Friday, December 31, 2004

في التفكير العسكري الأمريكي و مسائل الانتصار و الهزيمة

في التفكير العسكري الأمريكي و مسائل الانتصار و الهزيمة

عندما تُطرح مسألة عوامل حسم الصراع العسكري ينبعث دائما نفس السؤال المرجعي: أيهما العامل الرئيسي التكنولوجيا أم البشر؟

الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية

"لا يمكن أن توجد أسس قوية في الحسابات العسكرية للعوامل المطلقة أو تلك المسماة بالرياضية... يتعلق فن
الحرب بكائنات حية لديها قوى معنوية... و عموما هناك طرف مندفع أكثر من الاخر و هو ما ينعكس على سلوكه: فالعامل الهجومي يهيمن و هو ما يؤدي في العادة الى ضمان استمرارية نشاط ذلك الطرف المندفع"
كلاوسفيتز (Clausewitz)

"من الأفضل أن يكون لديك خطة بديلة في جيبك الخلفي، لأنك عندما تهاجم أناسا... في وطنهم فإنهم سيحاربون بشكل يختلف عن قتالهم، دعنا نقول، في الكويت. الدفاع عن الوطن مسألة جدية لأنهم ليس لديهم أي مكان يذهبون إليه بعد ذلك."
الجنرال الأمريكي جيمس جونس (James Jones)


زحفت مع أوائل صيف 1812 قوات نابوليون بونابارت بأعداد هائلة (500 الف جندي) و بسرعة غير مسبوقة نحو حدود الامبراطورية الروسية الشمالية الغربية, عند نهر نيمن (Niemen). لم تكن اي من الملكيات الاوروبية المخلخلة تتوقع انذاك اي معركة جدية بين الكسندر الاول قيصر روسيا و الذي لم يكن يحضى بمواهب تذكر و الامبراطور الكورسيكي الشاب الذي اصبح في تلك المرحلة بمثابة الكسندر جديد—ذلك النموذج الغربي للامبراطور الكلاسيكي—ألف عنه و لاجله بيتهوفن سمفونيته الثالثة. لم يكن يبدو هناك اي مجال لتوقع اي نتيجة بخلاف سقوط موسكو. وفعلا مع شهر سبتمبر و اثر معارك محدودة و فتوحات فرنسية لمدن خالية دخلت القوات الفرنسية بدون تهليل السكان—غير الموجودين اساسا— الى موسكو فارغة سيُحرق ثلاث ارباعها, امام ذهول بونابرت, اياما قليلة اثر ذلك. لم يمكث الجيش الفرنسي في مدينة الاشباح تلك اكثر من ثلاث اسابيع. و بحلول شتاء مبكر بدأ الجنود الفرنسيون و حلفائهم احد افظع و اشهر الانسحابات العسكرية في التاريخ: تحت ضربات "الجنرال برد" و الهجومات المفاجئة و السريعة للقوات القوقازية من الحرس الملكي الروسي لم يصل الى نهر نيمن بحلول شهر ديسمبر من سنة 1812 الا 20 ألف جندي من اصل النصف مليون الذين بدؤوا الحملة. كانت تلك هزيمة مدوية بدأت مسلسل اندحار الاستراتيجيا الامبراطورية لبونابرت و التي سقطت نهائيا مع هزيمته في معركة واترلو. يمثل الانسحاب الفرنسي من موسكو درسا اساسيا في التاريخ العسكري الغربي. درس اخر من الانسحابات البونابارتية لا يُذكر بكثرة هو الانسحاب من مصر. لم يحرق المصريون القاهرة غير انهم جعلوها مخيفة و مقلقة الى حد كافي لكي يبحر الفرنسيون متقهقرين الى مارسيليا.

في المعايير العسكرية لم يكن الانسحاب من روسيا مهما في ذاته بقدر ما كانت اسبابه و الظروف التي احاطت به داعية للاهتمام. كلاوسفيتز, احد مؤسسي العلم العسكري الحديث مع بداية القرن التاسع عشر, أولى اهتماما خاصا بالحملة الروسية. كان الدرس الاساسي بالنسبة له انه لا يمكن ان توجد اي قوة عسكرية قادرة على الانتصار في اراضي غريبة دون دعم سياسي محلي. و سواء كانت المدن و المجالات المسيطر عليها عامرة ام غير اهلة بالسكان فانها ستبقى في جميع الحالات في حكم الخالية من الناحية السياسية اذا كانت مناوئة في موقفها السياسي العام للحاكم العسكري الجديد. ان فكرة الدور الرئيسي للعامل السياسي في المسائل العسكرية هي الاضافة الاساسية التي قام بها كلاوسفيتز, و التي جعلته احد المصادر العسكرية الاساسية في الاكاديميات العسكرية الغربية. غير انه لا يوجد مثال واحد يشير الى تعلم الجيوش الاستعمارية الغربية افكار كلاوسفيتز من الاكاديميات التي تخرجوا منها: فقد كان على هذه الجيوش على مدى القرنين الماضيين ان تتعلم حكمة كلاوسفيتز من حركات المقاومة الوطنية المسلحة. و أخيرا كان عليها, بعد فشل كل مشروع استعماري, ان تجرب انسحابا بونابارتيا مكررا بامجاد ضئيلة و بخسائر متفاوتة.

ليس العراق روسيا القرن التاسع عشر, و لا يملك العراقيون "الجنرال برد" و لم يهجروا مدنهم, كما لا يجرؤ احد على الادعاء بانه يشاهد ملامح الرئيس الامريكي في الصورة البونابارتية الساحرة, مثلما لا يمكن مقارنة "سرعة" هجوم نصف المليون جندي مشاة من الجيش الفرنسي بالسرعة الالكترونية لفرق الجيش الامريكي. غير انه هناك نقطة أساسية تشترك فيها الحملة الروسية مع الحملة العراقية: مادامت القوى المحتلة مهزومة سياسيا فان هزيمتها العسكرية ليست مستحيلة.

على ضوء الحرب الأمريكية المستمرة في العراق سنتعرض في هذا المقال الى المسألة التالية: إن مسألة حسم الهزيمة أو الانتصار في الصراع العسكري لا تتعلق بحساب الخسائر البشرية أو المادية؛ كما لا تتعلق بالتوازن التكنولوجي. تتحقق هزيمة عسكرية ما متى أصبح أحد الطرفين غير متأكد من الانتصار. سنوضح في هذا المقال أن داخل الطرف الأمريكي هناك أوساطا (عسكرية) مؤثرة مستعدة للاقتناع بحتمية الهزيمة. و يأتي هذا الاستعداد في إطار صراع فكري حول الاستراتيجيا العسكرية الضرورية يشق منذ مدة مختلف المؤسسات الحربية الأمريكية.



1
"دروس العراق" (The Iraq lessons)
في مقابل النقاش الهزيل الذي ميز الأوساط السياسية و البحثية و الإعلامية الأمريكية قبل الإعلان عن الهجوم على العراق و الذي تجاهل خلاله العديد من "الخبراء" و "المختصين" أبسط الإشارات عن مميزات الصراع العسكري القادم وهو ما جعلهم آنذاك ضمنيا موافقين على التوصيف السياسي للعمل العسكري ضد العراق كما بلوره النيومحافظون (سنتخلى عن المصطلح المعرب الرائج لـ "المحافظين الجدد" و الذي نعتقد أنه يشوش المعنى الدقيق لهذا التيار وهو ما سنتعرض إليه في مناسبات قادمة) و الذي يصور الحملة العسكرية على العراق على أنها حملة تحريرية تماثل المعركة ضد النازية خلال الحرب العالمية الثانية؛ إذا في مقابل هذا النقاش الهزيل السابق للحرب بدأت في السنة الأخيرة الأوساط البحثية و الإعلامية و لكن الأهم من ذلك الرسمية الأمريكية بالإفصاح أكثر عن رغبتها في الاستفادة مما تسميه "دروس العراق". و بالرغم من أنها غير متباينة تماما فإن هذه الدروس تعبر بالتحديد عن الصراع الفكري الجاري في أروقة وزارة الدفاع الامريكية و الذي يتصاعد بتصاعد الاخفاقات العسكرية الأمريكية. و في خضم معركة الفلوجة نقل عدد يوم السبت 13 نوفمبر 2004 لصحيفة النيويورك تايمز خبرين منفصلين يعكسان التباين بين المشرفين على المجهود العسكري الأمريكي من خلال نوع "الدروس العراقية" التي توصلوا اليها: من جهة أولى دروس تتلخص في ضرورة التركيز أكثر على التقنية العسكرية لمواجهة حروب لم يقع تعريفها إلا كحروب "ضد الارهاب" و من جهة أخرى دروس تركز على أهمية العوامل السياسية في حرب يقع تعريفها أكثر فأكثر على أنها حرب شعبية طويلة الأمد. الرؤية الأولى تتصرف على أنها رؤية "تجديدية" واعية بوجود رؤية معاكسة تصفها بـ"التقليدية" و الرؤية الثانية تؤمن بأن هناك مفاهيم كلاسيكية ثابتة في الاستراتيجيات العسكرية بالرغم من التطور التكنولوجي الفائق خلال القرن الفائت و هي واعية بوجود رؤية مخالفة تصفها بأنها "غير واقعية".

مشروع "عين الرب" (God’s eye)
يقول خبر النيويورك تايمز (نُشر على الصفحة الأولى) أن بيتر تيتس و ستيفن كامبون و الذين يشغلان على التوالي خطتي نائب وزير الدفاع الأمريكي لسلاح الجو و لشؤون المخابرات قد عرضا على الكونغرس مشروعا سمياه "عين الرب" يتيح منح المقاتل الميداني صورة آنية و دقيقة عن مختلف "الحقائق" على الأرض بسرعة قياسية و هو ما "يتيح له التغلب" على المصاعب التي تفرضها خصوصية "الحرب على الارهاب" و التي تتطلب ردود فعل سريعة. و يتمثل المشروع عمليا في إطلاق أقمار صناعية و صناعة طائرات (ف-35) جديدة تتميز بالتناسق البرامجي متخصصة في جمع المعلومات و نقلها الى ساحات المعارك و ذلك عبر شبكة انترنت دولية جديدة خاصة بالبنتاغون و هو ما يذكر بالدور الخاص الذي لعبته وزارة الدفاع الأمريكية في إنشاء شبكة النت العالمية المستعملة الان. بالاضافة الى ذلك سيتم تصنيع أجهزة أرضية متنوعة تتميز بقدرتها على التنزيل السريع للمعلومات المُرسلة من الانترنت و توفيرها بشكل صوتي و ذلك من خلال التطوير في قدرات تنزيل الذبذبات الصوتية. و تتمثل تكلفة المشروع بحوالي 200 مليار دولار و من المفروض أن يتم منحه للشركة العملاقة لوكهيد مارتن (Lockheed Martin) و التي تمثل أحد أهم أقطاب اللوبي الصناعي العسكري الذي يحتكر الصناعة العسكرية الأمريكية و الذي يدعم بشكل عام الحزب الجمهوري و بالتالي التيار النيومحافظ الذي يسيطر على الادارة الامريكية. و في الواقع يأتي هذا المشروع إطار برنامج كامل يهدف للاستفادة القصوى من التكنولوجيا المعلوماتية لأهداف عسكرية و يشرف على هذا البرنامج مجموعة من شركات التكنولوجيا العالية الأمريكية الرئيسية مثل هيفلت باكارد (Hewlett-Packard) و إي بي أم (IBM) و مايكروسوفت (Microsoft) و لكن أيضا شركات أخرى من الأقطاب التقليدية للوبي الصناعي العسكري الأمريكي مثل لوكهيد و بووينغ.
و مما لا شك فيه أن هذه البرامج تعكس جزئيا النزعة المعتادة في البنتاغون و التي تخدم اللوبيات الصناعية من خلال الانفاق الكبير على مشاريع عسكرية غير ضرورية في أحيان كثيرة. غير أن هذا التشابك القوي بين المؤسسة العسكرية-السياسية و النخبة المالية-الصناعية و الذي يمثل خاصية ثابتة في البنية الأمريكية يلتقي هنا مع عامل اخر جديد و هو هيمنة النيومحافظين على الادارة الامريكية و الذين يتميزون برؤية خاصة لمسائل الاستراتيجيا العسكرية؛ فللدفاع عن هذا المشروع المكلف يقول أحد مساعدي رامسفيلد "إن ما نتحدث عنه هنا هو نظرية جديدة للحرب" في حين يشير اخر الى أن "الثقافة (العسكرية السائدة) هي أكبر عقبة" أمام مشاريع هذه النظرية "الجديدة". و تأتي هذه الاشارات في إطار الصراع المستعر بين خبراء و باحثين مختلفين حول الجدوى من هذه المشاريع. فحسب النيويورك تايمز فإن فينت سيرف (Vint Cerf) و هو أحد العاملين السابقين في البنتاغون و أحد الذين اخترعوا و أسسوا شبكة الانترنت اعتبر مشروع "عين الرب" مجرد "أحلام" لا تستند الى أسس واقعية لتحقيقها. لكن جانب آخر من المنتقدين الموصوفين بأنهم "تقليديين" وجه شكوكه الى الأساس النظري الذي يقف وراء مثل هذه المشاريع حيث اعتبروا أن قتال الشوارع الدائر في مدن مثل الفلوجة يثبت أن الحرب هي أمر أكثر تعقيدا من التكنولوجيا الخلوية.

"دليل عملي" (field manual) لـ"الحرب المضادة للمقاومة" (counterinsurgency war)
في صفحة داخلية من نفس عدد النيويورك تايمز يرد خبر عن مشروع آخر للبنتاغون لا يقل أهمية عن "عين الرب" كما أنه يرجع بدوره الى "الدروس العراقية" التي توصل اليها الأوساط العسكرية الأمريكية أو جزء منها: فقد بدأ الجيش الأمريكي و قوات المارينز (من الضروري الإشارة هنا أن هناك فرقا تنظيميا بين الطرفين) في شهر أكتوبر الماضي بتوزيع كتيب على الجنود الأمريكيين في العراق يشرح طبيعة حرب العصابات و الوسائل التي يجب اتباعها لـ"مكافحتها". و يشير "الدليل العملي" الى أن فكرة كتابته أتت في إطار ما جرى من "عدم استقرار" على إثر سقوط بغداد حيث أنه وجد وع متزايد بأن طبيعة الحرب التي تلت ذلك لا تتصف بصفات الحروب النظامية المعتادة و هو ما "لم يقع التحضر له". كما يشير كاتبو الدليل الى أنه تمت الاستعانة في تحريره بتجارب تاريخية سابقة لحروب "مضادة للمقاومة" و الى شهادات جنود و ضباط أمريكيين شاركوا في الحرب. و من ضمن الاستنتاجات الواردة في هذا الكتيب (و الذي تم توزيعه بشكل محدود غير أنه متوفر على الانترنت) التحذير من أن "دورا أمريكيا طويل المدى في الأعمال القتالية يمكن أن يؤدي الى الإضرار بشرعية حكومة الدولة المضيفة" و هو ما يؤدي أيضا الى مزيد استعداء "ثقافات (!) هي أصلا معادية للولايات المتحدة". و في الواقع فإن أهمية هذا الكتيب تكمن في أنه مشروع يعبر عن أوساط قيادية عسكرية صرفة لا تعبر ضرورة عن الأوساط المدنية المرتبطة برامسفيلد و التي تشرف على عملية "تغيير الثقافة السائدة" و التي من ضمنها طبعا القيام بمشاريع مثل "عين الرب". و من المهم أن نعرف هنا أن المسؤول العسكري المشرف على إعداد الكتيب المذكور هو الجنرال ويليام والاس (William Wallace) و الذي تم استدعاؤه من العراق بعد الانتقادات العلنية التي وجهها في الأسابيع الأولى من بداية الحرب الأمريكية على العراق في مارس 2003 الى دائرة التخطيط العسكري في البنتاغون (و التي يشرف عليها بول وولفويتز) و ذلك أثناء تزايد الهجمات المتفرقة و التي كانت مؤشرا على نوايا النظام العراقي المبكرة في اعتماد استراتيجيا حرب العصابات في مواجهة الهجوم الأمريكي. و تركزت انتقادات الجنرال الأمريكي آنذاك في أن البنتاغون لم يعد الجيش الأمريكي لمواجهة أسلوب حرب العصابات. و مما يستدعي اهتماما متزايدا بمواقف الأخير التصريحات التي أدلى بها إلى النيويورك تايمز في علاقة بالخبر أعلاه حيث أشار الى أن الكتيب المذكور يعمل على التذكير بأن مواجهة حرب العصابات غير ضرورية في حال تجاهل العوامل السياسية المحيطة بها. و في الواقع هذه إشارة الى وجود تباين داخل الأوساط العسكرية الأمريكية حول مسائل الاستراتيجيا العسكرية و كيفية التعامل مع الوضع في العراق, و هو ما يؤكد مؤشرات أخرى تسبق التطورات الأخيرة تدفع كلها الى الاعتقاد بأن هناك صراعا فكريا بين طرفين أساسيين: كتلة المدنيين المسيطرين على وزارة الدفاع تستعين ببعض الجنرالات من جهة و أوساط عسكرية ميدانية تلقى الدعم من قبل باحثين مقربين من الأجهزة الميدانية من جهة أخرى.

2

مسألة الحرب بقوات قليلة العدد و الصراع بين المدنيين و العسكريين
إن القوات الامريكية بصدد التركيز على الوسائل العسكرية التي تستبعد اي احتكاك مباشر بين عناصرها و عناصر المقاومة. لا يمثل ذلك في ذاته تغييرا في عقائد الجيش الامريكي, بل تأكيدا لها, فقد أصبح كما هو معروف التقليل الى الحد الاقصى في الخسائر البشرية الامريكية ضرورة اساسية في ذهنية القادة العسكريين الامريكيين منذ زمن ليس بالقريب و خاصة اثر خسائرهم الهائلة في حربي كوريا و الفيتنام. و عموما يمكن رد جذور هذه الذهنية بشكل أشمل الى تزامن تعاضم القوة العسكرية الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية و بعدها مع تراجع حل المشاكل الدولية من خلال الهيمنة العسكرية و هو ما تجسد بشكل خاص مع انهيار قوى الاحتلال العسكري المباشر اثر الحرب. و منذ ذلك الحين حتى وقت قريب اعتمدت مراكز القرار الامريكية على استراتيجية ترى في تفوقها العسكري عاملا ردعيا و ليس وسيلة لمباشرة الهيمنة بشكل فرضي. فحتى الحرب على كوريا ثم الفيتنام لم ترق الى رؤية استراتيجية شاملة كما هي الحال مع الحرب على العراق, و التي تمت ضمن رؤية نيومحافظة معلنة تتبنى رؤية استراتيجية جديدة تعتمد أسلوب "الحرب الاستباقية".

كما تضافرت عوامل أخرى لجعل الحملة على العراق بشكل خاص مقيدة بضغوط أكبر للتقليل من الخسائر البشرية الامريكية, لكن بضغط من القادة المدنيين بشكل خاص هذه المرة. حيث تركزت الخطة العسكرية الامريكية ضد العراق على اساس العقيدة الجديدة التي يحاول وزير الدفاع الامريكي رامسفيلد و نائبيه و المستشارين النيومحافظين المقربين منه فرضها على القادة العسكريين منذ وصوله في جانفي 2001 الى البنتاغون. و تتمثل هذه العقيدة الجديدة أساسا في الهجوم و الانتصار من خلال الاعتماد من الناحية الكمية على الحد الادنى من العنصر البشري فوق ميدان المنازلة. و تدفع هذه الرؤية التي صاغها أساسا احد المستشارين الاساسيين لرامسفيلد اندرو كريبينفيتش (Andrew Krepinivich) بالتركيز على الهجمات الصاروخية المختلفة. و النتيجة الاساسية لهذه الرؤية هي الهجوم و الاحتلال العسكري بقوات قليلة العدد, و فعلا لا تتجاوز القوات الامريكية في العراق 150 الف جندي. كما اعتمدت الخطة الامريكية للهجوم على العراق بشكل مكشوف على خيار استسلام القوات العراقية و لهذا فقد تجنبت المواجهة المباشرة و عملت على تأخيرها من خلال تجنب الطرق المؤدية للقوات العراقية و عدم الدخول في اشتباكات برية حتى ضمان استسلام القوات العراقية أو تدميرها باستخداة القوة الجوية.
و قد شكلت هذه النقطة محورا اساسيا لصراع الاراء داخل الاوساط العسكرية الامريكية قبل الحرب الى الان. و ترجع هذه المسألة لتطفو على السطح الاعلامي كلما تصاعدت المقاومة العراقية, و هو ما يعكس شدة المعارضة التي يلقاها القادة المدنيون للبنتاغون من قبل العديد من القيادات العسكرية المخضرمة و التي ترى نفسها بصدد تكرار التجربة الفيتنامية متى كان القادة العسكريون على الميدان يتلقون اوامرهم مباشرة من واشنطن. علينا هنا ان نلا حظ ان هذا الصراع لا يتعلق بالحرب على العراق فحسب بل هو سابق لها, كما يتميز بمواجهة صامتة و لكن عنيفة ا تهم فيها في السنوات الاخيرة رامسفيلد و خاصة كريبينيفتش القادة العسكريين ب"التخلف الثقافي" (في حوار قبل وصول الرئيس بوش الى سدة الرئاسة مع قناة بي بي اس PBS بداية سنة 2000 ), كما ان التوتر بين الأخير و النخبة العسكرية الامريكية يرجع الى بداية التسعينات حينما قوبلت اراؤه بتحميل القادة العسكريين في الفيتنام مسؤولية الهزيمة بردود رافضة (دورية قلوبال سكوريتي سنة 1990) في شكل دراسات اكاديمية من قبل بعض القيادات عسكرية. و قد تم الضغط بشكل واسع اثناء الحملة على افغانستان و بداية التحضير لضرب العراق من اجل ترويض القيادات العسكرية خاصة في ظل اراء ترى تقاربا بين مجموعة من القادة العسكريين المخضرمين بدفع من قادة عسكريين خارج الخدمة بما في ذلك وزير الخارجية كولن باول. و هدف هذا الضغط بشكل واضح لرضوخ هذه القيادات العسكرية للقيادات المدنية الجديدة و ذلك بالدفع في اتجاه حملة فكرية و إعلامية تحت شعار "أولية قرار القيادات السياسية على القيادات العسكرية", و هو ما روج له بشكل خاص المحلل العسكري النافذ و المقرب من مجموعة النيومحافظين ايليوت كوهين (Eliot Cohen) بداية سنة 2002 حين نشر كتابه "القيادة العليا" الذي يدافع فيه بشكل قوي عن الأهمية القصوى للدور القيادي للقادة الميدانيين على حساب القادة العسكريين. و بلغت الحملة ذروتها بالترويج الإعلامي مباشرة اثر ذلك بأن الرئيس الأمريكي متأثر بشدة بالآراء الواردة في مؤلف كوهين (حول تفاصيل هذا النقاش أنظر مقال لورنس فريدمان بنشرية "فورن افيرز" Foreign Affairs عدد سبتمبر/اكتوبر 2002). في المقابل يقوم عسكريون متقاعدون بالتبليغ عن صوت الأوساط العسكرية المخضرمة. و اخر الأمثلة على ذلك ما ورد في العدد الأخير (25 نوفمبر 2004) من المجلة الشعبية رولينغ ستون (Rolling Stone) حيث عبر سبع مسؤولين عسكريين سابقين رفيعي المستوى (من بينهم أنتوني زيني قائد القيادة المركزية للجيش الأمريكي بين سنتي 1997 و 2000 و توني بيك القائد العام لسلاح الجو بين سنتي 1990 و 1994) عن قناعتهم بأن الجيش الأمريكي سينتهي الى هزيمة محققة في العراق و أنه كلما كان الانسحاب مبكرا كلما كانت الخسائر أقل.

"الصدمة و الترويع" و النموذج النازي للحرب
قبيل شن الحرب على العراق في مارس 2003 تضمنت الحملة الدعائية المهيئة للحملة العسكرية تهديدات علنية بالطابع التدميري الهائل الذي سيميز الهجوم الأمريكي؛ كان العنوان الرئيسي لهذه التهديدات كلمتين: "الصدمة و الترويع" (shock and awe). و بالرغم من الانتشار الواسع لهكذا العنوان لم يتم التعرض لخلفياته بالشكل المطلوب خاصة و أن الحرب النظامية لم تستمر طويلا. و في الواقع فإن "الصدمة و الترويع" هي قبل كل شيء عنوان دراسة أعدها مجموعة من العسكريين الأمريكيين و تحديدا من سلاح الجو و ذلك بطلب من "معهد دراسات الاستراتيجيا الوطنية" المقرب من البنتاغون. و قد تفادى الناشر توزيع الكتاب بشكل واسع حيث لم يكن من الممكن من السهولة بالنسبة للقارئ العادي التحصل عليه خاصة في الفترة التي سبقت الحرب. و تتمثل الأطروحة الأساسية لمؤلفي الكتاب في الأهمية التاريخية للاستراتيجيا العسكرية الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية و التي اعتمدت على التوظيف الأقصى للفرق الالية (و التي اعتمدت بشكل كامل و غير مسبوق على سلاح الدبابات) و سلاح الطيران في توجيه ضربات شديدة و متوالية وهو النموذج الذي طبقه القادة الألمان بالخصوص خلال هجمتهم المفاجئة على الجبهة الروسية. و ليست هذه الاستراتيجيا مجرد وصفة عسكرية صرفة و إنما تحمل، مثلما هو الحال مع أي استراتيجيا عسكرية، رؤية فكرية أشمل للعالم و العوامل الحاسمة للصراعات البشرية. فهي تتضمن ثقة هائلة في قدرة التكنولوجيا العسكرية على حسم الصراع العسكري كما أنها لا تتحمل الصراعات العسكرية الطويلة المدى حيث تدفع لأسلوب الهجمات السريعة و الخاطفة. و أخيرا و الأم من كل ذلك فهي رؤية تتجاهل الظروف السياسية للحرب حيث تتوقع التأثير البسيكولوجي للقوة المادية الضاربة بمعزل عن العوامل السياسية و بالتحديد الشعور الوطني. و عموما تلتقي هذه الرؤية بشكل واضح مع "التجديد" الذي أزمع رامسفيلد و فريق النيومحافظين على إدخاله منذ وصولهم الى الادارة الامريكية و خاصة ما يتعلق بالاعتماد على التكنولوجيا العسكرية عوض القوة البشرية مما يفسر اعتماد هذه الخطة رسميا من قبل البنتاغون في الحرب على العراق.
و لكن لم تكن الرؤية النيومحافظة مجرد إسقاط من قبل فريق المدنيين في البنتاغون على القادة العسكريين, حيث كان لعدد كبير من القادة العسكريين (و لأسباب عديدة) الاستعداد للدفاع عن رؤية تختصر الصراع العسكري في موازين التفوق الآلي. غير أن عددا هاما من القادة العسكريين الكبار كانوا قد عبروا عن رفضهم لخطة "الصدمة و الترويع" و الاعتماد رئيسيا على التكنولوجيا العسكرية في حسم الحرب في العراق. و يكشف جيفري ريكورد (Jeffrey Record) الخبير العسكري المقرب من الأوساط العسكرية للبحرية الأمريكية في كتابه "الانتصار المظلم" (Dark Victory) الصادر سنة 2004 عن مختلف الاعتراضات التي قام بها عسكريون أمريكيون على خطة رامسفيلد (و حليفه المقرب من الرئيس بوش الجنرال فرانكس) للحرب. حيث يشير أولا الى رفض قادة كبار لقوات الجيش و المارينز بدء الحرب بقوات لا تتجاوز 250 ألف جندي و هو ما دعاهم لطلب تأجيل العملية. كما يشير الى أن قادة الجيش كانوا رافضين بشكل خاص للدور الرئيسي للقوة الجوية و الذي رأوا فيه تصورا غير واقعي يتناسى الأهمية الحاسمة للقوات البرية. و قبل هذا و ذاك فقد عبر هؤلاء القادة عن تشاؤم كبير حيال الحرب على العراق و خاصة في علاقة بالظروف السياسية المحيطة بها مما جعلهم يصفونها بالمغامرة. و بلغت هذه الانتقادات أوجها مع التصريحات العلنية للجنرال جيمس جونس (أحد القادة الرئيسيين لقوات المارينز) لصحيفة الواشنطن بوست و ذلك في شهر أوت 2002 و التي عبر فيه عن رفضه للتحليلات التي توقعت استقبالا بالزهور للقوات الأمريكية، كما رفض مقارنة الحرب على العراق بما جرى في حرب الخليج الأولى: "من الأفضل أن يكون لديك خطة بديلة في جيبك الخلفي, لأنك عندما تهاجم أناسا... في وطنهم فإنهم سيحاربون بشكل يختلف عن قتالهم، دعنا نقول, في الكويت. الدفاع عن الوطن مسألة صعبة لأنهم ليس لديهم أي مكان يذهبون إليه بعد ذلك." و يشير ريكورد أن التوافق لم يكن ممكنا بدون وعد الجنرال فرانكس للقادة المعترضين بتلقي إمدادات بشرية إضافية مع بدئ القتال و خلاله و هو الأمر الذي لم يتحقق. و هكذا فبالرغم من التفوق الأمريكي السريع في الحرب النظامية و سقوط جل المدن العراقية في القبضة الأمريكية فإنه لم تكن هناك قوات كافية لبسط سيطرة برية فعلية و هو ما أتاح و منذ وقت مبكر المجال للمقاومة العراقية على التنظم و رد الفعل بشكل جعلها تملك المبادرة حتى هذه اللحظة. في المقابل فإن استراتيجيا "الصدمة الترويع" مازالت الوسيلة الاساسية التي تواجه بها القوات الأمريكية حرب العصابات: : فحتى في معركة الفلوجة الأخيرة و التي تتطلب بشكل واضح إعتماد أسلوب قتال الشوارع فإن الاسلوب الأمريكي بقي يتفادى المواجهة المباشرة و يعمد في المقابل للاعتماد الكامل على الأسلحة الثقيلة و خاصة الفرق الالية (سلاح الدبابات) و سلاح الطيران. إن هذا التردد الأمريكي لخوض قتال مباشر هو نقطة الضعف الرئيسية لقوات الاحتلال و هو الأمر الذي يمنح ثقة متعاظمة لدى المقاتلين العراقيين. و ذلك الذي سيؤدي في النهاية الى توصل القادة الميدانيين العسكريين الى القناعة بحتمية عجزهم عن تحطيم المقاومة الشعبية و هو شرط الهزيمة الأمريكية في الحالة العراقية.

حول "الحرب المضادة للمقاومة" و العقيدة العسكرية الأمريكية
ليست حرب العصابات غريبة عن القيادات العسكرية الأمريكية فقد جربوا في الفيتنام أحد أطول الحروب الشعبية و أكثرها شراسة في هذا القرن. و بالرغم من أن قوات المارينز التي ذهبت الى العراق في الحرب الأخيرة لم يقع تزويدها سوى بدليل حروب يركز أساسا على مبادئ الحرب النظامية و هو بالمناسبة نفس الدليل الذي تم توزيعه على الجنود الأمريكيين الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية فإن القيادات العسكرية الأمريكية كانت و لاتزال مهتمة على المستوى النظري بمسائل الحرب الشعبية. غير أنه هناك نظرتان لها فمن جهة يعتقد البعض أن "الحرب على الارهاب" ليست سوى حرب عصابات جديدة يمكن هزمها بفضل التفوق التكنولوجي، في حين يرى اخرون أن حربا مثل الحرب على العراق مستحيلة الحسم خاصة في ظل غياب وصفة سياسية مناسبة تعالج أسس المشكل.

و ترجع أهم التحاليل الأمريكية حول مسائل كيفية مواجهة حرب العصابات الى السنوات الستين. ففي شهر ماي من سنة 1960 أي بعد الاخفاق الكبير للجيش الأمريكي في الحرب الكورية و بداية الانغماس في المستنقع الفيتنامي نشر الجنرال دونالد راتان (Donald Rattan) في المجلة الفكرية المعبرة عن البنتاغون Military Review مقالة هامة ضمتها وزارة الدفاع فيما بعد الى قائمتها من الوثائق الاستراتيجية الأهم. و كان منطق الجنرال الأمريكي تبسيطيا الى حد كبير يعكس طبيعة المرحلة و تجاهل القيادات العسكرية الأمريكية للعامل الحيوي لحروب العصابات في العصر الحديث. حيث قارن الصراع المتصاعد في الفيتنام بالحروب الأمريكية ضد قبائل الهنود الحمر من الأباشي خلال السنوات السبعين من القرن التاسع عشر و التي تميزت بالقسوة الفائقة و عمليا بالابادة المنظمة للطرف المقابل. من المثير للانتباه هنا أن هذا الأسلوب كان يدرس للضباط الأمريكيين في معهد القيادة و هيئة الأركان (حيث كان يدرس راتان) كأحد الأشكال الرئيسية لمواجهة حرب العصابات الحديثة.

الدراسة الثانية و هي الأهم في الحقيقة بسبب استمرارية تأثيرها الى اليوم أنجزها أحد القادة العسكريين الأمريكيين الرئسيين خلال الستينات: الجنرال ماكغار (Mc. Garr) و الذي تقلد مناصب عسكرية مختلفة تتعلق عموما بالاشراف على أقسام التدريس العسكري و كذلك الدراسات و التخطيط العسكريين و لعل أهمها إشرافه أواسط الستينات على فريق الاستشارة و المساعدة العسكرية في الفيتنام و الذين كان يشرف فعليا على رسم الاستراتيجيا العسكرية الأمريكية في علاقة بالحرب في الفيتنام. و قد نشر ماكغار أفكاره الأولية سنة 1959 في مجلة Military Review و لكنه طورها لاحقا (قبيل سنة 1964) في دراسة طويلة عنوانها "تكتيكات و تقنيات الحرب المضادة للمقاومة" تزيد عن الـ200 صفحة و بقيت حتى سنة 1983 رهن السرية. و يرتكز موقف الجنرال ماكغار (الذي تمت صياغته في ظل التصاعد الكبير للثورة الفيتنامية) في دراسته على نقطتين: أولا, أن هناك تجربة تم فيها هزم حرب العصابات و يتعلق ذلك بالحرب البريطانية في المالاي بين سنتي 1946 و 1958؛ ثانيا, أن مواجهة حرب العصابات يكمن في التركيز على التفوق التكنولوجي. و من الواضح أن أطروحة الجنرال لاتزال مؤثرة بين عدد من العسكريين الأمريكيين و خاصة في علاقة بمجموعة النيومحافظين و الذين استرجعوا تحاليله في مقالات مختلفة بما في ذلك المثال الماليزي و الذي يراه بعضهم "مطابقا" للمثال العراقي.

و لكن في مقابل هذا الارث الرافض للاعتراف بالمعطيات العسكرية الساطعة و المتشبث بأحلامه الخاصة يبرز مختصون اخرون بما في ذلك داخل الأوساط الأكاديمية العسكرية الأمريكية يركزون على ضرورة التعلم من تجارب عجز وسائل التفوق التكنولوجي المختلفة أمام الحروب الشعبية و الدور الحاسم لهذا النوع من الحروب في العصر الحديث. كما يربط هؤلاء بين فاعلية الحرب الشعبية و الدروس الكلاسيكية للمنظرين العسكريين الأوائل بما في ذلك الحكيم الصيني سن تزو. و لعل أهم الأمثلة على هؤلاء الأكاديميين العسكريين الأمريكيين مايكل هاندل (Michael Handel) أستاذ الاستراتيجيا بأحد أعرق الاكاديميات العسكرية الأمريكية "المعهد الحربي للبحرية الأمريكية". و قد أصدر هاندل مؤلفا مهما مع بداية التسعينات عنوانه "سادة الحرب" The Masters of War. و يكشف هاندل في تقديمه للطبعة الثالثة من كتابه (2001) عن انتقادات واسعة لانتعاش التنظيرات التي تتجاهل تواصل أهمية الحروب الشعبية مقابل على التركيز الدور الحاسم للعامل التكنولوجي بفعل ثورة الاتصالات و هو ما يبدو كأنه إشارة للحملة التي خاضها النيومحافظون خلال الحملة الانتخابية للرئيس بوش خلال سنى 2000 (أنظر مثلا الحوار مع كريبينفتش أعلاه). و يرد على ذلك من خلال التذكير بالمبادئ الرئيسية للمفكر العسكري الألماني الكبير كلاوسفيتز و التي يركز فيها على رئيسية العامل السياسي في حسم الصراع العسكري و هو ما أشار إليه أول منظر عسكري في التاريخ و صاحب كتاب "فن الحرب" الصيني سن تزو و الذي يتمتع بالمناسبة بشعبية خاصة في الأوساط العسكرية الأمريكية. و يعبر هاندل عن أهمية الحروب الشعبية من خلال التركيز على الزعيم الصيني ماو تسي تونغ كمصدر ثالث للتفكير الاستراتيجي العسكري إلى جانب المفكرين الأولين, كما أضاف الى ملحق طبعته الثالثة نصوصا من الكتابات العسكرية المختارة للزعيم الصيني.

3

حول خصوصية التجربة العراقية: "فيتنام حضرية"
كالعادة لا تبدو الأخبار القادمة من العراق جيدة بالنسبة لتوقعات البنتاغون. فالمعركة في الفلوجة لن تنتهي قريبا كما أنه هناك (و حتى عطلة نهاية الأسبوع الفارط) مدنا أوسع و أهم استراتيجيا من الفلوجة إما سقطت تماما في أيدي المقاومة (الموصل) أو سقطت منها أحياء واسعة (بغداد و الرمادي) عدى أن المجال القروي و الريفي المحيط بعدد من المدن العراقية قد أصبح أكثر من أي وقت مضى خارج سيطرة القوات الأمريكية التي تعاني أصلا قلة العدد في المجالات الحضرية. و أهم تعبير على هذا الحصار الريفي و القروي للقوات الأمريكية هي الضربات الخلفية التي تلقتها من جهة القرى المحيطة بالفلوجة. و عموما فقد تراوحت التقارير الأمريكية عن معركة الفلوجة بين ثقة رسمية مفرطة (كثيرا ما تتسم بخطاب متوتر يعسر المراجعة و التقييم) تفضح الطابع الدعائي لإعلام ذي نزعة عسكرتارية و شكوك قوية في جدوى العملية العسكرية تسربت عبر الانبهار الذي أبداه العديد من القادة الميدانيين و الجنود الأمريكيين بالروح القتالية للمقاومين العراقيين و عبر الأخبار الواردة عن إعادة الانتشار المستمر للأخيرين داخل المدينة و هو ما كذب الادعاءات الرسمية بحصر "جيوب" المقاومة في بعض الأحياء الجنوبية. و بالرغم من هذا التباين فقد أصبح من الواضح (و حتى في ثنايا الخطاب الرسمي) أن السيطرة على الفلوجة إذا تحققت فإنها ستكلف القوات الأمريكية خسائر كبيرة و لكن الأهم من ذلك أنها لن توقف المقاومة بل على الأرجح ستدفعها أكثر للتوسع و النمو نحو توحيد قواها و تحقيق أحد أهم أهدافها (و في الآن نفسه أحد الكوابيس الأمريكية الرئيسية) أي وحدتها السياسية و التنظيمية.

ان اسلوب المقاومة العرقية هو بلا شك اسلوب حرب عصابات يرتكز كتجارب تاريخية سابقة أساسا على اسلوبين. أولا, هجمات متفرقة بالاسلحة الخفيفة أو القنابل الموجهة عن بعد على العربات الامريكية المتنقلة. ثانيا, قصف و تفجير مواقع عسكرية ثابتة من خلال سيارات و عربات مفخخة و أخيرا من خلال صواريخ يتم دفعها من على منصات غير ثابتة. غير ان الواقع الطوبغرافي العراقي المتميز بشكل عام بالانبساط يدفع في اتجاه تركيز هذه العمليات داخل المدن. بالاضافة الى ذلك فإن التحولات الكبيرة على مستوى الجغرافية السكانية (ليس في العراق فحسب) و الذي جعل الاغلبية السكانية تتركز في المجالات الحضرية تدفع في نفس الاتجاه. و اذا اخذنا بعين الاعتبار تجارب المنطقة العربية و التي تتوفر الان على تجارب غنية في هذ المجال فان المقاومة العراقية تتجه نحو نموذج أقرب الى التجربة الصومالية منه لتجربة المقاومة الاسلامية في جنوب لبنان في حقبة التسعينات. كما انها تتجه ببطء و لكن بثبات لتكون قريبة من التجربة اللبنانية خلال الثمانينات و خاصة حرب الشوارع ضد قوات الاحتلال الاسرائيلية وحلفائها في بيروت. و في كلمة نحن بصدد مواجهة عسكرية تتصاعد في اتجاه نموذج الحرب الفيتنامية لكن في مجال حضري: "فيتنام حضرية".

من جهة أخرى تعيش هذه الحرب الشعبية مرحلة انتقالية حيث أن نجاحها في تشتيت جهود القوى الأمريكية و السيطرة السريعة على مدن ضخمة (مثل الموصل الان و النجف قبل ذلك) مع القدرة على الفر بدون تكبد خسائر تُذكر يعني أنها تملك المبادرة العسكرية. لكن من جهة أخرى ستكون مضطرة على تعلم التسيير المنظم و المنضبط للمدن و المجالات التي تسيطر عليها فهذه مدرستها الأولية في بناء الدولة الوطنية. و هو ما يعني بالضرورة الإلحاح على الحاجة الحيوية في الوضع الراهن لمسألة التوحيد التنظيمي و البرامجي للمقاومة على قاعدة من الحد الوطني الأدنى. فالانتظار حتى قيام القوات الامريكية بتركيز جهودها على أحد الأطراف حتى تستنفر مختلف القوى جهودها بشكل موحد هو أسلوب يخضع لرد الفعل و لاي يمكن أن ينتزع تماما المبادرة السياسية. في المقابل فإن طول المواجهات سيؤدي في النهاية الى توصل القادة الميدانيين العسكريين الى القناعة بحتمية عجزهم عن تحطيم المقاومة الشعبية و هو شرط الهزيمة الأمريكية في الحالة العراقية.
.

صحيفة القدس العربي 31 ديسمبر (كانون الأول) 2004

0 Comments:

Post a Comment

<< Home