Wednesday, December 22, 2004

في العلاقة بين "النيوليبراليين" و "النيومحافظين"

في العلاقة بين "النيوليبراليين" و "النيومحافظين"
الرؤية الاقتصادية للتيار "النيوليبرالي" هي المصدر الأساسي للبرنامج الإقتصادي للتيار "النيومحافظ"

الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية

إن أهم خصائص الطبيعة الإيديولوجية للأطراف الحاكمة في الولايات المتحدة و بريطانيا هي عدم إستقرارها التام وصعوبة تحديدها بشكل مطلق و يرجع ذلك جزئيا الى علاقتها السببية بالواقع الدولي و المحلي المتحرك. غير أن ذلك لا يمنع وجود خصائص عامة تتسم بالثبات و هو ما يتجسد خاصة من خلال ملاحظة مسار تشكلها. و من ضمن المساهمات العربية المنشورة أخيرا و المتعلقة بتشخيص هذه الطبيعة الإيديولوجية المقال الأخير للباحث الفلسطيني الدكتور بشير موسى نافع "المحافظون و الليبراليون الجدد بصدد محاولة بناء إجماع غربي جديد" (القدس العربي 16 كانون الأول (ديسمبر) 2004) و الذي قدم فيه قراءة لمسألة العلاقة بين "التيار النيوليبرالي الذي يحكم بريطانيا" بالتيار النيومحافظ الذي يحكم الولايات المتحدة. و بالرغم من إتفاقي مع الكاتب حول عدد من المعطيات و الأفكار التي قدمها فإني أود أن أقدم مجموعة من الملاحظات حول بعض النقاط التي بنى عليها قراءته و التي أعتقد أنها تستحق المراجعة. و ستتركز ملاحظاتي هنا حول نقطتين أساسييتين: (أولا) مقابل إشارة السيد نافع الى أن تشكل التيار النيومحافظ يرجع الى سبعينات القرن الماضي فإنه يتحدث عن التيار النيوليبرالي بشكل محدد في علاقة بحكومة توني بلير و هو ما يترك الإنطباع بأنه تيار جديد و بريطاني بالأساس. (ثانيا) يلاحظ السيد نافع أن كلى الطرفين "ليس لهم من كبير اكتراث بالمسألة الاجتماعية أو الضرائبية، مثلاً (بعكس خصومهم الألداء المحافظين الأصليين في أمريكا أو العماليين التقليديين في بريطانيا)" مقابل تركيزهم على مسائل السياسة الخارجية و خاصة في علاقة بالسياسة الاستعمارية الجديدة في المنطقة العربية (خاصة بتأثير اللوبي الصهيوني بالنسبة للتيار النيومحافظ). و من ثمة يقترح السيد نافع أن تحالف الطرفين هو جديد و هو قائم تحديدا حول إلتقائهما في تقييمهما لموضوع السياسة الخارجية فحسب. و في الواقع فإن النقطة الأخيرة تؤكد الإنطباع المذكور في النقطة الأولى حيث يتم عرض التيار النيوليبرالي بشكل حصري في علاقة بحكومة السيد بلير.

سأقوم بمراجعة هاتين النقطتين من خلال (أولا) عرض تاريخي مختصر للتيار النيوليبرالي و الذي سيوضح أصوله النظرية و السياسية الأمريكية و أن هيمنته اللاحقة في بريطانيا كانت أساسا من خلال حزب المحافظين و ليس حزب العمال. (ثانيا) إرتباط التيار النيوليبرالي القوي (نظريا و سياسيا) بالتيار النيومحافظ منذ وعيه بذاته في سبعينات القرن الماضي و الإندماج التدريجي و حدوده بينهما. و في إطار عرض هاتين الفكرتين سنلاحظ كيف أن المسائل "الإجتماعية و الضريبية" هي مسائل رئيسية بالنسبة للتيارين و ليست مسائل مهمشة مقارنة بمواقف "المحافظين الأصليين" أو "العمال التقليديين".

1
بالرغم من أن النيوليبرالية (Neoliberalism) تعبر عن وجهة نظر لا تتعلق بمسائل الإقتصاد السياسي فحسب بل أيضا بمسائل الفلسفة السياسية فإنها قد ارتبطت في بداية تشكلها أساسا بالنقاش الذي دار إثر الحرب العالمية الثانية حول مسائل العولمة الإقتصادية و دور إقتصاد السوق في حل مشكل التنمية. و مقابل المدرسة الكينيزية (Keynesian School) التي رعتها الإدارة الأمريكية إثر أزمة 1929 و التيار النيوكينيزي (Neokeynesian) الذي ساهم في تسطير السياسة الإقتصادية للولايات المتحدة (محليا و دوليا) إثر الحرب العالمية الثانية (و حتى سبعينات القرن الماضي) تشكلت مدرسة مضادة اتجهت نحو إعادة تعريف أفكار المدرسة الكلاسيكية الليبرالية في الإقتصاد السياسي (المتمحورة حول كتابات ادم سميث و ريكاردو). و قد تشكل العصب الرئيسي للتيار النيوليبرالي في الأوساط الأكاديمية الأمريكية و تحديدا من قبل "فتيان شيكاغو" (Chicago Boys) أو "مدرسة شيكاغو" (Chicago School) و هم مجموعة من الجامعيين الذين تركزوا بين خمسينات و سبعينات القرن الماضي في كلية الإقتصاد بجامعة شيكاغو و كان المنظر الأمريكي الرئيسي بينهم ميلتون فريدمان (Milton Friedman) و الذي درس هناك بين سنتي 1946 و 1976 و كان قد تحصل على جائزة نوبل في الإقتصاد سنة 1976. غير أن فريدمان كان على علاقة قوية بمجموعة من أساتذة الإقتصاد النمساويين الذين كانوا من السباقين في نقد أطروحات كينز (منذ كانوا زملاء له في الجامعات البريطانية خلال الثلاثينات) قبل إلتحاقهم بجامع شيكاغو. و يتعلق الأمر بالخصوص بفريديريش هايك (Friedrich Hayek) و الذي كان هاجر الى الولايات المتحدة مع مجموعة من الإقتصاديين النمساويين حيث إنضم الى مؤسسة بحثية تابعة لجامعة شيكاغو سنة 1950. و قد أسس هايك في ربيع سنة 1947 "جمعية مونت بيلرين" (Mont Pelerin Society) (باسم موقع منتجع سويسري أصبح مقرا لاجتماعات الجمعية) و التي مثلت الإطار الدولي الجنيني لمجموعة من الأكاديميين الإقتصاديين الذين إنضم إليهم بعض الفلاسفة و الذين كان من أهمهم الفيلسوف و عالم الكيمياء المجري مايكل بولانيي (Michael Polanyi) و الذي سيصبح أستاذا زائرا في جامعة شيكاغو. غير أن هناك وجوه معروفة أخرى و من خارج إطار جامعة شيكاغو ساهمت في نشأة و تشكيل ملامح التيار النيوليبرالي في الولايات المتحدة و من أهمهم أستاذ الإقتصاد بجامعة كولومبيا (نيويورك) روبرت ماندل (Robert Mundell) و الذي شغل مناصب عالية في صندوق النقد الدولي و اشتهر بمجموعة من الكتابات حول إقتصاد السوق في بداية الستينات. و قد تحصل ماندل على جائزة نوبل في الإقتصاد سنة 1999.

و قد بدى تأثير هذه المدرسة في أوساط النخبة الحاكمة الأمريكية منذ بداية الأربعينات و تحديدا في صيف سنة 1944 في إطار "إتفاقية بريتون وودس" (Bretton Woods Agreements) حيث إتفقت الدول الأربع و الأربعين الحليفة على الصيغ التي من خلالها تتفادى أزمات التضخم المالي التي ترافقت مع أزمة 1929 و كل ما من شأنه أن يخلق عدم مساواة إقتصادية: حيث دافع الجانب الأمريكي بالخصوص على أن السبب الرئيسي من وراء الحروب الدولية الفوضى التي تسود القطاعين المالي و التجاري الدوليين و ما يمكن أن ينجر عن ذلك من إلتجاء للقوة لحل هذه المشاكل. ففي إطار تلك المحادثات تراجعت الحكومة الأمريكية عن دعم رؤى جون كينز و الذي دافع عن مقترح إنشاء بنك مركزي يشرف على إحتياطي حكومي للعملة يقدم قروض مالية ذات ريع ضئيل لمساعدة التنمية في الدول و المناطق الضعيفة. في المقابل دافعت الحكومة الأمريكية عن مقترح الإقتصادي الأمريكي هاري ديكستر وايت (Harry Dexter White) و الذي ركز على مواجهة مشكل التضخم المالي على حساب مشكل التنمية و هو ما أدى الى إنشاء مؤسسة صندوق النقد الدولي و التي كان دورها الرئيسي وضع الاليات لمراقبة علاقة ثابتة بين العملات الدولية من جهة و الدولار و الذهب من جهة أخرى. و قد عبر هذا الموقف عن نزعة قوية تتفادى تدخل الدولة في الشؤون الإقتصادية و من ثمة تعادي بشكل متزايد الإقتصاد المخطط (تم تراجع مرحلي و مؤقت في علاقة بالوضع في أوروبا من خلال مشروع مارشال و الذي إعتمد بالأساس على مساعدة أمريكية حكومية مباشرة لإعادة بناء الإقتصاديات الأوروبية إثر الحرب و ذلك تخوفا من تقدم الحركة الشيوعية في أوروبا الغربية و افتكاكها للسلطة).

غير أن تأثير النيوليبراليين لم يصبح ملحوظا إلا بعد التشكل النظري لهذا التيار و إلتقائهم مع اللوبيات المالية الكبرى التي تركزت سياسيا في الحزب الجمهوري حيث أصبح إقتصاديو "مدرسة شيكاغو" و خاصة ميلتون فريدمان مستشارين غير رسميين في إدارة نيكسون (1969-1974) حيث لعب هؤلاء دورا سياسيا قويا على السياسة الإقتصادية الخارجية عندما عملوا على دعم إنقلاب الجنرال بينوشيه في الشيلي كرد على ما رأوه سياسة إقتصادية موالية للنموذج السوفياتي من قبل الرئيس المنتخب أليندي. و منذ تلك الحادثة ارتبط مفهوم النيوليبرالية بظرفية سياسية سلبية في الذهنية العامة في أمريكا اللاتينية خاصة و أن الجنرال بينوشيه قد إعتمد سياسة إنفتاح إقتصادي غير مسبوقة بدفع من منظري "مدرسة شيكاغو". كما لعب هؤلاء دورا رياديا في إدارة ريغن (1981-1989) كمستشارين رسميين أثروا لأول مرة في السياسة الإقتصادية الداخلية من خلال مواجهة نفوذ النقابات الأمريكية و الدفع الى تقليص المساعدات الحكومية للفئات الضعيفة إجتماعيا. كما كانوا وراء "توافق واشنطن" سنة 1989 تحت رعاية الإدارة الجمهورية و هي مجموعة من السياسات التي دفعت باتجاه تحرير عملات دول أمريكا اللاتينية و هو ما أدى الى الأزمة المالية الكبيرة في نهاية القرن الماضي في دول مثل الأرجنتين و البرازيل. و على الضفة الشرقية من المحيط الأطلسي كانت حكومة مارغريت ثاتشر (1979-1990) أول حكومة أوروبية تتبنى الرؤية النيوليبرالية حيث دافعت بحماس عن التخلي عن نظام التغطية الإجتماعية حتى أن الكثيرين يساوون بين مصطلحي "النيوليبرالية" و "الثاتشرية". و هكذا، و بخلاف المعطيات التي يقدمها السيد نافع، فإن الصيغة البريطانية الأساسية للتيار النيوليبرالي لم تتبنى مدرسة أمريكية للتفكير الإقتصادي فحسب بل هي أيضا متعلقة بتجربة حزب المحافظين البريطاني (متأثرا بتجربة الحزب الجمهوري) في مواجهة حزب العمال خلال الثمانينيات. و الان أنتقل الى النقطة التالية: لماذا لا يمكن إعتبار الإلتقاء البريطاني الأمريكي الراهن في السياسة الخارجية إلتقاءا بين النيوليبراليين و النيومحافظين؟ و من ثم كيف أن العلاقة بين هذين التيارين هي فعلا موجودة و قوية و لكن في الإطار الأمريكي و ذلك منذ نشأتهما.

2
إن ما لاحظه الدكتور بشير موسى نافع من إرتباط بين النيوليبرالية و حزب العمال البريطاني بقيادة توني بلير من جهة و الأفكار الجديدة التي أتى بها هذا التيار في الإطار البريطاني في علاقة بالسياسة الخارجية من جهة أخرى لا يأتي من فراغ. و لكنه يحتاج قطعا الى بعض التوضيحات الإضافية. فقد كان إنهيار الإتحاد السوفياتي و معه الثقل المعنوي للإقتصاد المخطط و بفعل تفاقم الأزمة الاقتصادية في أوروبا الغربية و الولايات المتحدة بدأت الأحزاب التي دافعت عن أجندة الإقتصاد المسير من الدولة و الحماية الإجتماعية (أي الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا بما فيها حزب العمال و الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة) بالاضافة الى التيارات اليمينية التي دافعت عن سياسات حمائية في علاقة بالتجارة الدولية (و هذا يعني خصوصا التيار المحافظ التقليدي داخل الحزب الجمهوري إضافة الى الحزب الديمقراطي) بالانهيار. و تجسم ذلك منذ أواسط الثمانينات في الولايات المتحدة من خلال إختراق أفكار التيار النيوليبرالي للحزب الديمقراطي الأمريكي من خلال تأسيس "مجلس القيادة الديمقراطية" سنة 1984 و الذي شكل الإطار الذي سيجمع التيار "الديمقراطي الجديد" و هو التيار الذي أوصل الرئيس بيل كلينتون الى الهيمنة على الحزب الديمقراطي و من ثمة ترشحه للرئاسة سنة 1992 من خلال رفع شعار "الإقتصاد الجديد" و الذي كان الصيغة التي قام من خلالها الديمقراطيون بحقن برنامجهم الإقتصادي بالاراء النيوليبرالية. و قد امتدت هذه التحولات الى الأحزاب الإشتراكية الديمقراطية في أوروبا الغربية بما في ذلك حزب العمال البريطاني الذي وصل الى السلطة بقيادة التيار الجديد و على رأسه توني بلير. و في إطار هذه الموجة العالمية تم تأسيس منظمة التجارة العالمية و من ثمة التسريع في العولمة الاقتصادية. و في شهر أفريل 1999 و في اجتماع جمع مجموعة من أهم القيادات الغربية انذاك (كلينتون و بلير و شرودر و داليما) تم الإعلان عما سمي بـ"الطريق الثالث" (The Third Way) و الذي قدم الأفكار النيوليبرالية في إطار "روح إجتماعية". و قد كان هناك تأكيدا واضحا من قبل هذا التيار على أن "الطريق الثالث" يعني فيما يعني أنه لا يوافق على الصيغة النيوليبرالية بشكل كامل و بتأثير من الأزمات المالية التي حدثت أواخر التسعينات أكد المجتمعون على ضرورة تجنب صيغة نيوليبرالية لا تهتم بالجوانب الإجتماعية و هو ما عُد انذاك تباينا مع النيوليبراليين. و في الواقع في إطار هذه الرؤية و في ذلك الإجتماع بالذات دافع رئيس الوزراء توني بلير و بدعم من الرئيس كلينتون عن فكرة "الحرب لأهداف إنسانية" (War for humanitarian reasons) و ذلك في علاقة بالحرب التي كان يتم إعدادها ضد الصرب و ما عُرف بأزمة كوسوفو. و هنا يمكن موافقة السيد نافع بأنه على أساس هذه الرؤية التي تبلورت في إطار أزمة كوسوفو يمكن فهم التحالف البريطاني الأمريكي اللاحق في الحرب على العراق. و لكن و كما أشرنا أعلاه فإن هذا الالتقاء ليس إلتقاءا بين التيار النيوليبرالي و النيومحافظ و ذلك لأن تيار "الطريق الثالث" (أي مجموعة بلير المسيطرة عل حزب العمال) لا يعبر بشكل دقيق عن التيار النيوليبرالي. في المقابل فإن العلاقة بين التيارين النيوليبرالي و النيومحافظ هي موجودة فعلا و قوية و لكنها سابقة بكثير عن التحولات التي قادها بلير في حزب العمال بل ليس لها علاقة بالإطار البريطاني.

في البداية يمكن الإشارة الى أن إدراة ريغن التي تبنت بوضوح الرؤى النيوليبرالية من خلال إدماج أقطابها في السلطة هي ذاتها التي إستوعبت أقطاب التيار النيومحافظ. فقد مثل وصول ريغن للسلطة الجسر الذي من خلاله وصل كل من التيارين الى السلطة و ذلك لأول مرة في تاريخهما (بقي ظهورهما في عهد الرئيس نيكسون محتشما خاصة بالنسبة للتيار النيومحافظ و الذي كان متركزا في الحزب الديمقراطي). و في الواقع فإن ذلك لم يكن مجرد صدفة حيث أن العلاقة بين التيارين كانت قوية الى درجة أن التيار النيومحافظ كان يعرف سياسته الإقتصادية و الإجتماعية على أساس الرؤى النيوليبرالية. و هنا من الضروري توضيح مشكل إصطلاحي كثيرا ما يؤدي الى الالتباس خاصة عند الانتقال من الظرفية الأمريكية الى الظرفية الأوروبية أو العكس: فمصطلح الليبرالية كما تم إستعماله في الولايات المتحدة إثر الحرب العالمية الثانية ليس له علاقة بالمفاهيم الليبرالية الإقتصادية الكلاسيكية و التي تؤطر عادة مفهوم الليبرالية في الإطار الأوروبي. ففي الولايات المتحدة حور الحزب الديمقراطي خاصة منذ إدارة جون كينيدي مفهوم الليبرالية الى الحد الذي أصبح فيه متناقضا مع المفهوم الكلاسيكي للليبرالية (و بالتالي مفهومها الشائع في الإطار الأوروبي) حيث أصبح يعني سياسة إقتصادية تعتمد بالخصوص على تدخل الدولة في الشأن الإقتصادي. و هكذا فإن عمل التيار النيوليبرالي في الولايات المتحدة على إعادة التعريف الكلاسيكي لليبرالية جعله يقترب تدريجيا من الحزب الجمهوري أي من المحافظين و لهذا فإن العلاقة بين التيارين النيومحافظ و النيوليبرالي كانت منطقية. و يلاحظ عراب التيار النيومحافظ إرفينغ كريستول (Irving Kristol) في مقدمة سيرته الذاتية الأولى "تأملات نيومحافظ" (Reflections of a Neoconservative) التي كتبها في سنة 1983 أي في خضم التجربة الريغينية و التي كانت بمثابة السيرة الذاتية للتيار النيومحافظ—يلاحظ منذ المقدمة أن "المحتوى الفكري للتيار النيومحافظ يأتي من اتجاهات محافظة. فقد تعلم التيار النيومحافظ من ميلتون فريدمان استحسان فضائل إقتصاد السوق كمحرك للنمو الإقتصادي. و تعلم من فريدريش هايك استحسان الحقيقة الهامة المتمثلة في أن المؤسسات الاجتماعية هي نتيجة للفعل (العفوي) البشري و فقط في حالات نادرة تكون نتيجة للتنظيم البشري". و يضيف كريستول الى ذلك أهمية أستاذ اخر من جامعة شيكاغو أي الفيلسوف ما بعد الحداثي ليو شتراوس كمصدر أساسي لفهم التيار النيومحافظ "أهمية الأخلاق ما قبل الرأسمالية". و في إطار تقديمه للرؤية الإقتصادية للتيار النيومحافظ يرجع كريستول مرة أخرى الى مؤسسي التيار النيوليبرالي (فريدمان و هايك) حيث يشير الى أن التعريف الجديد للـ"العقلانية الإقتصادية" (أي المصادر الكلاسيكية للليبرالية الاقتصادية كادم سميث و ريكاردو) الذي قاما به كان الرد الأكثر إقناعا على الرؤية الماركسية. و أشير هنا الى أن كريستول بوصفه تروتسكي سابق (مثل الكثيرين من التيار النيومحافظ) كان يولي أهمية خاصة للمسائل الإقتصادية لإعادة صياغة رؤيته الفكرية. و قد حاجج في هذا الكتاب أن "اليسار الجديد" غير ماركسي لأنه يتعامل بشكل مثالي و تجريدي مع المسألة الإقتصادية، و هو ما يعكس خسارة الماركسية للمعركة الإيديولوجية بفعل أن الحجة الإقتصادية (الإنهيار الحتمي للمنظومة الرأسمالية) هي أساس المساهمة الماركسية. و في هذا الإطار فإنه يرى أن كل من فريدمان و هايك لعبا دورا رئيسيا في كسب المعركة النظرية في هذا المجال. و بالاضافة الى هذه العلاقة النظرية فإن نشأة التيار النيومحافظ و اقتحامه المعركة السياسية تقاطع بشكل واضح مع الإطار العملي الذي احتضن التيار النيوليبرالي. و كان المجال الرئيسي لهذا التقاطع و الى حد هذه اللحظة "معهد المؤسسة الأمريكية لبحث السياسة العامة" (AEI) و الذي كان و لايزال مركز البحث الرئيسي الذي يتركز فيه النيومحافظون منذ توجههم له (بدفع من إرفينغ كريستول) أواسط السبعينات. و من المعروف أن الممول الرئيسي لهذا المركز جون ميريل اولين (John Merril Olin) هو من أكثر المشجعين و الممولين لبحوث "مدرسة شيكاغو" و هو ما يفسر وجود أتباع هذه المدرسة مثل روبرت بورك (Robert Bork) كمشرفين على البحوث الخاصة بمسائل التشريع الإقتصادي داخل (AEI).

غير أن هذا لا يعني أن هناك إتفاقا دائما بين الطرفين و هو ما ينعكس في الجفاء الذي حصل بينهما أواسط التسعينات في إطار تبني بيل كلينتون لسياسة "الاقتصاد الجديد" هو ما عكس تقاربا محدودا بين المنظرين النيوليبراليين و الإدارة الديمقراطية. ففي السيرة الذاتية الثانية (لنفسه و للتيار النيومحافظ) التي كتبها إرفنغ كريستول في سنة 1995 "التيار النيومحافظ: سيرة ذاتية لفكرة" (Neoconservatism a Biography of an Idea) أشار كريستول الى "الفراغ الروحي" للـ"عقلانية الإقتصادية" كما يقدمها التيار النيوليبرالي و هو الأمر الذي يجعل من ليو شتراوس مصدرا أساسيا في الفلسفة السايسية للنيومحافظين بوصفه يركز على الأخلاق ماقبل الرأسمالية و بالتالي تلك المبادئ الفكرية التي تتعرض لانتقاد المصادر الكلاسيكية للليبرالية. إن عدم الإستقرار العلاقة بين الطرفين يتجسد أيضا في نموذج المفكر النيوليبرالي فرانسيس فوكوياما و الذي دخل في صراع أخيرا مع بقية عناصر التيار النيومحافظ في إطار تقييم الحرب على العراق في نفس الوقت الذي يؤكد فيه على استمرار تعلقه بالمبادئ العامة للتيار النيومحافظ (أنظر مقالي في هذا الموضوع في القدس العربي بتاريخ 11/12 كانون الأول (ديسمبر) 2004). و من المعروف أن فوكوياما عضو في هيئة تحرير النشرية الرئيسية للتيار النيومحافظ في موضوع السياسة الخارجية الناشيونال انترست.

و هكذا رأينا أن تحليل العلاقة بين التيارين النيوليبرالي و النيومحافظ تتجاوز بكثير موضوع العلاقة بين حكومة بلير و إدراة الرئيس بوش. بل أن العلاقة بين الأخيرين ليست لها علاقة بالمسألة الأولى لأن تيار السيد بلير ليس له علاقة جدية بالتيار النيوليبرالي حيث يتنمي الى تيار خاص أي "الطريق الثالث". كما لاحظنا أن المسائل الاقتصادية و الاجتماعية هي مسائل شديدة الأهمية بالنسبة للتيارين، و يمكن القول (على أساس تحليل كريستول) بأن مصدر البرنامج الإقتصادي و الاجتماعي للتيار النيومحافظ هو تحديدا الرؤية النيوليبرالية للإقتصاد السياسي. و تتجسد هذه العلاقة النظرية في البرنامج الإقتصادي للرئيس بوش الإبن و الذي إعتمد رئيسيا على موضوعة "التقليص الضريبي" في سياسته الإقتصادية المحلية (وهي سياسة تم تحضيرها في إطار بحوث قام بها "معهد المؤسسة الأمريكية لبحث السياسة العامة" النيومحافظ) و لو أن ذلك ترافق مع إنفاق حكومي كبير (خاصة على البرامج العسكرية) و هو ما جعل الكثير من المحافظين التقليديين غير مرتاحين تماما مع سياساته. و من المؤشرات الأخيرة على الجدية التي يوليها النيومحافظون للمسائل الاقتصادية و على رؤيتهم النيوليبرالية في هذا المجال ما يتم التحضير له الان بقوة في علاقة بخصخصة صناديق التأمين الإجتماعي (تم التهيئة لهذا المشروع أيضا في إطار "معهد المؤسسة الأمريكية لبحث السياسة العامة" النيومحافظ). و امتدت الرؤية النيوليبرالية لإدارة بوش الابن الى العراق حيث لم يكن المقصود إحتلاله (في إطار مشروع إستراتيجي إقليمي) أو "إقامة إنتخابات" (كنموذج سياسي أمريكي في الشرق الأوسط) فحسب بل امتد المشروع الأمريكي هناك الى خطط نيوليبرالية راديكالية أدت الى خصخصة عديد القطاعات و منحها للرأسمال الأجنبي (خاصة الأمريكي) و هو ما أدى الى تفاقم الأزمة الإجتماعية في العراق. و طبعا تأتي السياسة الاقتصادية الأمريكية في العراق في إطار رؤية نيوليبرالية عامة تدفع لدعم توسع الرأسمال الأمريكي دوليا و هو الأمر الذي أثار مشكلة كبيرة في الاتخابات الفارطة بفعل خسارة مواقع العمل داخل الولايات المتحدة في حال تخفيض ضرائب الرأسمال المهاجر، و هي السياسة المعتمدة من قبل الادارة الحالية.

صحيفة القدس العربي 22 ديسمبر (كانون الأول) 2004

0 Comments:

Post a Comment

<< Home