Wednesday, August 30, 2006

في عودة الراديكالية اليسارية و هشاشة إسهامها الفكري: كيف تعيش الماركسية اليوم


الطاهر الأسود—باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية
laswadtaher@yahoo.com

"في الرابع عشر من آذار/مارس، في الساعة الثالثة إلا الربع من الظهيرة، توقف أعظم مفكر على قيد الحياة عن التفكير. بموت هذا الرجل تعرضت كل من البروليتاريا المناضلة في أوروبا و أمريكا و العلم التاريخي الى خسارة لا تقاس."
من خطاب تأبين فريديريك أنجلز لرفيقه كارل ماركس
مقبرة الهايغايت في لندن يوم 17 آذار/مارس 1883.

يتعلق هذا المقال بتطورات ميدانية تعيد الماركسية أو طيفها الى مسرح الصراع الدولي و لو في كواليسه الأقل جذبا للاهتمام، حتى الآن على الأقل. و لكنه يطمح الى إعادة طرح أسئلة ضرورية في علاقة بالجدوى التاريخية للفكر الماركسي و مغزى حيويته. إن السؤال الأساس هنا هو التالي: هل كان ماركس مفكرا أم ثوريا؟ أو بشكل آخر: ألم يكن ثوريا فقط بشكل عرضي في حين كانت علامته المميزة التي فرضته على بقية الثوريين هي ابداعه الفكري؟ و من ثمة، أي معنى للماركسية إن كان الطامح للانتساب اليها مجرد ثوري؟
يجب أولا تعريف الراديكالية اليسارية. بداية لا يتعلق الأمر بالمجموعات السياسية القومية بالأساس المتقدمة نحو السلطة السياسية في أقطار أمريكا اللاتينية، حيث لا هي حصرا يسارية و لا هي بالتأكيد راديكالية. كما لا يتعلق الأمر هنا ضرورة بمن يسمي نفسه "راديكاليا" و هو يساري في الآن ذاته، حيث توجد أحزاب عديدة تسمى "راديكالية" و ذات برنامج يساري أيضا. بل يتعلق الأمر تحديدا بمن يعمل فعلا على قلب جذري أو "ثوري" للأنظمة القائمة على أساس أجندة يسارية. و في الواقع و خلال أواخر القرن التاسع عشر و معظم القرن العشرين كان الحامل الرئيسي للواء الراديكالية اليسارية التيارات التي تنسب نفسها للماركسية و ذلك رغم الحضور الدائم و لكن حتما الفضفاض لتيارات أخرى خاصة الفوضوية.
و لكن ليس كل من ينتسب الى الماركسية هو ضرورة راديكالي يساري. فلا يدخل ضمن الراديكالية اليسارية مجموع الأحزاب "الشيوعية" التي قبلت الاندماج في الأنظمة القائمة خاصة ضمن مجال أوروبا الغربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين أي تلك التي تخلت عمليا عن برنامج "العنف الثوري" و فرض "دكتاتورية البروليتاريا". فبالرغم من كون هذه الأحزاب خلال أطوار نشأتها و طفولتها كانت القاطرة الرئيسية للراديكالية اليسارية فإنها اقتنعت سواءا ضمن حركيتها المحلية أو الاستراتيجيا السوفياتية المتموقعة ضمنها بأن المشاركة في العملية السياسية "البورجوازية" السبيل الوحيد للاستمرار. و هكذا فِإن تواصل وجود تيارات راديكالية يسارية طيلة تلك الفترة لم يكن يعني عدم تخلي بعضها عن راديكاليتها و بروز أخرى جديدة تعرض نفسها كأطراف أكثر طهارة و وفاء لأجندة "الثورة" و من ثمة حسب تحليلها للماركسية ذاتها. و هكذا جاءت حركات "اليسار الجديد" (The New Left) و التي اكتسحت الساحات السياسية اليسارية خلال ستينات و سبعينات القرن الماضي. و رغم النمو المطرد للحركات الفوضوية فإن الراديكالية اليسارية الراهنة لازالت بالأساس ماركسية لأنها لازالت تعيش على ما تبقى من طفرة "اليسار الجديد". غير أنها تنقسم الى راديكالية يسارية كلامية و أخرى مسلحة بالفعل.

الغيفارية الممشوقة: عندما تصبح الماركسية موضة
لم يكن تشي غيفارا ربما أكثر الثوريين نجاحا بالرغم من أنه كان بالتأكيد الأكثر ارتحالا. و ذلك تحديدا، أي ارتحاله و مطاردته للثورة أينما كانت، هو سر الغرام الراهن بالغيفارية و ليس نجاحه الثوري أو برنامجه و أساليبه بأي حال من الأحوال ما يتذكره محبوه الكثر عبر العالم و الذين يتجولون بكل فخر بصورته على صدورهم بما في ذلك مهندسو السيليكون فالاي و عارضات أزياء إيف سان لوران و طلبة جامعة هارفارد و فرق الروك أن رول. ربما كان هذا الانتشار الفائض ناتجا أيضا عن ملامحه الساحرة كما التقطها المصور الكوبي في أحد قيلولات هافانا بذلك السيجار الطويل في فمه كأنه أرستقراطي مسلح. في جميع الحالات فإن غيفارا القمصان الوردية و السوداء في جلسات الحشيش لمراهقين أطرياء، غيفارا البادي على أعلام مشجعي فريق الآ أس روما، و غيفارا الوسيم الرحالة الفالت من القوالب الايديولوجية، ليس إلا غيفارا مركب و وهمي ليس له إلا علاقة صورية بغيفارا كما كان أو كما كان ممكنا.
طبعا لا يعرف أو لا يهم كثيرا محبو غيفارا الجدد أن غيفارا ينتسب للماركسية. و تلك تحديدا مأساته حيث لم يعلق في الأذهان من غيفارا سوى صورة روبن هود متجول بدون عقل. فقط ما يهمهم أنه يمكن أن تكون وسيما و تنصر في الآن ذاته المظلومين الجوعى عبر جبال و غابات العالم. و لكن غيفارا هذا مقلم الأظافر و رقيق القلب و لا يقوى إلا على الابتسام و تدخين السجائر الطويلة. كما أن غيفارا المدخن هذا يبدو كثير الكلام، يستفيق متأخرا، متسخا بعض الشيء، يكره إطاعة الأوامر، ربما يشارك في الاحتجاج على استعمال أحد ماركات الملابس المعروفة لعمال دون السن القانونية في تايلند، و لكنه في النهاية يتناول وجبة الإفطار في الماكدونالد، والعشاء في مطعم إيطالي فاخر، و لا يمانع في تمضية سهرة السبت في أكثر حانات المدينة غلاءا. هناك شريط ألماني جديد يذهب الى أقصى مدى كاريكاتوري في التعبيرعن غيفارا اليوم: "المربون" (The Edukators) يروي قصة شبان غيفاريين ضجرين يقتحمون منازل الأثرياء خلال غيابهم لـ"قلب" الاثاث على أنه إعلان ممكن للثورة. ربما توجد غيفارية مسلحة اليوم كما هو حال تنظيم "القوات المسلحة الثورية الكولومبية"، و لكن اليسارية الراديكالية المسلحة في العالم الراهن ترتوي أساسا من منبع آخر.

مفارقات الماوية: "صين ماو" الرأسمالية و انبعاث الماوية الجديدة في آسيا
في مقال ظهر في الهيرالد تريبيون بتاريخ 18 نيسان/أفريل 2006 كتب فيليب بوورينغ (Philip Bowring) عن أمر بدى لي مفاجئا للوهلة الأولى. في هذه الأيام تبدو العاصمة النيبالية كاتمندو على وشك السقوط في أيدي مسلحي "الحزب الشيوعي في النيبال" الزاحفين من الأرياف و من ثمة يبدو أن النيبال سيتحول قريبا الى حكم ليس فقط يساريا بل ماويا بالأساس. لم تكن تلك المفاجأة. من المعروف أن ماويي النيبال أصبحوا أقوياء بشكل متصاعد خلال العشر سنوات الأخيرة. و أخيرا صنعوا منعرجا هاما في تاريخ النيبال و تاريخهم في اللحظة التي تبنوا فيها خطة سياسية تدمجهم في تحالف شامل ضد الملك الحالي على قاعدة انهاء الملكية.
ما كان مفاجئا، إذا، كان أمرا آخر: يقول بوورينغ أن السيطرة الماوية في النيبال امتد تأثيرها بشكل خافت و لكن متسارع في السنين الأخيرة الى اثني عشر مقاطعة في شمال و وسط الهند المجاورة. حسب التقرير يسيطر عشرات الآلاف من قوات "النكساليين" (Naxalists)، و هي التسمية المحلية الهندية لمقاتلي "الحزب الشيوعي الموحد في الهند-الماوي"، على مقاطعات تحوي حوالي 20% من سكان الهند حاليا أي أكثر من 200 مليون ساكن. موازين القوى تميل بشكل متسارع لصالح "النكساليين" الى الحد الذي أدى الى اجتماع رسمي لرئيس الوزراء الهندي بعدد من حاكمي المقاطعات المعنية تلته حملة إعلامية كبيرة تتحدث بشكل معلن و لأول مرة في الهند عن "الخطر الماوي الداهم" في الوقت الذي كان فيه الكثير من الهنود يعتقدون أن الخطر الأمني الرئيسي ينبع من مسلمي مقاطعة كشمير. يحدث هذا ليس في النيبال، أحد أفقر بلدان العالم حيث لن يؤثر صعود الماويين على كل حال على التوازن الدولي مثلما من الصعب أن يطلق ذلك حركة ثورية عالمية. يحدث هذا في الهند "أكبر ديمقراطيات العالم" و حيث معدلات النمو الاقتصادي هي الأعلى في العالم بعد الصين. طبعا مازال أكثر من 800 مليون هندي خارج سيطرة "النكساليين" و لكن أليس من المثير للانتباه أن تنظيما ماويا يحظى بكل هذا النفوذ في وقت دفن فيه الكثيرون ليس الماوية فحسب بل الماركسية ذاتها بشكل يشير بأنها أصبحت مخلفا أثريا لا غير؟ أليس من المثير للانتباه أن ذلك يحدث تحديدا في أحد النماذج التي تحظى باحتفال المحللين الاقتصاديين الليبراليين كنموذج رأسمالي صاعد يثبت أن الرأسمالية نظام اقتصادي قادر على الارتحال و التفوق في مجالات غير غربية؟

لكن ما يحتاج أيضا التأمل هي المفارقة الناشئة عن صعود الماوية في الهند في وقت تتجه فيه و بخطوات حثيثة الصين، التي صنعتها الماوية تحديدا، نحو الرأسمالية. يلاحظ بوورينغ أن "الماوية لديها أتباع الآن في الهند أكثر من الصين نفسها". أعتقد أن تلك ملاحظة تستدعي اهتماما جديا. و لكن ليس لأنها تشير الى "انبعاث ظافر" للماوية. بل على العكس: لأنها تشير ربما الى أن ماوية اليوم تكرار كاريكاتوري لماوية الماضي.
بداية من الضروري الاقرار بالجدوى التاريخية الممكنة للتجربة الماوية في الصين و ذلك بالرجوع الى النموذج الصيني و محاولة التساؤل عن بعض المسائل الصعبة. هل كان يمكن للصين أن تحظى بكل هذه الامكانات العالية للنمو الاقتصادي الرأسمالي تحديدا لولا الثورة الماوية؟ ألم يكن لمرحلة تنظيم الانتاج و انشاء جيش شديد الانضباط من العمال المنظمين الطيعين شرطا أساسيا للبنية الراهنة لقوى الانتاج في الصين و التي تجعلها الأقل كلفة و نجاعة في نفس الوقت؟ هل كانت الدولة القومية المركزية الصينية، و التي تقود راهنا و بشكل فوقي مثل إدارة بيروقراطية لمصنع كبير النمو الاقتصادي الرأسمالي القياسي، هل كانت هذه الدولة المركزية ممكنة لولا الثورة الماوية تحديدا؟ و أخيرا، هل سيكون من الشطط التفكير بجدية في أنه لولا ماوية الصين لما كان من الممكن للصين الرأسمالية الراهنة الظهور و التألق؟
و لكن ذلك تحديدا يطرح علينا مسألة في غاية الأهمية: في الوقت الذي كانت فيه الثورة الماوية في الصين وحدها القادرة على تحقيق مهام الدولة البورجوازية، تلك المرحلة المهيمنة غربيا، ألم تفعل ذلك إلا لتلغي نفسها في النهاية؟ ألم تكن الماوية الصينية في النهاية الطريق الضروري لإلغاء البرنامج الماوي في الصين؟ حيث حققت الماوية في الصين تحديدا الدولة التي لم تكن تقوم إلا بمحاربتها. طبعا لدى ماويي اللحظة الراهنة أجوبة جاهزة على ذلك: حيث يقع اختزال التجربة الصينية و تطوراتها في أن انقلابا سياسيا و "طبقيا" حدث بوفاة ماو تسي تونغ و صعود "التحريفيين" بقيادة دينغ سياو بينغ للسلطة. و بالنسبة لهذا التحليل، ليس ذلك إلا "الانقلاب النهائي" في سلسلة انقلابات "تحريفية" بدأت خاصة مع الانقلاب "التحريفي" لخروتشيف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي. و عموما يقع اختزال المسألة في أن "القوى البورجوازية"، علينا أن نذكر هنا أنها قوى "شيوعية" أي تلك التي لم تستطع الامساك بالسلطة إلا لأنها كانت في الأساس جزءا من السلطة، أزاحت العقبة الشخصية لزعيم استثنائي من جهاز السلطة السياسية لكي "تتراجع الى الوراء" أي نحو النظام الرأسمالي. طبعا و بعد هذا الصعود الصاروخي للصين عالميا يصعب على أي ماوي جاد ألا يتساءل: هل كان يمكن للصين الاستمرار في النمو الاقتصادي لو لم تتجه نحو الرأسمالية؟ هل كان يمكن بنويا و تاريخيا للصين أن تصبح "شيوعية"؟ أليس من التسطيح اختزال تحولات بهذه الضخامة في موت شخص و اختفائه مهما كانت أهميته التاريخية؟ أليس تفكيرا تآمريا تبسيطيا للغاية لا يليق بأناس ينتسبون للماركسية توصيف مآل التجربة الشيوعية بأنه مجرد "خطوة مؤقتة الى الوراء" بتأثير "طغمة تحريفية"؟ ألا تذكر هذه التوصيفات بالرؤى الجامدة لأي فرقة دينية من القرون الوسطى؟

ربما كان السيد بوشبا كمال داحال (Pushpa Kamal Dahal) المعروف بـ "براشاندا" (Prachanda)، زعيم الماويين النيباليين، زعيما ثوريا كبيرا في اللحظة التاريخية الراهنة. و لكن ذلك ممكن إلا لأنه يعاود طرح الراديكالية اليسارية بنسبها "الماركسي-اللينيني-الماوي" الى مسرح الحدث السياسي. عدى ذلك فإن أي قارئ جدي للسيد "براشاندا" لن يستطيع تحمل التكرار و الشعاراتية التي تهيمن على خطابه. فما يسميه السيد "براشاندا" تحليلا ايديولوجيا ليس إلا مقولات مكررة و مهترئة لا تحمل أي تقييم جدي للتجربة الشيوعية و لا تحمل أي مساهمة حقيقة للفكر البشري. ينطبق ذلك أيضا على بقية زعماء الماوية الراهنة. علينا أن نذكر هنا بأكثرهم ذيوعا: "الرئيس قونزالو" (Presidente Gonzalo) أو أبيمائيل قوزمان، زعيم "الحزب الشيوعي في البيرو" و التنظيم الشهير خاصة مع نهاية الثمانينات "الدرب المضيئ" و الذي يقبع منذ سنة 1992 في أحد السجون المعزولة. لم تعد قوات "الدرب المضيئ" بنفس وزن ما كانت عليه قبل اعتقال الأخير و لو أنها بقيت تحافظ على بعض الأنصار في بعض المناطق الجبلية وسط البيرو. "الرئيس قونزالو"، الأستاذ الجامعي في الفلسفة سابقا، و الذي يمكن اعتباره الأكثر تأثيرا سياسيا و فكريا من الأحياء في الماوية الراهنة، كتب كثيرا. غير أنه من الصعب إيجاد أي تحليل جدي له بما في ذلك تركيزه الخاص على مصطلح "الماوية" الى جانب "الماركسية-اللينينية" حيث اعتبر أن مساهمة ماو تسي تونغ الفكرية تستحق أن تكون في نفس منزلة المساهمات التي حققها كل من ماركس أو لينين، و هو ما عكس ايمانه المتزايد بأن مركز "الثورة البروليتارية" أصبح في مجال "الأمم المضطهدة" (بفتح الهاء) و ليس في مجال "الامم المضطهدة" (بكسر الهاء). أتى ذلك في إطار صراع ايديولوجي مرير في ثمانينات القرن الماضي بين الأطراف الماوية و التي كان بعضها يكتفي بمصطلح "فكر ماو تسي تونغ" عوض "الماوية". المثير للانتباه الآن أن الخط الرسمي للماويين البيروفيين، و الذين يشقهم صراع سياسي و تنظيمي كبير منذ دخول زعيمهم السجن، أصبح يتبنى رؤية ترى أن مساهمة "الرئيس قونزالو" الفكرية هي بقدر الأهمية التي تستدعي وضعه بدوره مرشحا مستقبليا لمنزلة مماثلة لماركس و لينين و ماو، حيث يقترحون الآن الدفاع عن "الماركسية-اللينينية-الماوية-فكر الرئيس قونزالو" أو، في شكل أكثر ظفرا، يسمون قوزمان "السيف الرابع للشيوعية". و عموما أصبح معنى "المساهمة الفكرية" بالنسبة للماوية الراهنة يتخذ شرعيته بشكل شخصاني و تحديدا من خلال التجربة الثورية التي "حققها" هذا الزعيم أو ذاك و ليس على أساس عمق المساهمة الفكرية التي أنتجها. حيث من المتوقع أن نسمع في المستقبل القريب في النيبال شيئا مثل "الماركسية-اللينينية-الماوية-فكر براشاندا"... و هكذا دواليك.

لا يمكن الالتجاء الى الصدفة لتفسير انتشار الماوية الجديدة في أكثر البقاع أمية و فقرا و حيث تنتشر رغبة هائلة في الانتقام جراء الاهمال الاقتصادي و الثقافي الطويل. لا ينطبق ذلك على أرياف النيبال فحسب حيث توجد أكبر معدلات الفقر عالميا، بل ينطبق أيضا على تلك المقاطعات الهندية حيث يسيطر "الناكساليون" مثلما ينطبق على جبال وسط البيرو حيث يقبع ما تبقى من قبائل الهنود الحمر المهمشين طيلة قرون تحت الهيمنة الاسبانية. تثبت دراسات ميدانية قام بها بعض الاتنوغرافيين خلال الثمانينات أن قوات "الدرب المضيئ" كانت تعتمد على قواعد من الفلاحين الأميين الذين لا يفقهون من برنامج "الرئيس قونزالو"، و الذي بالمناسبة كان الكثير منهم يعتقدون أنه روح أحد الآلهة المحلية و ليس شخصا حقيقيا، إلا أنه دعوة للقتل الممنهج تجاه التجار و الفلاحين الأغنياء. و كان "الدرب المضيء" يقوم عند تطبيق أحكام الاعدام باستعمال أساليب "تراثية" هندية حيث يقع قطع الساقين و الرأس و إعادة خياطتهما في الاتجاه المعاكس حتى لا تسعى روح الميت الى التعرف على هوية قاتليه. إن نموذج "ثورة العمال و الفلاحين" في هذه الحالة ليس تجسيدا للـ"وعي الطبقي الذاتي" بل توجيه أقلية من المثقفين النزقين المغرمين بالثورة لمجموعات من الفقراء الأميين و المفعمين بالرغبة في الانتقام حتى أنهم لا يدركون بالتحديد ماذا يريدون تحقيقه. و في النهاية فإن هذا النموذج تميز عن سابقيه بأنه رسخ عبادة شخص النبي-الثوري-القائد حتى قبل الامسكاك بالسلطة حيث أصبح "الرئيس قونزالو" نفسه الضامن الأساسي للثورة و نجاحها. و هكذا عندما تدهورت الاستراتيجيا العسكرية للـ"الدرب المضيئ" و حاولت الفقز على المراحل و "محاصرة المدن بالأرياف" حتى قبل السيطرة على الأرياف و اتجهت لحملة من التفجيرات العشوائية للسيارات المفخخة في العاصمة ليما بتوجيه من "الرئيس قونزالو"، لم يكن اعتقال الأخير سوى القطرة الأخيرة في الرقصة البهلوانية لماويي البيرو. حيث كان على "حرب الشعب" أن تنتهي في ظرف وجيز لأن "السيف الرابع للشيوعية" كان يدخن سجائر أجنبية معينة و يستعمل مرهم جلدي مميز تم العثور عليهم في أحد قمامات حي فخم في ليما و هو ما قاد ضباط الأمن البيروفيين و المخابرات الأمريكية الى التعرف على مكانه و إيقافه.

"الايمان" الماركسي؟
"الإيمان" عوض التفكير النقدي هو السمة المميزة لقادة الماوية الراهنة و غيرهم ممن تبقى من أنصار الرمق الأخير للـ"الفكر الماركسي اللينيني". و بمعنى آخر فإذا كان هناك تفكير فذلك لا يوجد إلا على أساس التوافق على أساس مصادرات غير مبرهن عليها أو تحتاج في أقل الأحوال إلى إعادة التفكير و البرهنة بفعل ما حدث على مدار التجربة الشيوعية. التفكير بالنسبة لهؤلاء يحتاج، أولا، إيمانا بمسلمات لا يوجد جهد حقيقي للتعمق فيها. ينتهي "التفكير" هنا الى مأزق السياسوية. حيث تصبح المهام السياسية هي المجال الوحيد للتفكير في حين تكون المسلمات الكبرى التي على أساسها تم وضع المهام السياسية مسائل غير قابلة للمجادلة.
و لكن لم يكن ماركس "مؤمنا" بل كان مفكرا نقديا. أو كان "مؤمنا" بما توصل اليه عبر التفكير النقدي و ليس عبر اعتماد بديهيات غير قابلة للتبرير أو البرهنة. و هو نفسه لم يسوق تلك المصادرات الكبرى على أنها ديانة بل قدمها في نظام فكري جهد كثيرا في البرهنة عليه. و لا يوجد شيء يجعلنا نعتقد أن ذلك النظام الفكري قدر محتوم يعكس بشكل نهائي الواقع. بل أنه ليس من الماركسية أساسا أن يوجد فكر بشري مقدس لا يقبل المراجعة: الواقع وحده مقدس.

ظاهرة "الساب-كوماندنتي ماركوس" الفريدة
تحديدا عندما بدأ الكثيرون ينسون ذلك النموذج الأمريكي اللاتيني في الثورات الراديكالية اليسارية، تحديدا عندما بدأ نجمها يأفل، بزغ نجم "الساب-كومندنتي ماركوس" (Sub-Commandante Marcos) الناطق باسم "الجيش الزاباتي للتحرير الوطني" (Ejército Zapatista de Liberación Nacional, EZLN). تم ذلك بشكل استعراضي بالغ في الأول من يناير/جانفي 1994. كان حفل بداية العام في جبال و غابات الجنوب الشرقي المكسيكي بالنسبة لبقايا قبائل المايا إعلانا للثورة و احياءا للتراث الزاباتستي. و لكن منذ البداية و حتى الآن قام "ماركوس" و رفاقه بكل شيئ للتمايزعن الحركات الراديكالية اليسارية الأخرى الى الحد الذي يصعب فيه تعريفهم بأنهم راديكاليون يساريون. أولا، و الأهم من كل شيئ، فإن "ماركوس" كاتب و مفكر بارع، لا يمكن لأي قارئ جدي أن يفلت من سحره. و لأن "ماركوس" لا يكذب على نفسه و يعرف أن أزمة الخطاب الماركسي تحتاج أكثر من بعض التلفيقات التبريرية فقد اختار، و هو ذي التكوين الفلسفي، خطابا يغلب عليه الطابع الروائي السوريالي القريب جدا أحيانا من أسلوب الكوميديا السوداء في كتابات قابريال قارسيا ماركيز مع عمق و رهافة حس فكرية كبيرة. و لا يلتزم "ماركوس" بشكل نهائي و شامل بالماركسية حتى أن البعض وصل الى حد نعته بالفوضية بالرغم أنه يمقت بشكل علني الأساليب العسكرية الفوضوية كما أنه كان ماويا في شبابه و لا يخفي تأثره بالفكر الماركسي.

من الضروري في النهاية وضع هذا الانبعاث ضمن إطاره التاريخي أي تحديدا الصعوبات الكبيرة للنظام الدولي الراهن و تحديدا في ظل قيادة قطبه الأوحد حتى الساعة في خلق "سلام أمريكي" و تفادي صعود التيارات الراديكالية بمختلف أنواعها سواء بأجندة طبقية-اجتماعية أو ثقافية-دينية والمنادية بتدمير النظام القائم و تعويضه كلية. طبعا جانب من هذه الصعوبات ليس ناشئا فقط عن عجز بنيوي على خلق "سلام امبراطوري" بل أيضا بسبب الراديكالية الامبراطورية و "عنفها الثوري" الذي لا يمكن أن يترك الكثير من المحايدين. غير أن راديكالية مضادة عنيفة هي خطوة غير كافية. و الأهم من ذلك فقد وقع تجريبها، بل بعقول كبيرة و أجندات ذكية. غير أنها لم تدفع إلا لوعي النظام القائم بذاته و تعديل نفسه تدريجيا حتى أصبح الفعل الراديكالي غير ذي جدوى. هذه المرة تبدو الراديكاليات الصاعدة محدودة التفكير الى الحد الذي يمكن وصفها بأنها حركات حسية لا غير. و ذلك لا يبشر في أقل الأحوال بصراع ممتع مثل ذلك الذي شهدناه طيلة القرن العشرين حين كان تحمل الدماء ممكنا مادام الفكر البشري يبدو كأنه يخطو خطوات غير مسبوقة.
يقف "ماركوس" على النقيض من الانجذاب الجارف راهنا نحو عنف حسي بالغ القسوة بدون آفاق جدية. ربما لا يماثله في هذه الفرادة كونيا سوى منظمة "حزب الله" اللبنانية و لكن تلك لا تندرج ضمن موضوعنا الرهن المتعلق تحديدا بالحركات الراديكالية اليسارية ذات الخلفية الماركسية. و لأنه يقف في مفترق الطرق الصعب بين ضرورة الشروع في ثورة و الحاجة البالغة في التفكر في ماضي الثورة و أسسها الماركسية فإن "ماركوس" بالغ الحذر عند تقييم آفاق ثورته الزاباتية و يحاول ببالغ الرهافة تجنب منح أي "أهمية تاريخية" فريدة أو أممية لثورته. فهور يراها ضمن إطار شديد الخصوصية و المحلية لا يتعلق حتى بالمكسيك ككل بل بجزئها الجنوبي الشرقي فحسب. هذا "التواضع الأممي" يعكس تحديدا تذمره الشديد من أي نسق تاريخي شامل. و الى جانب فعله المسلح الى جانب فقراء ما تبقى من شعب المايا، و هو الذي لا ينتسب حتى اليهم، يكتب "الساب-كوماندانتي" نصوص الكوميديا السوداء السوريالية و التي تخرج في شكل بيانات رسمية أحيانا و بعناوين مثيرة (مثل "أتبرز على جميع الثوريين في العالم" الذي كتبه و هو في المرحاض) و لكن المغمسة بعناية في عمق فكري يمتاز بالرغبة الجامحة في الانطباعات النسبية، ليعكس بالتحديد نظرته الشزرة للاعتقاد المجاني في المسلمات.
صحيح أنه مثل غيفارا رسم لنفسه صورة شديدة الاتقان، قناع أسود يفرض صفة المجهول الثوري على شخصه، و لكن هنا يتدلى من فمه المقنع غليون عتيق يستبدل سيجارا التشي. و هكذا، و على خلاف غيفارا، يحرص "ماركوس" أن يرمزالى أنه يتقن التفكير و ليس العربدة الثورية، تعقل الغليون بدل التبرج الفارغ للسيجار. ربما هذه هي الموازنة الوحيدة الممكنة راهنا بين التعقل الماركسي و الحاجة المستلزمة للثورة: "بالتأكيد الغليون عوض السيجار، و لكن لما لا قطعة سلاح و قناع... إن لزم الأمرفحسب!" هذه هي الحالة الأقرب للماركسية في الوقت الراهن، على ما أعتقد.

لم يكن كارل ماركس جوهريا و مهما لأنه كان ثائرا. كان جوهريا و مهما لأنه كان مفكرا غير عادي. في التفكير غير العادي و الجديد والعميق تكمن مصادر فرادته. كان ماركس ملهما للثوار لأنه قبل ذلك كان مفكرا جديا. اكتشف ماركس الثورة كقانون نظري قبل أن يحاول ممارستها أو ينصح بممارستها و لم يمارس الثورة ليبحث عن قوانينها. كان ماركس ثوريا بالصدفة. هذا هو الإرث المنسي لكارل ماركس اتفقنا حول رؤاه أم لم نتفق. في بقية تأبينه لرفيقه الراحل لم يجد انجلز أن يخلد ماركس إلا بأفضل انجازاته الفكرية و ليس السياسية: ليس تأسيس الأممية بل اكتشاف قوانين أساسية تحرك المجتمع البشري. يضيف أنجلز في تأبينه لرفيقه:"مثلما اكتشف داروين قانون التطور أو الطبيعة العضوية، فإن ماركس اكتشف قانون تطور التاريخ البشري... و لكن ليس ذلك كل شيء. فماركس اكتشف أيضا قانونا خاصا يحكم نمط الانتاج الرأسمالي الراهن و المجتمع البورجوازي الذي خلقه هذا النمط. فقانون القيمة المضافة سلط و بشكل مفاجئ الضوء على هذه المسألة... مثل هذين الاكتشافين سيكونان وحدهما كافيين في حياة أي كان. كما سيكون أي انسان سعيدا بتحقيق اكتشاف واحد منهما. و لكن أكثر من ذلك حقق ماركس في أي مجال بحث تصدى له اكتشافات جديدة بما في ذلك في الرياضيات... و سأتجرأ على القول بأنه حتى لو كان له كثير من الخصوم فإن ماركس لم يترك عدوا شخصيا واحدا. أما اسمه فسيستمر عبر العصور و كذلك عمله".
أنجلز نفسه كان مفكرا كبيرا. و حتى ممارسي الثورة المحنكين من طينة لينين أو ماو تسي تونغ لم يكونوا مفكرين تافهين. ففي كل الحالات و بالرغم من سياسوية الكثير من أطروحاتهما النظرية لم ينزع أي منهما الى التكرار البليد و الساذج. و في الحقيقة... لا يمكن أن أقول نفس الشيئ مثلا عن القادة الراهنين للماوية الجديدة في آسيا أو غيرها.

">Link
Link

0 Comments:

Post a Comment

<< Home