النزاع بين النيومحافظين حول طبيعة "الديمقراطية الاسلامية"
النزاع بين النيومحافظين حول طبيعة "الديمقراطية الاسلامية"
تيار "كوني ديمقراطي" مدفوع بجيل جديد من المستعربين ينزع باتجاه إشراك الاسلاميين في السلطة ؟
الطاهر الأسود—باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية
يخضع النقاش الأمريكي في علاقة بـ"بناء الديمقراطية في المنطقة العربية" بتأثير الواقع الأمريكي في العراق المثقل بفشل سياسي و عسكري واضح. و لهذا فإن النقاش ليس نظريا بالتأكيد. و لكنه أيضا ليس نقاشا بين أوساط بيروقراطية أو تكنوقراطية: فقد جلب النيومحافظون معهم و بدرجة غير مسبوقة نزعة نخبوية مثقفة الى أوساط الادارة السياسية تجعل الموقف العملي-السياسي يولد من رحم النزاع الايديولوجي الفكري. و ليست هذه النقطة فحسب التي لم يقع رصدها عربيا بالشكل المناسب، فوقائع هذا النقاش العلني و الذي يمارس على صفحات المجلات و الصحف و الشاشات الأمريكية لا يلقى الاهتمام الذي يستحقه من النخب العربية، حيث يقع التعامل معه بشكل تعميمي/ سطحي/شعبوي عوض النظر اليه كما هو أي كنقاش نظري/تاريخي/فكري من الدرجة الأولى. و سنحاول في هذا المقال أن نرصد اخر بوادر النزاع في الأوساط النيومحافظة حول طبيعة "الديمقراطية الاسلامية" المزمع تحقيقها أمريكيا سواء (أولا) في مستوى النقاش النظري العام (كراوثمر ضد فوكوياما) أو (ثانيا) النقاش المختص بالمنطقة العربية (برنارد لويس ضد الجيل الشاب من المستعربين-النيومحافظين).
1
في الظاهر لم تتغير أشياء كثيرة بين بداية سنة 2004 و نهايتها في الولايات المتحدة. و أكثر الثوابت المرئية هي إستمرار سيطرة التيار النيومحافظ على البيت الأبيض و التي ترسخت مباشرة بعد منح الرئيس بوش ولاية ثانية—حيث لم يعد هناك حاجة لتغطية إحتكار هذا التيار الايديولوجي لسلطة القرار فتم إزاحة كولن باول الذي لم يكن وزيرا للخارجية بقدر ما كان "ما يبدو أنه وزير الخارجية". غير أن الواقع مختلف بعض الشيء عما يتراءى للمشاهد البعيد. أول الأوهام كثيرة الانتشار دوليا و التي بدأت تتبدد للملاحظين (منذ بداية هذا العام و بعد الانغماس المتسارع للنيومحافظين في مستنقع العراق "المحرر") تلك المتصلة بوجود تيار نيومحافظ موحد و منسجم سياسيا و نظريا.
يوم 10 فيفري 2004 كان مناسبة لحدث نيومحافظ بامتياز و لو أن القليلين لاحظوا ذلك: في مركز الدراسات الرئيسي و الأقدم بالنسبة للتيار النيومحافظ "معهد المؤسسة الأمريكية للسياسة العامة" (AEI) و في لقاء شبه سري (لم تتم تغطيته إعلاميا بشكل واسع رغم أهمية الحضور) ألقى تشارلز كراوثمر (Charles Krauthammer) الدكتور في علم النفس الاكلينيكي و العلوم السياسية "محاضرة إرفنغ كريستول" (باسم عراب التيار النيومحافظ) و التي عنونها "الواقعية الديمقراطية (Democratic Realism)". لا يوجد في أوساط النيومحافظين مفكرون كارزميون. فشخص مؤثر من الناحية الفكرية مثل ويليام كريستول ممل و قليل البديهة على الركح الاعلامي و من ثمة السياسي. و في المقابل فإن دونالد رامسفيلد و الذي لا توجد له أبحاث تذكر حيث ترعرع في الاوساط البيروقراطية في واشنطن يملك التأثير الاعلامي الأكبر و هو الشخصية الكارزمية الرئيسية للتيار. غير أن هناك شخصية مميزة في هذا الخليط: تشارلز كراوثمر و الذين كان أول المنظرين الفعليين للبرنامج السياسي الراهن للنيومحافظين و ذلك في محاضرة القاها لاول مرة يوم 8 سبتمبر 1990 اي اشهر قليلة قبل الحرب الامريكية الاولى على العراق، حيث تم الترويج بشكل واسع و لاول مرة لتشخيص استراتيجي سيصبح أحد مبررات الاستراتيجيا الأمريكية الراهنة: "لحظة القطبية الأحادية (The Unipolar Moment)".
بشكل يذكر بالطقوس التي تحيط ولادة فكرة عظيمة قدم كراوثمر في يوم 10 فيفري الماضي "واقعيته الديمقراطية" و التي أصبحت عنوانا للنزاع الرئيسي الذي يشق صفوف التيار النيومحافظ في الوقت الراهن حول مسألة عملية (بناء الديمقراطية في العراق كنموذج عربي) تتعلق بمسألة نظرية أكثر شمولا (بناء الديمقراطية في بلد ذي ثقافة إسلامية). فمنذ تلك اللحظة تبدد الستار ليكشف عن ثلاث فرق داخل مجموعة الدهاقنة هذه: أولا، ميز كراوثمر في محاضرته تلك و بشكل صارم بين ما يراه رؤية "كونية ديمقراطية (Democratic Globalism)" تعبر عنها الادارة الأمريكية الراهنة بالاضافة الى وجوه أساسية من فريق المنظرين (ويليام كريستول أساسا) تتبنى الدفاع عن "بناء الديمقراطية" على مستوى "كوني" يفتح مواجهة عامة تشمل كل الأقطار الاسلامية. ثانيا، و في مقابل ذلك يوضح كراوثمر أن هذه الرؤية "مثالية" و لا تحاول أن تختار معاركها بشكل يحسب القدرات الواقعية؛ و يؤكد في المقابل على ضرورة إتباع أي سياسة واقعية لـ"رؤية" شاملة تحتوي مبادئ سامية تتمثل في هذه الحالة في "بناء الديمقراطية" وهو تعريفه للرؤية "الديمقراطية الواقعية" التي يتبناها و التي تختلف عن الرؤية "الواقعية" التي بصمت لفترة طويلة السياسة الخارجية الأمريكية و التي "تفادت التدخل في الشأن الداخلي العربي" بمعنى دعمها المستمر للدكتاتوريات العربية و تقاعسها في الدفاع عن قضية البناء الديمقراطي، في حين أنها حسب كراوثمر مهمة حتمة من زاوية المصلحة الأمريكية في الوقت الراهن.
ثالثا، و هنا أصبح هذا النزاع الداخلي أكثر تشويقا، برز على السطح أن منظرا اساسيا في التيار النيومحافظ بحجم فرانسيس فوكوياما فقد صبره من إستمرار التهويمات المثالية لرفاقه خاصة في ظل تفاقم المأزق "الواقعي" العراقي و لم يشمل بتذمره "الكونيين الديمقراطيين" فحسب بل أيضا "صديقه" كراوثمر "الواقعي الديمقارطي". ففي عدد الصيف الأخير (صيف 2004) من الناشيونال انترست (The National Interest) وهي النشرية الرئيسية التي تعبر عن وجهة النظر النيومحافظة في السياسة الخارجية كتب فوكوياما مقالا مدويا ضد محاضرة كراوثمر حول "الواقعية الديمقراطية" لم يلق الاهتمام المناسب بفعل حمى الحملة الانتخابية الدائرة انذاك عنونه (غامزا من قناة محاضرة كراوثمر في سنة التسعين) "اللحظة النيومحافظة (The Neoconservative Moment)".و فيه أكد فوكوياما أولا على تمسكه بـ"المبادئ" الأساسية التي يجتمع حولها النيومحافظون و التي تشمل حتمية قيام السياسة الخارجية الأمريكية على "نشر الديمقراطية" (و هي النقطة الأساسية التي تقوم عليها أطروحته المشهورة حول "نهاية التاريخ"). و في المقابل وجه نقده لأطروحة كراوثمر وبقية النيومحافظين كما يلي: أولا، إذا كان على النيومحافظين إعتماد سياسة "واقعية" تتحسب جيدا في اختيار أهدافها كما ينادي بذلك كراوثمر فإن ذلك لم يحدث في الحالة العراقية حيث يلاحظ تصاعد المقاومة العراقية مقابل تراجع السيطرة الأمريكية: و هنا يعلن فوكوياما أنه كانت له منذ البداية "شكوكه" في علاقة بقرار الحرب على العراق بالرغم من مساندته العلنية له حيث رأى أنه ليس هناك فائدة من المعارضة في ظل تصميم البيت الأبيض على شن الحرب (؟!)؛ ثانيا، و هنا يحتاج القارئ للتركيز، يلاحظ فوكوياما أن التسرع في اتخاذ قرار الحرب على العراق لم يكن مبنيا على أساس المصالح العليا للولايات المتحدة بقدر ما كان مبنيا على تعلق غالبية المجموعة النيومحافظة بالمصالح الاسرائيلية، حيث خلطوا بين أعداء الولايات المتحدة (و هي منظمة القاعدة فقط بالنسبة له) و بين أعداء إسرائيل (منظمتي حماس و الجهاد أساسا) و هو ما جعلهم يتحدثون في العموم عن عدو هلامي يتمثل في التيار "الراديكالي الاسلامي" بدون تمييز و هو ما يهدد الدور المحايد الذي يمكن أن تلعبه في العملية السلمية و يُعقد المصالح الأمريكية في المنطقة؛ ثالثا، لا يرى فوكوياما، بعكس كراوثمر، أن معركة الولايات المتحدة ضد "الراديكالية الاسلامية" (مجسدة في منظمة القاعدة أو غيرها) هي معركة وجودية حيث لا يملك هؤلاء التأثير على وجود الولايات المتحدة مثلما كان الحال في علاقة بالاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، و هي ما يؤدي في النهاية الى تصخيم غير مبرر لهذا العدو يدفع باتجاهه مزيدا من المتعاطفين عوض محاصرته و عزله؛ رابعا، يُلاحظ أن إستبعاد الغطاء الدولي عن الحرب الأمريكية على العراق كان سياسة خاطئة تُبرز عدم واقعية صانعيها؛ خامسا، يُبدي فوكوياما الذي لاطالما أكد على كونية الاتجاه الديمقراطي في العالم أن بناء الديمقراطية في العراق هي مهمة "تقريبا لا يمكن تصورها" بفعل مجموعة من العناصر، و بالتالي فإن اخر مبررات الوجود العسكري الامريكي هناك لم تعد صالحة في رأيه.
كراوثمر رد بشكل فوري (و بعد حملة إعلامية تمهيدية في الصحف الأمريكية) على مقال فوكوياما و ذلك في العدد الأخير من الناشيونال انترست (خريف 2004) "دفاعا عن الواقعية الديمقراطية". و عموما أعاد تقديم أطروحته متهما فوكوياما بسوء فهمها حينا و بتأثره بـ"الخطاب المعادي للسامية" حينا اخر لأنه ينزع لـ"تهويد التيار النيومحافظ" و هي نزعة يراها تتزايد في الاونة الاخيرة. أخيرا يشير كراوثمر الى أن موقف فوكوياما في علاقة بمسألة "بناء الديمقراطية في العراق" يعكس نزعة عنصرية تجاه العرب، و هو ما حاول فوكوياما نفيه بشكل استباقي في مقاله أعلاه حيث وصف اراء كراوثمر حول "بناء الديمقراطية في العراق" بأنها متأثرة بمواقف أستاذ التاريخ الاسلامي برنارد لويس (Bernard Lewis) النيومحافظ المختص في المنطقة العربية و التي تتهم المشككين في دمقرطة العرب بأنهم يعكسون "شعورا عنصريا".
و هكذا في خضم النقاش الكراوثمري-الفوكويامي يظهر أخيرا الدكتور لويس كمدافع محب عن بناء الديمقراطية ليس في العراق فحسب بل أيضا في المنطقة العربية. إن هذا يحملنا الى النقطة الرئيسية الثانية و هي النقاش الخصوصي (أو نقاش المختصين؟) في الولايات المتحدة سواء الأوساط النيومحافظة أو غيرها من الأوساط المؤثرة في علاقة بمسألة "الديمقراطية الاسلامية": فكيف يرى "المختصون" مسألة العلاقة بين الثقافة الاسلامية المهيمنة في الأقطار العربية و مهام بناء الديمقراطية فيها؟ و هل أن دفاع "النيومحافظين" عن "ديمقراطية إسلامية" يعني الشيء نفسه بالنسبة لهم جميعا؟
2
بغض النظر عن كل ما ما يمكن أن يُقال حول المواقف السياسية للبروفيسور في "التاريخ الاسلامي" في جامعة برنستون برنارد لويس فإنه يوجد القليل من الشك حول حقيقة أنه ترك بصمات جدية في حقل الدراسات الأكاديمية الاسلامية و خاصة في علاقة بالدراسات العثمانية. أما ما إذا كان يستحق تسمية المعجبين به كـ"عميد دراسات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة" فذلك أمر لا يبدو أن هناك إجماعا حوله على الأقل من قبل المختصين الأكاديميين. و ترجع العلاقة بين لويس و النيومحافظين الى الفترة التأسيسية حيث كان المثقف الرئيسي الملازم لأول ناطق سياسي باسم هذا التيار و ذلك منذ بداية سبعينات القرن الماضي: هنري (سكوب) جاكسون. و كان الأساس الرئيسي لهذه العلاقة يقوم على الدفاع الحماسي من قبلهما على المصالح الاسرائيلية حيث ساهما في تأسيس اللوبي الاسرائيلي في الولايات المتحدة بمؤسساته القوية المعروفة اليوم. و من الواضح أن لويس قد تحول منذ فترة الى شخصية عامة بشكل غير مسبوق حيث استثمر رأسماله الأكاديمي في مشروع سياسي محدد و هو المشروع النيومحافظ ليس من ناحية المحتوى فحسب بل من خلال الشكل أيضا: فالحلم الشتراوسي الذي لاطالما ردده ارفنغ كريستول و المتمثل في صناعة المثقف الميكيافيلي الذي يُسير الأمير يجد أحد أبرز تجسيداته في المشهد الراهن في شخص برنارد لويس. و كانت صحف أمريكية عديدة قد أشارت بُعيد أحداث 11 سبتمبر الى قيام لويس بمحاضرات غير رسمية في شكل حفلات عشاء بحضور المسؤولين الأمريكيين الكبار بما في ذلك الرئيس بوش و ديك تشيني و بول وولفويتز ركز فيها على مقولة أساسية يواصل الأخير ترديدها: فرصة بناء دولة ديمقراطية على الشاكلة التركية-الكمالية في العراق. و قد أكد لويس هذا الموقف من خلال سلسلة من المقالات و الكتب نشرها منذ 11 سبتمبر الى الان. و تتمثل نظرته بشكل عام في أن المؤسسة الدينية في ذاتها لم تلعب دورا سياسيا مباشرا خلال التاريخ الاسلامي غير أن البناء الديمقراطي في العالم الاسلامي يحتاج الى اتباع النموذج الغربي القاضي بالفصل الحاسم بين الدين و السياسة. و في الواقع تقوم هذه الرؤية على مسلمات أساسية أهمها أن التاريخ تطوري يسير في اتجاه واحد: فالمسيرة الديمقراطية للـ"الغرب" (و بالمناسبة "الغرب" بالنسبة للويس يبدو كتلة واحدة) هي مسيرة تهم البشرية و لذلك يعتبر لويس أن المسلمين الان يقفون على أعتاب القرن السادس عشر حيث بدأ مسار التفاوت الكبير بينهم و بين الغرب ز هو ما يعني أنهم متأخرين بـ"خمسة قرون" ليس عن الغرب فحسب بل أيضا عن شعوب لاطالما تجاهلها المسلمون (اسيا)؛ و لهذا يرى أن عليهم القيام بحركة مماثل لحركة "الاصلاح البروتستاني" التي تمت في القرن السادس عشر حت يمكن لهم المرور الى مرحلة أكثر تقدما. و في هذا الاطار يقدم لويس شرحه لظاهرة الاسلام السياسي و "الارهاب الاسلامي" و التي يراها استمرارا لظاهرة النظرة التكفيرية من قبل المسلمين للغرب المسيحي و للنوايا التوسعية القائمة على فكرة "الفتح"؛ حيث ينتهي الى أن السبب الرئيسي من وراء ظاهرة "التشنج الاسلامي" هي الهزيمة الحضارية تجاه غرب يعرف المسلمون أنه متفوق عليهم ماديا و لهذا فإن "الصدام الحضاري" مسألة حتمية. و علينا أن نشير هنا أن هذه المواقف و بهذا الوضوح ترجع في أقل الأحوال الى سلسلة مقالات كتبها لويس في بداية التسعينات حيث كان أول من استعمل مصطلح "صدام الحضارات" و كان صاموئيل هنتينغتون قد اعترف بتأثره الكبير برؤى لويس عند صياغة نظرية الشهيرة و التي أطلق عليها نفس التسمية. و بالاضافة الى ذلك لدى لويس تلاميذ مباشرين متفاوتي الأهمية يعبرون عن ارائه في الوقت الراهن: المؤرخ البارز مارتن كرامر و "الباحث" (المتواضع حقا رغم ضوضائيته) دانيال بايبس و "المستعرب" العراقي فؤاد عجمي و الذي يبدو أنه بدأ التخلي عن اراء لويس.
و لكن الأشهر الأخيرة شهدت تركيزا متزايدا على مواقف لويس و تصاعد دوره كشخصة عامة تتعرض الى النقد السياسي في ظل تصاعد الاحتمالات بأن الحالة الوحيدة التي يمكن أن تقام فيها انتخابات في بعض أجزاء العراق في ظل الاحتلال الراهن هي تلك التي تقوم بالتعاون مع المؤسسة الشيعية الدينية في النجف و تحديدا مرجعية اية الله السيستاني و هو ما يعني فرضية قيام "ديمقراطية" بحماية المؤسسة الثيوقراطية. و طبعا يُعتبر ذلك على النقيض من المواقف التي درسها لويس لتلاميذه النيومحافظين في علاقة بـ"الشرق الأوسط" و التي تركز على ضرورة بناء فصل كلاسيكي بين الدولة و الدين لنجاح النموذج الديمقراطي. ففي مقال مطول لصحفي النيوزويك مايكل هيرش في نشرية واشنطن مونثلي (The Washington Monthly) في العدد الأخير (نوفمبر 2004) يتبين أن لويس مازال مصرا على موقفه من إمكانية تأسيس دولة علمانية على الشاكلة الأتاتوركية في العراق و هو الأمر الذي يسخر منه هيرش و يعرض في المقابل اراء باحثين مرموقين من المختصين الأمريكيين في تاريخ المنطقة العربية الاسلامية (ريتشارد بولليات من جامعة كولومبيا و جون وودس من جامعة شيكاغو) و الذين يركزو ن على تركيز لويس على النموذج العثماني-التركي و تجاهله خصوصيات المنطقة العربية و التي لعبت فيها المؤسسة الدينية في أحيان كثيرة دورا حمائيا لصالح المجتمعات المحلية تجاه استبداد السلطة السياسية و هو ما يؤهلها للعب دور إيجابي في إطار البناء المؤسساتي. كما يشير هؤلاء الى قفز لويس على واقع الاستعمار الغربي في تحليله لظاهرة "التسنج الاسلامي" و ينتهي هؤلاء الى أن التيار الاسلامي يمكن أن يكون أداة أساسية لتحقيق المؤسسات الديمقراطية حيث أنه وحده يتمتع بشرعية شعبية في الواقع العربي الراهن. و بالرغم من اعتراف هؤلاء بأن هذه التيارات تتميز بعدائها المتفاوت للغرب فإنهم يرون مرحلة حكم إسلامي ضرورية من الناحية التاريخية حيث يحتاج العرب الى تفريغ الشحنة الرومنسية للاسلام حتى يتم الانتقال الى رؤية أكثر واقعية تتفهم محدودية الحل الديني و استشهدوا في هذا الاطار بالمثال الأيراني حيث بقدر ما كانت الثورة الاسلامية مشروعة من النواحي السياسية و الشعبية فقد فشلت في الحفاظ على الثقة الشعبية و هو ما أدى الى بروز وجوه إصلاحية قوية من داخل الاسلام الثوري. و قد عبر الباحث البريطاني-الهولندي ايان بوروما عن نقد مماثل للويس في مقالاته الأخيرة (النيويوركر في عدد 14-21 جوان 2004 و النيويورك تايمز ماغازين في عدد 4 ديسمبر 2004) و التي أكد فيها الاراء السابقة (بالرغم من أنه يحمل نفس الرؤية التعميمية للغرب كما يبدو في كتابه الصادر هذا العام و المعنون "الاستغراب: الغرب في عيون أعدائه").
و في الواقع لا ينتمي هؤلاء الباحثين الى التيار النيومحافظ. و لكن المثير أن هناك تقاطعا بين الأطروحة الرئيسية في مجموع أفكارهم و إعتقاد متصاعد لدى مختصين اخرين و من جيل جديد تماما من داخل التيار النيومحافظ و التي تتمثل في أن "الديمقراطية الاسلامية" لا يمكن أن تُبنى على الأرجح دون المشاركة القوية للتيار الذي يحظى بالشعبية في الشارع العربي أي التيار الاسلامي. و من الشخصيات المحورية المقربة من أوساط القرار التابعة للتيار النيومحافظ و خاصة البنتاغون (حيث تم تعيينه ضمن إدارة الاحتلال في فترة بول بريمر للمشاركة في تحرير دستور عراقي جديد) هو أستاذ القانون الدستوري في جامعة نيويورك نوح فلدمان (Noah Feldman) و الذي يدافع بوضوح و من دون مواربة، سواء في مؤلفيه الأخيرين "ما بعد الجهاد" (و هو في الاصل جزء من أطروحة دكتوراة في القانون الدستوري الاسلامي) و أخيرا "ماذا ندين للعراق" او في مقالاته و لقاءاته التلفزيونية عن ضرورة إقحام الاسلاميين المعتدلين في العملية السياسية و من ثمة العمل على بناء ديمقراطيات عربية ذات مصداقية. و قد تعرض فلدمان في مقابل ذلك الى انتقادات عنيفة من قبل المقربين من برنارد لويس (خاصة من قبل مارتن كرامر). و بالاضافة الى فلدمان فإن الباحثة في الشؤون الاسلامية شيريل بينارد (Cheryl Benard) و هي زوجة أحد أقطاب سياسيي التيار النيومحافظ زلماي خليلزاده قد أصدرت في إطار بحوث مركز الراند المقرب من وزارة الدفاع الأمريكية دراسة في بداية السنة الماضية تحدد فيها مجموعة من النقاط تصب في أهمية إيجاد حلفاء من التيار الاسلامي لبناء الديمقراطية في العالم الاسلام و من أهم ما تعرضت إليه: محدودية التيار العلماني العربي بفعل السيطرة الاسلامية على الشارع العربي و هو ما يعني عدم جدوى التعويل عليه في بناء المؤسسات الديمقراطية؛ تنوع التيارات الاسلامية و أهمية العمل مع بعض المعتدلين فيها ضد البعض الاخر (خاصة ما تسميه "السلفية الجهادية") كسبيل لتحقيق مجتمع مدني ينبني على قوى حيوية. و اخر من انضم الى أنصار هذه الرؤية من داخل التيار النيومحافظ هو المحلل السابق في المخابرات المركزية الأمريكية (1985-1994) و المتحصل على شهادة عليا في التاريخ الاسلامي من جامعة برنستون رويل مارك قيريشت (Reuel Marc Gerecht) و الذي يُعتبر من أكثر الوجوه النشيطة في مركز الدراسات النيومحافظ "معهد المؤسسة الأمريكية للسياسة العامة" (AEI). و بعد سلسلة من المقالات بدأ نشرها منذ بداية العام الماضي أصدر أخيرا (نوفمبر 2004) تقريرا هاما كتبه على ما يبدو في إطار زيارات تقصي إستخبارية قام بها الى العراق (يشير الى لقاءات مباشرة قام بها مع عدد من الشيوخ الشيعة و السنة) نشره المعهد أعلاه بعنوان "المفارقة الاسلامية" و الذي انتقد فيه الادارة الأمريكية لتجاهلها خصوصيات المنطقة العربية و العراق حيث يرى أنها لم تسارع بالتعاون مع اية الله السيستاني بفعل وجود تيار قوي داخل الادارة الأمريكية يفضل حكومة علمانية (و هو ما أدى الى اختيار إياد علاوي و الذي يعتبره خيارا خاطئا). و عموما يدافع قيريشت عن التيارات الدينية الشيعية كالحليف الوحيد الذي يمكن التعويل عليه لـ"بناء الديمقراطية في العراق". كما أنه يرى في الاسلاميين غير القاعديين في مجمل الأقطار العربية (الاخوان المسلمين في مصر و جبهة الانقاذ في الجزائر خاصة) القوة الرئيسية التي يمكن ان تساهم في تحقيق تغيير ديمقراطي واقعي. حيث يكرر رؤى بولليات المذكورة أعلاه و التي تتحدث عن ضرورة إفراغ الاسلاميين من الشحنة العاطفية التي يمسكون عبرها بالشارع من خلال وضعهم على محك الواقع مثلما هو الحال في إيران. يُضاف الى هذه الاراء العلاقة القوية بين الادارة الأمريكية الحالية و مراكز دراسات (مثل سابان و الناشيونال ايندومانت) أشرفت خلال السنة الماضية على ندوات (القاهرة و الدوحة) أشركت تيارات إسلامية و دافعت عن ضرورة مشاركتهم في العملية الديمقراطية في بلدانهم.
و هكذا فإن النزاع داخل التيار النيومحافظ يتزايد بتعمق مأزق الاحتلال في العراق. و لكنه أيضا يكشف عن المخاطر الكبيرة على النظام العربي الرسمي الضعيف أصلا التي يمكن أن تنتج عن الانخراط الأمريكي الفعلي في تسيير الشأن الداخلي العربي و الذي وضع الولايات المتحدة في احتكاك مباشر مع حقائق لاطالما حاولت تجاهلها: و هي المفارقة المتمثلة في ضرورة حل المشكل الديمقراطي مقابل تفادي إعتلاء أعدائها السلطة. و عموما يبدو أن التيار "الكوني الديمقراطي" (و بدرجة ثانية "الواقعي الديمقراطي") بصدد الاستجابة على الأقل في الحالة العراقية الى اراء جيل جديد من المستعربين يؤمنون بأهمية التعويل على القوى الاسلامية في مسألة "البناء الديمقراطي" بعكس المدرسة التقليدية لبرنارد لويس و التي لاتزال تؤمن بحل من زمان اخر يتمثل في خيار علماني عربي على مثال نموذج تركيا الكمالية خلال بداية القرن الماضي. غير أن المثال العراقي هو بالتأكيد نموذج عبثي بالنسبة للأسلوب المخبري الذي يعتمده أقطاب النيومحافظين، حيث لا يمكن للديمقراطية أن تُقام إلا على أساس قوى نظيفة تستمد شعبيتها ليس من مشاعر دينية مجردة بل من الحيوية النضالية للدين؛ و بالنسبة للحالة العراقية فإن الحيوية النضالية لا تتحقق إلا على أساس مبدأ مقاومة الاحتلال. في المقابل فإن التشخيص النيومحافظ المتزايد للواقع العربي عامة على أنه يعاني من حالة استبدادية و أن التخلص من ذلك الاستبداد غير ممكن من دون مشاركة قوى شعبية مثل منظمات الاسلام السياسي المعتدلة هو في المجمل تشخيص صحيح. المفارقة كما يجب أن يعرف الأمريكيون أن شعبية هؤلاء مستمدة جزئيا من تعبيرها عن العداء الشعبي لما يُنظر له على أنه "المشروع السياسي" للولايات المتحدة. نحتاج في النهاية الى إبداء ملاحظة أخيرة في علاقة بما يسمى بـ"الليبراليين العرب" و الذين يُقدمون أنفسهم—بشكل هستيري—على أنهم التيار العلماني العربي الذي يتطوع لتبنى المشروع الأمريكي في المنطقة. و في الواقع فإن الحالة المأساوية لهؤلاء (و هم غالبا ناشطين يساريين في السابق أعادو تعريف أنفسهم بشكل حصري على قاعدة "النضال ضد الظلامية الدينية") كطرف هامشي في المعادلة السياسية الواقعية يجعل "مشروعهم" الأمريكي بالذات غير قادر على إستيعابهم. و طبعا لا يمكن لأي كان أن يتمنى لأي طرف سياسي مصيرا كاريكاتوريا بهذه الدرجة.
صحيفة القدس العربي 11/12 ديسمبر (كانون الأول) 2004
تيار "كوني ديمقراطي" مدفوع بجيل جديد من المستعربين ينزع باتجاه إشراك الاسلاميين في السلطة ؟
الطاهر الأسود—باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية
يخضع النقاش الأمريكي في علاقة بـ"بناء الديمقراطية في المنطقة العربية" بتأثير الواقع الأمريكي في العراق المثقل بفشل سياسي و عسكري واضح. و لهذا فإن النقاش ليس نظريا بالتأكيد. و لكنه أيضا ليس نقاشا بين أوساط بيروقراطية أو تكنوقراطية: فقد جلب النيومحافظون معهم و بدرجة غير مسبوقة نزعة نخبوية مثقفة الى أوساط الادارة السياسية تجعل الموقف العملي-السياسي يولد من رحم النزاع الايديولوجي الفكري. و ليست هذه النقطة فحسب التي لم يقع رصدها عربيا بالشكل المناسب، فوقائع هذا النقاش العلني و الذي يمارس على صفحات المجلات و الصحف و الشاشات الأمريكية لا يلقى الاهتمام الذي يستحقه من النخب العربية، حيث يقع التعامل معه بشكل تعميمي/ سطحي/شعبوي عوض النظر اليه كما هو أي كنقاش نظري/تاريخي/فكري من الدرجة الأولى. و سنحاول في هذا المقال أن نرصد اخر بوادر النزاع في الأوساط النيومحافظة حول طبيعة "الديمقراطية الاسلامية" المزمع تحقيقها أمريكيا سواء (أولا) في مستوى النقاش النظري العام (كراوثمر ضد فوكوياما) أو (ثانيا) النقاش المختص بالمنطقة العربية (برنارد لويس ضد الجيل الشاب من المستعربين-النيومحافظين).
1
في الظاهر لم تتغير أشياء كثيرة بين بداية سنة 2004 و نهايتها في الولايات المتحدة. و أكثر الثوابت المرئية هي إستمرار سيطرة التيار النيومحافظ على البيت الأبيض و التي ترسخت مباشرة بعد منح الرئيس بوش ولاية ثانية—حيث لم يعد هناك حاجة لتغطية إحتكار هذا التيار الايديولوجي لسلطة القرار فتم إزاحة كولن باول الذي لم يكن وزيرا للخارجية بقدر ما كان "ما يبدو أنه وزير الخارجية". غير أن الواقع مختلف بعض الشيء عما يتراءى للمشاهد البعيد. أول الأوهام كثيرة الانتشار دوليا و التي بدأت تتبدد للملاحظين (منذ بداية هذا العام و بعد الانغماس المتسارع للنيومحافظين في مستنقع العراق "المحرر") تلك المتصلة بوجود تيار نيومحافظ موحد و منسجم سياسيا و نظريا.
يوم 10 فيفري 2004 كان مناسبة لحدث نيومحافظ بامتياز و لو أن القليلين لاحظوا ذلك: في مركز الدراسات الرئيسي و الأقدم بالنسبة للتيار النيومحافظ "معهد المؤسسة الأمريكية للسياسة العامة" (AEI) و في لقاء شبه سري (لم تتم تغطيته إعلاميا بشكل واسع رغم أهمية الحضور) ألقى تشارلز كراوثمر (Charles Krauthammer) الدكتور في علم النفس الاكلينيكي و العلوم السياسية "محاضرة إرفنغ كريستول" (باسم عراب التيار النيومحافظ) و التي عنونها "الواقعية الديمقراطية (Democratic Realism)". لا يوجد في أوساط النيومحافظين مفكرون كارزميون. فشخص مؤثر من الناحية الفكرية مثل ويليام كريستول ممل و قليل البديهة على الركح الاعلامي و من ثمة السياسي. و في المقابل فإن دونالد رامسفيلد و الذي لا توجد له أبحاث تذكر حيث ترعرع في الاوساط البيروقراطية في واشنطن يملك التأثير الاعلامي الأكبر و هو الشخصية الكارزمية الرئيسية للتيار. غير أن هناك شخصية مميزة في هذا الخليط: تشارلز كراوثمر و الذين كان أول المنظرين الفعليين للبرنامج السياسي الراهن للنيومحافظين و ذلك في محاضرة القاها لاول مرة يوم 8 سبتمبر 1990 اي اشهر قليلة قبل الحرب الامريكية الاولى على العراق، حيث تم الترويج بشكل واسع و لاول مرة لتشخيص استراتيجي سيصبح أحد مبررات الاستراتيجيا الأمريكية الراهنة: "لحظة القطبية الأحادية (The Unipolar Moment)".
بشكل يذكر بالطقوس التي تحيط ولادة فكرة عظيمة قدم كراوثمر في يوم 10 فيفري الماضي "واقعيته الديمقراطية" و التي أصبحت عنوانا للنزاع الرئيسي الذي يشق صفوف التيار النيومحافظ في الوقت الراهن حول مسألة عملية (بناء الديمقراطية في العراق كنموذج عربي) تتعلق بمسألة نظرية أكثر شمولا (بناء الديمقراطية في بلد ذي ثقافة إسلامية). فمنذ تلك اللحظة تبدد الستار ليكشف عن ثلاث فرق داخل مجموعة الدهاقنة هذه: أولا، ميز كراوثمر في محاضرته تلك و بشكل صارم بين ما يراه رؤية "كونية ديمقراطية (Democratic Globalism)" تعبر عنها الادارة الأمريكية الراهنة بالاضافة الى وجوه أساسية من فريق المنظرين (ويليام كريستول أساسا) تتبنى الدفاع عن "بناء الديمقراطية" على مستوى "كوني" يفتح مواجهة عامة تشمل كل الأقطار الاسلامية. ثانيا، و في مقابل ذلك يوضح كراوثمر أن هذه الرؤية "مثالية" و لا تحاول أن تختار معاركها بشكل يحسب القدرات الواقعية؛ و يؤكد في المقابل على ضرورة إتباع أي سياسة واقعية لـ"رؤية" شاملة تحتوي مبادئ سامية تتمثل في هذه الحالة في "بناء الديمقراطية" وهو تعريفه للرؤية "الديمقراطية الواقعية" التي يتبناها و التي تختلف عن الرؤية "الواقعية" التي بصمت لفترة طويلة السياسة الخارجية الأمريكية و التي "تفادت التدخل في الشأن الداخلي العربي" بمعنى دعمها المستمر للدكتاتوريات العربية و تقاعسها في الدفاع عن قضية البناء الديمقراطي، في حين أنها حسب كراوثمر مهمة حتمة من زاوية المصلحة الأمريكية في الوقت الراهن.
ثالثا، و هنا أصبح هذا النزاع الداخلي أكثر تشويقا، برز على السطح أن منظرا اساسيا في التيار النيومحافظ بحجم فرانسيس فوكوياما فقد صبره من إستمرار التهويمات المثالية لرفاقه خاصة في ظل تفاقم المأزق "الواقعي" العراقي و لم يشمل بتذمره "الكونيين الديمقراطيين" فحسب بل أيضا "صديقه" كراوثمر "الواقعي الديمقارطي". ففي عدد الصيف الأخير (صيف 2004) من الناشيونال انترست (The National Interest) وهي النشرية الرئيسية التي تعبر عن وجهة النظر النيومحافظة في السياسة الخارجية كتب فوكوياما مقالا مدويا ضد محاضرة كراوثمر حول "الواقعية الديمقراطية" لم يلق الاهتمام المناسب بفعل حمى الحملة الانتخابية الدائرة انذاك عنونه (غامزا من قناة محاضرة كراوثمر في سنة التسعين) "اللحظة النيومحافظة (The Neoconservative Moment)".و فيه أكد فوكوياما أولا على تمسكه بـ"المبادئ" الأساسية التي يجتمع حولها النيومحافظون و التي تشمل حتمية قيام السياسة الخارجية الأمريكية على "نشر الديمقراطية" (و هي النقطة الأساسية التي تقوم عليها أطروحته المشهورة حول "نهاية التاريخ"). و في المقابل وجه نقده لأطروحة كراوثمر وبقية النيومحافظين كما يلي: أولا، إذا كان على النيومحافظين إعتماد سياسة "واقعية" تتحسب جيدا في اختيار أهدافها كما ينادي بذلك كراوثمر فإن ذلك لم يحدث في الحالة العراقية حيث يلاحظ تصاعد المقاومة العراقية مقابل تراجع السيطرة الأمريكية: و هنا يعلن فوكوياما أنه كانت له منذ البداية "شكوكه" في علاقة بقرار الحرب على العراق بالرغم من مساندته العلنية له حيث رأى أنه ليس هناك فائدة من المعارضة في ظل تصميم البيت الأبيض على شن الحرب (؟!)؛ ثانيا، و هنا يحتاج القارئ للتركيز، يلاحظ فوكوياما أن التسرع في اتخاذ قرار الحرب على العراق لم يكن مبنيا على أساس المصالح العليا للولايات المتحدة بقدر ما كان مبنيا على تعلق غالبية المجموعة النيومحافظة بالمصالح الاسرائيلية، حيث خلطوا بين أعداء الولايات المتحدة (و هي منظمة القاعدة فقط بالنسبة له) و بين أعداء إسرائيل (منظمتي حماس و الجهاد أساسا) و هو ما جعلهم يتحدثون في العموم عن عدو هلامي يتمثل في التيار "الراديكالي الاسلامي" بدون تمييز و هو ما يهدد الدور المحايد الذي يمكن أن تلعبه في العملية السلمية و يُعقد المصالح الأمريكية في المنطقة؛ ثالثا، لا يرى فوكوياما، بعكس كراوثمر، أن معركة الولايات المتحدة ضد "الراديكالية الاسلامية" (مجسدة في منظمة القاعدة أو غيرها) هي معركة وجودية حيث لا يملك هؤلاء التأثير على وجود الولايات المتحدة مثلما كان الحال في علاقة بالاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، و هي ما يؤدي في النهاية الى تصخيم غير مبرر لهذا العدو يدفع باتجاهه مزيدا من المتعاطفين عوض محاصرته و عزله؛ رابعا، يُلاحظ أن إستبعاد الغطاء الدولي عن الحرب الأمريكية على العراق كان سياسة خاطئة تُبرز عدم واقعية صانعيها؛ خامسا، يُبدي فوكوياما الذي لاطالما أكد على كونية الاتجاه الديمقراطي في العالم أن بناء الديمقراطية في العراق هي مهمة "تقريبا لا يمكن تصورها" بفعل مجموعة من العناصر، و بالتالي فإن اخر مبررات الوجود العسكري الامريكي هناك لم تعد صالحة في رأيه.
كراوثمر رد بشكل فوري (و بعد حملة إعلامية تمهيدية في الصحف الأمريكية) على مقال فوكوياما و ذلك في العدد الأخير من الناشيونال انترست (خريف 2004) "دفاعا عن الواقعية الديمقراطية". و عموما أعاد تقديم أطروحته متهما فوكوياما بسوء فهمها حينا و بتأثره بـ"الخطاب المعادي للسامية" حينا اخر لأنه ينزع لـ"تهويد التيار النيومحافظ" و هي نزعة يراها تتزايد في الاونة الاخيرة. أخيرا يشير كراوثمر الى أن موقف فوكوياما في علاقة بمسألة "بناء الديمقراطية في العراق" يعكس نزعة عنصرية تجاه العرب، و هو ما حاول فوكوياما نفيه بشكل استباقي في مقاله أعلاه حيث وصف اراء كراوثمر حول "بناء الديمقراطية في العراق" بأنها متأثرة بمواقف أستاذ التاريخ الاسلامي برنارد لويس (Bernard Lewis) النيومحافظ المختص في المنطقة العربية و التي تتهم المشككين في دمقرطة العرب بأنهم يعكسون "شعورا عنصريا".
و هكذا في خضم النقاش الكراوثمري-الفوكويامي يظهر أخيرا الدكتور لويس كمدافع محب عن بناء الديمقراطية ليس في العراق فحسب بل أيضا في المنطقة العربية. إن هذا يحملنا الى النقطة الرئيسية الثانية و هي النقاش الخصوصي (أو نقاش المختصين؟) في الولايات المتحدة سواء الأوساط النيومحافظة أو غيرها من الأوساط المؤثرة في علاقة بمسألة "الديمقراطية الاسلامية": فكيف يرى "المختصون" مسألة العلاقة بين الثقافة الاسلامية المهيمنة في الأقطار العربية و مهام بناء الديمقراطية فيها؟ و هل أن دفاع "النيومحافظين" عن "ديمقراطية إسلامية" يعني الشيء نفسه بالنسبة لهم جميعا؟
2
بغض النظر عن كل ما ما يمكن أن يُقال حول المواقف السياسية للبروفيسور في "التاريخ الاسلامي" في جامعة برنستون برنارد لويس فإنه يوجد القليل من الشك حول حقيقة أنه ترك بصمات جدية في حقل الدراسات الأكاديمية الاسلامية و خاصة في علاقة بالدراسات العثمانية. أما ما إذا كان يستحق تسمية المعجبين به كـ"عميد دراسات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة" فذلك أمر لا يبدو أن هناك إجماعا حوله على الأقل من قبل المختصين الأكاديميين. و ترجع العلاقة بين لويس و النيومحافظين الى الفترة التأسيسية حيث كان المثقف الرئيسي الملازم لأول ناطق سياسي باسم هذا التيار و ذلك منذ بداية سبعينات القرن الماضي: هنري (سكوب) جاكسون. و كان الأساس الرئيسي لهذه العلاقة يقوم على الدفاع الحماسي من قبلهما على المصالح الاسرائيلية حيث ساهما في تأسيس اللوبي الاسرائيلي في الولايات المتحدة بمؤسساته القوية المعروفة اليوم. و من الواضح أن لويس قد تحول منذ فترة الى شخصية عامة بشكل غير مسبوق حيث استثمر رأسماله الأكاديمي في مشروع سياسي محدد و هو المشروع النيومحافظ ليس من ناحية المحتوى فحسب بل من خلال الشكل أيضا: فالحلم الشتراوسي الذي لاطالما ردده ارفنغ كريستول و المتمثل في صناعة المثقف الميكيافيلي الذي يُسير الأمير يجد أحد أبرز تجسيداته في المشهد الراهن في شخص برنارد لويس. و كانت صحف أمريكية عديدة قد أشارت بُعيد أحداث 11 سبتمبر الى قيام لويس بمحاضرات غير رسمية في شكل حفلات عشاء بحضور المسؤولين الأمريكيين الكبار بما في ذلك الرئيس بوش و ديك تشيني و بول وولفويتز ركز فيها على مقولة أساسية يواصل الأخير ترديدها: فرصة بناء دولة ديمقراطية على الشاكلة التركية-الكمالية في العراق. و قد أكد لويس هذا الموقف من خلال سلسلة من المقالات و الكتب نشرها منذ 11 سبتمبر الى الان. و تتمثل نظرته بشكل عام في أن المؤسسة الدينية في ذاتها لم تلعب دورا سياسيا مباشرا خلال التاريخ الاسلامي غير أن البناء الديمقراطي في العالم الاسلامي يحتاج الى اتباع النموذج الغربي القاضي بالفصل الحاسم بين الدين و السياسة. و في الواقع تقوم هذه الرؤية على مسلمات أساسية أهمها أن التاريخ تطوري يسير في اتجاه واحد: فالمسيرة الديمقراطية للـ"الغرب" (و بالمناسبة "الغرب" بالنسبة للويس يبدو كتلة واحدة) هي مسيرة تهم البشرية و لذلك يعتبر لويس أن المسلمين الان يقفون على أعتاب القرن السادس عشر حيث بدأ مسار التفاوت الكبير بينهم و بين الغرب ز هو ما يعني أنهم متأخرين بـ"خمسة قرون" ليس عن الغرب فحسب بل أيضا عن شعوب لاطالما تجاهلها المسلمون (اسيا)؛ و لهذا يرى أن عليهم القيام بحركة مماثل لحركة "الاصلاح البروتستاني" التي تمت في القرن السادس عشر حت يمكن لهم المرور الى مرحلة أكثر تقدما. و في هذا الاطار يقدم لويس شرحه لظاهرة الاسلام السياسي و "الارهاب الاسلامي" و التي يراها استمرارا لظاهرة النظرة التكفيرية من قبل المسلمين للغرب المسيحي و للنوايا التوسعية القائمة على فكرة "الفتح"؛ حيث ينتهي الى أن السبب الرئيسي من وراء ظاهرة "التشنج الاسلامي" هي الهزيمة الحضارية تجاه غرب يعرف المسلمون أنه متفوق عليهم ماديا و لهذا فإن "الصدام الحضاري" مسألة حتمية. و علينا أن نشير هنا أن هذه المواقف و بهذا الوضوح ترجع في أقل الأحوال الى سلسلة مقالات كتبها لويس في بداية التسعينات حيث كان أول من استعمل مصطلح "صدام الحضارات" و كان صاموئيل هنتينغتون قد اعترف بتأثره الكبير برؤى لويس عند صياغة نظرية الشهيرة و التي أطلق عليها نفس التسمية. و بالاضافة الى ذلك لدى لويس تلاميذ مباشرين متفاوتي الأهمية يعبرون عن ارائه في الوقت الراهن: المؤرخ البارز مارتن كرامر و "الباحث" (المتواضع حقا رغم ضوضائيته) دانيال بايبس و "المستعرب" العراقي فؤاد عجمي و الذي يبدو أنه بدأ التخلي عن اراء لويس.
و لكن الأشهر الأخيرة شهدت تركيزا متزايدا على مواقف لويس و تصاعد دوره كشخصة عامة تتعرض الى النقد السياسي في ظل تصاعد الاحتمالات بأن الحالة الوحيدة التي يمكن أن تقام فيها انتخابات في بعض أجزاء العراق في ظل الاحتلال الراهن هي تلك التي تقوم بالتعاون مع المؤسسة الشيعية الدينية في النجف و تحديدا مرجعية اية الله السيستاني و هو ما يعني فرضية قيام "ديمقراطية" بحماية المؤسسة الثيوقراطية. و طبعا يُعتبر ذلك على النقيض من المواقف التي درسها لويس لتلاميذه النيومحافظين في علاقة بـ"الشرق الأوسط" و التي تركز على ضرورة بناء فصل كلاسيكي بين الدولة و الدين لنجاح النموذج الديمقراطي. ففي مقال مطول لصحفي النيوزويك مايكل هيرش في نشرية واشنطن مونثلي (The Washington Monthly) في العدد الأخير (نوفمبر 2004) يتبين أن لويس مازال مصرا على موقفه من إمكانية تأسيس دولة علمانية على الشاكلة الأتاتوركية في العراق و هو الأمر الذي يسخر منه هيرش و يعرض في المقابل اراء باحثين مرموقين من المختصين الأمريكيين في تاريخ المنطقة العربية الاسلامية (ريتشارد بولليات من جامعة كولومبيا و جون وودس من جامعة شيكاغو) و الذين يركزو ن على تركيز لويس على النموذج العثماني-التركي و تجاهله خصوصيات المنطقة العربية و التي لعبت فيها المؤسسة الدينية في أحيان كثيرة دورا حمائيا لصالح المجتمعات المحلية تجاه استبداد السلطة السياسية و هو ما يؤهلها للعب دور إيجابي في إطار البناء المؤسساتي. كما يشير هؤلاء الى قفز لويس على واقع الاستعمار الغربي في تحليله لظاهرة "التسنج الاسلامي" و ينتهي هؤلاء الى أن التيار الاسلامي يمكن أن يكون أداة أساسية لتحقيق المؤسسات الديمقراطية حيث أنه وحده يتمتع بشرعية شعبية في الواقع العربي الراهن. و بالرغم من اعتراف هؤلاء بأن هذه التيارات تتميز بعدائها المتفاوت للغرب فإنهم يرون مرحلة حكم إسلامي ضرورية من الناحية التاريخية حيث يحتاج العرب الى تفريغ الشحنة الرومنسية للاسلام حتى يتم الانتقال الى رؤية أكثر واقعية تتفهم محدودية الحل الديني و استشهدوا في هذا الاطار بالمثال الأيراني حيث بقدر ما كانت الثورة الاسلامية مشروعة من النواحي السياسية و الشعبية فقد فشلت في الحفاظ على الثقة الشعبية و هو ما أدى الى بروز وجوه إصلاحية قوية من داخل الاسلام الثوري. و قد عبر الباحث البريطاني-الهولندي ايان بوروما عن نقد مماثل للويس في مقالاته الأخيرة (النيويوركر في عدد 14-21 جوان 2004 و النيويورك تايمز ماغازين في عدد 4 ديسمبر 2004) و التي أكد فيها الاراء السابقة (بالرغم من أنه يحمل نفس الرؤية التعميمية للغرب كما يبدو في كتابه الصادر هذا العام و المعنون "الاستغراب: الغرب في عيون أعدائه").
و في الواقع لا ينتمي هؤلاء الباحثين الى التيار النيومحافظ. و لكن المثير أن هناك تقاطعا بين الأطروحة الرئيسية في مجموع أفكارهم و إعتقاد متصاعد لدى مختصين اخرين و من جيل جديد تماما من داخل التيار النيومحافظ و التي تتمثل في أن "الديمقراطية الاسلامية" لا يمكن أن تُبنى على الأرجح دون المشاركة القوية للتيار الذي يحظى بالشعبية في الشارع العربي أي التيار الاسلامي. و من الشخصيات المحورية المقربة من أوساط القرار التابعة للتيار النيومحافظ و خاصة البنتاغون (حيث تم تعيينه ضمن إدارة الاحتلال في فترة بول بريمر للمشاركة في تحرير دستور عراقي جديد) هو أستاذ القانون الدستوري في جامعة نيويورك نوح فلدمان (Noah Feldman) و الذي يدافع بوضوح و من دون مواربة، سواء في مؤلفيه الأخيرين "ما بعد الجهاد" (و هو في الاصل جزء من أطروحة دكتوراة في القانون الدستوري الاسلامي) و أخيرا "ماذا ندين للعراق" او في مقالاته و لقاءاته التلفزيونية عن ضرورة إقحام الاسلاميين المعتدلين في العملية السياسية و من ثمة العمل على بناء ديمقراطيات عربية ذات مصداقية. و قد تعرض فلدمان في مقابل ذلك الى انتقادات عنيفة من قبل المقربين من برنارد لويس (خاصة من قبل مارتن كرامر). و بالاضافة الى فلدمان فإن الباحثة في الشؤون الاسلامية شيريل بينارد (Cheryl Benard) و هي زوجة أحد أقطاب سياسيي التيار النيومحافظ زلماي خليلزاده قد أصدرت في إطار بحوث مركز الراند المقرب من وزارة الدفاع الأمريكية دراسة في بداية السنة الماضية تحدد فيها مجموعة من النقاط تصب في أهمية إيجاد حلفاء من التيار الاسلامي لبناء الديمقراطية في العالم الاسلام و من أهم ما تعرضت إليه: محدودية التيار العلماني العربي بفعل السيطرة الاسلامية على الشارع العربي و هو ما يعني عدم جدوى التعويل عليه في بناء المؤسسات الديمقراطية؛ تنوع التيارات الاسلامية و أهمية العمل مع بعض المعتدلين فيها ضد البعض الاخر (خاصة ما تسميه "السلفية الجهادية") كسبيل لتحقيق مجتمع مدني ينبني على قوى حيوية. و اخر من انضم الى أنصار هذه الرؤية من داخل التيار النيومحافظ هو المحلل السابق في المخابرات المركزية الأمريكية (1985-1994) و المتحصل على شهادة عليا في التاريخ الاسلامي من جامعة برنستون رويل مارك قيريشت (Reuel Marc Gerecht) و الذي يُعتبر من أكثر الوجوه النشيطة في مركز الدراسات النيومحافظ "معهد المؤسسة الأمريكية للسياسة العامة" (AEI). و بعد سلسلة من المقالات بدأ نشرها منذ بداية العام الماضي أصدر أخيرا (نوفمبر 2004) تقريرا هاما كتبه على ما يبدو في إطار زيارات تقصي إستخبارية قام بها الى العراق (يشير الى لقاءات مباشرة قام بها مع عدد من الشيوخ الشيعة و السنة) نشره المعهد أعلاه بعنوان "المفارقة الاسلامية" و الذي انتقد فيه الادارة الأمريكية لتجاهلها خصوصيات المنطقة العربية و العراق حيث يرى أنها لم تسارع بالتعاون مع اية الله السيستاني بفعل وجود تيار قوي داخل الادارة الأمريكية يفضل حكومة علمانية (و هو ما أدى الى اختيار إياد علاوي و الذي يعتبره خيارا خاطئا). و عموما يدافع قيريشت عن التيارات الدينية الشيعية كالحليف الوحيد الذي يمكن التعويل عليه لـ"بناء الديمقراطية في العراق". كما أنه يرى في الاسلاميين غير القاعديين في مجمل الأقطار العربية (الاخوان المسلمين في مصر و جبهة الانقاذ في الجزائر خاصة) القوة الرئيسية التي يمكن ان تساهم في تحقيق تغيير ديمقراطي واقعي. حيث يكرر رؤى بولليات المذكورة أعلاه و التي تتحدث عن ضرورة إفراغ الاسلاميين من الشحنة العاطفية التي يمسكون عبرها بالشارع من خلال وضعهم على محك الواقع مثلما هو الحال في إيران. يُضاف الى هذه الاراء العلاقة القوية بين الادارة الأمريكية الحالية و مراكز دراسات (مثل سابان و الناشيونال ايندومانت) أشرفت خلال السنة الماضية على ندوات (القاهرة و الدوحة) أشركت تيارات إسلامية و دافعت عن ضرورة مشاركتهم في العملية الديمقراطية في بلدانهم.
و هكذا فإن النزاع داخل التيار النيومحافظ يتزايد بتعمق مأزق الاحتلال في العراق. و لكنه أيضا يكشف عن المخاطر الكبيرة على النظام العربي الرسمي الضعيف أصلا التي يمكن أن تنتج عن الانخراط الأمريكي الفعلي في تسيير الشأن الداخلي العربي و الذي وضع الولايات المتحدة في احتكاك مباشر مع حقائق لاطالما حاولت تجاهلها: و هي المفارقة المتمثلة في ضرورة حل المشكل الديمقراطي مقابل تفادي إعتلاء أعدائها السلطة. و عموما يبدو أن التيار "الكوني الديمقراطي" (و بدرجة ثانية "الواقعي الديمقراطي") بصدد الاستجابة على الأقل في الحالة العراقية الى اراء جيل جديد من المستعربين يؤمنون بأهمية التعويل على القوى الاسلامية في مسألة "البناء الديمقراطي" بعكس المدرسة التقليدية لبرنارد لويس و التي لاتزال تؤمن بحل من زمان اخر يتمثل في خيار علماني عربي على مثال نموذج تركيا الكمالية خلال بداية القرن الماضي. غير أن المثال العراقي هو بالتأكيد نموذج عبثي بالنسبة للأسلوب المخبري الذي يعتمده أقطاب النيومحافظين، حيث لا يمكن للديمقراطية أن تُقام إلا على أساس قوى نظيفة تستمد شعبيتها ليس من مشاعر دينية مجردة بل من الحيوية النضالية للدين؛ و بالنسبة للحالة العراقية فإن الحيوية النضالية لا تتحقق إلا على أساس مبدأ مقاومة الاحتلال. في المقابل فإن التشخيص النيومحافظ المتزايد للواقع العربي عامة على أنه يعاني من حالة استبدادية و أن التخلص من ذلك الاستبداد غير ممكن من دون مشاركة قوى شعبية مثل منظمات الاسلام السياسي المعتدلة هو في المجمل تشخيص صحيح. المفارقة كما يجب أن يعرف الأمريكيون أن شعبية هؤلاء مستمدة جزئيا من تعبيرها عن العداء الشعبي لما يُنظر له على أنه "المشروع السياسي" للولايات المتحدة. نحتاج في النهاية الى إبداء ملاحظة أخيرة في علاقة بما يسمى بـ"الليبراليين العرب" و الذين يُقدمون أنفسهم—بشكل هستيري—على أنهم التيار العلماني العربي الذي يتطوع لتبنى المشروع الأمريكي في المنطقة. و في الواقع فإن الحالة المأساوية لهؤلاء (و هم غالبا ناشطين يساريين في السابق أعادو تعريف أنفسهم بشكل حصري على قاعدة "النضال ضد الظلامية الدينية") كطرف هامشي في المعادلة السياسية الواقعية يجعل "مشروعهم" الأمريكي بالذات غير قادر على إستيعابهم. و طبعا لا يمكن لأي كان أن يتمنى لأي طرف سياسي مصيرا كاريكاتوريا بهذه الدرجة.
صحيفة القدس العربي 11/12 ديسمبر (كانون الأول) 2004
0 Comments:
Post a Comment
<< Home