Monday, May 09, 2005

'مملكة السماء' أو الحروب الصليبية من خلال عين معتدلة ولكن مسيحية أيضا

'مملكة السماء' أو الحروب الصليبية من خلال عين معتدلة ولكن مسيحية أيضا
درامية الواقع وتاريخية الدراما: هل الفيلم حقا موال لرواية أسامة بن لادن للحروب الصليبية؟
بقلم: الطاهر الأسود
لأن الدراما التاريخية غير ممكنة خارج واقع تاريخي محدد فهي دائما مخاطرة تشبه المشي في حقل ألغام. وعموما لا يُعسّر مهمة أي دراما تاريخية سوى واقعها الدرامي. يصبح الأمر أكثر تعقيدا عندما يتعلق الأمر بفيلم هوليودي عن الحروب الصليبية في ظرفية سياسية حساسة تشهد تورطا أمريكيا في دعم حكومة اسرائيلية متطرفة وفي احتلال عاصمة عربية مثل بغداد تملك رمزية تاريخية استثنائية والأكثر من ذلك بعد تصاعد الكراهية ضد المسلمين في الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. ربما يستغرب البعض (أو حتى تثيره الشكوك) حول نوايا القيام بمثل هذه المخاطرة في هذا الظرف بالذات. يمكن أن يصبح الأمر مفهوما عندما نعرف أن التخطيط للشريط كان سابقا لأحداث 9/11. والان وبعد بدء عرض شريط "مملكة السماء" (Kingdom of Heaven) في القاعات يمكن إبداء ملاحظات حوله شكلا ومضمونا بناء على المشاهدة المباشرة: فكيف يمكن تقييم الشريط في علاقة بالاعتراضات الاستباقية لمن راه "مواليا لرواية أسامة بن لادن للحروب الصليبية" (حسب رأي المؤرخ البريطاني في جامعة كامبردج جوناثان ريلي سميث Jonathan Riley-Smith المقرب من النيومحافظين في الولايات المتحدة) أو في علاقة بموقف من راه "متوازنا" (منظمة "كير" التي تعنى بالدفاع عن المسلمين في الولايات المتحدة)؟
الشريط
يركز المخرج البريطاني ريدلي سكوت (Ridley Scott) في شريطه "مملكة السماء" (البعض يعرب العنوان "جنة السماء" وهو ما لا يتلاءم مع المماهاة التي يقصدها المخرج بين "مملكة القدس" والجنة أو "مملكة السماء") على شخصية هامشية سواء في المصادر التاريخية أو في التناول الدرامي المعتاد للحروب الصليبية. يتعلق الأمر بأحد قادة الفرسان الصليبيين باليان حاكم نابلس (Balian d'Ibelin) الفرنسي الأصل والذي كان أحد معاوني ملك القدس بلدوين الرابع (و الذي توفي سنة 1185). في حين يركز من الناحية الزمنية على الفترة بين سنة 1184 (التحاق باليان بالصليبيين) وسنة 1187 (تحديدا اكتوبر 1187 تاريخ استرجاع صلاح الدين السيطرة على القدس بعد قيادة باليان للقوات الصليبية في مواجهة حصار الجيش الاسلامي). الشخصية الرئيسية الأخرى في الشريط هو صلاح الدين. الشخصيات الأخرى المحورية تتمثل في: تايبيرياس حاكم القدس وأحد القادة الرئيسيين للفرسان الصليبيين وحليف الملك بلدوين وباليان، سيبيلا أخت بلدوين والعشيقة المفترضة لباليان، غاي دو لوزينيان زوج سيبيلا وخليفة بلدوين في الملك وهو الذي انهزم في معركة حطين الحاسمة سنة 1187، رينو حاكم قلعة الكرك وحليف غاي.
بشكل عام كان الشريط متقنا فنيا خاصة من ناحية اختيار زوايا المشاهد الحربية وعلينا هنا أن نذكر أن المخرج ريدلي سكوت أصبح متخصصا في هذه النوعية من الأشرطة خاصة بعد نجاح شريطه السابق "المصارع" (Gladiator) والذي تحصل على اثره على عدد من الأوسكارات سنة 2000 بوصفه مخرجا ومنتجا منفذا. من المشاهد المثيرة كان منظر التحام فرقة الفرسان الصليبيين في مواجهة فرسان الجيش الاسلامي قبالة قلعة الكرك حيث برع المخرج في تصوير التقنيات العسكرية المستخدمة في حالة التواجه بين فرقتين من الخيالة ونجح في ذلك على وجه الخصوص من خلال اختياره التراوح بين زاويتي الواجهة (frontal view) و"رؤية الطير" (Bird's eye view). كان الاسترسال الدرامي مقبولا في الجملة باستثناء حالات قليلة من الانتقال الفجئي وغير المقنع مثل تحول باليان الى مقاتل ماهر أو تطور قصة حبه مع سيبيلا. اختيار الموسيقى المرافقة كانت صائبا حيث نجح المؤلف الموسيقي البريطاني هاري قريقسون-ويليامز في تأليف مقاطع مميزة ومتماهية مع النسق العسكري المتسارع للدراما المرئية. وفي المقابل تم الاستعانة بالمغنية العربية الأصل ناتاشا أطلس في إنشاد مقاطع بالعربية يغلب عليها الطابع الصوفي. أداء الممثلين كان متفاوتا: الممثل الشاب أورلاندو بلوم والذي جسد الشحصية المحورية (باليان) نجح في تجسيد المعنى الأساسي للشخصية؛ التقوى والايمان القوي بمثله العليا مع روح قتالية مندفعة. لكن يبدو لي أن الفنان السوري غسان مسعود سيكون الاكتشاف الحقيقي للجمهور الغربي وحتى العربي (والذي اعتاد على مشاهدته في أعمال تلفزيونية وليس سينمائية) حيث تميز بنجاحه الفائق في تصوير الكارزمية الهادئة لشخصية صلاح الدين. غير أن الممثلة الفرنسية الشابة ايفا غرين (جسدت شخصية سيبيلا) لم تكن موفقة تماما حيث لم تستطع عموما في تجسيد النقلة التي شهدتها شخصية سيبيلا من أميرة متنطعة الى أميرة منكسرة. بقية الممثلين كانوا في مستوى نجوميتهم خاصة الفنانين ليام نيسون (في دور أب باليان) وجيريمي ايرونس (في دور تايبيرياس).
شريط "موال لرواية أسامة بن لادن للحروب الصليبية"؟
لا يمكن التشكيك في القيمة التي يحظى بها المؤرخ البريطاني جوناثان ريلي سميث في الأوساط الأكاديمية كمؤرخ للمسيحية في العصور الوسطى وتحديدا كمؤرخ لظاهرة الحروب الصليبية. وعلى سبيل المثال فإن كتابه "الحروب الصليبية: تاريخ مختصر" هو مرجع لا يمكن الاستغناء عنه في التأريخ لهذه المرحلة التاريخية خاصة من ناحية التدقيق في كرونولوجية الأحداث كما يتفق حولها معظم الدارسون في الوقت الراهن. غير أن لكل مؤرخ رؤيته الايديولوجية والتي لا يمكن أن لا تترك أثرها على نهجه العلمي. وبالنسبة لهذه الحالة فإن مثل هذه الرؤية الايديولوجية خطيرة بالنسبة للاختصاص المهني: حيث يتعاطف السيد ريلي سميث مع التيار النيومحافظ في جناحه الانجيلي. وهو بشكل أو باخر في وضع مشابه للمختص في التاريخ العثماني والنيومحافظ برنارد لويس.
عندما وصف السيد ريلي سميث أخيرا شريط "مملكة السماء" بأنه "موال لرواية أسامة بن لادن للحروب الصليبية" (في حديث تناقلته العديد من وسائل الاعلام) فإنه كان يشرح موقفا متكاملا كان تعرض له في السابق. ففي مقال بعنوان "ماذا يعني أسامة بن لادن بـ الصليبية؟" وذلك في نشرية الناشيونال ريفيو (The National Review) والتي تتبع التيار النيومحافظ (عدد 5 يناير/كانون الثاني 2004) قام ريلي سميث بملاحظة استرجاع مصطلح "الحروب الصليبية" في الخطاب الاسلامي وهو ما يحدد بدايته في المرحلة المعاصرة في الصحافة العثمانية زمن الخليفة عبد الحميد الثاني. ويقتفي بعجالة أثر ذلك الاصطلاح وينتهي الى أن هناك "اعتقادا عاما" بين العرب في مختلف الأطياف السياسية (يذكر أمثلة من "الروائي اللبناني"(؟!) محمود درويش الى "الاسلامي الجهادي" أسامة بن لادن) في "قراءة خاطئة" للحروب الصليبية يقع توظيفها بشكل غير مناسب في تحليل الوضع العربي والاسلامي الراهن من خلال إسقاط مصطلح "الصليبية" على الصراع الراهن في المنطقة. ويشير الى أن هذه النظرة بصدد الانتشار و"لا شيء يحدث لمواجهتها". ولا يشرح ريلي سميث ما يعني بالتحديد عندما يتحدث عن هذه "القراءة الخاطئة" لتاريخ الحروب الصليبية التي يشترك فيها محمود درويش مع أسامة بن لادن(؟!)، لكنه يشرح ذلك في مواقع أخرى. شرحه مثلا أخيرا في تعليقه على "مملكة السماء" عندما عاود استعمال نفس الفكرة التي عبر عنها قبل أكثر من عام في مقال الناشيونال ريفيو: يعتبر ريلي سميث رواية المخرج ريدلي سكوت للحروب الصليبية مثل رواية بن لادن (ومحمود درويش علينا أن نضيف) لأن كلاهما يصور "المسلمين كمتحضرين والمسيحيين برابرة، وهذا غير صحيح". يمضي ريلي سميث ليقدم أمثلة: "غاي دي لوسينيان خسر معركة حطين لكنه لم يكن أفضل أو أسوأ من أي شخص اخر" كما أنه "لم توجد تعاونيات أخوية بين المسيحيين والمسلمين واليهود" كما حاول الشريط أن يلمح.
حسنا يبدو أن السيد ريلي سميث لم يشاهد الشريط. أو في أقل الأحوال لم يكن لديه الوقت الكافي للتركيز على ما جاء فيه. حيث أن طفلا في العاشرة يمكن له أن يرى أن ريدلي سكوت لم يصور "المسيحيين" (هكذا بشكل معمم) كبرابرة. ولا يبدو أن التعميم أمر غريب بالنسبة لريلي سميث خاصة عندما يضع في نفس السلة القراءة التاريخية لمحمود درويش وأسامة بن لادن. فشريط "مملكة السماء" قدم ما هو معروف في جميع المصادر التاريخية وهو انقسام الطرف المسيحي الى طرفين ومن ثمة انقسام الفرسان الصليبيين الى طرفين: طرف مثله الملك بلدوين وكل من باليان وتايبيرياس ويدافع عن مواصلة ابرام اتفاقيات سلام مع صلاح الدين بما في ذلك ضمان سير قوافل وحجاج المسلمين وفي مقابل ذلك كان هناك طرف اخر يمثله غاي دي لوسينيان ورينو حاكم الكرك ويمثلون ما يعرف تاريخيا بـ"فرسان المعبد" يرفض هذا التوجه ويريد خوض حرب مع صلاح الدين. وفي الواقع تمسك الشريط بالرغم من أنه عمل درامي يعتمد التخيل في الأساس بهذا المعطى التاريخي والذي لا يضع "كل المسيحيين" في سلة واحدة كما يحاول ريلي سميث أن يحاجج. غير أنه يبقى عمل درامي، وفي أي عمل درامي يجب أن يوجد "الشرير" و"الخيَر"، وبهذا المعنى كان باليان خيرا وكان غاي دي لوسينيان شريرا في "مملكة السماء". وفي هذه الحالة فإن انتقاد ريلي سميث لتصوير الشريط لغاي كشخصية شريرة هو بمثابة مطالبة الروائي التصرف كمؤرخ، وهذا أمر يمكن أن يكون مشروعا فقط عندما يطالب ريدلي سكوت ريلي سميث بالتحول الى مخرج.
لكن من جهة أخرى فإن الرؤية التاريخية لا تعني عدم الاقرار بأن غاي دي لوسينيان كان شخصا غير متطرف وأن قتله للحجاج المسلمين بأنه عمل غير بربري، إذ يبدو أن ريلي سميث يحاجج ضد القول بأن "كل المسلمين كانوا متحضرين" وهو ما يعني أنه يدافع عن أنهم في الواقع ليسوا كذلك. الواقع التاريخي أنه كان هناك طرف مسيحي متطرف يعتقد أنه بصدد "تحرير" القدس و"الأرض المقدسة" عندما يقع نحر المسلمين هناك وهؤلاء كانوا يعتقدون أن قتل "كافر" (مسلم) يحسن حظوظهم في بلوغ الجنة. هذه معطيات لا يعرفها ريلي سميث فحسب بل ساهم في توثيقها والتعريف بها. غير أن للسيد ريلي سميث خطيئة أساسية بصفته مؤرخا وهنا يحضر العامل الايديولوجي بشكل قوي حيث من المعروف أنه يدافع في مجمل كتاباته عن صدق "فرسان المعبد" وجدية ايمانهم بمهمة "التحرير" هذه. وهنا من الضروري الاقرار بأن أمرا مثل ذلك غير مستبعد بالنسبة لبعض الحالات، ولكن من الخطيئة العلمية تعميمه والدفاع عنه بشكل أعمى، كما لا يجوز الاطمئنان لرأي مضلل من نوع أن غاي دي لوسينيان مثلا "لم يكن أفضل أو أسوأ من أي شخص اخر". فالأخير كان "أسوأ" من الكثيرين غيره لأنه مارس أعمال بربرية. من جهة أخرى هناك تيارا أكاديميا كاملا (في الغرب "المسيحي" قبل أي مكان اخر) وشديد التأثير يحاجج بناء على معطيات توفرها المصادر المسيحية ذاتها أن غالبية "فرسان المعبد" كانوا يبحثون على الثروة لا عن "مملكة السماء". وهكذا عندما يهاجم ريلي سميث الشريط في نقطة التشكيك في صدق "فرسان المعبد" فإنه لا يهاجم مجرد عمل درامي "لا ينبني على الحقائق التاريخية" بل هو يتهجم على تيار كامل في أكاديميا التأريخ للحروب الصليبية. وفي واقع البحث الأكاديمي لا يعبر ريلي سميث سوى عن تيار أكاديمي محدد.
يبقى أمر "التعاونيات الزراعية بين المسيحيين واليهود والمسلمين". يشير ريلي سميث هنا الى مقطع روائي يصور نابلس "تعاونية زراعية" تنعم بالاخاء والسلم تحت حكم باليان. وفي الواقع كان المخرج قد أشار في تعليقات سابقة بأنه اختلق هذه الرؤية للدفاع عن فكرة "امكانية التعايش الأخوي بين الأديان الثلاثة" وبالتالي فهو لا يقدمها على أنها معطى تاريخي.
لكن هناك أمر يتجاهله ريلي سميث في هذا النقاش من وجهة النظر التاريخية: لم يكن الفرسان الصليبيون مجرد مسيحيين، لقد كانوا أيضا مسيحيين من أوروبا لم يعيشوا البتة على أرض فلسطين وبلاد الشام. كانوا ينتمون لمجال جغراسياسي واتني اخر. في المقابل لم يكن جيش صلاح الدين مجرد جيش من المسلمين بل كانوا أيضا ينتمون لمجال جغراسياسي "سامي" يتكلم لغات مشابهة ومعتقدات متقاربة منذ مراحل تاريخية تسبق المسيحية نفسها. بل إن المسيحية نشأت وطوردت في محيطهم كشكل من أشكال مواجهة اضطهاد سياسي وثقافي من قبل امبراطورية "أوروبية" أخرى، الامبراطورية الرومانية. في الواقع التاريخي لم يكن ذلك الصراع صراعا دينيا فحسب كما يريد أن يعتقد السيد ريلي سميث لأسباب ايديولوجية. وهذا المعطى وحده يؤثر بالضرورة في كيفية تناول الحروب الصليبية.
من المهم الاشارة الى أن تصوير التمايز داخل المعسكر المسيحي الصليبي هو موقف موجود في الذهنية العربية وهو "إعتقاد عام" سواء في المصادر أو في الواقع الراهن. وقد عبر عنه مثلا يوسف شاهين في شريطه "صلاح الدين"، كما سيدافع عنه بالضرورة محمود درويش لخلفيته الفكرية. ولكن من المؤكد أن أسامة بن لادن لا يقاسمهم هذه الرواية فهو لا يرغب في وجود مسيحيين مسالمين. إن وضع الجميع في سلة واحدة يعبر عن قلة النزاهة العلمية ورغبة في تشويه النقاش من قبل ريلي سميث من موقع فوقي، موقع "المؤرخ العارف والمحايد". وهذا في أقل الأحوال موقف تضليلي.
شريط "متوازن"؟
لمنظمة "كير" حسابات كثيرة. ولا يمكن أن لا يرى ملاحظ حجم الضغوط التي تتعرض لها كمنظمة تحظى بمصداقية متصاعدة في محيط يتراكم المتربصون فيه خاصة من نواحي اليمين الديني المتطرف أو اللوبي الاسرائيلي. كما لا يمكن أن يرى أي ملاحظ أن التنميط الهوليودي السلبي المعتاد لصورة المسلم تجعل من أي رؤية متغايرة بعض الشيء مناسبة لكير أو غيرها من المنظمات الاسلامية الأمريكية لتشجيعها. كل ذلك مفهوم ولكن يبقى من الضروري تقييم شريط "مملكة السماء" بعيدا عن هذه الحسابات. تقول كير أن الشريط "متوازن" وأنه يدفع لـ"تحسين الصورة النمطية للمسلم في المجتمع الغربي". فهل ذلك صحيح؟
لنبدأ بالشكل. اتبع المخرج البريطاني (مثلما فعل في شريطه السابق "المصارع") نزعة استشراقية واعية تستنسخ بشكل دقيقي الصورة الرومنطيقية للـ"الشرق" مثلما تصورها رومنطيقيو القرن التاسع عشر. الملابس تستنسخ ملابس الشخوص المركبة التي ألفها الرسامون الفرنسيون (خاصة دي لاكروا) في لوحاتهم الزيتية الشهيرة على أساس رحلاتهم الى شمال افريقيا ومصر بداية القرن التاسع عشر. انعكس ذلك سواء في الملابس الرجالية (صلاح الدين) أو النسائية (سيبيلا). انسجمت صورة الملابس هذه مع الطابع المعماري المعتمد حيث تم إسقاط الطابع الأندلسي-المغربي على الطابع المشرقي-السوري. ويرجع ذلك بالتأكيد لتصوير الشريط في اسبانيا والمغرب. ولكن يرجع أيضا (مرة أخرى) الى المعمار الذي وقع إبرازه والتأكيد عليه في اللوحات الرومنطيقية والاستشراقية للفنانين الفرنسيين والذين كانوا مبهورين بالـ"الطابع العاطفي" للمعمار الأندلسي الذي كان مهيمنا في شمال افريقيا. وعموما يبدو شكل "شرق" الحروب الصليبية كما صوره ريدلي سكوت غرائبيا (exotic) من الطينة النمطية المعتادة للسينما الغربية عند تصويرها للطرف العربي الاسلامي في الفترة الوسيطة.
يتم تعميق هذا الانطباع من خلال تجنب تصوير صلاح الدين ومرافقيه في إطار هندسي معماري والاقتصار على تصويرهم إما على ظهور الخيول في أطر طبيعية صحراوية قاحلة أو في خيام نُصبت بشكل مؤقت لغرض الحرب. وهو ما يستنسخ صورة العربي "البدوي" في المشهد الرومنطيقي الاستشراقي الفرنسي. وهكذا تفرض الصورة مقاربة مرئية تستبعد في مخيلة المشاهد الغربي صورة المسلم من مجال العادي واليومي وتجعله عصيا على الفهم، ينتمي الى عالم اخر بألوان وتشكيلات أخرى. وما يُعمق هذه الوضع المرئي الغرائبي المعطى الصوتي أو اللغوي. حيث فُرض على الشخصيات العربية التكلم بالانجليزية، وهو ما أفرز انجليزية مكسرة وصعبة الفهم (رغم محاولة الممثلين العرب التعبير بشكل مناسب). يأتي هذا في الوقت الذي كان يمكن فيه الالتجاء الى استعمال العربية الفصحى مع الاستعانة بترجمة فورية مكتوبة مثلما هو معمول به في كثير من الحالات، وقد برهن ميل جيبسون في شريطه "الام المسيح" عن نجاح وأهمية هذه التجربة في تأكيد حميمية المشهد الدرامي. وعموما فإن مشاهد الحوار بين الشخصيات العربية كانت محدودة وبالتالي لن يمثل ثقلا على المشاهد اعتماد الترجمة الفورية المكتوبة. في المقابل يأتي الاستعمال المتقطع والنمطي للعربية (ترداد الشخوص الغربية بشكل مكسر تعبير"هيا بنا" بمناسبة وبدونها) كتعويض زخرفي يعكس عدم الاكتراث بإدماج العربي كما هو. المعطى الصوتي الاخر الذي يعمق اغتراب المسلم هي تمييز مشهد "الشهيد المسيحي" بموسيقى انشادية دينية تعظيمية وهي تقنية لم تُستعمل في علاقة بنظيره المسلم.
يأتي الان دور المضمون. تجنب ريدلي سكوت أي مشاهد حربية تعكس انتصارا عسكريا للجيش الاسلامي. وبالرغم من أن أهم حدث عسكري خلال الفترة التي اختارها (1184-1185) هو معركة حطين (4 يوليو/تموز 1187) والتي لم يصور منها أي مشهد سوى مشهد إعدام رينو ورؤوس وجثث "فرسان المعبد" متناثرة على الأرض. وهنا لا يبدو صلاح الدين قائدا عسكريا متميزا بقدر ما يبدو قويا ومخيفا بجيشه ذي 200 ألف مقاتل. يتدعم هذا الانطباع في المشهد العسكري الرئيسي للشريط: حصار صلاح الدين للقدس (أكتوبر 1187). حيث ينجح باليان في ابتكار وسائل دفاعية تعبر عن عبقرية عسكرية نجحت في منع اقتحام قوات صلاح الدين الضخمة مدعمة بالمجانيق لأسوار القدس، وفي النهاية يفرض باليان شروطه على صلاح الدين. هنا تأتي النقطة الثانية: في خطاب توجه به باليان لقواته في القدس تهيئا للحصار بأنه "يدافع عن الشعب... والحرية". وفي إطار الجدال حول شروطه يقع افتراض نية صلاح الدين لسحق جميع المسيحيين "نساء وأطفالا" وأنه لم يقم بذلك إلا بعد تهديد باليان بتدمير المعالم الاسلامية ومسلمي المدينة. طبعا المعطيات التاريخية (كما الشريط) تؤكد على أن صلاح الدين تجنب هنا كما في وقائع أخرى إعدامات جماعية ونزع عموما الى دفعهم الى الخروج والرجوع الى أوروبا وهو ما يجعل كلمات باليان حول "دفاعه عن الحرية" خارج السياق. لكل هذه الأسباب من الأفضل الامتناع عن الوصف المسيس لهذا الشريط بأنه "متوازن".
بالرغم من ذلك حاول ريدلي سكوت تقديم صورة ايجابية لصلاح الدين وهي أقرب الى الرومانسية فعلا. في أحد اخر المشاهد وبعد دخوله القدس ينحني القائد المسلم ويلتقط صليبا من الأرض ليرجعه فوق أحد الموائد. هل كان صلاح الدين الحقيقي سيفعل ذلك؟ ربما إذا أردنا أن نراه بشكل تفاؤلي من القرن الواحد والعشرين. الواقع أن الشريط صُور بعين مسيحية، ولكنها معتدلة. إذا أردنا المقارنة بشيء من التعسف لقلنا أن شريط ريدلي سكوت شكلته عين مسيحية بقدر ما كان شريط يوسف شاهين مُصاغا بعين إسلامية. ولكن في الحالتين كان هناك مجال لمشاهدة الاخر ليس كعدو مطلق ولو كان ذلك بشروط محددة. ليس الموضوع في النهاية التأريخ للحروب الصليبية بل هو كيف يمكن للمخيال التاريخي أن يساهم في الحد من التطرف الراهن. وفي الوقت الحالي فإن الاعتداء الاستعماري العسكري الراهن على المنطقة العربية لا يختلف في المضمون عن إعتداءات "فرسان المعبد" وهو أحد الأشكال الرئيسية للتطرف. إن محاولة تبييض "فرسان المعبد" في أي فترة تاريخية ممكنة وتسويتهم بمن يدافعون عن أنفسهم هي محاولة فاشلة للتزوير. محاولة تسوية من يدافعون عن أنفسهم بمتطرفين مهووسين مسلمين من نوع أسامة بن لادن والتيارات القاعدية المرتبطة به هو أيضا محاولة أخرى فاشلة للتزوير. لهذا يستحق ريدلي سكوت الوقوف معه في وجه من يريدونه تبييض "فرسان المعبد" عنوة. ولكن ليس الى حد اعتبار عمله "متوازنا". للأسف، لم ينضج الوضع بعد لعمل "متوازن" من أي جهة كانت.
الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية

">Link
Link

0 Comments:

Post a Comment

<< Home