كلوني في مواجهة تشويه الحقيقة الإخبارية
كلوني في مواجهة تشويه الحقيقة الإخبارية
جورج كلوني يستحق الاحترام لجرأته وشجاعته على خرق محظورات سادت أخيرا في المشهد الاعلامي والسينمائي الأمريكي.
ميدل ايست اونلاين
جورج كلوني يستحق الاحترام لجرأته وشجاعته على خرق محظورات سادت أخيرا في المشهد الاعلامي والسينمائي الأمريكي.
ميدل ايست اونلاين
بقلم: الطاهر الأسود
1
سيهيمن الممثل (و المنتج والمخرج أيضا وهو ما برهن عليه بقوة الآن) جورج كلوني (George Clooney) على المشهد السينمائي لهذه السنة وبالتالي جوائز أكاديمية الفنون حتى ولو لم يتحصل على أغلبها (مازال من المبكر الحسم في ذلك). الأهم من ذلك أن كلوني حقق ذلك من خلال المراهنة على أشرطة تناقش قضايا شائكة وحساسة على المستوى السياسي الراهن. وبشكل ما فإنه أقحم هوليود، بعد غياب ملحوظ في السنوات القليلة الأخيرة، في خضم النقاش النخبوي المتزن والملتزم ومن ثمة فهو يساهم، مثل الكثيرين غيره (شون بين وروبرت ريدفورد مثلا)، في إستعادة دورها الضروري كواجهة سياسية مستقلة في الولايات المتحدة. إن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن هوليود ليست ولم تكن لونا واحدا أو منبرا آليا للدعاية للقوة الامبراطورية بل هي وكانت دائما تحتوي على مجال للرأي المخالف ومنبرا إعلاميا للمعارضة لما هو رسمي. وذلك على عكس الفكرة النمطية التي تتكرر بشكل مضجر خاصة في وسائل الاعلام العربية الآن.
2
أقول ذلك وفي ذهني فقرة إعلامية وردت يوم الجمعة الماضي في "الجزيرة هذا الصباح" تم فيها استضافة مسئول إداري مكلف بالسينما في وزارة الثقافة اللبنانية، وكان موضوع اللقاء هو مهرجان "السينما الأوروبية" الذي تم تنظيمه في بيروت في الأسبوع الماضي. وقد كرر هذا المسئول ومضيفة الحصة بشكل متناسق مقولات مغرقة في التعميم والسطحية وحتى الجهل من نوع "السينما الاوروبية الناعمة والهادفة" في مواجهة "السينما الأمريكية العنيفة والسطحية". طبعا كان المعني بـ"السينما الاوروبية" السينما الفرنسية تحديدا وهو ما يمكن فهمه من كم الأفلام الفرنسية المعروضة في المهرجان ولكن أيضا من نوع الأشخاص المكلفين بالترويج للمهرجان خاصة من بين الديناصورات الفرنكفونية اللبنانية التي استفاقت بشكل مفاجئ في الفترة الأخيرة لأسباب تتعلق بالتحديد بالظروف السياسية.
على كل حال هناك مشكل حقيقي في علاقة بتصور عربي سائد للسينما الأمريكية: حيث يوجد اعتقاد أنها متشابهة وهذا غير صحيح. وفي الواقع يتحمل جزءا هاما من المسؤولية الموزعون المحليون للسينما الأمريكية الذين ينتقون أفلاما دون غيرها توصف عادة وبشكل تضليلي بـ"التجارية" وهي بالتحديد من نوع "أفلام المغامرات" بالرغم أن بقية الأنواع السينمائية يمكن أن تكون مربحة مثلما يمكن لأفلام المغامرات أن تكون غير ناجحة. إن قائمة الأشرطة المنتقاة من قبل أكاديمية الفنون في السنوات الأخيرة فقط يمكن أن تعطي فكرة حقيقية عن مدى تنوع السينما الأمريكية بما في ذلك تلك المنتجة من قبل الشركات الهوليودية الضخمة: لنتفحص مثلا أشرطة، لم يسمع بأغلبها للأسف معظم المشاهدين العرب بالرغم من نجاحها الكبير في القاعات الأمريكية وحيازتها على جوائز الأكاديمية (الأوسكار) وهي ليست بالتالي أشرطة على الهامش، مثل "الساعات" (The Hours) سنة 2002، و"21 غرام" (21 Grams) سنة 2003، و"ميستك ريفير" (Mystic River) سنة 2003... إلخ وهي جميعا أشرطة مميزة من حيث المحتوى ولكن أيضا من ناحية الأسلوب الفني بشكل يجعلها بحق طليعية وتستحق أن تُدرس في المدارس السينمائية.
في مقابل ذلك فإن "السينما ألاوروبية" تعاني أزمة ثقة كبيرة يجعل أغلب إنتاجاتها إما بدون هوية محددة (تقليد أعمى ومبتذل لأشرطة أمريكية محددة سواء المغامرات والعنف) أو هي تجريبية بشكل مفرط مما يجعلها "إمكانات" سينمائية عوضا عن أن تكون مصادر حقيقية للإلهام ويتعلق ذلك تحديدا بتيار أساسي في السينما الفرنسية مثل أشرطة حون لوك قودار (Jean-Luc Godard) أو أيضا في السينما الألمانية أشرطة راينر فاسبيندر (Rainer Fassbinder). ولكن بالرغم من ذلك توجد تجارب سينمائية أوروبية ناجحة في السنوات الأخيرة حازت على اهتمام واسع (بما في ذلك في الولايات المتحدة بالمناسبة وحتى من قبل أكاديمية الفنون) مثل الشريط الفرنسي "أميلي" (Amélie) سنة 2001، والشريط الألماني "اركضي لولا... أركضي" (Run Lola Run) سنة 1998، ولو أن مخرجي الشريطين والممثلين الأساسيين فيهما قاموا بتكرار غير ضروري لنفس الرؤية والقصة في أشرطة أخرى لاحقة. وفي نفس الاتجاه يتميز الممثل-الملحن-المخرج البوسني الأصل أمير كوستوريشا (Emir Kusturica) بنوع سينمائي مميز يمكن اعتباره تيارا أساسيا وناجحا في السينما الأوروبية الراهنة. وعموما وبمعنى آخر لا توجد "سينما أوروبية ناعمة" وأخرى "أمريكية عنيفة وسطحية" في المطلق. إن ذلك ينم ببساطة عن جهل مريب بالمشهد السينمائي العالمي.
3
تميز جورج كلوني، إذا، بشريطين في هذا الموسم السينمائي، ونحن الآن في أوجه حيث لم يبقى على إسناد جوائز أكاديمية الفنون سوى أسابيع قليلة. الشريط الأول بعنوان "ليلة سعيدة، وحظا سعيدا" (Good Night, And Good Luck) والشريط الثاني بعنوان "سيريانا" (Syriana).
شريط "ليلة سعيدة، وحظا سعيدا" يتناول موضوعا حساسا في الظرف الراهن وهو مدى استقلالية الإعلام الإخباري الأمريكي عن الادارة الأمريكية وتحديدا عن مسألة "المصلحة الوطنية" وذلك في وقت يشهد تراجعا كبير من قبل الاعلام الأمريكي في أداء مهامه كإعلام إخباري مستقل، في وقت تصرف فيه أبرز الإعلاميين الأمريكيين في حرب العراق كمراسلين عسكريين لا يخفون موالاتهم للقوات الأمريكية الغازية، في وقت لبس فيه إعلامي محترم مثل تيد كابل (Ted Copple) الخوذة والبدلة العسكريتين ودخل بغداد على منصة دبابة أمريكية في صورة غازي أكثر من صورة إعلامي مستقل، في وقت منح فيه الإعلاميون الإخباريون الإدارة الأمريكية مجالا مفتوحا للدعاية الفضة للحرب دون محاولة التساؤل بجدية عن دوافعها ومبرراتها، وفي وقت قامت فيه صحف مرموقة مثل النيويورك تايمز والواشنطن بوست بالترويج المبرمج للحملة الدعائية التي سبقت الحرب على العراق بدون أي تقصي مهني للمعلومات.
يسترجع شريط جورج كلوني (وقد قام فيه بدور ثانوي في التمثيل ولكنه كان مخرجه والمنتج الأساسي له، حيث يبدو أنه عانى الكثير لتحقيق ذلك حتى أنه رهن فيلته الفارهة في الريف الإيطالي لتوفير المال اللازم) يسترجع إذا شريط جورج كلوني فترة مماثلة تميزت بتأثير الصراع الدولي الذي تخوضه الحكومات الأمريكية في استقلالية النخب المثقفة بما في ذلك المسئولين الإعلاميين: استرجع الشريط مرحلة الماكارثية حينما قام السيناتور السيئ الصيت جوزيف ماكارثي (Joseph McCarthy) في بداية السنوات الخمسين بإعداد قائمات سوداء للملاحقة والاقصاء المهني في أوساط السينمائيين والكتاب والإعلاميين بدعوى ارتباطهم بالحركة الشيوعية وأقام في الكونغرس جلسات استماع رسمية ومفتوحة لازالت تحتفظ بذكراها المخيفة حتى الان.
اختار كلوني شخصية شهيرة وأساسية في الإعلام الإخباري الأمريكي لمعالجة تلك الفترة: إدوارد موروو (Edward Murrow) وقد قام بأدائه بشكل رائع ديفيد ستراثيرن (David Strathairn). كان موروو المحرر الإخباري الرئيسي في قناة سي بي أس (CBS) والمسؤول الأساسي مع فريد فريندلي (Fred Friendly) والذي قام بأدائه جورج كلوني على برنامج إخباري أسبوعي "شاهده الآن" (See it Now). وكان موروو قبل ذلك مراسل إذاعي ذاع صيته خلال تغطيته للحرب العالمية الثانية وهو ما أهله لأن يكون من ضمن الجيل الأول للإعلاميين التلفزيين وذلك في بداية عصر الشاشة الصغيرة وانتشارها في المشهد الإعلامي الأمريكي خلال الخمسينات. وكان من ضمن الأوائل الذين صارعوا من أجل التأسيس لإعلام تلفزي إخباري جدي وواجه في هذا الاطار جهود تحويل التلفزة الى مجرد "صندوق تسلية" كما لاحظ في الشريط وهي مسألة تتكرر على امتداد الشريط. لكن القضية الأساسية في الشريط هي قرار موروو مواجهة الأسلوب الترويعي والتضليلي للسيناتور ماكارثي في وقت ساد فيه الصمت على الاعلام الاخباري بشكل يصل حد التواطؤ وهو ما أثار حفيظة الاعلامي الأمريكي الذي رأي في ذلك تجاوزا خطيرا على حرية الإعلام. وفي وقت لم يجرؤ أحد على فضح أساليب ماكارثي قام موروو مع فريق العمل في برنامجه تجميع المعطيات اللازمة وشن حملة مضادة عليه وهو ما انتهى الى الإسهام في فضح ماكارثي ومحاصرته ومن ثمة تقديمه للتحقيق. وقد بقي أسلوب موروو في تقديم الأخبار خلال الحلقات التي تناولت أساليب ماكارثي مرجعية بالنسبة للإعلام الإخباري الأمريكي، وحتى الآن بقي أسلوبه الجذاب والجاد مؤثرا وهو ما تجسم رمزيا في الطريقة التي ينطق بها الجملة-الخاتمة في برنامجه، وهي عنوان الشريط: "ليلة سعيدة، وحظا سعيدا".
القصة معروفة ولكن كان التذكير بها ذي دلالات خاصة في الظرفية الراهنة وهو ما جلب انتباه وسائل الاعلام الأمريكية خاصة في مرحلة التراجع الأمريكي في العراق وانكشاف الأبعاد التضليلية التي سبقت الحرب هناك. لكن لم يكن الظرف السياسي وحده وراء النجاح الفني والجماهيري للشريط. كانت مهارات جورج كلوني كمخرج أساسية في تميز الشريط: حيث اختار أن يكون الشريط بالأبيض والأسود مما خلق سلاسة كبيرة بين الأجزاء الدرامية للشريط وتلك الوثائقية المأخوذة من أشرطة أصلية ترجع لفترة الخمسينات. كما كان التصوير في الاستوديوهات التلفزية (أين دارت أغلب أحداث الشريط) مناسبة للقفز بين الكاميراهات المختلفة وشاشات الاستوديو العديدة وهو ما جعل المشهد الذي يحتكره المخرج التلفزي أي تعدد زوايا النظر يتحول الى مشهد متاح للمشاهد ومركب أساسي من درامية الشريط. وهكذا كان الانتقال من شاشة الى أخرى ومن كاميرا الى أخرى وسيلة أساسية لنقل معاني التردد والاضطراب والصراع التي ميزت معركة موروو مع ماكارثي.
4
الشريط الثاني "سيريانا" تم افتتاحه يوم الجمعة. وشهدت قاعات السينما الأمريكية إقبالا كبيرا نظرا للحملة الدعائية التي سبقته والتي لم تكن مدفوعة الأجر في أغلبها بل طوعية نظرا لجلبه اهتمام النقاد والملاحظين السياسيين الذين أتيحت لهم فرصة المشاهدة المبكرة للشريط. تدور أحداث شريط "سيريانا" في نسق شديد التعقيد وأسرع بكثير من نسق شريط "ليلة سعيدة، وحظا سعيدا". يلعب هنا كلوني دورا أساسيا في التمثيل الى جانب الممثل المميز والجاد مات ديمون (Matt Damon) (كما تقاسم كلوني مع ديمون إنتاج الشريط) بالاضافة الى الممثل الصاعد جيفري رايت (Jeffrey Wright).
سيناريو الشريط يتكون من أربع قصص متقاطعة. القصة الأولى وهي القصة المحورية تدور حول "بوب" (جورج كلوني) وهو عميل في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (كان يعمل في الثمانينات في المنطقة العربية وتحديدا في بيروت) يعيش مرحلة تدهور قيمة عملاء الوكالة بعد انهيار جدار برلين وضياعهم وسط السياسة الأمريكية المضطربة في المنطقة العربية. يتصف "بوب" بالمشاغبة وخاصة رفضه الصمت على الأداء البيروقراطي في الوكالة ويعيش عبر مراحل الشريط عملية استفاقة تؤدي به لبدء التساؤل عن دوافع أعمال الوكالة خاصة بعد فشل عملية اختطاف "أمير عربي" كُلف بها في بيروت وهو ما أدى الى تضحية الوكالة به والتحقيق معه على أساس أنه مجرم يعمل لحسابه الخاص. ومن خلال "بوب" ينقلنا السيناريو الى مجال الأدوار التي تقوم بها الوكالة في المنطقة وتحديدا تعبيرها عن سياسة مستديمة للادارة الأمريكية في حماية مصالح الشركات النفطية الأمريكية وبشكل يتجاهل مصالح شعوب المنطقة. حيث يتم التركيز على قطر عربي خليجي كبير فيه حقول نفطية واسعة يتجه ملكه، بدفع من نجله "ناصر"، الى محاولة تنويع شركائه النفطيين على قاعدة الكفاءة من خلال التعاقد مع شركات صينية وهو ما أثار حفيظة أحد الشركات النفطية الأمريكية العملاقة المتمركزة في تكساس. ويقوم هنا المحامي الرئيسي للشركة، وهو صديق قديم للملك، بمحاولة التدخل في شؤون العائلة المالكة ودعم الابن الأصغر للملك على حساب نجله لخلافته، حيث يتم تصوير الملك في المراحل الأخيرة من حياته متنقلا على كرسي متحرك، وهو يخضع في النهاية لضغط الأمريكيين ليعين ابنه الأصغر التافه والمقرب من الشركات النفطية الأمريكية وليا للعهد. بالتضامن مع ذلك تشن وكالة المخابرات المركزية حملة على نجل الملك "ناصر" من خلال الترويج لصلاته بـ"منظمات ارهابية" ومن ثمة العمل على اختطافه (و هي العملية التي سيتكفل بها "بوب" ولكنها تفشل) حتى وإن أدى الأمر الى التعاون حتى مع حزب الله اللبناني. في النهاية، في آخر الشريط تنجح وكالة المخابرات المركزية في قتل "ناصر" بصاروخ موجه وذلك في خضم الصراع على الخلافة وبالرغم من سعي "بوب" الى انقاذ الأمير (يموت "بوب" مع الأمير في القصف الصاروخي الى جانب زوجة الأمير وأطفاله).
القصص الثلاث الأخرى تدور حول القصة المركزية حيث تقوم بتوضيح الجوانب الجانبية للصراع. من جهة أولى يتم تصوير مدى الفساد الذي يميز الشركات النفطية الأمريكية حيث يكشف محامي ناشئ (جيفري رايت) للشركة النفطية الأبرز، وهي ناتجة عن عملية دمج كبرى، حجم الفساد المستشري فيها وكيف أن ذلك أداة أساسية لـ"نجاح" الشركة وبدفع من مالكيها. المشهد الرئيسي في هذا الخط الدرامي كلام متهم أساسي في أعمال الفساد سيتم التضحية به لحماية الشركة حيث يصرخ في وجه المحامي الشاب "الفساد هو السبب في أننا ننتصر!". من خلال كواليس الشركة يتم التوغل في الارتباطات المريبة للتروستات النفطية بالدوائر السياسية والاستخبارية الأمريكية حيث تظهر الأخيرة بمثابة الخادمة لمصالح الأولى.
من جهة ثانية يتتبع السيناريو مسار محلل اقتصادي وتحديدا نفطي أمريكي طموح وساذج (مات ديمون) يعيش في سويسرا وقريب من أوساط العائلة العربية الحاكمة، ينتهي الى الاقتراب من "ناصر" والتحول الى مستشاره الاقتصادي. وهنا نرى من خلال المحلل الأمريكي الشاب صورة "ناصر" عن قرب حيث يشير الى امتعاضه من تبعية بلاده للولايات المتحدة ورغبته في تحديثها واستعمال ثروتها النفطية لتحقيق تنمية اقتصادية حقيقية وتذمره من التعامل الظالم في مملكة والده مع المرأة. ويتعرض الشريط الى محاولة "ناصر" تجميع أنصاره ولكنهم يشيرون الى "وجود عشرة آلاف جندي أمريكي" في البلاد، غير أنه يرد بأن هناك من "يرفض الوجود الأمريكي" مثله ومستعد لمواجهته.
وهنا تأتي القصة الرابعة. قصة المهاجر الباكستاني الشاب الى القطر الخليجي والذي يخسر عمله في الحقل النفطي بد شرائه من قبل الشركة الأمريكية العملاقة المتمركزة في التكساس. ليقع تدريجيا تحت تأثير مصري أصولي باسم "عجيزة" يدعوه للقيام هو وصديقه بعملية انتحارية ضد المصالح النفطية الأمريكية وتحديدا حقل نفطي بحري للشركة الأمريكية. وينتهي الشريط بنسق درامي مكثف مباشرة بعد قتل المخابرات الأمريكية للأمير "ناصر" بعملية الشاب الباكستاني من خلال اصطدامه بزورق بالحقل النفطي، حيث يقع تقديمه بشكل رومنسي كأنه مستعد للطيران وهو يقود الزورق المفخخ.
سيناريو الشريط شديد التعقيد وسيجد المشاهد الأمريكي العادي صعوبة كبيرة في تتبع أبعاده الدرامية المختلفة. ويرجع هذا التعقيد الى أن السيناريو قائم بالأساس على رواية (See No Evil) وهي لبوب باير (Bob Baer) وهو عميل حقيقي لوكالة المخابرات المركزية يشبه دوره الحقيقي في بعض الملامح دور "بوب" في الشريط ونقل في روايته معالم حقيقية من تجربته الفعلية. وقد شغل بوب باير مواقع متقدمة في وكالة المخابرات المركزية حيث عمل في الثمانينات في بيروت كما كان لعب دورا متقدما داخل العراق قبل الحرب (من داخل المجال الكردي في الشمال). غير أنه شكك في الحرب الأخيرة وحاول من خلال روايته مراجعة الدور الأمريكي في المنطقة ومسؤوليته في استمرار الاستبداد والفساد و"الارهاب" في المنطقة. ولهذا فقد أحدث وسيحدث الشريط ردات فعل قوية من قبل الأطراف المقربة من الادارة الأمريكية الراهنة المعروفة بقربها من الشركات النفطية ودعمها لعدد من العائلات العربية الحاكمة في الأقطار العربية النفطية. ويطرح في المقابل مراجعة راديكالية للصورة النمطية في الاعلام الأمريكي في علاقة بمصادر الاستبداد في المنطقة. كما أنه يطرح مراجعة للصورة النمطية التي تجعل من المعارضين للوجود الأمريكي معادين للتحديث وذلك من خلال تقديم الصورة الإيجابية لـ"ناصر"، بل بالعكس يشير الى أن تواصل التخلف يرجع للفساد المستشري بتشجيع من المصالح النفطية. من جهة أخرى يقدم الشريط صورة رومنسية للـ"الارهاب" جعلت له أبعادا إنسانية من خلال تتبع صورة الشاب الباكستاني البريئة تقريبا. ولهذا فقد بدأ البعض باتهام كلوني وستيفان قاقان (Stephen Gaghan) مخرج وكاتب سيناريو الشريط بشرعنة "الارهاب".
مهما كانا شريطي كلوني مثيرين للجدل فإنه يستحق الاحترام لجرأته وشجاعته على خرق محظورات سادت أخيرا في المشهد الاعلامي والسينمائي الأمريكي. وأثبت بعد كل ذلك أنه مثقف وليس مجرد نجم سينمائي ثري وفارغ. وأصبح من الواضح أن أكاديمية الفنون لن تستطيع تجاهل الشريطين حيث ستمنحهما في أقل الأحوال الترشيح لجوائز الأوسكار. إن السينما في هذه الحالة تصبح بديلا، ولو بشروطها الدرامية الخاصة، عن الفراغ الذي يمكن أن يتركه الإعلام الإخباري. وفي الواقع هذه الحالة الجديدة بدأت في التكثف منذ مدة ليست بالقصيرة غير أنها عرفت أوجها السنة الماضية مع النجاح الواسع للشريط الوثائقي لمايكل مور "9/11 فاهرينهايت".
الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية
">Link
http://www.middle-east-online.com/?id=35049
1
سيهيمن الممثل (و المنتج والمخرج أيضا وهو ما برهن عليه بقوة الآن) جورج كلوني (George Clooney) على المشهد السينمائي لهذه السنة وبالتالي جوائز أكاديمية الفنون حتى ولو لم يتحصل على أغلبها (مازال من المبكر الحسم في ذلك). الأهم من ذلك أن كلوني حقق ذلك من خلال المراهنة على أشرطة تناقش قضايا شائكة وحساسة على المستوى السياسي الراهن. وبشكل ما فإنه أقحم هوليود، بعد غياب ملحوظ في السنوات القليلة الأخيرة، في خضم النقاش النخبوي المتزن والملتزم ومن ثمة فهو يساهم، مثل الكثيرين غيره (شون بين وروبرت ريدفورد مثلا)، في إستعادة دورها الضروري كواجهة سياسية مستقلة في الولايات المتحدة. إن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن هوليود ليست ولم تكن لونا واحدا أو منبرا آليا للدعاية للقوة الامبراطورية بل هي وكانت دائما تحتوي على مجال للرأي المخالف ومنبرا إعلاميا للمعارضة لما هو رسمي. وذلك على عكس الفكرة النمطية التي تتكرر بشكل مضجر خاصة في وسائل الاعلام العربية الآن.
2
أقول ذلك وفي ذهني فقرة إعلامية وردت يوم الجمعة الماضي في "الجزيرة هذا الصباح" تم فيها استضافة مسئول إداري مكلف بالسينما في وزارة الثقافة اللبنانية، وكان موضوع اللقاء هو مهرجان "السينما الأوروبية" الذي تم تنظيمه في بيروت في الأسبوع الماضي. وقد كرر هذا المسئول ومضيفة الحصة بشكل متناسق مقولات مغرقة في التعميم والسطحية وحتى الجهل من نوع "السينما الاوروبية الناعمة والهادفة" في مواجهة "السينما الأمريكية العنيفة والسطحية". طبعا كان المعني بـ"السينما الاوروبية" السينما الفرنسية تحديدا وهو ما يمكن فهمه من كم الأفلام الفرنسية المعروضة في المهرجان ولكن أيضا من نوع الأشخاص المكلفين بالترويج للمهرجان خاصة من بين الديناصورات الفرنكفونية اللبنانية التي استفاقت بشكل مفاجئ في الفترة الأخيرة لأسباب تتعلق بالتحديد بالظروف السياسية.
على كل حال هناك مشكل حقيقي في علاقة بتصور عربي سائد للسينما الأمريكية: حيث يوجد اعتقاد أنها متشابهة وهذا غير صحيح. وفي الواقع يتحمل جزءا هاما من المسؤولية الموزعون المحليون للسينما الأمريكية الذين ينتقون أفلاما دون غيرها توصف عادة وبشكل تضليلي بـ"التجارية" وهي بالتحديد من نوع "أفلام المغامرات" بالرغم أن بقية الأنواع السينمائية يمكن أن تكون مربحة مثلما يمكن لأفلام المغامرات أن تكون غير ناجحة. إن قائمة الأشرطة المنتقاة من قبل أكاديمية الفنون في السنوات الأخيرة فقط يمكن أن تعطي فكرة حقيقية عن مدى تنوع السينما الأمريكية بما في ذلك تلك المنتجة من قبل الشركات الهوليودية الضخمة: لنتفحص مثلا أشرطة، لم يسمع بأغلبها للأسف معظم المشاهدين العرب بالرغم من نجاحها الكبير في القاعات الأمريكية وحيازتها على جوائز الأكاديمية (الأوسكار) وهي ليست بالتالي أشرطة على الهامش، مثل "الساعات" (The Hours) سنة 2002، و"21 غرام" (21 Grams) سنة 2003، و"ميستك ريفير" (Mystic River) سنة 2003... إلخ وهي جميعا أشرطة مميزة من حيث المحتوى ولكن أيضا من ناحية الأسلوب الفني بشكل يجعلها بحق طليعية وتستحق أن تُدرس في المدارس السينمائية.
في مقابل ذلك فإن "السينما ألاوروبية" تعاني أزمة ثقة كبيرة يجعل أغلب إنتاجاتها إما بدون هوية محددة (تقليد أعمى ومبتذل لأشرطة أمريكية محددة سواء المغامرات والعنف) أو هي تجريبية بشكل مفرط مما يجعلها "إمكانات" سينمائية عوضا عن أن تكون مصادر حقيقية للإلهام ويتعلق ذلك تحديدا بتيار أساسي في السينما الفرنسية مثل أشرطة حون لوك قودار (Jean-Luc Godard) أو أيضا في السينما الألمانية أشرطة راينر فاسبيندر (Rainer Fassbinder). ولكن بالرغم من ذلك توجد تجارب سينمائية أوروبية ناجحة في السنوات الأخيرة حازت على اهتمام واسع (بما في ذلك في الولايات المتحدة بالمناسبة وحتى من قبل أكاديمية الفنون) مثل الشريط الفرنسي "أميلي" (Amélie) سنة 2001، والشريط الألماني "اركضي لولا... أركضي" (Run Lola Run) سنة 1998، ولو أن مخرجي الشريطين والممثلين الأساسيين فيهما قاموا بتكرار غير ضروري لنفس الرؤية والقصة في أشرطة أخرى لاحقة. وفي نفس الاتجاه يتميز الممثل-الملحن-المخرج البوسني الأصل أمير كوستوريشا (Emir Kusturica) بنوع سينمائي مميز يمكن اعتباره تيارا أساسيا وناجحا في السينما الأوروبية الراهنة. وعموما وبمعنى آخر لا توجد "سينما أوروبية ناعمة" وأخرى "أمريكية عنيفة وسطحية" في المطلق. إن ذلك ينم ببساطة عن جهل مريب بالمشهد السينمائي العالمي.
3
تميز جورج كلوني، إذا، بشريطين في هذا الموسم السينمائي، ونحن الآن في أوجه حيث لم يبقى على إسناد جوائز أكاديمية الفنون سوى أسابيع قليلة. الشريط الأول بعنوان "ليلة سعيدة، وحظا سعيدا" (Good Night, And Good Luck) والشريط الثاني بعنوان "سيريانا" (Syriana).
شريط "ليلة سعيدة، وحظا سعيدا" يتناول موضوعا حساسا في الظرف الراهن وهو مدى استقلالية الإعلام الإخباري الأمريكي عن الادارة الأمريكية وتحديدا عن مسألة "المصلحة الوطنية" وذلك في وقت يشهد تراجعا كبير من قبل الاعلام الأمريكي في أداء مهامه كإعلام إخباري مستقل، في وقت تصرف فيه أبرز الإعلاميين الأمريكيين في حرب العراق كمراسلين عسكريين لا يخفون موالاتهم للقوات الأمريكية الغازية، في وقت لبس فيه إعلامي محترم مثل تيد كابل (Ted Copple) الخوذة والبدلة العسكريتين ودخل بغداد على منصة دبابة أمريكية في صورة غازي أكثر من صورة إعلامي مستقل، في وقت منح فيه الإعلاميون الإخباريون الإدارة الأمريكية مجالا مفتوحا للدعاية الفضة للحرب دون محاولة التساؤل بجدية عن دوافعها ومبرراتها، وفي وقت قامت فيه صحف مرموقة مثل النيويورك تايمز والواشنطن بوست بالترويج المبرمج للحملة الدعائية التي سبقت الحرب على العراق بدون أي تقصي مهني للمعلومات.
يسترجع شريط جورج كلوني (وقد قام فيه بدور ثانوي في التمثيل ولكنه كان مخرجه والمنتج الأساسي له، حيث يبدو أنه عانى الكثير لتحقيق ذلك حتى أنه رهن فيلته الفارهة في الريف الإيطالي لتوفير المال اللازم) يسترجع إذا شريط جورج كلوني فترة مماثلة تميزت بتأثير الصراع الدولي الذي تخوضه الحكومات الأمريكية في استقلالية النخب المثقفة بما في ذلك المسئولين الإعلاميين: استرجع الشريط مرحلة الماكارثية حينما قام السيناتور السيئ الصيت جوزيف ماكارثي (Joseph McCarthy) في بداية السنوات الخمسين بإعداد قائمات سوداء للملاحقة والاقصاء المهني في أوساط السينمائيين والكتاب والإعلاميين بدعوى ارتباطهم بالحركة الشيوعية وأقام في الكونغرس جلسات استماع رسمية ومفتوحة لازالت تحتفظ بذكراها المخيفة حتى الان.
اختار كلوني شخصية شهيرة وأساسية في الإعلام الإخباري الأمريكي لمعالجة تلك الفترة: إدوارد موروو (Edward Murrow) وقد قام بأدائه بشكل رائع ديفيد ستراثيرن (David Strathairn). كان موروو المحرر الإخباري الرئيسي في قناة سي بي أس (CBS) والمسؤول الأساسي مع فريد فريندلي (Fred Friendly) والذي قام بأدائه جورج كلوني على برنامج إخباري أسبوعي "شاهده الآن" (See it Now). وكان موروو قبل ذلك مراسل إذاعي ذاع صيته خلال تغطيته للحرب العالمية الثانية وهو ما أهله لأن يكون من ضمن الجيل الأول للإعلاميين التلفزيين وذلك في بداية عصر الشاشة الصغيرة وانتشارها في المشهد الإعلامي الأمريكي خلال الخمسينات. وكان من ضمن الأوائل الذين صارعوا من أجل التأسيس لإعلام تلفزي إخباري جدي وواجه في هذا الاطار جهود تحويل التلفزة الى مجرد "صندوق تسلية" كما لاحظ في الشريط وهي مسألة تتكرر على امتداد الشريط. لكن القضية الأساسية في الشريط هي قرار موروو مواجهة الأسلوب الترويعي والتضليلي للسيناتور ماكارثي في وقت ساد فيه الصمت على الاعلام الاخباري بشكل يصل حد التواطؤ وهو ما أثار حفيظة الاعلامي الأمريكي الذي رأي في ذلك تجاوزا خطيرا على حرية الإعلام. وفي وقت لم يجرؤ أحد على فضح أساليب ماكارثي قام موروو مع فريق العمل في برنامجه تجميع المعطيات اللازمة وشن حملة مضادة عليه وهو ما انتهى الى الإسهام في فضح ماكارثي ومحاصرته ومن ثمة تقديمه للتحقيق. وقد بقي أسلوب موروو في تقديم الأخبار خلال الحلقات التي تناولت أساليب ماكارثي مرجعية بالنسبة للإعلام الإخباري الأمريكي، وحتى الآن بقي أسلوبه الجذاب والجاد مؤثرا وهو ما تجسم رمزيا في الطريقة التي ينطق بها الجملة-الخاتمة في برنامجه، وهي عنوان الشريط: "ليلة سعيدة، وحظا سعيدا".
القصة معروفة ولكن كان التذكير بها ذي دلالات خاصة في الظرفية الراهنة وهو ما جلب انتباه وسائل الاعلام الأمريكية خاصة في مرحلة التراجع الأمريكي في العراق وانكشاف الأبعاد التضليلية التي سبقت الحرب هناك. لكن لم يكن الظرف السياسي وحده وراء النجاح الفني والجماهيري للشريط. كانت مهارات جورج كلوني كمخرج أساسية في تميز الشريط: حيث اختار أن يكون الشريط بالأبيض والأسود مما خلق سلاسة كبيرة بين الأجزاء الدرامية للشريط وتلك الوثائقية المأخوذة من أشرطة أصلية ترجع لفترة الخمسينات. كما كان التصوير في الاستوديوهات التلفزية (أين دارت أغلب أحداث الشريط) مناسبة للقفز بين الكاميراهات المختلفة وشاشات الاستوديو العديدة وهو ما جعل المشهد الذي يحتكره المخرج التلفزي أي تعدد زوايا النظر يتحول الى مشهد متاح للمشاهد ومركب أساسي من درامية الشريط. وهكذا كان الانتقال من شاشة الى أخرى ومن كاميرا الى أخرى وسيلة أساسية لنقل معاني التردد والاضطراب والصراع التي ميزت معركة موروو مع ماكارثي.
4
الشريط الثاني "سيريانا" تم افتتاحه يوم الجمعة. وشهدت قاعات السينما الأمريكية إقبالا كبيرا نظرا للحملة الدعائية التي سبقته والتي لم تكن مدفوعة الأجر في أغلبها بل طوعية نظرا لجلبه اهتمام النقاد والملاحظين السياسيين الذين أتيحت لهم فرصة المشاهدة المبكرة للشريط. تدور أحداث شريط "سيريانا" في نسق شديد التعقيد وأسرع بكثير من نسق شريط "ليلة سعيدة، وحظا سعيدا". يلعب هنا كلوني دورا أساسيا في التمثيل الى جانب الممثل المميز والجاد مات ديمون (Matt Damon) (كما تقاسم كلوني مع ديمون إنتاج الشريط) بالاضافة الى الممثل الصاعد جيفري رايت (Jeffrey Wright).
سيناريو الشريط يتكون من أربع قصص متقاطعة. القصة الأولى وهي القصة المحورية تدور حول "بوب" (جورج كلوني) وهو عميل في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (كان يعمل في الثمانينات في المنطقة العربية وتحديدا في بيروت) يعيش مرحلة تدهور قيمة عملاء الوكالة بعد انهيار جدار برلين وضياعهم وسط السياسة الأمريكية المضطربة في المنطقة العربية. يتصف "بوب" بالمشاغبة وخاصة رفضه الصمت على الأداء البيروقراطي في الوكالة ويعيش عبر مراحل الشريط عملية استفاقة تؤدي به لبدء التساؤل عن دوافع أعمال الوكالة خاصة بعد فشل عملية اختطاف "أمير عربي" كُلف بها في بيروت وهو ما أدى الى تضحية الوكالة به والتحقيق معه على أساس أنه مجرم يعمل لحسابه الخاص. ومن خلال "بوب" ينقلنا السيناريو الى مجال الأدوار التي تقوم بها الوكالة في المنطقة وتحديدا تعبيرها عن سياسة مستديمة للادارة الأمريكية في حماية مصالح الشركات النفطية الأمريكية وبشكل يتجاهل مصالح شعوب المنطقة. حيث يتم التركيز على قطر عربي خليجي كبير فيه حقول نفطية واسعة يتجه ملكه، بدفع من نجله "ناصر"، الى محاولة تنويع شركائه النفطيين على قاعدة الكفاءة من خلال التعاقد مع شركات صينية وهو ما أثار حفيظة أحد الشركات النفطية الأمريكية العملاقة المتمركزة في تكساس. ويقوم هنا المحامي الرئيسي للشركة، وهو صديق قديم للملك، بمحاولة التدخل في شؤون العائلة المالكة ودعم الابن الأصغر للملك على حساب نجله لخلافته، حيث يتم تصوير الملك في المراحل الأخيرة من حياته متنقلا على كرسي متحرك، وهو يخضع في النهاية لضغط الأمريكيين ليعين ابنه الأصغر التافه والمقرب من الشركات النفطية الأمريكية وليا للعهد. بالتضامن مع ذلك تشن وكالة المخابرات المركزية حملة على نجل الملك "ناصر" من خلال الترويج لصلاته بـ"منظمات ارهابية" ومن ثمة العمل على اختطافه (و هي العملية التي سيتكفل بها "بوب" ولكنها تفشل) حتى وإن أدى الأمر الى التعاون حتى مع حزب الله اللبناني. في النهاية، في آخر الشريط تنجح وكالة المخابرات المركزية في قتل "ناصر" بصاروخ موجه وذلك في خضم الصراع على الخلافة وبالرغم من سعي "بوب" الى انقاذ الأمير (يموت "بوب" مع الأمير في القصف الصاروخي الى جانب زوجة الأمير وأطفاله).
القصص الثلاث الأخرى تدور حول القصة المركزية حيث تقوم بتوضيح الجوانب الجانبية للصراع. من جهة أولى يتم تصوير مدى الفساد الذي يميز الشركات النفطية الأمريكية حيث يكشف محامي ناشئ (جيفري رايت) للشركة النفطية الأبرز، وهي ناتجة عن عملية دمج كبرى، حجم الفساد المستشري فيها وكيف أن ذلك أداة أساسية لـ"نجاح" الشركة وبدفع من مالكيها. المشهد الرئيسي في هذا الخط الدرامي كلام متهم أساسي في أعمال الفساد سيتم التضحية به لحماية الشركة حيث يصرخ في وجه المحامي الشاب "الفساد هو السبب في أننا ننتصر!". من خلال كواليس الشركة يتم التوغل في الارتباطات المريبة للتروستات النفطية بالدوائر السياسية والاستخبارية الأمريكية حيث تظهر الأخيرة بمثابة الخادمة لمصالح الأولى.
من جهة ثانية يتتبع السيناريو مسار محلل اقتصادي وتحديدا نفطي أمريكي طموح وساذج (مات ديمون) يعيش في سويسرا وقريب من أوساط العائلة العربية الحاكمة، ينتهي الى الاقتراب من "ناصر" والتحول الى مستشاره الاقتصادي. وهنا نرى من خلال المحلل الأمريكي الشاب صورة "ناصر" عن قرب حيث يشير الى امتعاضه من تبعية بلاده للولايات المتحدة ورغبته في تحديثها واستعمال ثروتها النفطية لتحقيق تنمية اقتصادية حقيقية وتذمره من التعامل الظالم في مملكة والده مع المرأة. ويتعرض الشريط الى محاولة "ناصر" تجميع أنصاره ولكنهم يشيرون الى "وجود عشرة آلاف جندي أمريكي" في البلاد، غير أنه يرد بأن هناك من "يرفض الوجود الأمريكي" مثله ومستعد لمواجهته.
وهنا تأتي القصة الرابعة. قصة المهاجر الباكستاني الشاب الى القطر الخليجي والذي يخسر عمله في الحقل النفطي بد شرائه من قبل الشركة الأمريكية العملاقة المتمركزة في التكساس. ليقع تدريجيا تحت تأثير مصري أصولي باسم "عجيزة" يدعوه للقيام هو وصديقه بعملية انتحارية ضد المصالح النفطية الأمريكية وتحديدا حقل نفطي بحري للشركة الأمريكية. وينتهي الشريط بنسق درامي مكثف مباشرة بعد قتل المخابرات الأمريكية للأمير "ناصر" بعملية الشاب الباكستاني من خلال اصطدامه بزورق بالحقل النفطي، حيث يقع تقديمه بشكل رومنسي كأنه مستعد للطيران وهو يقود الزورق المفخخ.
سيناريو الشريط شديد التعقيد وسيجد المشاهد الأمريكي العادي صعوبة كبيرة في تتبع أبعاده الدرامية المختلفة. ويرجع هذا التعقيد الى أن السيناريو قائم بالأساس على رواية (See No Evil) وهي لبوب باير (Bob Baer) وهو عميل حقيقي لوكالة المخابرات المركزية يشبه دوره الحقيقي في بعض الملامح دور "بوب" في الشريط ونقل في روايته معالم حقيقية من تجربته الفعلية. وقد شغل بوب باير مواقع متقدمة في وكالة المخابرات المركزية حيث عمل في الثمانينات في بيروت كما كان لعب دورا متقدما داخل العراق قبل الحرب (من داخل المجال الكردي في الشمال). غير أنه شكك في الحرب الأخيرة وحاول من خلال روايته مراجعة الدور الأمريكي في المنطقة ومسؤوليته في استمرار الاستبداد والفساد و"الارهاب" في المنطقة. ولهذا فقد أحدث وسيحدث الشريط ردات فعل قوية من قبل الأطراف المقربة من الادارة الأمريكية الراهنة المعروفة بقربها من الشركات النفطية ودعمها لعدد من العائلات العربية الحاكمة في الأقطار العربية النفطية. ويطرح في المقابل مراجعة راديكالية للصورة النمطية في الاعلام الأمريكي في علاقة بمصادر الاستبداد في المنطقة. كما أنه يطرح مراجعة للصورة النمطية التي تجعل من المعارضين للوجود الأمريكي معادين للتحديث وذلك من خلال تقديم الصورة الإيجابية لـ"ناصر"، بل بالعكس يشير الى أن تواصل التخلف يرجع للفساد المستشري بتشجيع من المصالح النفطية. من جهة أخرى يقدم الشريط صورة رومنسية للـ"الارهاب" جعلت له أبعادا إنسانية من خلال تتبع صورة الشاب الباكستاني البريئة تقريبا. ولهذا فقد بدأ البعض باتهام كلوني وستيفان قاقان (Stephen Gaghan) مخرج وكاتب سيناريو الشريط بشرعنة "الارهاب".
مهما كانا شريطي كلوني مثيرين للجدل فإنه يستحق الاحترام لجرأته وشجاعته على خرق محظورات سادت أخيرا في المشهد الاعلامي والسينمائي الأمريكي. وأثبت بعد كل ذلك أنه مثقف وليس مجرد نجم سينمائي ثري وفارغ. وأصبح من الواضح أن أكاديمية الفنون لن تستطيع تجاهل الشريطين حيث ستمنحهما في أقل الأحوال الترشيح لجوائز الأوسكار. إن السينما في هذه الحالة تصبح بديلا، ولو بشروطها الدرامية الخاصة، عن الفراغ الذي يمكن أن يتركه الإعلام الإخباري. وفي الواقع هذه الحالة الجديدة بدأت في التكثف منذ مدة ليست بالقصيرة غير أنها عرفت أوجها السنة الماضية مع النجاح الواسع للشريط الوثائقي لمايكل مور "9/11 فاهرينهايت".
الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية
">Link
http://www.middle-east-online.com/?id=35049
0 Comments:
Post a Comment
<< Home