Wednesday, January 04, 2006

في النرجسية الايديولوجية من خلال نموذج عراقي

في النرجسية الايديولوجية من خلال نموذج عراقي
بقلم: الطاهر الأسود
استدامة التوهم في مركزية 'اليسار' في العالم ومسار التاريخ البشري
.
ميدل ايست اونلاين1

"الوهم" في تعريفه الكلاسيكي "من خطرات القلب" بمعنى تعارضه مع التوليد العقلاني والانسياق وراء ما نرغب أن يكون وليس ما هو فعلا كائن. و"التوهم" من الإيغال في طلب الوهم. وإذا كان فعل الوهم لاإرادي فإن فعل التوهم هو الجري وراء الوهم بشكل يجعله صنعة ضرورية. ويعكس صانع الوهم شعورا بنقص هائل في الواقع، وحاجة مفقودة، غير قابلة للتعويض الواقعي.
2
شعرت بكثير من الاحباط ولكن أيضا الألم وأنا أقرأ للسيد سمير عادل مقاله في صحيفة القدس العربي (4 كانون الثاني/يناير 2006) بعنوان "جماعات المقاومة المسلحة وأزمة الهوية". شعرت بالاحباط لأن المقال كان في بدايته محاولة طموحة لتقييم واقع وتاريخ تشكل جماعات المقاومة العراقية بشكل موضوعي لا يجاملها ولا يتواطأ مع سبب وجودها، الاحتلال الأمريكي، غير أنه تحول بشكل تدريجي الى إلغاء غير مبرر للـ"الصلوحية التاريخية" للطرفين القومي والإسلامي، لينتهي الى منح طهرية كاملة وأحادية للـ"اليسار" العراقي (كذا بتعميم يحيل الى كثير من الغموض) كـ"المخلص التاريخي" الوحيد الممكن في الوضع العراقي الراهن. وأخيرا قرأت تعريف الكاتب لنفسه في آخر المقال بوصفه "سكرتير مؤتمر حرية العراق" لأفهم أن السيد سمير عادل تصرف ليس كمحلل للوضع العراقي بل كجزء منه.
لا ألوم السيد عادل في التعبير عن رأيه الايديولوجي بما في ذلك حقه ككائن بشري عدا أنه عراقي في إسقاطه على الوضع العراقي. غير أني أشعر بالألم عندما أرى الى أي مدى يمكن للتوهم الايديولوجي وبالرغم من كل الوقائع ثقيلة الوطأة أن يستديم ويستمر في تصنيع نفسه. تُسمى الخاصية الأساسية هذه الحالة النفسية غير الاستثنائية "الانكار الكلي" (total denial). وإلا كيف نسمي تقديم "اليسار" كبديل لكافة التيارات لإنقاذ العراق كأنه تيار جديد لم يسبق تجريبه ولا يحتاج في ذاته الى التدبر والتساؤل عن مؤسساته الفكرية والايديولوجية؟ أو كأن هذا "اليسار" يلقى دعما شعبيا في مقابل بقية من التيارات الاسلامية والقومية "الهامشية"؟ كأن "السيار العراقي" لا ينقصه سوى البرنامج وكأن جاذبيته الشعبية تفوق الجميع ولا تنتظر سوى بعض المقالات من النوع التي كتبها السيد عادل؟ وكيف يمكن ألا نرى في ذلك إنكارا كليا للوقائع ومن ثمة توهما في حين أن السيد عادل يقدم الوضع كأنه وقع تجريب الجميع ولم يبق في العراق سوى هذا التيار "الجديد" و"اليافع" و"الطازج" الملقب بـ"اليسار" والذي وحده يمكن له انقاذ السفينة وتقديم "القائد الرمز" البديل كما أشار بدون تردد؟
3
ليس هناك شك أن للتيار القومي العربي في العراق، وأعني بذلك خاصة الطرف القومي الذي مارس الحكم أخيرا ولكن أيضا معارضيه القوميين، سقطاته الهائلة بما في ذلك تجرده من خصائص أساسية في برنامجه المركزي وتحديدا تفعيله المؤسسة القبلية التجزيئية عوض تفتيتها في الإطار القومي حيث أصبحت الأولى حصنا تنظيميا للولاء السياسي إما في ممارسة السلطة أو في معارضتها والانقلاب عليها. كما أن جزءا آخر من سقطاته تكمن تحديدا في ضبابية برنامجه الاستراتيجي تجاه قضايا حيوية منها تحديدا مسائل تقاسم الحكم والحريات السياسية الدنيا حيث بدت هذه قضايا "ثانوية" مما ساهم في إرساء نظام استبدادي متماسك. ولكن هل تمكن القراءة الموضوعية لكل ذلك دون الانتباه الى أن العملة الرائجة في الظرفية التاريخية المعنية هنا، أي النصف الثاني للقرن العشرين، كانت لغة "ثورية" شاملة لا تسمح بحق "التعددية الثورية" وبأن الجميع من التيارات القومية الى الاسلامية مرورا باليسارية مارست ما كانت تراه حلولها "الحاسمة" و"الضروري" بما في ذلك الاعدامات الجماعية والمحاكمات الغير دستورية والانقلاب العسكري و"تكفير" الدينيين واللادينيين لخصومهم السياسيين؟ هل يمكن لأي مراقب نزيه لمسار الصراع السياسي في العراق في الستين سنة الأخيرة إستثناء أحد هنا بما في ذلك "اليسار العراقي" بتمثلاته التاريخية المعروفة خاصة خلال حكم عبد الكريم قاسم؟ ليس "اليسار" في العراق "جديدا" أو "طازجا". هو أيضا تم تجريبه، وهو أيضا يحتاج لإعادة مسائلة ذاته (أو ذواته حيث لا يوجد "يسار" واحد في العراق).
ليس هناك شك، أيضا، في أن التيار الإسلامي في العراق كان دائما يمشي على أرضية شديدة الحساسية حيث لم يكن من السهل في العراق، وبعكس الكثير من الأقطار العربية والاسلامية، أن يوجد طرف إسلامي من دون أن يكون طائفيا خاصة من حيث كون الحركة الاسلامية العراقية كانت منذ البداية ذات جناحين واحد سني والآخر شيعي. وفي الوقت الذي استطاعت فيه حركات اسلامية في الأوضاع القليلة المشابهة للوضع العراقي، مثل الوضع اللبناني، في تمثيل الطائفة والمساهمة في تشكيل وفاق وطني ولو بعد كثير من الصراع والألم، فإن الحركات الاسلامية العراقية، بتنوعها المقاومة منها والموالية للاحتلال، ما زالت في مرحلة التجريب، حيث يجب الاعتراف هنا أنها تعيش بالكاد مرحلة انبعاث جديدة بعد مرحلة طويلة من العيش في المنافي والتهميش. ولكن في مقابل كل ذلك أليست مصادرة غير مبررة الانسياق الى وضعها جميعا في سلة واحدة؟ هل يمكن الآن وبعد كل التقارير والمؤشرات الميدانية المعروفة لكل مراقب للوضع العراقي الاعتقاد في أن كل الأطراف الاسلامية ليست لها هوية خاصة بمعزل عن الهوية القاعدية لجماعة الزرقاوي؟ يذكر السيد عادل تنديد الأطراف الاسلامية بالنوايا الطائفية المعلنة للقاعديين ليستنتج من ذلك أنه بالتحديد تعبير عن مأزق الهوية لديها. أي تحديدا الاستنتاج المعاكس لما يمكن لأي مراقب موضوعي استنتاجه: الوعي المتزايد لدى جزء كبير من المقاومة الاسلامية السنية بأن برنامجها يجب ألا يكون طائفيا ومن ثمة وعيها المتزايد بهوية وطنية ضرورية. ولكن لماذا يستنتج السيد عادل تحديدا استنتاجا غير ممكن عقليا؟ أليس لأنه ينطلق من مصادرة أساسية لا يمكن له أن يتنازل عنها وهي استحالة مساهمة الطائفة الواعية بذاتها (من خلال اختيارها لممثليها وكما نعرف فإن الأطراف "الطائفية" هي التي تلقى الدعم من أبناء طوائفها في العراق الراهن) في تشكيل وفاق وطني أدنى؟ ألا ينطلق تشكيك السيد عادل في الهوية الوطنية لبرنامج غالبية المقاومة من تشكيكه أصلا في أهمية الهوية الدينية والقومية في تشكيل مستقبل العراق؟ ألا يعكس ذلك إعتقادا "يساريا" (ماركسويا ربما التعبير الأصح) في الهامشية التاريخية للعوامل الدينية والقومية في التاريخ البشري؟ ولكن ما الفائدة في الاستمرار في إنكار الأهمية الكبيرة (كما تعكسها المؤشرات الواقعية) للعوامل الدينية والقومية في عراق اليوم؟ هل سيقدم ذلك الايغال في الانكار والمبني على دوافع ايديولوجية وليس على المعطيات الموضوعية، بالـ"اليسار العراقي" أي خطوة الى الأمام؟
إن الحقيقة الساطعة هي أن إنكار أهمية العوامل الدينية (خاصة) والقومية (تاليا) في العراق الراهن لا يؤدي إلا الى إلغاء فرص فهمه. ولا يمكن لأي فاعل سياسي جدي خاصة عندما يتعلق الأمر بـ"يسار عراقي" هامشي من حيث التأثير الشعبي النمو والمساهمة في تشكيل المستقبل في حالة اعتزل الوقائع وتشبث بمخيلته واستمر بكل نرجسية في تجميل وجهه أمام مرآته الخاصة. إن شعارات من نوع "مقاومة الرجعية الدينية" و"النضال التقدمي ضد الطائفيين" تخفي عنادا ايديولوجيا يستبعد أي رغبة في إعادة تفهم الظاهرة الإسلامية والدينية عموما في مجتمعنا العربي بما في ذلك العراق. كما أن الاستمرار في الاعتقاد بهامشية الظاهرة القومية في العراق سواء العربية أو الكردية إنما هو إمعان في تجاهل عامل حيوي وهو ما يؤدي الى تبسيط وضع عراقي في غاية التعقيد. وهكذا عوض تحقيق الهويتين الدينية والقومية بالشكل الذي يؤدي الى "إلغائهما" أو إلغاء طبيعتهما الإشكالية يتم استفزازهما من خلال مصادرتهما وبالتالي مصادرة حق المواطنين العراقيين في التمتع بحقوقهم الدينية والقومية وهو ما يؤدي الى النزاع الطائفي لا غير. إن توهم "اليسار العراقي" (أو تحديدا الفئة المجهرية منه التي يمثلها السيد عادل كـ"سكرتير مؤتمر حرية العراق") بأن القبعة "المارسييز" العمالية هي غطاء الرأس الأنسب للعراق وليس العمامة الدينية إنما يريد أن يمسح عن الوجه العراقي ملامحه الدينية الغالبة الآن. وإذا كان صحيحا أنه لا يمكن لهذه العمامة أن تغطي الرأس العراقي إذا تلونت بلون طائفي واحد (بالأخضر السني أو الأسود الشيعي) فإنه لا يمكن لأي غطاء آخر أن يعوضها في الوضع الراهن حتى تجد هي لونها التوفيقي الخاص بالعراق. وبمعنى آخر فإن وطنا عراقيا ذي نزعة إسلامية لا يعني بالضرورة إما أبيضا (عراقا ممزقا طائفيا) أو أسودا (قاعدة لخلافة إسلامية أشمل تهيمن فيه طائفة واحدة)، فإذا كان للعراق الوطن أن يستمر، ويعرف العراقيون بجميع أطيافهم الدينية والقومية أن ذلك هو الاحتمال الأقل سوءا في الظرف الراهن وهو السبب الرئيسي الذي يمنعهم حتى الآن من خوض حرب أهلية، فسيجد صيغته التوافقية الخاصة به ولكنها لن تكون قبعة "المرسييز" العمالية لـ"يسار عراقي" يرفض حتى فهم الواقع.
4
على عكس رؤى السيد عادل عاش ويعيش "اليسار" في العالم تحولات كبيرة جعلته يراجع الكثير من المعتقدات التي هيمنت عليه فيما مضى، في إطار هيمنة الحركة الماركسوية (لأنها لم تكن فعلا ماركسية) على اليسار خلال معظم القرن العشرين. وليس من المبالغة القول أنه توجد الآن "يسارات" وليس "يسارا" واحدا. ووصلت هذه المراجعات لتشمل قضايا كثيرة، وهو ما يحدث بشكل أكثر ظهورا ولكن ليس بشكل استثنائي، في أمريكا اللاتينية حيث يقع إعادة تعريف البرامج السياسية والاقتصادية خاصة على أسس ليبرالية ومتعارضة في المقابل مع الرؤى النيوليبرالية. وحتى في هذا الإطار يعيد كل "يسار" تعريف مختلف الظواهر المؤثرة في مجتمعاته حسب خصوصياتها بما في ذلك الظواهر الدينية والقومية وهو ما انعكس في أمريكا اللاتينية من خلال الظاهرة الفريدة من نوعها المتمثلة في "اليسار الكنسي". وإذا كان هناك مجال يستحق فيه "اليسار" أو "اليسارات" التركيز على إعادة فهم الظواهر الدينية والقومية وبشكل عام مسألة الهوية الثقافية وتعديل برامجهم على ضوئها فهي تلك الموجودة في المجال العربي والإسلامي. ليست هذه بمسألة هامشية بالنسبة لهذه التيارات بل يتوقف عليها حياتها أو موتها في مجال الفعل التاريخي. أما من سيستمر بالإعتقاد بالهامشية التاريخية لمسألة الهوية الثقافية وتحديدا أهمية الظاهرة الإسلامية في الواقع العربي الراهن وتهميشها تحت شعارات "الطائفية" و"الرجعية" مقابل الاتسمرار في رؤية العوامل الإجتماعية والاقتصادية وحدها كـ"محرك رئيسي" للتاريخ البشري (و العربي، والعراقي... الخ) فإنه لا يقوم إلا بوضع نفسه خارج التاريخ السياسي في أقل الأحوال لنصف القرن القادم. والمأساة أن السيد سميرعادل "سكرتير مؤتمر حرية العراق" ليس حالة شاذة في ذلك "اليسار العربي".
الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية
">Link
Link

0 Comments:

Post a Comment

<< Home