Tuesday, October 04, 2005

الفساد في الكونغرس الأمريكي: حول الفساد و ردعه في مجتمع ديمقراطي

الفساد في الكونغرس الأمريكي: حول الفساد و ردعه في مجتمع ديمقراطي

الطاهر الأسود—باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية
1
اتهم محقق رسمي في ولاية تكساس أواخر هذا الشهر (سبتمبر/أيلول) زعيم الأغلبية الجمهورية بمجلس النواب (House of Representatives) توم ديلاي (Tom DeLay) بخرقه قوانين الولاية (و هو أحد نوابها في مجلس النواب و من ثمة يخضع لقوانينها) في علاقة بتمويل رأس المال الخاص للحملات الانتخابية. و من دون الدخول في تفاصيل كثيرة لقضية معقدة من الزاوية القانونية (كان تعقيدها في الواقع من العناصر الرئيسية للخبر ذاته) يتعلق موضوع الفساد هنا بأكثر ملامح الديمقراطية الأمريكية جدالا، أي العلاقة المشبوهة بين الأوساط المالية و مُنتخَبي الشعب. ففي وجود قوانين غامضة و معقدة تم إقرارها أصلا من مجموعات من المشرعين يوجد بينهم الكثير ممن يرتبط بالمصالح الخاصة فإن عملية الاتهام ذاتها عملية صعبة و تحتاج شجاعة كبيرة من أي محقق رسمي حيث يمكن لأي من هؤلاء أن يراهن على مستقبله المهني بمجرد تسلط الأضواء عليه و على لائحة الاتهام التي يتقدم بها.

و على سبيل المثال فبمجرد أن أعلن محقق مقاطعة ترافيس كاونتي (ولاية تكساس) روني إيرل (Ronnie Earl) عن لائحة الاتهام حتى تعرض الى هجوم معاكس قوي يشكك في نزاهته على أساس أنه ينتمي الى الحزب الديمقراطي. المثير أنه تبين بعد ذلك أن السيد إيرل قد أقام قضايا على مسؤولين ديمقراطيين أكثر بكثير من المسؤولين الجمهوريين في مقاطعته. من جهة أخرى لا يبدو أنه كان سيحفل على كل حال بهذا الهجوم سيما أنه طاعن في السن و لا يبدو أنه يخشى على "مستقبله المهني". بمعنى آخر من غير الممكن ألا نرى أن السيد ديلاي وقع أمام خصم عنيد و مصمم هذه المرة. نقول هنا "هذه المرة" لأن زعيم الأغلبية الجمهورية قد تعرض لأكثر من مرة لاتهامات بالتلاعب بالأموال في مسيرته النيابية (أول اتهام كان سنة 1993) غير أنه نجى من العقاب.

يتمثل ملخص لائحة الاتهام فيما يلي: قام السيد ديلاي بتمرير أموال بقيمة 190 ألف دولار ترجع الى مؤسسات من القطاع الخاص (ما يطلق عليه اختصارا: corporate cash) الى سبعة مرشحين من الحزب الجمهوري الى انتخابات المجلس التشريعي المحلي و ذلك في الانتخابات المحلية لسنة 2002. يُعد ذلك خرقا لقوانين ولاية تكساس بما أنه يؤثر على مسار الانتخاب الحر و يعرض المتهم لحكم بالسجن يتراوح بين ستة أشهر و عامين و بغرامة مالية تصل الى العشرة آلاف دينار. و في الواقع هذه قطرة في بحر من الاتهامات تكثفت منذ السنة الفارطة مما أدى آنذاك الى فتح تحقيق من قبل الكونغرس لديلاي حيث وقع استنطاقه حول أموال بقيمة 2 مليون دولار دفعتها منظمة لرجال الأعمال في التكساس (Texas Association of Business) لصالحه مؤسسات يترأسها.

الآن تبدو المعركة أكثر جدية. من المؤشرات على ذلك استقالة ديلاي من موقعه كزعيم للأغلبية الجمهورية. يأتي ذلك في وزقت يتركز فيه الضغط حول قضايا الفساد داخل الجمهوريين تحديدا. حيث تم في الأسبوع الأخير إثارة ملف زعيم جمهوري آخر و هو (الطبيب و المستثمر في المجال الطبي) بيل فريست (Bill Frist) زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ و الذي يبدو أنه كان على علم بتلاعبات مالية (بملايين الدولارات) في الشركة التي يملك فيها أغلب الأسهم (Hospital Corporation of America) و هي بالمناسبة أكبر سلسلة مستشفيات خاصة في الولايات المتحدة.

2
ليس من الصدفة أن تُثار كل هذه القضايا تجاه مسؤولين كبار من الحزب الجمهوري في نفس الوقت تقريبا. دعنا هنا نتجاوز الحديث العام حول أن "لا أحد فوق القانون" في مجتمع ديمقراطي. الواقع أن وراء هذا التركيز هجوم معاكس منسق من قبل الحزب الديمقراطي بعد خسارته في الانتخابات التشريعية و الرئاسية الأخيرتين. كيف ذلك؟ لا يتعلق الأمر بمجرد انتماء روني إيرل أو غيره من المحققين الى الديمقراطيين. الأمر يتجاوز ذلك: حيث توجد منظمة غير حكومية مختصة يرأسها جملة من الخبراء القانونيين مهمتها الأساسية تتبع قضايا الفساد. يتعلق الأمر بـ"مواطنون من أجل المسؤولية و القيم في واشنطن" (Citizens for Responsibility and Ethics in Washington). و بالرغم عدم ارتباطها رسميا بالحزب الديمقراطي إلا أن أهم خبرائها إما عملوا في السابق في مكاتب لنواب من الحزب الديمقراطي أو تم تعيينهم في منصب رسمية من قبل مسؤولين ديمقراطيين قبل أن يغادروها و يتفرغوا لهذا النشاط غير الحكومي (مثلا ميلاني سلون Melanie Sloan المديرة التنفيذية و ناومي سليقمان Naomi Seligman نائبة المدير). و يتميز هؤلاء في جميع الأحوال بخبرة كبيرة في تتبع قضايا الفساد من خلال المواقع المهنية التي شغلوها في السابق و خاصة بوصفهم محققين رسميين. و لهذا تتميز المنظمة (كما يتم تبيان ذلك في موقعها الالكتروني) بأنها إذا لم تكن المنظمة غير الحكومية الوحيدة التي تعنى بقضايا الفساد السياسي فإنها الوحيدة التي تتعرض لهذه القضية من زاوية قانونية بطريقة تركز على رفع قضايا على المعنيين و تهديدهم بالسجن و ليس مجرد التنديد بهم.

و على سبيل المثال تبدو هذه المنظمة صاحبة الدور الرئيسي في المبادرة بالهجوم على زعيم الأغلبية الجمهورية ديلاي حيث قامت بتجميع وثائق على غاية في الأهمية نشرتها في شكل تقرير قانوني (بمثابة لائحة إتهام غير رسمية) منذ يونيو 2004 و هي التي كانت (أولا) أساسا لفتح التحقيق الرسمي ضده في الكونغرس و (ثانيا) اتهامه رسميا من قبل المحقق روني إيرل. و يبدو أن شهية المنظمة قد تزايدت في الأشهر الأخيرة. حيث أعدت تقريرا مثيرا حول "الثلاثة عشر عضوا في الكونغرس الأكثر فسادا" و الذي عنونته "ما بعد ديلاي" (Beyond DeLay) و هو ما يشير لنواياها في فتح معركة طويلة و كبيرة. و بالمناسبة فإن كون أغلب هولاء الأعضاء من الجمهوريين (11 من ضمن 13 إسما) ليس إلا مؤشرا آخر على الارتباطات الحزبية لهذه المنظمة.

تقرير "ما بعد ديلاي" يسلط الضوء على شخصيات لا تقل شهرة من ديلاي. حيث يبرز إسم روي بلانت (Roy Blunt) و هو الزعيم الجديد للأغلبية الجمهورية في مجلس النواب بعد إستقالة ديلاي. ففي علاقة بالأخير يذكر التقرير مثلا: تزوج بلانت سنة 2003 (بعد إنهاء زواج سابق دام حوالي 30 سنة) من أحد المسؤولين الرئيسيين للوبي الشركة الكبيرة فيليب موريس (Philip Morris) و التي غيرت اسمها الآن الى ألتريا (Altria). و لم يكن ذلك مجرد حدث اجتماعي عادي حيث أصبحت الشركة المعنية من الممولين الرئيسيين للحملات الانتخابية لبلانت من خلال تقديمها لمبالغ بقيمة 270 ألف دولار لمنظمات مرتبطة به. أكثر من ذلك فإن إبن بلانت (الذي لم تمر سوى أربع سنوات على تخرجه من كلية القانون) تم انتدابه للقيام بالدفاع عن لوبي الشركة. إبن بلانت مرتبط أيضا بلولي الشركات الخاصة للبريد مثل (FedEx) و (UPS)، حيث يذكر التقرير أنه في الوقت الذي ساعدت فيه هذه الشركات حملة بلانت الانتخابية لسنة 2001 بقيمة 58 ألف دولار فإن بلانت (بوصفه عضوا في مجلس النواب) قد قام بناءا على طلب منها بإدخال تغيير أساسي على أحد القوانين التي تم تشريعها في علاقة بإحتلال العراق: حيث تم منح احتكار حق النقل البريدي الى العراق أساسا الى "الشركات الأمريكية" الخاصة (و هي تحديدا الشركتين أعلاه) بعد أن كانت هناك نية لمنح نسبة مئوية صغيرة لشركات أجنبية (بعضها منافس للشركتين اعلاه و نعني بذلك DHL). الأمور لا تتوقف عند هذا الحد حيث يذكر التقرير مسائل أخرى كثيرة (رحلات مجانية و غيرها). كل هذه المعطيات توفر أسس لرفع قضايا تتعلق بالفساد و ذلك بناءا على نصوص قانون فيدرالي "يمنع المسؤولين الرسميين من طلب أو تلقي أو الموافقة أو قبول بشكل مباشر أو غير مباشر على أي شيئ ذي قيمة مقابل تأثر أدائهم في علاقة بعمل رسمي". و تكشف قائمة الخروقات لأسماء أخرى كبيرة من الكونغرس (مثل الجمهوري راندي كانينغهام Randy Cunningham) الواردة في التقرير حجم إرتهانهم بالمصالح الخاصة و الخطر الذي يشكله ذلك على أداء المؤسسة التشريعية.

3
طبعا يمكن للبعض أن ينظر الى كل ذلك على أنه دلالة على "أن المجتمع الأمريكي فاسدا" في الجملة أو على أنه "لا يقل فسادا عن مجتمعات عالمثالثية". لكن تلك استنتاجات مبالغ فيها. يرجع ذلك لسبب أساسي: توفر بنى سياسية و قانونية تتيح إمكانية ردع الفساد و الفاسدين في أي مجتمع ديمقراطي. إن ذلك يعني خلاصة أساسية من جزئين يمثلان توضيحا لبعض الأوهام: (أولا) ليس المجتمع الديمقراطي مجتمعا مثاليا خاليا من الفساد. يخطئ البعض في دول الجنوب التي لا تزال تعيش تحت أنظمة دكتاتورية عندما يعتقدون أن سبب الفساد هو الأنظمة الشمولية. ليس هناك الآن أي نموذج واقعي تختفي منه ظاهرة الفساد بشكل مطلق سواء كان ذلك مجتمعا ديمقراطيا أم لا. كما أن الفساد ليس مرتبطا حصرا بنظام اقتصادي معين (الرأسمالي) حيث أثبتت التجربة الشيوعية ذلك بالممارسة. (ثانيا) ليس المشكل في وجود الفساد بل في إمكانية ردعه. فحيثما توفرت إمكانية ردعه أمكن التقليص منه بشكل لا يقارن مع تلك الظروف التي يستحيل فيها الردع. إن أحد الاختلافات الجوهرية بين نظام ديمقراطي و آخر شمولي هي غياب آلية الردع الفعلي. فكما ذكرنا أعلاه لا تتيح القوانين المجردة إمكانية الردع بقدر ما يتيحها وجود توازنات سياسية لا تسمح باحتكار الحياة السياسية: إن المتنافسين السياسيين هنا يقومون بفضح بنى الفساد في خضم التنافس على الحظوة الشعبية. كما يصبح ذلك متاحا طبعا في ظل وجود صحافة حرة (تتحكم فيها أيضا مصالح و مواقف متعاكسة). لا توجد بنى و أدوات الردع في المجتمعات غير الديمقراطية: ذلك وحده يجعل المقارنة بين الفساد في الظرفيتين غير ممكن.
First Published 2005-10-04, Last Updated 2005-10-04 16:09:24
">Link
Link

2 Comments:

Blogger Unknown said...

Vous avez un blog très agréable et je l'aime, je vais placer un lien de retour à lui dans un de mon blogs qui égale votre contenu. Il peut prendre quelques jours mais je ferai besure pour poster un nouveau commentaire avec le lien arrière.

Merci pour est un bon blogger.

7:53 AM  
Blogger Unknown said...

Congratulations. Extremely amazed with the quality of the content offered. I have high hopes that you continue with the exceptional job achieved.
fort lauderdale locksmith
Locksmith in Opa Locka
Locksmith Hayward CA
Locksmith Milpitas CA
Locksmith Newark
RedwoodCity locksmith
pembroke pines fl locksmith
locksmith irvine ca
locksmith fort worth
locksmith Aventura FL
plano locksmiths
irvine locksmiths
locksmith fort worth
miami beach locksmith
locksmith miami beach fl
pembroke pines locksmiths
irvine locksmiths
locksmith plano texas
pembroke pines locksmiths
miami beach locksmith
locksmith aventura
miami beach fl locksmith
hialeah locksmiths
locksmith fort worth
miami fl locksmith
locksmith aventura
Atlanta Locksmith

4:59 AM  

Post a Comment

<< Home