ملاحظات حول «الام المسيح»
ملاحظات حول «الام المسيح»
المشاهد العربي لا يستطيع الا ان يفطن للهوية المشرقية للمسيح وتعرضع للعذاب على يد متسلطين مدعومين من قوة كبرى. بقلم: الطاهر الأسود
في كلمة ومن دون إطالة فإن شريط ميل جيبسون الجديد "الام المسيح" شريط رائع بكل المقاييس. وأكثر من ذلك فإن مشاهدة الشريط في الولايات المتحدة الان تحولت الى حالة فريدة تشير الى تعطش الجمهور الامريكي الى مشاهدة أشرطة روحية وعميقة. ففي كثير من الاحيان يقضي جزء كبير من رواد "الام المسيح" أغلب فترات الشريط في بكاء وحتى نواح مسموع وكثيرا ما ينتهي الشريط بتصفيق طويل من قبل المشاهدين. وهي حالة لا يعرفها بدقة سوى من عاشوا حدث نزول شريط "الرسالة" للمخرج السوري الكبير مصطفى العقاد في قاعات السينما العربية بداية الثمانينات. ولا ترجع هذه الحرارة الخاصة تجاه الشريط الى عودة للمشاعر الدينية، فالتعلق بالدين في الولايات المتحدة، على عكس أوروبا، لم تكن أبدا ظاهرة محدودة او ضعيفة.
في البداية من الضروري ان نشير الى ان الإقبال الكبير الذي يشهده الشريط تجاوز أرقاما قياسية لأشرطة تجارية عديدة بما في ذلك شريط "سيد الخواتم" والذي تحصل على أغلب جوائز الاوسكار لاكاديمية الفنون أخيرا. وأصبح من الواضح انه لولا الصعوبة التي لاقاها جيبسون في الحصول على موزع لشريطه، وهو ما لم يتحقق الا بعد سنة كاملة من الموعد المتوقع لذلك، فإن "الام المسيح" كان سيفرض نفسه بقوة على مجلس إسناد الاوسكار التابع للاكاديمية. وبالرغم من ذلك فإن البعض يتوقع أنه رغم إنطلاق بثه في أواخر شهر فبراير/شباط أن يحصل على بعض جوائز السنة القادمة، بالرغم من ندرة حصول أشرطة تبث في هذا الوقت المبكر (خاصة فبراير) لجوائز الاوسكار للسنة القادمة.
وفي الواقع فإن الحملة التي قادها الصهيوني المعروف فوكسمان رئيس منظمة "مكافحة التشهير" والتي اعتبرت الشريط يروج "لمعاداة السامية" قد كان لها تأثير واضح في الاوساط الصناعية والتجارية والاعلامية في هوليود والتي تعرف نفوذا قويا للوبي اليهودي، وهو ما ساهم في تأخير ظهور الشريط على الشاشات وتوزيعه من قبل شركة "مستقلة" عن هوليود. وبالرغم من كل الدعاية المضادة—و في الواقع ربما بفضلها—فقد لقي ويلقى الشريط نجاحا منقطع النظير. بيد أن محتوى الشريط وأسلوبه ذاته قد كان له أثر كبير في جلب عدد كبير من المشاهدين.
ويتعرض الشريط بشكل خاص الى الساعات الاخيرة من حياة المسيح (مع بعض اللقطات الرجعية لإضاءة بعض الفترات من حياة المسيح قبل ذلك) والتي تسمى في الكتابات المسيحية بمرحلة "الالام" (The Passion)، وقد اتبع سرديا الروايات الواردة في الاناجيل الاربعة حول هذه المرحلة والتي تنقسم الى الاحداث التالية: خيانة يهوذا لعيسى (يشوع الناصري بالارامية) ورفاقه عندما أبلغ كهنة المعبد اليهود بهويته (رمزيا عندما قبله على خده قبلة الموت في حضور حراس المعبد) وبمكان وجوده في أطراف مدينة ايليا (القدس)، ثم جلب المسيح الى المعبد وإتهامه من قبل رؤساء المعبد بـ"الزندقة"، ثم مطالبة رئيس الكهنة الحاكم الروماني للمدينة بإعدام المسيح وتهديده بالثورة إن لم يستجب الحاكم الروماني لذلك، غير أن الاخير رفض النظر في المسألة بدعوى أن المسيح ليس من الناصرة وبالتالي هو خارج سلطته، ووجهه من ثمة الى الملك اليهودي المنصب قبل الرومان انذاك والذي رفض بدوره إصدار قرار بإعدام المسيح، ثم رجوع رؤساء المعبد مع جمهرة من مناصريهم الى الحاكم الروماني الذي أصدر في النهاية وبعد الضغط حكما بالجلد على المسيح، ثم حادثة الجلد الوحشية، ثم إصرار الكهنة مرة أخرى على إعدام المسيح من خلال الصلب بالرغم من جلده بقسوة وموافقة الحاكم الروماني على ذلك، ثم حمل المسيح للصليب وتوجهه خارج مدينة القدس لصلبه، وثم عملية الصلب، وأخيرا عملية "البعث" بعد الموت كما يؤمن المسيحيون.
غير أن قوة الشريط لا تكمن في اعتماد نص سردي معروف كأساس للسيناريو بل في عمله على إعادة تصوير الوقائع بشكل مؤثر او تعبيري (ذي صبغة مسرحية أساسا) غير مسبوق وتم إستعمال تقنيتين لتحقيق ذلك: المؤثرات المرئية والسمعية ذات التقنية العالية والذوق الرفيع (خاصة في إختيار موسيقى ذات طابع مشرقي تذكرنا كثيرا بموسيقى فرقة "رم" الأردنية) وإستعمال اللغتين الارامية (بالنسبة لأغلب الشخوص) واللاتينية (بالنسبة للشخوص الرومان) كأساس لغوي للشريط (دبلجة الشريط بالانجليزية تظهر كتابيا فقط في أسفل الشريط). وهو ما يجاري جزءا من المخيال المسيحي ولكن أيضا وخاصة يبرز بعض المظاهر الواقعية التي تم طمسها عبر الزمن بفعل التمركز المسيحي في اوروبا، الذي غيب عن أذهان الكثيرين الهوية "المشرقية" للمسيح. وقد حققت التقنيات الالكترونية حيلا مرئية لم يكن من الممكن في السابق تحقيقها غير أنها أضفت طابع شديد الواقعية على الشريط، وتجسد ذلك خاصة في مشهدي الجلد والصلب حيث يبدو جسد المسيح كأنه يتعرض بالفعل للتعذيب والجلد والصلب، وهو ما يمرر الدرس الأساسي وراء هذه المرحلة: صمود المسيح وتحمله العذابات الشديدة. وبالفعل فقد حقق المخرج مبتغاه، ويمكن ان تسمع في القاعات السينمائية تأوهات المشاهدين في مثل هذه المشاهد. من جهة أخرى –و كمشاهد عربي—فلا يمكن عدم التفطن والشعور بالهوية "المشرقية" للمسيح، فإستعمال اللغة الارامية أبرز بشكل خاص القرابة القوية لهذه اللغة مع اللغة العربية. ومن المعروف حسب الدراسات الألسنية خاصة منذ القرن التاسع عشر أن الارامية بوصفها جزءا من اللغات التي كانت سائدة شمال الجزيرة العربية وتحديدا في منطقتي الجزيرة (شمال العراق) والشام كانت مصدرا أساسيا لتطور ما يسمى بـ"العربية الشمالية" (مقابل عربية الجنوب أي اليمنية). وفي الواقع فإن الاستماع الى هذه اللغة يشير بشكل قاطع الى أهمية اللغة الارامية في نشأة اللغة العربية، حيث لا يتعلق الامر بتشابه بعض الكلمات المعروفة (مثل إلهي وربي) بل يتجاوزه ليشمل حتى الاسلوب وتركيب الجمل. فالاستماع الى الحوار في هذا الشريط خاصة بالنسبة للمشاهد العربي لا يمثل متعة خاصة فحسب بل يعبر عن واقعية كبيرة في تشخيص تلك المرحلة. ويعبر ذلك عن قوة شخصية لافتة للمخرج لإقدامه على مثل هذه الخطوة الشجاعة والذي شارك بدوره في كتابة السيناريو، إضافة الى المجهود الخاص للممثلين الذين بذلوا مجهودا كبيرا لتحقيق هذا الهدف.
ويبدو موضوع كيفية تصوير اليهود الموضوع الأساسي الذي أثار الكثير من النقاش (في أغلبه متوتر خاصة من جانب المنظمة المتصهينة "مكافحة التشهير"). وفي الواقع فبرغم حرص جيبسون في شريطه على تحميل مسؤولية صلب المسيح الى رؤساء المعبد اليهود، فإنه عمل على تضمينه كثيرا من الإشارات التي يقصد منها عدم تحميل اليهود بشكل جماعي لهذه المسؤولية. فقد أشار الى رفض بعض رؤساء المعبد محاكمة المسيح، كما أشار الى عدد من اليهود الذين تعاطفوا مع المسيح. وفي الواقع فإنه من الصحيح من حيث المبدأ التخوف من إعادة إثارة هذه المرحلة من حياة المسيح، فقد استغلت الكثير من العقول المسيحية المتعصبة، منذ التاريخ القديم حتى القرن الأخير مرورا بعصر الظلمات في أوروبا المسيحية، الرواية المسيحية المتعلقة بتورط رؤساء المعبد اليهود في صلب المسيح في تعميم هذا الاتهام على جميع اليهود وهو ما شكل الأساس لظهور ظاهرة "معاداة السامية" في التاريخ الاوروبي، والتي كانت شبه غائبة في التاريخ العربي الاسلامي، حتى أن اليهود والى حد الان يعتبرون أن عصورهم الذهبية كانت في ظل الحكم الاسلامي خاصة في الأندلس. غير أن الشريط لا يستهدف بالنسبة الى مشاهد مسيحي هذه الفكرة وإنما يعمد أساسا الى إعادة تصوير مشاهد الالام، في وقت تجاوز فيه المجتمع الامريكي بشكل كبير (باستثناء بعض المناطق النائية في وسط وجنوب الولايات المتحدة) مشاعر "معاداة السامية".
ويبدو أن ردة فعل الأطراف الصهيونية على الشريط ترجع الى أسباب أخرى غير التعرض لرؤساء المعبد. فمن الواضح كما أشرنا أعلاه أن الشريط يصور تقريبا المسيح كشخص "مشرقي" تعرض للاضطهاد من قبل متسلطين يهود بدعم قوة كبرى (روما)، وهو في الواقع ما يستثير صورا موازية لدى أولائك المتعلقين بالصراع العربي الصهيوني. وفي تجربتي الخاصة كمشاهد للشريط فإن التفكير في الإضطهاد الصهيوني لعرب فلسطين كان في الواقع شديد الحضور في ذهني عند مشاهدتي للشريط، وهو ما لم أتوقع حدوثه، وهو كذلك ما جعلني أفهم تخوف منظمة "مكافحة التشهير" من عرضه. لكن ليس من الواضح إن كان المشاهد الامريكي قادرا على تلقف هذا المعنى، خاصة أن وسائل الإعلام الأمريكية الرئيسية تتجنب عرض مشاهد تبرز المجازر الحالية التي بصدد إرتكابها الاحتلال الاسرائيلي في الاراضي المحتلة.
ويبقى الان من غير الواضح أين سيعرض الشريط بالاضافة الى الولايات المتحدة، وإذا تحقق ما راج أخيرا عن توزيع المنتج التونسي طارق بن عمار للشريط في أوروبا، فإن إمكانية عرضه في القاعات العربية تصبح شديدة الاحتمال. وسيكون ذلك فرصة جيدة للإطلاع على منتجات إيجابية للولايات المتحدة، فليس كل الانتاجات الفنية الامريكية تجارية كما يعتقد البعض، وفي الجانب السينمائي هناك حركية فنية كبيرة وكثيرا من الأشرطة الراقية فنيا يتم إنتاجها سنويا، وقد وقع منح بعضها جوائز في حفل الاوسكار الأخير (مثل شريط "ضائع في الترجمة" لصوفيا كوبولا ابنة المخرج الكبير فرانسيس كوبولا، وشريط "مستيك ريفير" للمخرج كلنت ستود وبطولة الفنان الرائع والإنساني شون بن) لكن للأسف لا يوزع العرب على قاعاتنا السينمائية سوى الأشرطة التجارية ذات المستوى الفني المتوسط. ونأمل ألا يعترض البعض على عرض الشريط عربيا لأنه أداة لـ"التبشير المسيحي"، فهذا الشريط بالذات يؤكد على فكرة لا يجب أن ننساها كمسلمين، وهي أن عيسى بن مريم هو شخصية مقدسة مثله في ذلك مثل كل الرسل والأنبياء الاخرين. ثم أننا لا يجب أن ننسى أنه شخصية "مشرقية" تربطنا به روابط ثقافية أخرى، وهو الأمر الأكثر وضوحا بالنسبة لأي مشاهد عربي لهذا الشريط، على عكس الصورة التي طالما عرضتها الكنيسة في أوروبا المسيحية والتي كثيرا ما صورت المسيح بملامح شقراء وبروح لاتينية، وهو ما شكل أحد العناصر الاساسية للنزعة الأوروبية المركزية والتي تواصلت مع الفترة الاستعمارية. وبالتالي لا يجب أن تصدر لنا هذه الرؤية المغلوطة والمقلوبة مشاعر التخوف من المسيحية، كأنها تهديد للاسلام، فقد عاش إخوتنا العرب المسيحيين معنا ومنذ سنوات الفتح الأولى علاقة تعايشا فريدا، أثرت الجوانب الادارية والثقافية والاقتصادية للدولة الاسلامية المبكرة. وقد كان ذلك التوجه نحو التقارب أحد أسرار نجاحها وانتشارها ومن ثمة استيعاب مجموعات سكانية غير مسلمة ضمن ثقافة كثيرة التجانس.
الطاهر الأسود، باحث تونسي يقيم في الولايات المتحدة
في كلمة ومن دون إطالة فإن شريط ميل جيبسون الجديد "الام المسيح" شريط رائع بكل المقاييس. وأكثر من ذلك فإن مشاهدة الشريط في الولايات المتحدة الان تحولت الى حالة فريدة تشير الى تعطش الجمهور الامريكي الى مشاهدة أشرطة روحية وعميقة. ففي كثير من الاحيان يقضي جزء كبير من رواد "الام المسيح" أغلب فترات الشريط في بكاء وحتى نواح مسموع وكثيرا ما ينتهي الشريط بتصفيق طويل من قبل المشاهدين. وهي حالة لا يعرفها بدقة سوى من عاشوا حدث نزول شريط "الرسالة" للمخرج السوري الكبير مصطفى العقاد في قاعات السينما العربية بداية الثمانينات. ولا ترجع هذه الحرارة الخاصة تجاه الشريط الى عودة للمشاعر الدينية، فالتعلق بالدين في الولايات المتحدة، على عكس أوروبا، لم تكن أبدا ظاهرة محدودة او ضعيفة.
في البداية من الضروري ان نشير الى ان الإقبال الكبير الذي يشهده الشريط تجاوز أرقاما قياسية لأشرطة تجارية عديدة بما في ذلك شريط "سيد الخواتم" والذي تحصل على أغلب جوائز الاوسكار لاكاديمية الفنون أخيرا. وأصبح من الواضح انه لولا الصعوبة التي لاقاها جيبسون في الحصول على موزع لشريطه، وهو ما لم يتحقق الا بعد سنة كاملة من الموعد المتوقع لذلك، فإن "الام المسيح" كان سيفرض نفسه بقوة على مجلس إسناد الاوسكار التابع للاكاديمية. وبالرغم من ذلك فإن البعض يتوقع أنه رغم إنطلاق بثه في أواخر شهر فبراير/شباط أن يحصل على بعض جوائز السنة القادمة، بالرغم من ندرة حصول أشرطة تبث في هذا الوقت المبكر (خاصة فبراير) لجوائز الاوسكار للسنة القادمة.
وفي الواقع فإن الحملة التي قادها الصهيوني المعروف فوكسمان رئيس منظمة "مكافحة التشهير" والتي اعتبرت الشريط يروج "لمعاداة السامية" قد كان لها تأثير واضح في الاوساط الصناعية والتجارية والاعلامية في هوليود والتي تعرف نفوذا قويا للوبي اليهودي، وهو ما ساهم في تأخير ظهور الشريط على الشاشات وتوزيعه من قبل شركة "مستقلة" عن هوليود. وبالرغم من كل الدعاية المضادة—و في الواقع ربما بفضلها—فقد لقي ويلقى الشريط نجاحا منقطع النظير. بيد أن محتوى الشريط وأسلوبه ذاته قد كان له أثر كبير في جلب عدد كبير من المشاهدين.
ويتعرض الشريط بشكل خاص الى الساعات الاخيرة من حياة المسيح (مع بعض اللقطات الرجعية لإضاءة بعض الفترات من حياة المسيح قبل ذلك) والتي تسمى في الكتابات المسيحية بمرحلة "الالام" (The Passion)، وقد اتبع سرديا الروايات الواردة في الاناجيل الاربعة حول هذه المرحلة والتي تنقسم الى الاحداث التالية: خيانة يهوذا لعيسى (يشوع الناصري بالارامية) ورفاقه عندما أبلغ كهنة المعبد اليهود بهويته (رمزيا عندما قبله على خده قبلة الموت في حضور حراس المعبد) وبمكان وجوده في أطراف مدينة ايليا (القدس)، ثم جلب المسيح الى المعبد وإتهامه من قبل رؤساء المعبد بـ"الزندقة"، ثم مطالبة رئيس الكهنة الحاكم الروماني للمدينة بإعدام المسيح وتهديده بالثورة إن لم يستجب الحاكم الروماني لذلك، غير أن الاخير رفض النظر في المسألة بدعوى أن المسيح ليس من الناصرة وبالتالي هو خارج سلطته، ووجهه من ثمة الى الملك اليهودي المنصب قبل الرومان انذاك والذي رفض بدوره إصدار قرار بإعدام المسيح، ثم رجوع رؤساء المعبد مع جمهرة من مناصريهم الى الحاكم الروماني الذي أصدر في النهاية وبعد الضغط حكما بالجلد على المسيح، ثم حادثة الجلد الوحشية، ثم إصرار الكهنة مرة أخرى على إعدام المسيح من خلال الصلب بالرغم من جلده بقسوة وموافقة الحاكم الروماني على ذلك، ثم حمل المسيح للصليب وتوجهه خارج مدينة القدس لصلبه، وثم عملية الصلب، وأخيرا عملية "البعث" بعد الموت كما يؤمن المسيحيون.
غير أن قوة الشريط لا تكمن في اعتماد نص سردي معروف كأساس للسيناريو بل في عمله على إعادة تصوير الوقائع بشكل مؤثر او تعبيري (ذي صبغة مسرحية أساسا) غير مسبوق وتم إستعمال تقنيتين لتحقيق ذلك: المؤثرات المرئية والسمعية ذات التقنية العالية والذوق الرفيع (خاصة في إختيار موسيقى ذات طابع مشرقي تذكرنا كثيرا بموسيقى فرقة "رم" الأردنية) وإستعمال اللغتين الارامية (بالنسبة لأغلب الشخوص) واللاتينية (بالنسبة للشخوص الرومان) كأساس لغوي للشريط (دبلجة الشريط بالانجليزية تظهر كتابيا فقط في أسفل الشريط). وهو ما يجاري جزءا من المخيال المسيحي ولكن أيضا وخاصة يبرز بعض المظاهر الواقعية التي تم طمسها عبر الزمن بفعل التمركز المسيحي في اوروبا، الذي غيب عن أذهان الكثيرين الهوية "المشرقية" للمسيح. وقد حققت التقنيات الالكترونية حيلا مرئية لم يكن من الممكن في السابق تحقيقها غير أنها أضفت طابع شديد الواقعية على الشريط، وتجسد ذلك خاصة في مشهدي الجلد والصلب حيث يبدو جسد المسيح كأنه يتعرض بالفعل للتعذيب والجلد والصلب، وهو ما يمرر الدرس الأساسي وراء هذه المرحلة: صمود المسيح وتحمله العذابات الشديدة. وبالفعل فقد حقق المخرج مبتغاه، ويمكن ان تسمع في القاعات السينمائية تأوهات المشاهدين في مثل هذه المشاهد. من جهة أخرى –و كمشاهد عربي—فلا يمكن عدم التفطن والشعور بالهوية "المشرقية" للمسيح، فإستعمال اللغة الارامية أبرز بشكل خاص القرابة القوية لهذه اللغة مع اللغة العربية. ومن المعروف حسب الدراسات الألسنية خاصة منذ القرن التاسع عشر أن الارامية بوصفها جزءا من اللغات التي كانت سائدة شمال الجزيرة العربية وتحديدا في منطقتي الجزيرة (شمال العراق) والشام كانت مصدرا أساسيا لتطور ما يسمى بـ"العربية الشمالية" (مقابل عربية الجنوب أي اليمنية). وفي الواقع فإن الاستماع الى هذه اللغة يشير بشكل قاطع الى أهمية اللغة الارامية في نشأة اللغة العربية، حيث لا يتعلق الامر بتشابه بعض الكلمات المعروفة (مثل إلهي وربي) بل يتجاوزه ليشمل حتى الاسلوب وتركيب الجمل. فالاستماع الى الحوار في هذا الشريط خاصة بالنسبة للمشاهد العربي لا يمثل متعة خاصة فحسب بل يعبر عن واقعية كبيرة في تشخيص تلك المرحلة. ويعبر ذلك عن قوة شخصية لافتة للمخرج لإقدامه على مثل هذه الخطوة الشجاعة والذي شارك بدوره في كتابة السيناريو، إضافة الى المجهود الخاص للممثلين الذين بذلوا مجهودا كبيرا لتحقيق هذا الهدف.
ويبدو موضوع كيفية تصوير اليهود الموضوع الأساسي الذي أثار الكثير من النقاش (في أغلبه متوتر خاصة من جانب المنظمة المتصهينة "مكافحة التشهير"). وفي الواقع فبرغم حرص جيبسون في شريطه على تحميل مسؤولية صلب المسيح الى رؤساء المعبد اليهود، فإنه عمل على تضمينه كثيرا من الإشارات التي يقصد منها عدم تحميل اليهود بشكل جماعي لهذه المسؤولية. فقد أشار الى رفض بعض رؤساء المعبد محاكمة المسيح، كما أشار الى عدد من اليهود الذين تعاطفوا مع المسيح. وفي الواقع فإنه من الصحيح من حيث المبدأ التخوف من إعادة إثارة هذه المرحلة من حياة المسيح، فقد استغلت الكثير من العقول المسيحية المتعصبة، منذ التاريخ القديم حتى القرن الأخير مرورا بعصر الظلمات في أوروبا المسيحية، الرواية المسيحية المتعلقة بتورط رؤساء المعبد اليهود في صلب المسيح في تعميم هذا الاتهام على جميع اليهود وهو ما شكل الأساس لظهور ظاهرة "معاداة السامية" في التاريخ الاوروبي، والتي كانت شبه غائبة في التاريخ العربي الاسلامي، حتى أن اليهود والى حد الان يعتبرون أن عصورهم الذهبية كانت في ظل الحكم الاسلامي خاصة في الأندلس. غير أن الشريط لا يستهدف بالنسبة الى مشاهد مسيحي هذه الفكرة وإنما يعمد أساسا الى إعادة تصوير مشاهد الالام، في وقت تجاوز فيه المجتمع الامريكي بشكل كبير (باستثناء بعض المناطق النائية في وسط وجنوب الولايات المتحدة) مشاعر "معاداة السامية".
ويبدو أن ردة فعل الأطراف الصهيونية على الشريط ترجع الى أسباب أخرى غير التعرض لرؤساء المعبد. فمن الواضح كما أشرنا أعلاه أن الشريط يصور تقريبا المسيح كشخص "مشرقي" تعرض للاضطهاد من قبل متسلطين يهود بدعم قوة كبرى (روما)، وهو في الواقع ما يستثير صورا موازية لدى أولائك المتعلقين بالصراع العربي الصهيوني. وفي تجربتي الخاصة كمشاهد للشريط فإن التفكير في الإضطهاد الصهيوني لعرب فلسطين كان في الواقع شديد الحضور في ذهني عند مشاهدتي للشريط، وهو ما لم أتوقع حدوثه، وهو كذلك ما جعلني أفهم تخوف منظمة "مكافحة التشهير" من عرضه. لكن ليس من الواضح إن كان المشاهد الامريكي قادرا على تلقف هذا المعنى، خاصة أن وسائل الإعلام الأمريكية الرئيسية تتجنب عرض مشاهد تبرز المجازر الحالية التي بصدد إرتكابها الاحتلال الاسرائيلي في الاراضي المحتلة.
ويبقى الان من غير الواضح أين سيعرض الشريط بالاضافة الى الولايات المتحدة، وإذا تحقق ما راج أخيرا عن توزيع المنتج التونسي طارق بن عمار للشريط في أوروبا، فإن إمكانية عرضه في القاعات العربية تصبح شديدة الاحتمال. وسيكون ذلك فرصة جيدة للإطلاع على منتجات إيجابية للولايات المتحدة، فليس كل الانتاجات الفنية الامريكية تجارية كما يعتقد البعض، وفي الجانب السينمائي هناك حركية فنية كبيرة وكثيرا من الأشرطة الراقية فنيا يتم إنتاجها سنويا، وقد وقع منح بعضها جوائز في حفل الاوسكار الأخير (مثل شريط "ضائع في الترجمة" لصوفيا كوبولا ابنة المخرج الكبير فرانسيس كوبولا، وشريط "مستيك ريفير" للمخرج كلنت ستود وبطولة الفنان الرائع والإنساني شون بن) لكن للأسف لا يوزع العرب على قاعاتنا السينمائية سوى الأشرطة التجارية ذات المستوى الفني المتوسط. ونأمل ألا يعترض البعض على عرض الشريط عربيا لأنه أداة لـ"التبشير المسيحي"، فهذا الشريط بالذات يؤكد على فكرة لا يجب أن ننساها كمسلمين، وهي أن عيسى بن مريم هو شخصية مقدسة مثله في ذلك مثل كل الرسل والأنبياء الاخرين. ثم أننا لا يجب أن ننسى أنه شخصية "مشرقية" تربطنا به روابط ثقافية أخرى، وهو الأمر الأكثر وضوحا بالنسبة لأي مشاهد عربي لهذا الشريط، على عكس الصورة التي طالما عرضتها الكنيسة في أوروبا المسيحية والتي كثيرا ما صورت المسيح بملامح شقراء وبروح لاتينية، وهو ما شكل أحد العناصر الاساسية للنزعة الأوروبية المركزية والتي تواصلت مع الفترة الاستعمارية. وبالتالي لا يجب أن تصدر لنا هذه الرؤية المغلوطة والمقلوبة مشاعر التخوف من المسيحية، كأنها تهديد للاسلام، فقد عاش إخوتنا العرب المسيحيين معنا ومنذ سنوات الفتح الأولى علاقة تعايشا فريدا، أثرت الجوانب الادارية والثقافية والاقتصادية للدولة الاسلامية المبكرة. وقد كان ذلك التوجه نحو التقارب أحد أسرار نجاحها وانتشارها ومن ثمة استيعاب مجموعات سكانية غير مسلمة ضمن ثقافة كثيرة التجانس.
الطاهر الأسود، باحث تونسي يقيم في الولايات المتحدة
موقع ميدل إيست أون لاين 5 مارس 2004
0 Comments:
Post a Comment
<< Home