتى الاسلام كديانة "تحرض على الارهاب" بالاضافة الى الحملة الامريكية التي طالت حتى اطرافا معروفة بعلاقتها بتنظيمات بعيدة عن القاعدة مثل محاصرة نشاط الاخوان المسلمين في اوروبا من خلال استهداف شخص يوسف ندا وغيره من الشخصيات الاسلامية، دفع كل ذلك الى الاعتقاد بأن الموقف الامريكي من الحركات الاسلامية سيزداد تصلبا، وان "الحرب على الارهاب" ستعمها جميعا. وهو ما اعتقده بكل تأكيد النظام التونسي الذي سارع مثله في ذلك مثل انظمة عربية اخرى كالنظام المصري، الى الترويج "لصحة خياره" في استئصال الحركات الاسلامية وصحة اتهامها جميعا بدعم "التطرف" و"الارهاب". وهو ما عبر عنه على سبيل المثال السفير التونسي في الولايات المتحدة، في احدى المقابلات التلفزية اياما قليلة اثر احداث 11 سبتمبر. 7

و لم يكن الكثيرون يتوقعون ان تخرج من بين ركام احداث 11 سبتمبر مواقف امريكية يمكن ان تدعو للتفريق بين الاسلاميين اوحتى وصف بعضهم بالاعتدال. غير انه وبعكس أغلب التوقعات والاماني فإن التورط الامريكي المباشر والمتزايد في المنطقة العربية والذي استدرجته اليها استراتيجية المحافظين الجدد الدوغمائية "الاستباقية" قد استثار في الادارة الامريكية حاستها البراغماتية التقليدية وهو ما تجسد ليس في تزايد اصوات اكاديمية مقربة من الادارة الامريكية تدافع عن وجود "اسلاميين معتدلين" وعن ضرورة اشراكهم في بناء "ديمقراطيات اسلامية" فحسب، بل وايضا في ارتقاء مثل هذه الاصوات الى مواقع تنفيذية، والاكثر من ذلك في التعبير عن رؤيتهم والترويج لها بقوة على اعمدة أهم الصحف وعبر البرامج التلفزية الرئيسية. وقد عبر عن هذه التطورات تعيين استاذ القانون الشاب في "جامعة نيويورك" نوح فلدمان على رأس مستشاري بريمر ضمن ادارة الاحتلال الامريكي في العراق.

وقبل التعرض الى مسار فلدمان الشخصي نشير الى أن وضعه الخاص ورغم ما يحمله ذلك من مفارقات هو ببساطة مؤشر على تزايد في درجة نفوذ الاراء المنادية باشراك الاسلاميين في بناء المسار الديمقراطي في الاقطار العربية داخل الاوساط الرسمية الامريكية. وفي الواقع ليس من الجديد ان تعبر اصوات امريكية عن مثل هذا الموقف خاصة قبل 11 سبتمبر. وليس النفوذ الاكاديمي الواسع بالاضافة الى الارتباطات السياسية بادارة كلنتون لباحث كبير مثل استاذ دراسات الشرق الاوسط في جامعة جورج تاون بواشنطن، جون اسبوزيتو، والذي عرف بمثل هذه المواقف الا تعبيرا عن علاقته ببعض الاوساط النافذة في الولايات المتحدة. ومن المعروف ان اسبوزيتو قد دافع بشكل دائم عن ضرورة تشجيع الاوساط الاسلامية المعتدلة في المشاركة في بناء الديمقراطية في الاقطار العربية، و هو يكن بشكل خاص احتراما كبيرا للتجربة الاسلامية في تونس ولرئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، عبر عنه بشكل متواصل سواء في كتاباته السابقة او اللاحقة لاحداث 11 سبتمبر والتي تتمتع برواج كبير سواء لدى الاوساط الاكاديمية او السياسية الامريكية. ومن المهم ان نعرف في هذا الاطار ان اسبوزيتو يلقى نقدا لاذعا ويتعرض لهجوم لا يتوقف من الاوساط الداعمة لاسرائيل وخاصة من "باحثين" من نوع دانيال بايبس، والذين يعملون بوسائل مختلفة للتقليل من تفوذه ومن ذلك محاولتهم مؤخرا دفع الكونغرس الى سن قوانين خاصة للتقليل من تأثير رؤى باحثين مثل اسبوزيتو في الاوساط الاكاديمية الامريكية.

غير ان اهم الاصوات السابقة لاحداث 11 سبتمبر والتي يمكن ان نشير اليها في علاقة بمواقف مسؤولين امريكيين مساندة لإشراك الحركة الاسلامية في المسار الديمقراطي نجدها في اوساط الاجهزة البيروقراطية المخابراتية والديبلوماسية الامريكية المختصة في شؤون المنطقة العربية، والتي تعتبر من اكثر الاوساط معرفة بالاوضاع العربية، وهي تتعرض منذ صعود نجم المحافظين الجدد الى اتهامات من نوع "الاستشراق" - بمعنى تحولهم الى التعبير عن الرأي العربي في الولايات المتحدة عوض التعبير عن الموقف الامريكي امام العرب. ومن الملاحظ ان مثل هؤلاء الاشخاص قد تمتعوا بمواقع تنفيذية خاصة في اواخر الثمانينات وبداية التسعينات. ومنهم بالنسبة للاوساط المخابراتية المسؤول الكبير سابقا في وكالة المخابرات المركزية الامريكية اواخر الثمانينات ونائب رئيس "مجلس المخابرات القومي" اواسط التسعينات، غراهم فولر، والذي لايزال يحظى بمكانة خاصة في الاوساط الاعلامية الامريكية كاحد اهم الخبراء الامريكيين في شؤون المنطقة العربية. وقد كان فولر في اغلب مشواره ضمن دوائر المخابرات الامريكية يعمل في المشرق العربي وخاصة في المناطق الساخنة منه، مما ساهم في صياغة اسلوبه للتعامل مع الاوضاع السياسية هناك على اساس براغماتي وعملي. وقد عبر فولر في السنين الاخيرة عن اعتقاد جازم بأهمية تشريك الاسلاميين المعتدلين في بناء الديمقراطية في الاقطار العربية. ومن اهم عناصر تحليله هي رؤيته للحركة الاسلامية كأحد التعبيرات المعاصرة عن الطموحات الوطنية للشعوب العربية، وبالتالي يرى ان وجودها غير قابل للاستئصال ولذلك ليس هناك من خيار حسب رايه الا التعاون مع الاطراف المعتدلة فيها لصياغة وبناء الديمقراطية، و التي يرى في إقامتها خيارا ضروريا ونقطة دفاع اساسية عن الامن القومي الامريكي، و قد عبر عن هذه الرؤية قبل احداث 11 سبتمبر ولكن خاصة بعدها.8

اما في الاوساط الديبلوماسية فنشير بشكل خاص الى روبرت بليترو الابن، السفير الامريكي السابق في تونس اواخر الثمانينات، والذي شغل منصب مساعد وزير الخارجية الامريكي بين سنتي 1994 و1995. وقد كان بليترو ولايزال يتمتع بنفوذ وسمعة خاصين في اروقة الخارجية الامريكية، رغم اتهامه من قبل اوساط متعصبة لاسرائيل بالدفع الى تطبيع متسرع للولايات المتحدة مع منظمة التحرير الفلسطينية، ورغم ابتعاده الرسمي عن صياغة السياسة الامريكية وانهماكه في ميدان الاعمال خاصة تلك المرتبطة بالمنطقة العربية، انضم بليترو مؤخرا الى مجلس ادارة الشركة الضخمة اي. جي. م. التي يديرها رجل الاعمال المصري المعروف محمد تيمور. وربما يعتقد البعض ان بليترو مساند قوي لسياسات النظام التونسي الحالي، خاصة انه يرأس جمعية "حنبعل" والتي يُعتقد ان النظام التونسي يدعمها كإطار لتجميع مؤيدين لسياساته من داخل الاوساط الامريكية النافذة، وللترويج لتونس كموقع سياحي مهم عبر اجهزة الاعلام الامريكية. وفي الواقع فإن بليترو يزور تونس بشكل متواصل، كما ان تواصل اهتمامه بالوضع السياسي التونسي الداخلي بدا واضحا من خلال لقائه بالرئيس التونسي بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية الاخيرة، وادلائه بتصريحات حول الوضع في البلاد. غير انه بالرغم من العلاقة القوية ظاهريا التي تربط بليترو ببن علي، فإنه قد عبر اكثر من مرة وبشكل علني عن اعتقاده بوجود اسلاميين معتدلين، وبأنه "ليس كل اصولي هو ضرورة ارهابي". ففي حوار مع احد الدوريات الامريكية عندما كان يباشر مهامه كمساعد لوزير الخارجية الامريكي، وذلك في سبتمبر 1995، سُئل بليترو عن موقف الرئيس التونسي الذي ينفي "بشدة" وجود اسلاميين معتدلين، والذي يؤمن بان هدف "كل الاصوليين هو إقامة دولة شمولية واوتوقراطية"، حينها اصر بليترو في الدفاع عن موقفه ولو بشكل ديبلوماسي من خلال الاشارة الى ان موقف الرئيس التونسي او غيره ينبع من "ظرفية سياسية خاصة" وانه لا يعبر عن "تحليل موضوعي واكاديمي للظاهرة الاسلامية".9 ويمثل هذا الموقف الرسمي عمليا، لسفير امريكي سابق في تونس، امتدادا لمؤشرات عن تفكير امريكي غير جديد يرجع لما قبل 7 نوفمبر 1987، في التفكير في "الحوار" مع الحركة الاسلامية التونسية، كما اشار الى ذلك احد الصحفيين الامريكيين المقربين من الاوساط الرسمية الامريكية سنة 1986.10

إن هذه المواقف لمسؤولين ولشخصيات نافذة في الولايات المتحدة قبل احداث 11 سبتمبر تدعمت اخيرا من خلال الموقع الذي يحتله نوح فلدمان، والذي يدافع بوضوح ومن دون مواربة، سواء في مؤلفه "ما بعد الجهاد" او في مقالاته ولقاءاته التلفزيونية اللاحقة، عن ضرورة إقحام الاسلاميين المعتدلين في العملية السياسية ومن ثمة العمل على بناء ديمقراطية اكثر مصداقية من الديمقراطيات الشكلية المنتشرة عربيا والتي لاطالما دعمتها الادارة الامريكية فيما مضى. ومؤلفه "ما بعد الجهاد" هو أصلا مقتطع من بحث الدكتوراه الذي انجزه في القانون الدستوري الاسلامي، والذي لم يكن يتوقع ان يحظى بشعبية خاصة لدى الادارة الامريكية، حيث لم يمض وقت طويل على شغله منصب استاذ القانون الدستوري في الجامعة المرموقة "جامعة نيويورك" حتى اقترحت عليه الادارة الامريكية الحالية الالتحاق بادارة الاحتلال الامريكي في العراق للاشراف على كتابة الدستور العراقي وللمساهمة في وضع اسس نظام الحكم القادم. وقد وجه فلدمان في كتابه ملاحظات مباشرة عن رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، تعكس فهما شاملا وعميقا للظاهرة الاسلامية والاجتهادات المتعلقة بمسألة الديمقراطية السياسية. ومن هذه الملاحظات ما يلي:

"كيف يمكن تحديدا للاسلام والديمقراطية ان يتعايشا؟ (...) في السنوات الاخيرة ظهرت مقترحات متنوعة لاسلام ديمقراطي مبني على التشاور، ومبدأ مشاركة المحكوم، والتعددية السياسية. اسلاميون ديمقراطيون - من مثقفين مثل التونسي المنفي راشد الغنوشي، الى سياسيين مثل الرئيس الايراني محمد خاتمي، والى الناخب المسلم العادي - لديهم مواقف مختلفة من الديمقراطية الاسلامية. غير ان مختلف ارائهم تتجه في نقطة معينة للالتقاء ويمكن ان تتظافر لتقديم فكرة عامة عن نظرية الديمقراطية الاسلامية." 11

و في مكان اخر يذكر فلدمان الغنوشي كأحد الاسماء الاساسية للمسلمين الديمقراطيين، وأفكاره كمصدر ضمن مصادر الافكار التي يدافع عنها في كتابه:
"الديمقراطية والاسلام فكرتان متغيرتان انتهيتا الى الالتقاء عبر مسار القرن (الماضي). لكنهما الان فقط، و تحديدا في العشرية الاخيرة، دخلتا مرحلة اصبح فيها التأليف الواعي لهما إمكانية حقيقية. البعد الثقافي لهذا التأليف يتمثل في محاولة البعض جعل العلاقة بين الديمقراطية والاسلام قابلة للفهم من خلال التجريد الفكري. وهذا العمل يشمل كتابا ومفكرين في العالم الاسلامي، اعمالهم لاتزال مجهولة لدى غالبية الغربيين: العالمين المصريين يوسف القرضاوي والمرحوم محمد الغزالي، والمثقف التونسي والناشط السياسي لفترة راشد الغنوشي والذي يعيش الان في المنفى، والمثقف الايراني عبد الكريم سورش والذي يسافر بين ايران وجامعات امريكية مثل يال وهارفارد (...) يعمل هؤلاء على التركيز على نقاط التطابق والاشتراك بين الاسلام والديمقراطية. وأفكارهم تنعكس في فصول هذا الكتاب التي تناقش التطابق بين الديمقراطية والاسلام." 12
وحول التجارب الاسلامية الاخرى، يرى فلدمان ان التجربة الايرانية تحمل في طياتها الكثير من العناصر الايجابية، في حين رأى في المسار الانتخابي الجزائري "فرصة ضائعة" لاختبار تجربة ديمقراطية اسلامية فعلية، كما يرى في تجربة الاحزاب الاسلامية التركية نموذجا للحركات الاسلامية التي ترغب في المشاركة الايجابية في البناء الديمقراطي في الاقطار الاسلامية، ويرى انها بصدد لعب دور فعلي في تحقيق ديمقراطية فعلية لا تعتمد نظاماعلمانيا مجردا ومنفصلا عن واقع دولة يبقى سكانها في أغلبهم متمسكين بتقاليدهم الاسلامية. كما يلاحظ الادوار الايجابية المماثلة التي تلعبها الاحزاب الاسلامية في البناء الديمقراطي الحثيث لدول اسلامية اخرى مثل اندونيسيا وماليزيا والباكستان.
ولم تتغير مواقف فلدمان الاساسية بانخراطه في دواليب الادارة الامريكية. حيث يرى ان ديمقراطية فعلية في الاقطار العربية ضرورية، وان الثمن الضروري لتحقيقها هو القبول بواقع ان اسلاميين معتدلين او غيرهم ممن لا يدعمون بشكل كامل السياسات الامريكية في المنطقة سيسيطرون في الاغلب على اية انتخابات جدية، وهي في رأيه مرحلة ضرورية للنضج الديمقراطي في المنطقة، ولو انه من غير الواضح مدى انسجام مساهماته السياسية من خلال وجوده ضمن ادارة الاحتلال الامريكي في العراق مع ارائه العامة المذكورة أعلاه.13 و عموما تتشابه اراء فلدمان مع تحاليل الصحفي الامريكي توماس فريدمان في السنوات الاخيرة في علاقة بالتجربة الديمقراطية في ايران وخاصة في السنة الماضية خلال زيارته لها، حيث لاحظ المظاهر الايجابية لتجربة الحكم في الجمهورية الاسلامية، من حيث احتواؤها للاوساط الاسلامية المحافظة ضمن تجربة تداول ديمقراطي يمكن حسب رأيه ان تنضج في الاتجاه الصحيح، وتشكل نموذجا لبقية الدول الاسلامية من حيث نجاحها في إحداث "التوازن بين العقيدة الدينية والديمقراطية".14
وفي الواقع فإن التخوفات الامريكية المتزايدة من تأثير تواصل الاسلوب الدكتاتوري في الحكم في نشوء اطراف ومنظمات من نوع او على علاقة بمنظمة القاعدة تهدد المصالح الامريكية، ليست محدودة بل تعرف بعض الرواج مؤخرا كما ان هذه التخوفات حقيقية وليست مجرد بالونات اختبار اعلامية وذلك على الاقل في بعض الاوساط الامريكية. فقد صدر حديثا (30 ديسمبر 2003) تقرير عن المؤسسة البحثية النافذة في واشنطن (مجلس العلاقات الخارجية) بعنوان "افريقيا، محميات الارهاب"، تم فيه إدراج تونس، الى جانب الجزائر ومصر، ضمن الدول الافريقية التي تمثل تهديدا متوسط المدى في علاقة بامكانية تطور "التهديدات الارهابية" فيها ومنها.15ومن المثير ان قائمة الدول الافريقية التي وردت في هذا التقرير لا تتعدى العشر دول، كما ان دولا تعرضت لاعمال "ارهابية" واضحة مثل المغرب لم يقع الاشارة اليها. ويفسر معد هذا التقرير ادراجه لتونس ضمن قائمة الدول التي تحتمل ظهور "المنظمات الارهابية" فيها الى الانغلاق الكبير للنظام السياسي فيها، مقابل قمع الحركة الاسلامية المعتدلة. وبغض النظر عن دقة هذا التقرير فإنه يعكس قلقا حقيقيا لدى بعض الاوساط الامريكية المؤثرة في صناعة السياسة الخارجية من اثار طبيعة سياسات النظام التونسي الحالي وذلك طبعا خشية على المصالح الامريكية وليس تعاطفا مع حركة النهضة او غيرها من الاطراف المعارضة.
العوامل التي يمكن ان تؤثر في رجحان احد الموقفين على حساب الاخر
إن الرؤى التي تدور في واشنطن حول المسائل اعلاه تتعلق اساسا بالظرفية الخاصة لهذا النقاش، اي الاحتلال الامريكي للعراق، و يمكن ضبط هذه العلاقة في النقاط التالية:
- إن واقع الاحتلال الامريكي للعراق وما يثيره بوضوح من انخراط لكثير من الاسلاميين سواء داخل العراق او خارجه في المقاومة بجميع مستوياتها العسكرية كانت او السياسية سيكون له بالتأكيد تأثير على اتجاه النقاش الامريكي حول المسائل اعلاه. غير ان تصاعد الحضور الاسلامي في المقاومة العراقية لا يعني بالضرورة تزايد اسباب التصلب الامريكي تجاه الحركات الاسلامية بشكل عام وهو الموقف الذي سينعكس بالضرورة على رؤيتها لمسألة الدور الذي يمكن ان يلعبوه في أقطار اخرى مثل تونس. فتصاعد المقاومة حتى الان يدفع الادارة الامريكية للتفكير في مخارج لانسحابها من العراق - ما يسميه البعض في واشنطن بـ"استراتيجيا الخروج" - اكثر من التفكير في وسائل للبقاء. و بالتالي فرغم ان ذلك يبدو وضعا متناقضا الا انه حقيقي: طابع اسلامي متزايد للمقاومة العراقية او غيرها من الاطراف التي تقف في مواجهة المشاريع الامريكية يجعل الرغبة الامريكية في ايجاد حل وسط مع الظاهرة الاسلامية بشكل عام اكثر احتمالا وليس العكس.
- إن الانخراط المباشر والتورط السياسي الامريكي في الوضع الداخلي العربي من خلال المثال العراقي، سيضع الامريكيين امام حقيقة بات من المستحيل التغاضي عنها: الحاجة الضرورية لإقحام الاطراف الاسلامية - التي تقبل بذلك - في الترتيب السياسي الداخلي. إن وعيا امريكيا بهذا المعطى اصبح اكثر وضوحا مع تصاعد الصراع داخل العراق، و تطور علاقاتهم سواء مع الاطراف الاسلامية السنية او الشيعية.
- بناء على ما ذكرناه اعلاه وبالتخصيص على المثال التونسي فإن الهشاشة السياسية وبالتأكيد الاقتصادية لـ"المعجزة التونسية" وهو الامر الذي لا يخفى على الاوساط الامريكية المعنية، بالاضافة الى التصاعد الواضح للتدين في البلاد الامر الذي يعلمه بالتأكيد الامريكيون، ينفي عن تونس الاستثناء الذي طالما ضمنه المسؤولون التونسيون في خطابهم للاطراف الغربية بما في ذلك الطرف الامريكي. وطال الزمن ام قصر فلا مفر امام الولايات المتحدة من ضم تونس لنقاشها الساخن حاليا حول الدور الذي يمكن ان تلعبه الحركات الاسلامية في اللعبة السياسية الداخلية.
ومن غير المعروف على وجه التحديد علاقة الآراء العامة التي يدافع عنها فلدمان بالتصريحات والمواقف الرسمية الامريكية للرئيس بوش ومستشارته للامن القومي كوندوليزا رايس حول "امكانية تعايش الديمقراطية والاسلام" وحول "ديمقراطيات اسلامية" والتي تم اطلاقها في اطار ما سمي بـ"مبادرة الشرق الاوسط الاوسع" خلال الاشهر الاخيرة. غير اننا اشرنا الى ان البرامج السياسية لـ"دمقرطة" الاقطار العربية، وتونس بالتحديد، في ذهن المحافظين الجدد مرتبطة بخطط عسكرية شاملة، كما انها شديدة الارتباط بمشاريع التطبيع مع اسرائيل، والسياسات الشارونية، ما يجعلها شديدة التقارب مع الملامح التقليدية للاستئصاليين من الاوساط الامريكية والذين يهاجمون الحركات الاسلامية بشكل عام، ولا يقبلون الحوار معها (حول عرضنا ونقاشنا لرؤية "دمقرطة" المنطقة العربية لدى المحافظين الجدد وامتداد ذلك في السياسة الامريكية في تونس انظر مقالنا في هذا العدد حول ثوابت العلاقات الامريكية التونسية
والتفسير الوحيد لهذا الغموض والتداخل بين اطراف مؤثرة تتناقض في تقويمها للحركات الاسلامية هو ان السياسة الامريكية حاليا وخططها المباشرة في المنطقة في حالة غليان وتحت ضغوطات شديدة، مما يجعلها غير دقيقة حتى بالنسبة للقائمين عليها وهو ما يكشف ان الكثير من الخطط الامريكية هي في حالة التجربة وتخضع للغريزة الاساسية للسياسة الامريكية اي الاسلوب الذرائعي الذي لا يتقيد بمبادئ كلية، بالرغم من نجاح المحافظين الجدد في جر ادارة بوش الابن الى حرب ايديولوجية، الامر النادر في التاريخ الامريكي. وكما اشرنا اعلاه فإن التصاعد المؤكد للمقاومة العراقية والطابع الاسلامي الذي تتخذه احيانا كثيرة سيلعب دورا هاما في امكانية الدفع بالادارة الامريكية الى محاولة البحث عن حلول وسطى مع الظاهرة الاسلامية، تتفهم تجذرها في المعادلات السياسية في المنطقة العربية، وهو ما سيتداخل مع القناعة الامريكية المتزايدة بهشاشة الانظمة السياسية العربية، وهو ما يهدد حسب الرؤية الامريكية الامن القومي الامريكي، قبل ان يكون انتهاكا لحقوق الانسان العربي، فبالتأكيد لا تضع الادارة الامريكية مقاومة هذه الانتهاكات على رأس اولوياتها.
إن الاستتبعات المباشرة لهذا الموقف الامريكي ستشمل بالضرورة الساحة التونسية، من جهة رؤيتها وتقويمها لدور الحركات الاسلامية، ولهذا ستكون اقل استعدادا بكثير لتقبل الخطاب الرسمي التونسي المهترئ حول "التطرف الاسلامي" في العام. فالولايات المتحدة تحولت الان وبشكل ما الى احد الانظمة "الزميلة" للدكتاتوريات العربية القائمة، وهي على اطلاع مباشر على الاوضاع الداخلية العربية، ولن تنطلي عليها بسهولة الاراء القائلة بحتمية الابقاء على الطابع الدكتاتوري للانظمة السياسية العربية حتى يتم تخطي "الخطر الاصولي". غير ان تغير الموقف الامريكي في رؤيته للساحة التونسية ليس مرتبطا بتطور الاوضاع في العراق فحسب بل يشمل ايضا تغير الاوضاع في تونس. ويتعلق ذلك على وجه الخصوص بتخلخل القبضة الحديدية للنظام الحالي على المجتمع، الامر الذي لا يحصل عادة حسب تقاليد التغيير السياسي في تونس الا اثر دفعة قوية من جهة الحراك الاجتماعي عبر الواجهة النقابية العريقة في تونس. عندها فقط سيصبح للصوت السياسي الذي تعبر عنه الحركة الحقوقية الان تأثير حقيقي. وطبعا فالحركة الاسلامية التونسية تتموقع الان في صفوف هذه الحركة الحقوقية بما يجعلها في مقدمة الاطراف السياسية التي يمكن ان تستفيد من اي اضطرابات اجتماعية في البلاد. كما أن التدين المتزايد في صفوف المجتمع التونسي يوفر ظروفا موضوعية لا شك فيها لعودة قوية للحركة الاسلامية ولو ان ذلك سيأخذ بالتأكيد اشكالا ومسميات جديدة وربما حتى اكثر من تعبيرة اسلامية، او تعبيرات اسلامية قومية ديمقراطية من نوع جديد، وهي المعادلة التي تبدو اكثر احتمالا خاصة في ظل التطورات التي يشهدها الوضع العربي على المستويين الفكري والسياسي.
إن التأثير الامريكي سيكون محدودا في حالة إمساك الشارع التونسي بالمقاليد السياسية في البلاد. غير انه سيكون مهما في حالة نظام يعتمد في استراتيجيته السياسية العامة على الدعم الخارجي وليس على دعم شعبه. والمفارقة تجعل تغير الموقف الامريكي مرتبطا بالتحديد بالتدخل المتزايد للتونسيين في شؤونهم الداخلية. إن هذا العامل إضافة الى التراجع المحتمل لدور المحافظين الجدد في صياغة السياسة الخارجية الامريكية، بفعل فشل خططهم في ديمومة الاحتلال في العراق، من الممكن ان يجعل الامريكيين يعيدون قراءتهم للرؤية الاستئصالية للنظام التونسي وللدور الذي يمكن ان يقوم به الاسلام السياسي في البناء الديمقراطي. وهو ما سيكون له تأثير مؤكد على المسار الديمقراطي في تونس. ومن المؤكد انه ليس من مصلحة الحركة الاسلامية في تونس الجري وراء الطرف الامريكي، وليس هناك على كل حال ما يدل على ذلك. فقد أصبح من المعروف ان الامريكيين لا يحترمون الا الاطراف القوية، ولن يدفع الامريكيين الى الاقرار بالدور الاساسي الذي يجب ان تلعبه الحركة او الحركات الاسلامية في تونس الا ما تساويه على مستوى الدعم الشعبي. ولن تعترض حركة النهضة في هذا الشأن عواقب حقيقية فالالتزام الواضح للشعب التونسي بالاسلام والرصيد النضالي للحركة الاسلامية في الدفاع عن تعددية سياسية حقيقية والتمسك بمواقفها بالنسبة الى حياة اجتماعية كريمة والتصدي للهجمة الوحشية للبرنامج النيوليبرالي لأقطاب العولمة بالاضافة الى مواقفها المساندة لقضايا الامة في فلسطين والعراق ستشكل الشرايين الاساسية التي تصلها بهموم المواطنين.
إن الحركات الاسلامية المعتدلة بوصفها تعبيرا معينا عن الطموحات الوطنية والديمقراطية لشعوب المنطقة مثلها في ذلك مثل بقية القوى القومية واليسارية الوطنية التي لا تزال مخلصة للرغبات الاساسية لاجزاء هامة من الجمهور العربي، لن يكون من السهل على الولايات المتحدة تخطيها، سواء تواصل وجود مجموعة المحافظين الجدد على راس الادارة الامريكية ام لا. ولا يجب الامتناع عن رؤية افق ارحب بالنسبة للحركة الاسلامية التونسية بسبب النجاحات الامنية والسياسية المؤقتة التي حققها النظام التونسي. فديمقراطية تشمل طيفا واسعا من الفصائل والتيارات الاسلامية المؤمنة بالمبادئ الديمقراطية الاساسية او المتأثرة بطرحها إضافة الى بقية العائلات الفكرية والسياسية الوطنية التونسية هو واقع بصدد التشكل ولن تنجح بعض الرؤى الاستئصالية المعزولة في ايقافه.
فكم كان عدد المؤمنين باستقلال وطني لشعوب مجزأة وفقيرة وقليلة التجربة من حيث العمل السياسي باشكاله المعاصرة سنوات قليلة قبل تحقيق هذا الاستقلال؟ حتى ان الموقف السياسي الداعي للاستقلال لم يتبلور على مستوى قيادات الحركات الوطنية في الاقطار العربية المختلفة سوى سنوات قليلة قبل تحقيقه. لقد كان ذلك ممكنا بالرغم من كل المحاولات اليائسة للانظمة الاستعمارية البائدة لسبب اساسي: الحاجة الموضوعية للاستقلال والتي تجسدت في الالتزام السياسي العنيد لاوساط شعبية واسعة لاجل تحقيقه. نحن الان من الناحية الموضوعية في مرحلة مماثلة، تستلزم تحولا مهما مماثلا لتحول الاستقلال السياسي وبناء الدولة الوطنية: مرحلة دمقرطة الدولة الوطنية. وهو الامر الذي يكرس طابعها الوطني اكثر مما مضى واكثر من اية شعارات براقة. وبالتالي لا تعني الحاجة لدمقرطة الانظمة العربية التخلي عن إنجاز الدولة الوطنية، فمن الضروري التصدي لأطروحات الاتباع الجدد للمحافظين الجدد من نخبنا العربية، والذين يعتبرون عودة الاحتلال العسكري خطوة الى الامام "إن كانت ستأتي بالديمقراطية" كأن فاقد الشيء يمكن ان يعطيه... كأن واقع الاحتلال الذي يعني عمليا نقض الدولة الوطنية - ذلك الاساس الضروري لقيام البناء الديمقراطي - قادر على إفراز مجتمع ديمقراطي.
وسواء كان الامر متعلقا بالدفاع عن سيادتنا الوطنية او دمقرطة الدولة الوطنية، فإن الحركة الاسلامية التونسية والعربية بشكل عام ستلعب كعادتها نفس الدور الفعال والقوي... اما ماذا ستقرره الادارة الامريكية حيال مشاركتها في البناء الديمقراطي فسيبقى دائما امرا ثانويا. فستربح الولايات المتحدة صداقة دول عربية ثابتة ومنيعة بجميع قواها السياسية الحية اذا قبلت التعامل معنا بعقلية تقبل بالتعاون وبالحلول السلمية وتنبذ العدوان بما في ذلك الاسرائيلي وتؤمن بالمصلحة الدولية لقيام انظمة ديمقراطية فعلية عبر انحاء العالم. أما إذا حملت عواصف الغرور والصلف بعقول امريكية اكثر نحو العتمة الدوغمائية التي يقبع في اعماقها المحافظون الجدد، فليس امام الاسلاميين وبقية القوى الوطنية سوى خيار واحد: عدم التزحزح لشبر واحد عما يجعلهم يمثلون المطامح الموضوعية والمشروعة لشعوبهم. وفي الحالتين فإن الحركات الاسلامية وبقية القوى الوطنية هي اصلا بصدد المشاركة في الدفاع عن السيادة الوطنية والبناء الديمقراطي... من دون انتظار إذن اي كان.
الهـوامش
[1] http://www.pbs.org/wgbh/pages/frontline/shows/truth/stake/feldman.html[2]http://www.cia.gov/nic/PDF_GIF_2020_Support/2003_12_08_papers/dec8_middleeast.doc [3] Los Angeles Times. January 26, 1992. U.S. Struggles to Deal With Global Islamic Resurgence Policy: The dilemma: How to promote democracy without encouraging new fundamentalist states? ROBIN WRIGHT; TIMES STAFF WRITER. Foreign Desk.[4] Feldman, N. After Jihad. America and the Struggle for an Islamic Democracy. New York: 2003: 3-16.5] St. Petersburg Times. July 5, 1994. Sheik's invitation to speak at USF stirs up battle. CHARLES HOSKINSON[6] Marshall Breger “How Arabs Fight Islamism: A Letter from Tunis” The National Interest Fall 2003.[7] http://www.pbs.org/newshour/bb/terrorism/july-dec01/arabviews_9-21.html [8]Fuller, G. “Islam, a Force for Change” Le Monde Diplomatique September 1999; Fuller, G. “The Future of Political Islam” Foreign Affairs Vol. 81 March/April 2002. [9] Robert H. Pelletreau, Jr. “Not Every Fundamentalist Is a Terrorist” The Middle East Quarterly September 1995.
“Middle East Quarterly: Do such pragmatic elements really exist? Many anti-fundamentalist Muslims emphatically deny their existence. For example, President Zine al Abidine Ben Ali of Tunisia points out that the "final aim" of all fundamentalists is the same: "the construction of a totalitarian, theocratic state."Osman Bencherif, Algeria's ambassador to the United States, says that "it is misguided policy to distinguish between moderate and extremist fundamentalists. The goal of all is the same: to construct a pure Islamic state, which is bound to be a theocracy and totalitarian." Are they wrong?
Pelletreau: They've made these statements from a political point of view based on where each of them sit and what each's political objectives are. President Ben Ali is concerned about instability in a neighboring state's flowing over and affecting the stability of Tunisia; and he sees an ever more radicalized and violent Islamic movement as the primary source of that instability. The Algerian ambassador represents his government and his government's point of view; his is also a political statement. Neither of their statements purports to be the result of an objective, academic analysis of the Islamic phenomenon across the board; rather, these reflect how each of them from his specific perspective sees one aspect of a larger whole.”
[10] Rupert, James. “Tunisia: Testing America’s Third World Diplomacy” World Policy Journal Vol. IV (Winter 1986-87).[11] Feldman, N. After Jihad…: 51. [12] Ibid. 182. [13] http://www.bostonreview.net/BR28.2/feldman.html; http://www.theglobalist.com/DBWeb/StoryId.aspx?StoryId=3603; [14] New York Times. February 25, 2000. A Rogue Worth Knowing. Thomas Friedman; http://www.pbs.org/newshour/bb/foreign_correspondence/jan-june02/friedman_6-20.html[15] http://www.cfr.org/background/africa_terror.php
(*) كاتب وباحث تونسي يقيم في الولايات المتحدة

0 Comments:

Post a Comment

<< Home