مرة أخرى... في ماهية المقاومة العراقية: حول التيار القاعدي وحتمية منهجه الطائفي
مرة أخرى... في ماهية المقاومة العراقية: حول التيار القاعدي وحتمية منهجه الطائفي
بقلم: الطاهر الأسود
فصائل المقاومة العراقية تميز موقفها بعيدا عن المعركة الطائفية التي يشنها تنظيم الزرقاوي.
ميدل ايست اونلاينأعلن التيار القاعدي من خلال فرعه العراقي (أو في "بلاد الرافدين" كما يفضل هؤلاء تعريف العراق، أي كمجال جغرافي فضفاض بدلا عن وحدة سياسية/وطن) "حربـ(ـه) الشاملة على الشيعة الروافض". لكن لماذا أحدث هذا الإعلان هذه الضجة كأنه حدث غير مسبوق؟ ربما لأن هذه المرة كان الإعلان جزءا من حملة منسقة كأنها حملة دعائية لمنتوج جديد، حيث، وعلى أنغام التهديدات النمطية للزرقاوي، تم إقتراف مجزرة غير مسبوقة (كميا) في حق عمال بناء "روافض" في ساحة الكاظمية؟ غير أنه سنغالط أنفسنا إن قلنا أنها المرة الأولى "التي يقترن فيها القول بالعمل" بالنسبة لـ"قاعدة بلاد الرافدين" في علاقة تحديدا بتصفية الشيعة لأنهم شيعة. فطوال الأشهر الأخيرة تبارى الكثير من الإعتذاريين المتوترين من قصورهم العاجية في تكذيب طوعي لتورط القاعديين في العراق في أعمال تفجيرية ضد مواقع تشهد تجمعا للطائفة الشيعية (مساجد، ساحات عامة وأسواق...). المشكل أن لا أحد من هؤلاء كان على استعداد جدي للاطلاع على (و بالتالي الاعتراف بـ) الفظاعات الفقهية التي لم يكن الزرقاوي أو أي من "رؤساء لجانـ(ـه) الشرعية" يعمل على إخفائها بل كان لا يتواني في الترويج لها بكل حماس وهي التي تروج بوضوح صبياني لاستهداف الشيعة (هكذا) لأنهم... شيعة/"روافض" ومن ثمة الدعوة الصريحة لترجمة تلك "السياسة الشرعية" الى ممارسات فعلية.
في هذا المقال سنتعرض للمسائل التالية: (أولا) كنا أشرنا في مقال سابق ("حول القاعديين في العراق وماهية المقاومة العراقية" القدس العربي 25 تشرين الأول/أكتوبر 2004) الى أن هناك ضبابية وغموضا في ذهنية جزء كبير من فصائل المقاومة العراقية بما فيها القوى السلفية العراقية (والسلفية العراقية كما كنا أوضحنا مختلفة في حساسيتها لخصوصية الوضع العراقي عن السلفية الوهابية/القاعدية والتي نشأت في ظروف سابقة وبعيدة عن ظرفية إحتلال العراق) حيث تم الخلط بين إنخراط القاعديين في المواجهة العسكرية مع الاحتلال وبين أن هؤلاء القاعديين هم جزء من المشروع السياسي للمقاومة الوطنية العراقية أي تحرير العراق. هذه مناسبة، إذا، للتذكير بالأسباب التي لا تجعل من الممكن اعتبار القاعديين في العراق جزءا من المقاومة. (ثانيا) سنحاول رصد أي متغيرات في مواقف الأطراف السلفية العراقية وبقية الأطراف الوطنية في علاقة بغموض رؤيتها وتقييمها للتيار القاعدي. (ثالثا) سنحاول التركيز على خطاب إعتذاري يشق الكثير من الأوساط "المثقفة" العربية تتجه نحو "الطلبنة" (التحول الى مساندين لفكر وسياسات حركة طالبان أي عمليا التيار القاعدي) والدفاع بشكل أخرق عن فظاعات ("انجازات") القاعديين وفي أحسن الأحوال النظر إليها كـ"أخطاء": فهل أن هذه "الانفلاتات الطائفية" تعبير عن "أخطاء" ظرفية غير مقصودة أم أن الأمر يتعلق، كما نعتقد، بنتيجة حتمية لبرنامج ومنهج التيار القاعدي بشكل عام؟
لماذا لا يمكن للقاعديين أن يكونوا جزءا من المقاومة؟
لم تكن المرة الأولى التي يعبر فيها قيادي رئيسي في التيار القاعدي مثل أبو مصعب الزرقاوي عن أنه في حرب ضد الشيعة (الروافض) وأن هناك "مؤامرة على أهل السنة والجماعة" من قبل الأولين. لم تكن هذه المرة الأولى التي يُعرف فيها التيار القاعدي المواجهة في العراق على أنها، في النهاية والجوهر، "مؤامرة" مذهبية/عقائدية بدلا عن أنها، كما هي في الواقع، احتلالا أجنبيا لوطن اسمه العراق. سنعاود هنا استعراض مجموعة من المعطيات الواردة في مصادر التيار القاعدي في العراق وذلك بشكل يسبق الهجمة الأمريكية الطائفية على مدينة تلعفر وغيرها من المدن العراقية، وذلك لنؤكد على أن (وعلى عكس ما ذهبت اليه بعض التحاليل والبيانات بما في ذلك بيان "هيئة علماء المسلمين" والتي رأت في خطاب الزرقاوي وتفجيراته هي بالفعل كما يقول "ثأرا" لمعركة تلعفر وبالتالي هو تعبير عن موقف طارئ وجديد) موقف القاعديين في علاقة بمسألة الشيعة ليس "رد فعل" على ممارسات "الحكومة" الطائفية (الموالية لإيران) بل موقف يسبق قدوم هذه "الحكومة" وسياستها الطائفية. ما يلي أهم هذه المعطيات:
- كان أبو أنس الشامي "مسئول اللجنة الشرعية لحركة التوحيد والجهاد" (قبل أن تصبح "تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين") والذي بقي كذلك حتى مقتله في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2004 "منظر" التيار القاعدي والمعبر الأساسي عن تفاصيل رؤاه الفقهية. ويمكن الانتباه الى رفضه للاعتراف يوجود وطن عراقي حتى من خلال المصطلحات المنتقاة بعناية في خطابه. فعلى سبيل المثال رغم أن العراق هو البلد الذي يتعرض للاحتلال ورغم أن العراقيين هم أصحاب القضية الأولين ومن ثمة كل من يدعمهم سيكون من المناصرين لهم أو من أنصارهم، فإن الشامي يرى أن القاعديين القادمين من خارج العراق يجب اعتبارهم بمثابة "المهاجرين" (أصحاب القضية الأولين عمليا) بينما يجب اعتبار العراقيين من "الأنصار" وهو ما يعني أن المعركة في الأساس بين الولايات المتحدة وتنظيم القاعدة وليس العراق سوى المجال الجغرافي الذي اتفق عليه الطرفان للمنازلة. من مثل هذه التفاصيل غير البارزة تبدأ عملية تحريف الوقائع وتشويه طبيعة الصراع في العراق من صراع من أجل التحرر الوطني الى صراع مركزه استهداف التيار القاعدي وما يمثله من خصوصيات مذهبية وسياسية لا تعبر بالضرورة عن عامة الأمة. وفي معرض وصفه لمعركة الفلوجة الأولى (أبريل/نيسان 2004) والتي كان من المشاركين فيها يكشف الشامي عن تقييمه المعادي لفصائل من المقاومة العراقية وتحديدا تلك التي تصف نفسها بـ"الإسلامية الوطنية" ويعني بذلك أطرافا عراقية متأثرة بحركة الاخوان وامتداداتها العسكرية الوطنية وخاصة حركة حماس الفلسطينية. ويتخذ موقفا عدائيا حادا ضد الأخيرة وامتداداتها العراقية حيث يهاجم "عقيدتها الفاسدة" وتحديدا فيما يتعلق بجمعها بين الاسلام والوطنية (يصل في استعداء حماس الى حد اعتبار عملية إغتيال الشيخ ياسين المتزامنة مع معركة الفلوجة الأولى بأنها مجرد مؤامرة لصرف الأنظار عن الحرب في الفلوجة). وفي الواقع ليس هذا الموقف المعادي للمسألة الوطنية (ومن ثمة مسألة التحرير الوطني) من الأساس معزولا عن موقفه من الشيعة. ففي أحد شرائطه الصوتية تم تبني التيار القاعدي لعملية إغتيال الزعيم (الطائفي) لمجلس الثورة الإسلامية باقر الحكيم. ففي إطار تبنيه تلك العملية (والتي ينسب تخطيطها وتنفيذها لعراقي يدعى "الحاج ثامر") يتعرض الشامي لمسألة الموقف من الشيعة. حيث يرد على المواقف التي تتهجم على التفجيرات التي يمكن أن تذهب بحياة أبرياء خاصة وأن عملية إغتيال الحكيم العشوائية قد أودت بحياة أكثر من 70 عراقيا بأنه يجب تكفير موقف أئمة "الروافض" ولكن لا يمكن ضمان تفادي التعرض لـ"عامتهم" طالما أنهم في حضور أئمتهم. وينتقل من ثمة لتبرير القتل العشوائي تحت مبرر فتوى "التترس" المشهورة والتي تبرر على كل حال قتل أي كان سنيا كان أو شيعيا طالما صادف حضوره مع حضور من قرر القاعديون تصفيته ولا يهم إن تعلق الأمر بأطفال ونساء أو بمجرد عابري سبيل. المهم في كل ذلك أن الشامي يركز على استعداء "الروافض" في إطار رؤية عامة تركز على أن "المستهدف" الأساسي في المعركة الراهنة في العراق هم "أهل السنة والجماعة" لا غير وذلك من خلال مؤامرة "رافضية-صليبية" وبالتالي لا يعتبر الشامي أن المستهدف هو العراق بشيعته وسنته وهو ما يعنى ضرورة أن المعركة ليست من أجل تحرير العراق بقدر ما هي "تحريره" من شيعته (حول تفاصيل أكثر ومصادر هذه الآراء يمكن الإطلاع على مقالنا المذكور أعلاه).
- لم تكن مواقف أبي أنس الشامي معزولة عن مواقف أميره الزرقاوي. ففي ورقة بعنوان "من وصايا المجاهدين" للأخير (ترجع للفترة التي كان فيها الشامي "مسئول اللجنة الشرعية") يتعرض بوضوح الى موقفه الرافض قطعيا لأي نزعة لتقوية الروابط مع أئمة "الروافض" (يندد مثلا بمحاولات مماثلة لهيئة علماء المسلمين في علاقة بالامام الشيعي ذي المواقف الوطنية جواد الخالصي ويصفها بـ"المذلة"). كما أنه ليس للزرقاوي أية شكوك في أن المعركة في العراق (كما يصفها بالحرف) تهدف الى "إستئصال أهل السنة والجماعة" لا غير. وهو ما يعني أن الشيعة هم بالضرورة جزء من العدو وليسوا جزءا من الوطن. حيث ليس في الخريطة الذهنية للزرقاوي والقاعديين وطن، هناك فقط مجال "أهل السنة والجماعة". إن مفاهيم الوطنية والعروبة ليست بهذا المعنى متجاهلة فحسب بل هي مستهدفة للإستئصال في الرؤية القاعدية. إن مواقف الزرقاوي كانت دائما صريحة في علاقة بهذا الأمر وربما الى حد يفوق رغبة بقية قادة التيار القاعدي وهو ما أثار قلق حتى معلمه وإمامه أبي محمد المقدسي والذي عبر في تصريحات أخيرة عن تبرئه من مواقف الزرقاوي وتحديدا فيما يتعلق بـ"تكفير عامة الشيعة"، وهو موقف إلتوائي يعني آليا تكفير أئمة الشيعة وهو ما يشكل في النهاية إلتقاء مع الزرقاوي، وكذلك أحد تمظهرات الرؤية الطائفية للتيار القاعدي بشكل عام.
ليس موقف "الحرب الشاملة على الروافض" موقفا طارئا أو معزولا أو ناتجا عن سياسة "الحكومة" الطائفية. إن الزرقاوي دقيق في عباراته: لا يتعلق الأمر بمجرد إعلان الحرب على "الروافض"، حيث أنه قام بذلك من قبل، يتعلق الأمر هذه المرة بـ"حرب شاملة"، أي الى تحول "الروافض" الى عدو يستحث تركيزا قتاليا ملحا. إستهداف عامة الشيعة وليس أئمتهم فحسب هو كذلك فكرة قديمة. الجديد هو تحولها الى سياسة لا تمارس فحسب بل أيضا سياسة معلنة للملأ. لم يعد هناك شك، لأن الزرقاوي لم يترك فعلا مجالا للشك، بأن التيار القاعدي موجود في العراق لخوض حرب طائفية وليس تحريرية. وفي الحقيقة ليس من الصعب في ظل هذا الصفاء غير المسبوق للمشهد السياسي في العراق مشاهدة علامة مميزة لمعركة التحرر الوطني العراقية تحدد على ضوئها صف (أو "فسطاط" كما يحلو للقاعديين القول) المقاومة بشكل لا غبار عليه: إن مشروع الاحتلال في نفس الخندق (والتحالف) الموضوعي مع المشروع الطائفي. وإن يتجسد ذلك في التحالف الواعي والمعلن بين مؤسسة الاحتلال ومؤسسة "الحكومة" الطائفية التابعة للمصلحة القومية الإيرانية، فإن المشروع القاعدي يحمل ذات الصفات. وهكذا فلإن إستدامة الاحتلال مرتبطة بشكل حيوي بتقسيم العراق وتحويله الى كانتونات طائفية فإن أي حركة طائفية هي بالضرورة حركة موالية للاحتلال حتى ولو اعتقدت واعتقد الاحتلال غير ذلك. وفي الواقع سيكون من المفاجئ ألا يرى الأمريكيون المصلحة من بقاء و"صمود" قاعديي "بلاد الرافدين". يكفي أن التيار الصدري والذي يمثل بارقة الأمل الأساسية في الصف الشيعي لتكوين جبهة وطنية تقود سياسيا العمل المقاوم قد ظهرت من بين قادته أصوات تنادي بـ"الثأر" كما تقوم بالتنسيق مع "وزارة الداخلية" (التي لطالما هاجم عناصرها وهي ليست أكثر من ميليشيات من نوع "فيلق بدر"، أنصار مقتدى الصدر) لأجل "حماية الأحياء والمدن الشيعية". وطبعا لا يمكن أن يوجد من تناغم طائفي أكثر من تردد صدى صوت الزرقاوي وحربه الشاملة لإنقاذ "أهل السنة" (وطبعا ليس العراق هو المعني بالإنقاذ) تردد صدى صوته، إذا، في صوت القبانجي (عضو "مجلس الثورة الاسلامية") والذي كرر حكمته الأزلية بأن ما يجري هي حرب لـ"استئصال أهل آل البيت". لا يمكن أن تكتمل الجوقة من دون استذكار تصريح رامسفيلد قبل أشهر قليلة والذي أكد فيه بأن "لا دخل للولايات المتحدة فيما يجري في الشرق الأوسط" وبأن الصراع في المنطقة هو مجرد امتداد لـ "حرب أزلية" بين الشيعة والسنة.
إن المقاومة في العراق هي بالضرورة مقاومة وطنية. لكنها لا تكتسب وطنيتها بمجرد الفعل العسكري بقدر ما تكتسبه من ناحية الطبيعة السياسية لذلك الفعل العسكري. ولأن الفعل العسكري المقاوم لا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا قاوم مبدأ وجوده أي واقع الاحتلال ومشروعه، ولأن واقع الاحتلال ومشروعه في العراق يعني تصفية الدولة الوطنية (عمليا عبر انتهاك السيادة عبر الانتصاب العسكري أو "دستوريا" عبر مشروع الفيدرالية)، ولأن تصفية الدولة الوطنية يعني العمل على تصفية الأساس الواقعي للدولة أي وطن العراق، لأجل كل تلك المقدمات لا مناص من الاستنتاج الموالي: كل عمل عسكري لا يستهدف تحرير العراق وإستعادة الدولة الوطنية بل على العكس يستهدف تقويض كيان الدولة الوطنية هو عمل عسكري يصب في مشروع الإحتلال ولازمته الأساسية في الحالة العراقية أي تصفية الدولة الوطنية. وبالتالي لا يمكن لمقولة (المقاومة في العراق هي بالضرورة مقاومة وطنية) أن تكتسب معنا واقعيا (ولا تبقى بالتالي مقولة منطقية تجريدية) إلا إذا تم الإقرار بمشروطيتها بمقولة أخرى: كل فعل عسكري لا يستهدف التحرير الوطني ليس مقاومة. عندها فقط يصبح تقييم المقاومة وتعريف ماهيتها الواقعية (لا الهلامية) ممكنا.
ربما يرغب البعض أن يعتبر التيار القاعدي جزءا من المقاومة. لكن ذلك لا يعدو أن يكون تمنيات غير مبررة واقعيا. بينما مشاركة القاعديين المقاومة الوطنية العراقية في مواجهة الاحتلال لا يمكن أن ينفي تماهي مشروعهم مع مشروع الإحتلال: إلغاء الدولة الوطنية. بالأحرى تصبح المسألة التي في حاجة الى تركيز ما يلي: لا يطرح مشروع القاعديين (والأهم من ذلك ممارستهم) دلائل عن علاقتهم بماهية مشروع المقاومة الوطنية بقدر ما يطرح دلائل عن علاقتهم بماهية مشروع الاحتلال.
إعادة نظر فصائل المقاومة في القاعديين؟
كان تأثير دوي صوت الزرقاوي الطائفي بامتياز والمرافق لدوي تفجيراته العشوائية في الكاظمية والحسينيات الشيعية قويا الى حد لم يكن من الممكن لفصائل المقاومة أن تتغافل عنه. وفي الواقع كان موقف المقاومة العراقية باختلاف فصائلها في السابق يتميز بالتشوش في علاقة بالموقف الذي يجب اتخاذه من القاعديين. وانعكس ذلك التشوش من خلال التخبط بين إنكار حقيقة وجود الزرقاوي أصلا الى اعتباره ضمنيا "جزءا من المقاومة". غير أن الطابع المميز لكل المواقف كان تجنب التعرض بشكل صريح للتيار القاعدي كما هو ممثل في العراق تحديدا في تنظيم الزرقاوي. فهل بدأ هذا التغافل في التبدد بعد كل الذي حدث؟
يمكن القول أن فصائل المقاومة والهيئات المقربة منها بدأت: (أولا) التعامل بشكل صريح ومعلن مع ظاهرة التيار القاعدي، (ثانيا) جزء هام منها بدأ يعلن عن نوايا واضحة في القطيعة الكاملة معه على أساس الوعي بمنهجه الطائفي المعادي لمشروع تحرير العراق.
كان أول المواقف ولكن أقلها حسما موقف هيئة العلماء. ففي حين وجه البيان انتقادا واضحا لموقف وعمليات الزرقاوي وتقويضا دقيقا للأسس الفقهية لرؤيته على أساس بعدها العشوائي ("لاتزر وازرة وزر أخرى") ولكن أيضا وخاصة على أساس بعدها الطائفي الذي يقوض "الوحدة الوطنية" العراقية، بالرغم من كل ذلك حرص بيان الهيئة على إبقاء شعرة معاوية مع القاعديين من خلال توصيف بيانهم بمثابة "النصيحة". غير أنه من الضروري التركيز هنا أن الهيئة بوصفها إطارا رئيسيا لجزء شديد الأهمية من السلفيين العراقيين تعكس قلقا جديا وتبرما حقيقيا ربما يؤدي (ويجب على كل حال أن يؤدي) الى قطيعة ضرورية بين سلفيي العراق وسلفيي القاعدة لمصلحة مشروع تحرير العراق. من مؤشرات مواقف الأئمة السلفيين العراقيين موقف أبرزهم إمام جامع "أم القرى" الشيخ مهدي الصميدعي في خطبة الجمعة (16 سبتمبر/ايلول) والتي دان فيها بقوة كل الهجمات الطائفية بما فيها مجزرة الكاظمية وركز كذلك بوضوح على أن المرجعية الرئيسية يجب أن تكون الدفاع عن وحدة الكيان الوطني العراقي واستقلالية قراره.
من جهة أخرى كان موقف فصائل المقاومة فوريا وحاسما. من الضروري استعراض قائمة الفصائل التي أصدرت بيانا موحدا يندد بموقف الزرقاوي: "الجيش الاسلامي"، "جيش محمد"، "كتائب القعقاع"، "جيش مجاهدي العراق"، "جيش الناصر صلاح الدين". وجاء فيه بشكل واضح أن "المجموعات المجاهدة العراقية تعارض ما جاء بدعوة الزرقاوي قتل الشيعة بصورة عامة وانها في حل من تلك الدعوة... هدف المقاومة هو توجيه ضربات عسكرية إلى الاحتلال وأعوانه في العراق لا غير وما الدعوة إلى قتل الشيعة بعامتهم إلا نار تحرق العراقيين سنتهم وشيعتهم على السواء". يضاف إلى ذلك بيان (نشرة 24) موقع باسم "القيادة الموحدة للمجاهدين" بعنوان بارز "يتحرر العراق بالعراقية لا بالطائفية" هاجم فيه بشدة ووضوح ما أسماه "منظمات لها فروع في الأقطار، تعلن الحرب على المستعمرين، ولكنها لا تمس مصالحهم وطائراتهم واقتصادهم، بل تحارب بالأشرطة الموسمية... يتكلمون باسم الإسلام لتحرير العراق، ثم يفجروا قنابل الطائفية، التي هي الهدف الأمثل للمحتلين؟... إذن، هناك شكوك يراد لها تفسيرا، هل الفروع معنا أم ضدنا؟ إن أهم القواعد السياسية للمنظمات الوطنية في العالم هي مدى الأعمال، والنتائج، لتحطيم النفوذ اليهودي والأمريكي في القارات، مهما كانت تلك الأهداف والمصالح، وغير ذلك كله هراء!!... أخيرا نقول أن العراق للعراقيين، ولن يحكمه ويفهمه إلا العراقيين، ولن يحميه غيرهم، ولا نرجو خيرا من حكومات العرب، مطية الغزاة، وشريكة في الجرائم، منذ ثلاثين سنة، وكل شعب عليه أن يحرر نفسه. أما القيادة الموحدة للمجاهدين بفصائلها، فتؤكد لكل العراقيين بأن تحرير العراق سيتم بأذن الله، بالروح العراقية وليس بالطائفية!!"
استعراض أسماء فصائل المقاومة أضحى ضروريا خاصة وأن الحملة الاعلامية التي ترغب في إعادة تصوير المقاومة في إطار التيار القاعدي بصدد التزايد. الأكثر من ذلك يتم الترويج الى ذوبان فصائل المقاومة في تنظيم الزرقاوي (و هو ما انعكس مثلا في خروج عدد من الصحف البريطانية مباشرة إثر تفجيرات الكاظمية بتقارير تؤكد إمساك الزرقاوي "بالقيادة التكتيكية لغالبية فصائل المقاومة في بغداد والرمادي"). وهذا طبعا يندرج في إطار سياسة الاحتلال في الهروب الى الأمام من خلال إذكاء الأجواء لحرب أهلية وبالتالي إحباط مشروع المقاومة.
إن موقف حزب البعث بوصفه الطرف السياسي المنظم والمعلن الوحيد الذي له حضور بارز ومستمر في المقاومة في غاية الأهمية. حيث طالما تغاضى الحزب عن تنظيم الزرقاوي عدا بعض الاحتكاكات الظرفية (مثل الرد على بيان للزرقاوي أعلن فيه مبايعة عزت إبراهيم له). وفي الواقع فإن الكثير من فصائل المقاومة المذكورة أعلاه يعُتقد أن لها علاقة مباشرة بحزب البعث. غير أن الأخير أصدر بيانا واضحا خاصا بموقف الزرقاوي، أبدى فيه أكثر المواقف البعثية الرسمية وضوحا في علاقة بتقييم المشروع القاعدي في العراق حيث ذكر أن "ما تنشده المقاومة الوطنية المسلحة في العراق هو دحر المحتل الأميركي ومنعه من تنفيذ مخططاته في العراق وفي دول اسلامية وعربية أخرى والدعوة إلى قتل الشيعة الذين يقف السواد الأعظم منهم مع المقاومة العراقية وينخرط شبابهم في صفوفها لتكبيد العدو الأميركي الخسائر المتتالية والهزائم على أرض العراق، انما هي دعوة لقتل العراق واجهاض مشروعه التحرري الوحدوي".
لكن هذا الإجماع السياسي ضد مشروع التيار القاعدي في العراق جاء متأخرا بعض الوقت ولو أن شيئا لم يفت. ومن الواضح أن صمت فصائل المقاومة على التيار القاعدي كل هذه الفترة يعكس توهمها بأنه جزء من المقاومة. ومن الواضح أنها كانت على علم بالممارسات والمواقف الطائفية لتنظيم الزرقاوي أكثر ربما من أي طرف آخر بفعل احتكاكها المباشر بالواقع العراقي وعمق جذورها فيه. وهي بالتالي لم يكن يجب أن تنتظر كل هذا الوقت لتكتشف ما كان باديا وواضحا منذ البداية أي المشروع الطائفي للقاعديين. إن المعضلة الأخرى الآن هي إمكان تناسي فصائل المقاومة لموقف الزرقاوي والتغاضي عنه في حال قيام القاعديين بتراجع تكتيكي مؤقت حتى من خلال الممارسة وليس بالضرورة الموقف الرسمي (أي من خلال التوقف عن "الحرب الشاملة" مؤقتا من دون التراجع المعلن عن ذلك).
لقد أصبح من الواضح أن استمرار وتطور مشروع المقاومة رهين بشكل حيوي ومصيري بالقطيعة مع التيار القاعدي. فكلما تمت القطيعة مع الأخير وبالتالي مع مشروعه العقائدي والسياسي تم التقارب مع الفصال الشيعية المقاومة ومن ثمة يتم التوجه نحو تحقيق الشرط الرئيسي لـ"جبهة وطنية" عراقية: أي إطار يضم كل العراقيين بجميع طوائفهم الدينية والعرقية. إن "جبهة وطنية" عراقية غير ممكنة التحقق بالضرورة في حال استمرار التنسيق أو حتى التساهل مع التيار القاعدي. هذه حقيقة تفرض تحويرات ميدانية مؤلمة لكنها حتمية لتوسع أفق المقاومة وتحقق أهدافها. الأفق البديل لذلك هو بلا شك الحرب الطائفية الأهلية ومن ثمة استمرار الاحتلال وهو ما يعني انتعاش الأطراف الطائفية بمختلف مشاربها.
حول "المُطلبَنين" من المثقفين العرب
إذا كانت الأخطاء السياسية لفصائل المقاومة العراقية في علاقة بتقييمها للتيار القاعدي مبنية على الأقل على حسن نية من يضحون بالغالي والنفيس لتحقيق الهدف الأسمى أي تحرير بلادهم فإن مواقف بعض "المثقفين" العرب الاعتذارية والتبريرية للتيار القاعدي ليس لها بالتأكيد أي مبرر أخلاقي أو عملي، بقدر ما هي تهويمات مجموعة من المتوترين والمعزولين الذين يهومون في أبراجهم العاجية البعيدة عن رمضاء الممارسة ونار الواقع.
النماذج كثيرة ومتنوعة. من بين الأمثلة المعبرة عن المفارقات (كتشرذم الخطاب بين نزعة حداثية وأخرى اعتذارية للتيار القاعدي) التي يمكن أي يعيشها المثقف العربي على عتبة هذه المرحلة التاريخية الجديدة مقال بعنوان "ما الذي تحقق للجهاديين من حروبهم؟" بتوقيع "د. ديرار عبد السلام- باحث في سوسيولوجيا التحديث من المغرب" وذلك في عدد 25 تموز/يوليو 2005 من صحيفة القدس العربي. يبدأ الكاتب مقاله بالإعلان عن جاهزية "القول العلمي (الموضوعي)" في تحليل ظواهر مثل التيار القاعدي (يسميهم بشكل منتظم بـ"الجهاديين") منددا بـ"السكوت" (؟!) المخيم حول الظاهرة، وهكذا فإن السيد ديرار هو أول من سيبادر (علينا أن نضيف "و بكل تواضع") بخرق هذا الصمت بل واستعمال "القول العلمي" و"حسا تفكيكيا عاليا"في ذلك. وبالرغم من أن الكاتب قد التزم لا بتمجيد القاعديين ولا بشتمهم، فإن نتائجه "العلمية، الموضوعية، المحايدة" قد انتهت للحديث فقط عن "انجازاتهم" (يسوي الكاتب هنا بدون مبرر "علمي" بين الدلالة الاصطلاحية الإيجابية لهذا المصطلح والدلالة المحايدة لمصطلحات أخرى مثل "الآثار"، طبعا يجب أن نضع ذلك في إطار "قوله الموضوعي").
يتحدث الكاتب عن خمس "انجازات" أو "نجاحات". أولا، نجاح "لم يكتب لغيرهم النجاح فيه" حيث، يقول السيد ديرار، حولت هجمات 11 أيلول/سبتمبر أمريكا والغرب عموما من مجتمع ديمقراطي (يستعمل هنا معقفين حيث لا يبدو الكاتب جاهزا للإقرار بالوجود الفعلي للمجتمع الديمقراطي في الغرب، وهذا لا يمنعه على كل حال من وصفه في فقرة لاحقة بأنه مجتمع "ينعم بالحريات وتتعايش فيه الأجناس والديانات")، إذا، الى مجتمع "تُصادر فيه كل الحريات". على ماذا يعتمد الكاتب في حكمه المسطح والاطلاقي؟ على وقائع؟ لا بل على استشهاد إطلاقي مماثل "شديد الدلالة على ما آلت إليه الأمور". من جهة أخرى يقع توصيف الأمور في نفس الوقت بشكل ليس إطلاقيا حيث يقول في فقرة أخرى في نفس المقال أن الديمقراطية الأمريكية عرفت "نكوصا كبيرا" نتيجة قانون الوطنية (في نهاية الأمر ليس "كل الحريات" وقع مصادرتها لحسن الحظ). هل علينا هنا أن نتعود على ماذا يمكن أن يحصل عندما يستعمل السيد ديرار "القول العلمي"؟ نرجع للنقطة الأساسية هنا. أي باحث يعتمد "القول الموضوعي" (وهذا يعني الأخذ أساسا بالوقائع وليس بما يمكن أن تنوي أو ترغب أن تقوم به فئات نكوصية في أي مجتمع غربي) يمكن له أن يرى أنه رغم كل القوانين والاجراءات الأمنية الجديدة في الولايات المتحدة فإن نظام الحريات الاساسية لم يُمس: أي متتبع للانتخابات الرئاسية الأخيرة على سبيل المثال (على الأرض وليس من المغرب) يمكن له أن يرى الحيوية الديمقراطية التي تميز المجتمع الأمريكي مثل غيره من المجتمعات الديمقراطية. هذه الحيوية الديمقراطية تنعكس حتى في كيفية التعامل ورد فعل المجتمع المدني تجاه الاجراءات القاضمة للحريات الواردة في قوانين مختلفة بما فيها قانون الوطنية. طبعا أي باحث نزيه يعرف أننا لسنا بصدد ديمقراطيات مثالية بل هي محدودة تاريخيا واجتماعيا واقتصاديا. لكنها أفضل الديمقراطيات الراهنة، وبقيت كذلك حتى بعد 11 سبتمبر. المسألة الرئيسية هنا، هل يمكن اعتبار الإجراءات الخاصة القاضمة لحريات الكثيرين بما في ذلك المسلمين (وليسوا وحدهم) "إنجازا"؟ لنقل كلمة الآن في علاقة بالمسلمين في الولايات المتحدة بعيدا عن التعميمات التجريدية للسيد ديرار: يعيش المسلمين هنا (قبل وبعد 11 سبتمبر) في أوضاع حريات لا يمكن مقارنتها بأي شكل من الأشكال بوضعية القمع والاستبداد التي يعيشونها في أقطارهم الأم. هل من الضروري أن نذكر هنا أن أئمة "الجهاديين" كانوا لاجئين لدى هذه المجتمعات بدءا من عمر عبد الرحمان الى أبي قتادة المصري، قبل طبعا الغدر بمضيفيهم والذين التزموا لهم بالأمان؟ هل من الضروري أيضا أن نذكر نسب الأسلمة العالية المتصاعدة في هذه المجتمعات الديمقراطية في ظل حرية الدعوة والتعبير؟ الباحث "الموضوعي" لا يمكن أن يتغافل عن مجمل هذه الأسئلة وما تختزنه من معطيات.
"الانجاز" الثاني يتمثل، حسب الكاتب، في أن القاعديين "عروا تماما طبيعة العلاقة جد المنحطة التي تجمع معظم الحكام العرب بأمريكا". ما تجب ملاحظته هنا أن هذا سيكون "إنجازا" متى كان صحيحا. الواقع أن هذه العلاقة وطبيعتها تمت تعريتها "تماما" منذ كامب ديفيد وصولا الى حرب الخليج الأولى ومؤتمر مدريد. لا نحتاج الى كثير من الجدال حول ذلك. "الانجاز" الثالث أيضا مبنى على معطيات مغلوطة. يقول الكاتب أن حروب القاعديين فضحت "الأحزاب الحداثية" العربية والتي أصبحت سندا للأنظمة الاستبدادية. لكن مهلا ألم يحدث ذلك منذ فترة طويلة؟ ألم يحدث ذلك مثلا في الجزائر من خلال تحالف أحزاب "يسارية" مع الجيش لتدمير التجربة الديمقراطية واستئصال التجربة الاسلامية المعتدلة وهو ما فسح المجال بالمناسبة للحروب الأهلية، أي الشطر الآخر من "حروب الجهاديين" الذي يتجاهله السيد ديرار... ذلك الشطر الآخر الذي يفتح النار على "المرتدين" و"الكفرة" في الداخل؟ ألم يحصل ذلك التحالف في مصر من خلال تجند حزب رفعت السعيد ضد الاخوان؟ ألم يحصل كل ذلك قبل 11 سبتمبر و"حروب الجهاديين"؟ علينا أن نتساءل هنا لماذا يعمد باحث "موضوعي" لمنح "إنجازات" مجانية للقاعديين؟ ألا يمكن أن يعكس ذلك شعور السيد ديرار بالحماسة والانجذاب تجاه هؤلاء وحروبهم؟ هو الذي عبر عن عدم اتفاقه مع "منطق القاعدة" أليس من مضيعة الوقت الاستمرار في سوسيولوجيا التحديث و"التفاهات" الحداثية و"حروب الجهاديين" تحقق كل هذه "الانجازات"؟
"الإنجاز" الرابع لا يستأهل عرضا طويلا. يرى الكاتب أن هجمات القاعديين أدت الى "إثبات" دور الاسلام الرئيسي في حياة المسلمين السياسية. يتعلق الأمر هنا بمسألة المد الاسلامي في المنطقة العربية والاسلامية أي تحول الاسلام السياسي الى مقدمة العناصر التي يعبر بها العرب والمسلمون عن مشاغلهم الرئيسية. طبعا أي عارف بتاريخ "الجهاديين" ومسار حروبهم يعلم أنهم طفرة متأخرة في مسار "صحوة إسلامية" بدأت في الاتساع غير المسبوق إثر نكسة 1967 وخاصة بعد نجاح الثورة الايرانية. "الانجاز" الخامس أيضا يعكس رغبة الكاتب في تضخيم القاعديين وهو يتعلق بالمصطلح المغالط الذي يستعمله في عنوانه "الحروب". قبل الحديث عن مسألة ثانوية العامل التكنولوجي في حروب تحركها قضايا عادلة (يشير هنا للمقارنة فيتنام والجزائر) لا بد من حسم مسألة أخرى: هل هجمات القاعديين على ناطحات السحاب ومترو الأنفاق "حروب"؟ علينا اعتماد الدقة هنا. يشير الكاتب بشكل مغالط الى الوضع العراقي. في الواقع يعتمد القاعديون هناك الأسلوب الذي يعتمدونه دائما أي الهجمات العشوائية التي تستهدف الاستعراض لإحداث الضجة الإعلامية. أم الحرب في العراق فتقوم بها أطراف وطنية تعتمد أسلوب حرب شعبية ملتصقة بواقعها الاجتماعي والسياسي. عند الحديث عن "حروب" القاعديين لا يمكن استذكار فيتنام والجزائر بل يجب استذكار كارلوس. حتى في إفغانستان ولأنهم ليسوا جزءا أصيلا من النسيج الاجتماعي والقبلي لم يبق هناك للمقاومة سوى القوى المحلية وتحديدا قوى طالبان. القاعدة لا توجد هناك إلا لتوفرها على حماية قوات الملا عمر. الهجمات العشوائية ضد المدنيين لا تدخل ضمن سياق "الحروب العادلة". المقاومة العراقية براء من هذا الأسلوب (أنظر مقالنا حول الخاصيات العسكرية للصراع في العراق في عدد 31 كانون الأول/ديسمبر 2004 في القدس العربي).
طبعا يمكن أن يكون الأمر محيرا: أي في النهاية كيف يمكن لمثقف كيركيغاردي أن يكون متعاطفا مع القاعديين؟ يستعرض الكاتب بعض الأسباب: فشل الأحزاب الحداثية، "الأغلبية الساحقة" من الشارع العربي تتعاطف مع بن لادن... بمعنى آخر "اليأس" (بمعناه السطحي والكيركيغاردي في آن واحد) هو الذي يقف على خلفية هذه الصورة المفارقة والكاريكاتورية. المعضلة الحقيقية أنه لا مكان بالنسبة للقاعديين لمثقفين كيركيغارديين في الصراع الحالي... ليس ذلك إلا أحد تمظهرات "الكفر" و"الجاهلية" المعاصرة في الواقع العربي. لا يتعلق مشروع الابادة هذا بمراحل مستقبلية بعيدة. مثلما حاجج الظواهري مرارا فإن مسألة "حاكمية الشريعة" (بالمعنى السلفي الحنبلي القاعدي للكلمة) هي مسألة ملحة في الوقت الراهن وأولية وعلى أساسها يتم الفرز السياسي. بمعنى آخر فإن الحرب الطائفية حتمية ما دام الفرز يتم على أساس مذهبي عقائدي وليس سياسي يقودهم في ذلك شعورهم بطهرية استثنائية تذكر بأي تجربة راديكالية فاشلة (أنظر مقالنا حول العلاقة بين القاعديين والبلاشفة في عدد 5 فبراير/شباط ميدل إيست أونلاين). على هذا الأساس النظري يمكن النظر لاستراتيجيا القاعديين في ترويج الحروب الأهلية عربيا ضد "المرتدين" (وبالمناسبة لا يتم استثناء المثقفين الكيركيغارديين هنا) وذلك من الرياض (قاعدة الجزيرة) الى جبال القبايل (الجماعة السلفية للدعوة والقتال). في النهاية تلك هي مفارقة المثقف العربي المُطلبن: يمارس الترويج لحفاري قبره.
الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية
http://www.middle-east-online.com/opinion/?id=33461
First Published 2005-09-19, Last Updated 2005-09-19 13:09:59
">Link
بقلم: الطاهر الأسود
فصائل المقاومة العراقية تميز موقفها بعيدا عن المعركة الطائفية التي يشنها تنظيم الزرقاوي.
ميدل ايست اونلاينأعلن التيار القاعدي من خلال فرعه العراقي (أو في "بلاد الرافدين" كما يفضل هؤلاء تعريف العراق، أي كمجال جغرافي فضفاض بدلا عن وحدة سياسية/وطن) "حربـ(ـه) الشاملة على الشيعة الروافض". لكن لماذا أحدث هذا الإعلان هذه الضجة كأنه حدث غير مسبوق؟ ربما لأن هذه المرة كان الإعلان جزءا من حملة منسقة كأنها حملة دعائية لمنتوج جديد، حيث، وعلى أنغام التهديدات النمطية للزرقاوي، تم إقتراف مجزرة غير مسبوقة (كميا) في حق عمال بناء "روافض" في ساحة الكاظمية؟ غير أنه سنغالط أنفسنا إن قلنا أنها المرة الأولى "التي يقترن فيها القول بالعمل" بالنسبة لـ"قاعدة بلاد الرافدين" في علاقة تحديدا بتصفية الشيعة لأنهم شيعة. فطوال الأشهر الأخيرة تبارى الكثير من الإعتذاريين المتوترين من قصورهم العاجية في تكذيب طوعي لتورط القاعديين في العراق في أعمال تفجيرية ضد مواقع تشهد تجمعا للطائفة الشيعية (مساجد، ساحات عامة وأسواق...). المشكل أن لا أحد من هؤلاء كان على استعداد جدي للاطلاع على (و بالتالي الاعتراف بـ) الفظاعات الفقهية التي لم يكن الزرقاوي أو أي من "رؤساء لجانـ(ـه) الشرعية" يعمل على إخفائها بل كان لا يتواني في الترويج لها بكل حماس وهي التي تروج بوضوح صبياني لاستهداف الشيعة (هكذا) لأنهم... شيعة/"روافض" ومن ثمة الدعوة الصريحة لترجمة تلك "السياسة الشرعية" الى ممارسات فعلية.
في هذا المقال سنتعرض للمسائل التالية: (أولا) كنا أشرنا في مقال سابق ("حول القاعديين في العراق وماهية المقاومة العراقية" القدس العربي 25 تشرين الأول/أكتوبر 2004) الى أن هناك ضبابية وغموضا في ذهنية جزء كبير من فصائل المقاومة العراقية بما فيها القوى السلفية العراقية (والسلفية العراقية كما كنا أوضحنا مختلفة في حساسيتها لخصوصية الوضع العراقي عن السلفية الوهابية/القاعدية والتي نشأت في ظروف سابقة وبعيدة عن ظرفية إحتلال العراق) حيث تم الخلط بين إنخراط القاعديين في المواجهة العسكرية مع الاحتلال وبين أن هؤلاء القاعديين هم جزء من المشروع السياسي للمقاومة الوطنية العراقية أي تحرير العراق. هذه مناسبة، إذا، للتذكير بالأسباب التي لا تجعل من الممكن اعتبار القاعديين في العراق جزءا من المقاومة. (ثانيا) سنحاول رصد أي متغيرات في مواقف الأطراف السلفية العراقية وبقية الأطراف الوطنية في علاقة بغموض رؤيتها وتقييمها للتيار القاعدي. (ثالثا) سنحاول التركيز على خطاب إعتذاري يشق الكثير من الأوساط "المثقفة" العربية تتجه نحو "الطلبنة" (التحول الى مساندين لفكر وسياسات حركة طالبان أي عمليا التيار القاعدي) والدفاع بشكل أخرق عن فظاعات ("انجازات") القاعديين وفي أحسن الأحوال النظر إليها كـ"أخطاء": فهل أن هذه "الانفلاتات الطائفية" تعبير عن "أخطاء" ظرفية غير مقصودة أم أن الأمر يتعلق، كما نعتقد، بنتيجة حتمية لبرنامج ومنهج التيار القاعدي بشكل عام؟
لماذا لا يمكن للقاعديين أن يكونوا جزءا من المقاومة؟
لم تكن المرة الأولى التي يعبر فيها قيادي رئيسي في التيار القاعدي مثل أبو مصعب الزرقاوي عن أنه في حرب ضد الشيعة (الروافض) وأن هناك "مؤامرة على أهل السنة والجماعة" من قبل الأولين. لم تكن هذه المرة الأولى التي يُعرف فيها التيار القاعدي المواجهة في العراق على أنها، في النهاية والجوهر، "مؤامرة" مذهبية/عقائدية بدلا عن أنها، كما هي في الواقع، احتلالا أجنبيا لوطن اسمه العراق. سنعاود هنا استعراض مجموعة من المعطيات الواردة في مصادر التيار القاعدي في العراق وذلك بشكل يسبق الهجمة الأمريكية الطائفية على مدينة تلعفر وغيرها من المدن العراقية، وذلك لنؤكد على أن (وعلى عكس ما ذهبت اليه بعض التحاليل والبيانات بما في ذلك بيان "هيئة علماء المسلمين" والتي رأت في خطاب الزرقاوي وتفجيراته هي بالفعل كما يقول "ثأرا" لمعركة تلعفر وبالتالي هو تعبير عن موقف طارئ وجديد) موقف القاعديين في علاقة بمسألة الشيعة ليس "رد فعل" على ممارسات "الحكومة" الطائفية (الموالية لإيران) بل موقف يسبق قدوم هذه "الحكومة" وسياستها الطائفية. ما يلي أهم هذه المعطيات:
- كان أبو أنس الشامي "مسئول اللجنة الشرعية لحركة التوحيد والجهاد" (قبل أن تصبح "تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين") والذي بقي كذلك حتى مقتله في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2004 "منظر" التيار القاعدي والمعبر الأساسي عن تفاصيل رؤاه الفقهية. ويمكن الانتباه الى رفضه للاعتراف يوجود وطن عراقي حتى من خلال المصطلحات المنتقاة بعناية في خطابه. فعلى سبيل المثال رغم أن العراق هو البلد الذي يتعرض للاحتلال ورغم أن العراقيين هم أصحاب القضية الأولين ومن ثمة كل من يدعمهم سيكون من المناصرين لهم أو من أنصارهم، فإن الشامي يرى أن القاعديين القادمين من خارج العراق يجب اعتبارهم بمثابة "المهاجرين" (أصحاب القضية الأولين عمليا) بينما يجب اعتبار العراقيين من "الأنصار" وهو ما يعني أن المعركة في الأساس بين الولايات المتحدة وتنظيم القاعدة وليس العراق سوى المجال الجغرافي الذي اتفق عليه الطرفان للمنازلة. من مثل هذه التفاصيل غير البارزة تبدأ عملية تحريف الوقائع وتشويه طبيعة الصراع في العراق من صراع من أجل التحرر الوطني الى صراع مركزه استهداف التيار القاعدي وما يمثله من خصوصيات مذهبية وسياسية لا تعبر بالضرورة عن عامة الأمة. وفي معرض وصفه لمعركة الفلوجة الأولى (أبريل/نيسان 2004) والتي كان من المشاركين فيها يكشف الشامي عن تقييمه المعادي لفصائل من المقاومة العراقية وتحديدا تلك التي تصف نفسها بـ"الإسلامية الوطنية" ويعني بذلك أطرافا عراقية متأثرة بحركة الاخوان وامتداداتها العسكرية الوطنية وخاصة حركة حماس الفلسطينية. ويتخذ موقفا عدائيا حادا ضد الأخيرة وامتداداتها العراقية حيث يهاجم "عقيدتها الفاسدة" وتحديدا فيما يتعلق بجمعها بين الاسلام والوطنية (يصل في استعداء حماس الى حد اعتبار عملية إغتيال الشيخ ياسين المتزامنة مع معركة الفلوجة الأولى بأنها مجرد مؤامرة لصرف الأنظار عن الحرب في الفلوجة). وفي الواقع ليس هذا الموقف المعادي للمسألة الوطنية (ومن ثمة مسألة التحرير الوطني) من الأساس معزولا عن موقفه من الشيعة. ففي أحد شرائطه الصوتية تم تبني التيار القاعدي لعملية إغتيال الزعيم (الطائفي) لمجلس الثورة الإسلامية باقر الحكيم. ففي إطار تبنيه تلك العملية (والتي ينسب تخطيطها وتنفيذها لعراقي يدعى "الحاج ثامر") يتعرض الشامي لمسألة الموقف من الشيعة. حيث يرد على المواقف التي تتهجم على التفجيرات التي يمكن أن تذهب بحياة أبرياء خاصة وأن عملية إغتيال الحكيم العشوائية قد أودت بحياة أكثر من 70 عراقيا بأنه يجب تكفير موقف أئمة "الروافض" ولكن لا يمكن ضمان تفادي التعرض لـ"عامتهم" طالما أنهم في حضور أئمتهم. وينتقل من ثمة لتبرير القتل العشوائي تحت مبرر فتوى "التترس" المشهورة والتي تبرر على كل حال قتل أي كان سنيا كان أو شيعيا طالما صادف حضوره مع حضور من قرر القاعديون تصفيته ولا يهم إن تعلق الأمر بأطفال ونساء أو بمجرد عابري سبيل. المهم في كل ذلك أن الشامي يركز على استعداء "الروافض" في إطار رؤية عامة تركز على أن "المستهدف" الأساسي في المعركة الراهنة في العراق هم "أهل السنة والجماعة" لا غير وذلك من خلال مؤامرة "رافضية-صليبية" وبالتالي لا يعتبر الشامي أن المستهدف هو العراق بشيعته وسنته وهو ما يعنى ضرورة أن المعركة ليست من أجل تحرير العراق بقدر ما هي "تحريره" من شيعته (حول تفاصيل أكثر ومصادر هذه الآراء يمكن الإطلاع على مقالنا المذكور أعلاه).
- لم تكن مواقف أبي أنس الشامي معزولة عن مواقف أميره الزرقاوي. ففي ورقة بعنوان "من وصايا المجاهدين" للأخير (ترجع للفترة التي كان فيها الشامي "مسئول اللجنة الشرعية") يتعرض بوضوح الى موقفه الرافض قطعيا لأي نزعة لتقوية الروابط مع أئمة "الروافض" (يندد مثلا بمحاولات مماثلة لهيئة علماء المسلمين في علاقة بالامام الشيعي ذي المواقف الوطنية جواد الخالصي ويصفها بـ"المذلة"). كما أنه ليس للزرقاوي أية شكوك في أن المعركة في العراق (كما يصفها بالحرف) تهدف الى "إستئصال أهل السنة والجماعة" لا غير. وهو ما يعني أن الشيعة هم بالضرورة جزء من العدو وليسوا جزءا من الوطن. حيث ليس في الخريطة الذهنية للزرقاوي والقاعديين وطن، هناك فقط مجال "أهل السنة والجماعة". إن مفاهيم الوطنية والعروبة ليست بهذا المعنى متجاهلة فحسب بل هي مستهدفة للإستئصال في الرؤية القاعدية. إن مواقف الزرقاوي كانت دائما صريحة في علاقة بهذا الأمر وربما الى حد يفوق رغبة بقية قادة التيار القاعدي وهو ما أثار قلق حتى معلمه وإمامه أبي محمد المقدسي والذي عبر في تصريحات أخيرة عن تبرئه من مواقف الزرقاوي وتحديدا فيما يتعلق بـ"تكفير عامة الشيعة"، وهو موقف إلتوائي يعني آليا تكفير أئمة الشيعة وهو ما يشكل في النهاية إلتقاء مع الزرقاوي، وكذلك أحد تمظهرات الرؤية الطائفية للتيار القاعدي بشكل عام.
ليس موقف "الحرب الشاملة على الروافض" موقفا طارئا أو معزولا أو ناتجا عن سياسة "الحكومة" الطائفية. إن الزرقاوي دقيق في عباراته: لا يتعلق الأمر بمجرد إعلان الحرب على "الروافض"، حيث أنه قام بذلك من قبل، يتعلق الأمر هذه المرة بـ"حرب شاملة"، أي الى تحول "الروافض" الى عدو يستحث تركيزا قتاليا ملحا. إستهداف عامة الشيعة وليس أئمتهم فحسب هو كذلك فكرة قديمة. الجديد هو تحولها الى سياسة لا تمارس فحسب بل أيضا سياسة معلنة للملأ. لم يعد هناك شك، لأن الزرقاوي لم يترك فعلا مجالا للشك، بأن التيار القاعدي موجود في العراق لخوض حرب طائفية وليس تحريرية. وفي الحقيقة ليس من الصعب في ظل هذا الصفاء غير المسبوق للمشهد السياسي في العراق مشاهدة علامة مميزة لمعركة التحرر الوطني العراقية تحدد على ضوئها صف (أو "فسطاط" كما يحلو للقاعديين القول) المقاومة بشكل لا غبار عليه: إن مشروع الاحتلال في نفس الخندق (والتحالف) الموضوعي مع المشروع الطائفي. وإن يتجسد ذلك في التحالف الواعي والمعلن بين مؤسسة الاحتلال ومؤسسة "الحكومة" الطائفية التابعة للمصلحة القومية الإيرانية، فإن المشروع القاعدي يحمل ذات الصفات. وهكذا فلإن إستدامة الاحتلال مرتبطة بشكل حيوي بتقسيم العراق وتحويله الى كانتونات طائفية فإن أي حركة طائفية هي بالضرورة حركة موالية للاحتلال حتى ولو اعتقدت واعتقد الاحتلال غير ذلك. وفي الواقع سيكون من المفاجئ ألا يرى الأمريكيون المصلحة من بقاء و"صمود" قاعديي "بلاد الرافدين". يكفي أن التيار الصدري والذي يمثل بارقة الأمل الأساسية في الصف الشيعي لتكوين جبهة وطنية تقود سياسيا العمل المقاوم قد ظهرت من بين قادته أصوات تنادي بـ"الثأر" كما تقوم بالتنسيق مع "وزارة الداخلية" (التي لطالما هاجم عناصرها وهي ليست أكثر من ميليشيات من نوع "فيلق بدر"، أنصار مقتدى الصدر) لأجل "حماية الأحياء والمدن الشيعية". وطبعا لا يمكن أن يوجد من تناغم طائفي أكثر من تردد صدى صوت الزرقاوي وحربه الشاملة لإنقاذ "أهل السنة" (وطبعا ليس العراق هو المعني بالإنقاذ) تردد صدى صوته، إذا، في صوت القبانجي (عضو "مجلس الثورة الاسلامية") والذي كرر حكمته الأزلية بأن ما يجري هي حرب لـ"استئصال أهل آل البيت". لا يمكن أن تكتمل الجوقة من دون استذكار تصريح رامسفيلد قبل أشهر قليلة والذي أكد فيه بأن "لا دخل للولايات المتحدة فيما يجري في الشرق الأوسط" وبأن الصراع في المنطقة هو مجرد امتداد لـ "حرب أزلية" بين الشيعة والسنة.
إن المقاومة في العراق هي بالضرورة مقاومة وطنية. لكنها لا تكتسب وطنيتها بمجرد الفعل العسكري بقدر ما تكتسبه من ناحية الطبيعة السياسية لذلك الفعل العسكري. ولأن الفعل العسكري المقاوم لا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا قاوم مبدأ وجوده أي واقع الاحتلال ومشروعه، ولأن واقع الاحتلال ومشروعه في العراق يعني تصفية الدولة الوطنية (عمليا عبر انتهاك السيادة عبر الانتصاب العسكري أو "دستوريا" عبر مشروع الفيدرالية)، ولأن تصفية الدولة الوطنية يعني العمل على تصفية الأساس الواقعي للدولة أي وطن العراق، لأجل كل تلك المقدمات لا مناص من الاستنتاج الموالي: كل عمل عسكري لا يستهدف تحرير العراق وإستعادة الدولة الوطنية بل على العكس يستهدف تقويض كيان الدولة الوطنية هو عمل عسكري يصب في مشروع الإحتلال ولازمته الأساسية في الحالة العراقية أي تصفية الدولة الوطنية. وبالتالي لا يمكن لمقولة (المقاومة في العراق هي بالضرورة مقاومة وطنية) أن تكتسب معنا واقعيا (ولا تبقى بالتالي مقولة منطقية تجريدية) إلا إذا تم الإقرار بمشروطيتها بمقولة أخرى: كل فعل عسكري لا يستهدف التحرير الوطني ليس مقاومة. عندها فقط يصبح تقييم المقاومة وتعريف ماهيتها الواقعية (لا الهلامية) ممكنا.
ربما يرغب البعض أن يعتبر التيار القاعدي جزءا من المقاومة. لكن ذلك لا يعدو أن يكون تمنيات غير مبررة واقعيا. بينما مشاركة القاعديين المقاومة الوطنية العراقية في مواجهة الاحتلال لا يمكن أن ينفي تماهي مشروعهم مع مشروع الإحتلال: إلغاء الدولة الوطنية. بالأحرى تصبح المسألة التي في حاجة الى تركيز ما يلي: لا يطرح مشروع القاعديين (والأهم من ذلك ممارستهم) دلائل عن علاقتهم بماهية مشروع المقاومة الوطنية بقدر ما يطرح دلائل عن علاقتهم بماهية مشروع الاحتلال.
إعادة نظر فصائل المقاومة في القاعديين؟
كان تأثير دوي صوت الزرقاوي الطائفي بامتياز والمرافق لدوي تفجيراته العشوائية في الكاظمية والحسينيات الشيعية قويا الى حد لم يكن من الممكن لفصائل المقاومة أن تتغافل عنه. وفي الواقع كان موقف المقاومة العراقية باختلاف فصائلها في السابق يتميز بالتشوش في علاقة بالموقف الذي يجب اتخاذه من القاعديين. وانعكس ذلك التشوش من خلال التخبط بين إنكار حقيقة وجود الزرقاوي أصلا الى اعتباره ضمنيا "جزءا من المقاومة". غير أن الطابع المميز لكل المواقف كان تجنب التعرض بشكل صريح للتيار القاعدي كما هو ممثل في العراق تحديدا في تنظيم الزرقاوي. فهل بدأ هذا التغافل في التبدد بعد كل الذي حدث؟
يمكن القول أن فصائل المقاومة والهيئات المقربة منها بدأت: (أولا) التعامل بشكل صريح ومعلن مع ظاهرة التيار القاعدي، (ثانيا) جزء هام منها بدأ يعلن عن نوايا واضحة في القطيعة الكاملة معه على أساس الوعي بمنهجه الطائفي المعادي لمشروع تحرير العراق.
كان أول المواقف ولكن أقلها حسما موقف هيئة العلماء. ففي حين وجه البيان انتقادا واضحا لموقف وعمليات الزرقاوي وتقويضا دقيقا للأسس الفقهية لرؤيته على أساس بعدها العشوائي ("لاتزر وازرة وزر أخرى") ولكن أيضا وخاصة على أساس بعدها الطائفي الذي يقوض "الوحدة الوطنية" العراقية، بالرغم من كل ذلك حرص بيان الهيئة على إبقاء شعرة معاوية مع القاعديين من خلال توصيف بيانهم بمثابة "النصيحة". غير أنه من الضروري التركيز هنا أن الهيئة بوصفها إطارا رئيسيا لجزء شديد الأهمية من السلفيين العراقيين تعكس قلقا جديا وتبرما حقيقيا ربما يؤدي (ويجب على كل حال أن يؤدي) الى قطيعة ضرورية بين سلفيي العراق وسلفيي القاعدة لمصلحة مشروع تحرير العراق. من مؤشرات مواقف الأئمة السلفيين العراقيين موقف أبرزهم إمام جامع "أم القرى" الشيخ مهدي الصميدعي في خطبة الجمعة (16 سبتمبر/ايلول) والتي دان فيها بقوة كل الهجمات الطائفية بما فيها مجزرة الكاظمية وركز كذلك بوضوح على أن المرجعية الرئيسية يجب أن تكون الدفاع عن وحدة الكيان الوطني العراقي واستقلالية قراره.
من جهة أخرى كان موقف فصائل المقاومة فوريا وحاسما. من الضروري استعراض قائمة الفصائل التي أصدرت بيانا موحدا يندد بموقف الزرقاوي: "الجيش الاسلامي"، "جيش محمد"، "كتائب القعقاع"، "جيش مجاهدي العراق"، "جيش الناصر صلاح الدين". وجاء فيه بشكل واضح أن "المجموعات المجاهدة العراقية تعارض ما جاء بدعوة الزرقاوي قتل الشيعة بصورة عامة وانها في حل من تلك الدعوة... هدف المقاومة هو توجيه ضربات عسكرية إلى الاحتلال وأعوانه في العراق لا غير وما الدعوة إلى قتل الشيعة بعامتهم إلا نار تحرق العراقيين سنتهم وشيعتهم على السواء". يضاف إلى ذلك بيان (نشرة 24) موقع باسم "القيادة الموحدة للمجاهدين" بعنوان بارز "يتحرر العراق بالعراقية لا بالطائفية" هاجم فيه بشدة ووضوح ما أسماه "منظمات لها فروع في الأقطار، تعلن الحرب على المستعمرين، ولكنها لا تمس مصالحهم وطائراتهم واقتصادهم، بل تحارب بالأشرطة الموسمية... يتكلمون باسم الإسلام لتحرير العراق، ثم يفجروا قنابل الطائفية، التي هي الهدف الأمثل للمحتلين؟... إذن، هناك شكوك يراد لها تفسيرا، هل الفروع معنا أم ضدنا؟ إن أهم القواعد السياسية للمنظمات الوطنية في العالم هي مدى الأعمال، والنتائج، لتحطيم النفوذ اليهودي والأمريكي في القارات، مهما كانت تلك الأهداف والمصالح، وغير ذلك كله هراء!!... أخيرا نقول أن العراق للعراقيين، ولن يحكمه ويفهمه إلا العراقيين، ولن يحميه غيرهم، ولا نرجو خيرا من حكومات العرب، مطية الغزاة، وشريكة في الجرائم، منذ ثلاثين سنة، وكل شعب عليه أن يحرر نفسه. أما القيادة الموحدة للمجاهدين بفصائلها، فتؤكد لكل العراقيين بأن تحرير العراق سيتم بأذن الله، بالروح العراقية وليس بالطائفية!!"
استعراض أسماء فصائل المقاومة أضحى ضروريا خاصة وأن الحملة الاعلامية التي ترغب في إعادة تصوير المقاومة في إطار التيار القاعدي بصدد التزايد. الأكثر من ذلك يتم الترويج الى ذوبان فصائل المقاومة في تنظيم الزرقاوي (و هو ما انعكس مثلا في خروج عدد من الصحف البريطانية مباشرة إثر تفجيرات الكاظمية بتقارير تؤكد إمساك الزرقاوي "بالقيادة التكتيكية لغالبية فصائل المقاومة في بغداد والرمادي"). وهذا طبعا يندرج في إطار سياسة الاحتلال في الهروب الى الأمام من خلال إذكاء الأجواء لحرب أهلية وبالتالي إحباط مشروع المقاومة.
إن موقف حزب البعث بوصفه الطرف السياسي المنظم والمعلن الوحيد الذي له حضور بارز ومستمر في المقاومة في غاية الأهمية. حيث طالما تغاضى الحزب عن تنظيم الزرقاوي عدا بعض الاحتكاكات الظرفية (مثل الرد على بيان للزرقاوي أعلن فيه مبايعة عزت إبراهيم له). وفي الواقع فإن الكثير من فصائل المقاومة المذكورة أعلاه يعُتقد أن لها علاقة مباشرة بحزب البعث. غير أن الأخير أصدر بيانا واضحا خاصا بموقف الزرقاوي، أبدى فيه أكثر المواقف البعثية الرسمية وضوحا في علاقة بتقييم المشروع القاعدي في العراق حيث ذكر أن "ما تنشده المقاومة الوطنية المسلحة في العراق هو دحر المحتل الأميركي ومنعه من تنفيذ مخططاته في العراق وفي دول اسلامية وعربية أخرى والدعوة إلى قتل الشيعة الذين يقف السواد الأعظم منهم مع المقاومة العراقية وينخرط شبابهم في صفوفها لتكبيد العدو الأميركي الخسائر المتتالية والهزائم على أرض العراق، انما هي دعوة لقتل العراق واجهاض مشروعه التحرري الوحدوي".
لكن هذا الإجماع السياسي ضد مشروع التيار القاعدي في العراق جاء متأخرا بعض الوقت ولو أن شيئا لم يفت. ومن الواضح أن صمت فصائل المقاومة على التيار القاعدي كل هذه الفترة يعكس توهمها بأنه جزء من المقاومة. ومن الواضح أنها كانت على علم بالممارسات والمواقف الطائفية لتنظيم الزرقاوي أكثر ربما من أي طرف آخر بفعل احتكاكها المباشر بالواقع العراقي وعمق جذورها فيه. وهي بالتالي لم يكن يجب أن تنتظر كل هذا الوقت لتكتشف ما كان باديا وواضحا منذ البداية أي المشروع الطائفي للقاعديين. إن المعضلة الأخرى الآن هي إمكان تناسي فصائل المقاومة لموقف الزرقاوي والتغاضي عنه في حال قيام القاعديين بتراجع تكتيكي مؤقت حتى من خلال الممارسة وليس بالضرورة الموقف الرسمي (أي من خلال التوقف عن "الحرب الشاملة" مؤقتا من دون التراجع المعلن عن ذلك).
لقد أصبح من الواضح أن استمرار وتطور مشروع المقاومة رهين بشكل حيوي ومصيري بالقطيعة مع التيار القاعدي. فكلما تمت القطيعة مع الأخير وبالتالي مع مشروعه العقائدي والسياسي تم التقارب مع الفصال الشيعية المقاومة ومن ثمة يتم التوجه نحو تحقيق الشرط الرئيسي لـ"جبهة وطنية" عراقية: أي إطار يضم كل العراقيين بجميع طوائفهم الدينية والعرقية. إن "جبهة وطنية" عراقية غير ممكنة التحقق بالضرورة في حال استمرار التنسيق أو حتى التساهل مع التيار القاعدي. هذه حقيقة تفرض تحويرات ميدانية مؤلمة لكنها حتمية لتوسع أفق المقاومة وتحقق أهدافها. الأفق البديل لذلك هو بلا شك الحرب الطائفية الأهلية ومن ثمة استمرار الاحتلال وهو ما يعني انتعاش الأطراف الطائفية بمختلف مشاربها.
حول "المُطلبَنين" من المثقفين العرب
إذا كانت الأخطاء السياسية لفصائل المقاومة العراقية في علاقة بتقييمها للتيار القاعدي مبنية على الأقل على حسن نية من يضحون بالغالي والنفيس لتحقيق الهدف الأسمى أي تحرير بلادهم فإن مواقف بعض "المثقفين" العرب الاعتذارية والتبريرية للتيار القاعدي ليس لها بالتأكيد أي مبرر أخلاقي أو عملي، بقدر ما هي تهويمات مجموعة من المتوترين والمعزولين الذين يهومون في أبراجهم العاجية البعيدة عن رمضاء الممارسة ونار الواقع.
النماذج كثيرة ومتنوعة. من بين الأمثلة المعبرة عن المفارقات (كتشرذم الخطاب بين نزعة حداثية وأخرى اعتذارية للتيار القاعدي) التي يمكن أي يعيشها المثقف العربي على عتبة هذه المرحلة التاريخية الجديدة مقال بعنوان "ما الذي تحقق للجهاديين من حروبهم؟" بتوقيع "د. ديرار عبد السلام- باحث في سوسيولوجيا التحديث من المغرب" وذلك في عدد 25 تموز/يوليو 2005 من صحيفة القدس العربي. يبدأ الكاتب مقاله بالإعلان عن جاهزية "القول العلمي (الموضوعي)" في تحليل ظواهر مثل التيار القاعدي (يسميهم بشكل منتظم بـ"الجهاديين") منددا بـ"السكوت" (؟!) المخيم حول الظاهرة، وهكذا فإن السيد ديرار هو أول من سيبادر (علينا أن نضيف "و بكل تواضع") بخرق هذا الصمت بل واستعمال "القول العلمي" و"حسا تفكيكيا عاليا"في ذلك. وبالرغم من أن الكاتب قد التزم لا بتمجيد القاعديين ولا بشتمهم، فإن نتائجه "العلمية، الموضوعية، المحايدة" قد انتهت للحديث فقط عن "انجازاتهم" (يسوي الكاتب هنا بدون مبرر "علمي" بين الدلالة الاصطلاحية الإيجابية لهذا المصطلح والدلالة المحايدة لمصطلحات أخرى مثل "الآثار"، طبعا يجب أن نضع ذلك في إطار "قوله الموضوعي").
يتحدث الكاتب عن خمس "انجازات" أو "نجاحات". أولا، نجاح "لم يكتب لغيرهم النجاح فيه" حيث، يقول السيد ديرار، حولت هجمات 11 أيلول/سبتمبر أمريكا والغرب عموما من مجتمع ديمقراطي (يستعمل هنا معقفين حيث لا يبدو الكاتب جاهزا للإقرار بالوجود الفعلي للمجتمع الديمقراطي في الغرب، وهذا لا يمنعه على كل حال من وصفه في فقرة لاحقة بأنه مجتمع "ينعم بالحريات وتتعايش فيه الأجناس والديانات")، إذا، الى مجتمع "تُصادر فيه كل الحريات". على ماذا يعتمد الكاتب في حكمه المسطح والاطلاقي؟ على وقائع؟ لا بل على استشهاد إطلاقي مماثل "شديد الدلالة على ما آلت إليه الأمور". من جهة أخرى يقع توصيف الأمور في نفس الوقت بشكل ليس إطلاقيا حيث يقول في فقرة أخرى في نفس المقال أن الديمقراطية الأمريكية عرفت "نكوصا كبيرا" نتيجة قانون الوطنية (في نهاية الأمر ليس "كل الحريات" وقع مصادرتها لحسن الحظ). هل علينا هنا أن نتعود على ماذا يمكن أن يحصل عندما يستعمل السيد ديرار "القول العلمي"؟ نرجع للنقطة الأساسية هنا. أي باحث يعتمد "القول الموضوعي" (وهذا يعني الأخذ أساسا بالوقائع وليس بما يمكن أن تنوي أو ترغب أن تقوم به فئات نكوصية في أي مجتمع غربي) يمكن له أن يرى أنه رغم كل القوانين والاجراءات الأمنية الجديدة في الولايات المتحدة فإن نظام الحريات الاساسية لم يُمس: أي متتبع للانتخابات الرئاسية الأخيرة على سبيل المثال (على الأرض وليس من المغرب) يمكن له أن يرى الحيوية الديمقراطية التي تميز المجتمع الأمريكي مثل غيره من المجتمعات الديمقراطية. هذه الحيوية الديمقراطية تنعكس حتى في كيفية التعامل ورد فعل المجتمع المدني تجاه الاجراءات القاضمة للحريات الواردة في قوانين مختلفة بما فيها قانون الوطنية. طبعا أي باحث نزيه يعرف أننا لسنا بصدد ديمقراطيات مثالية بل هي محدودة تاريخيا واجتماعيا واقتصاديا. لكنها أفضل الديمقراطيات الراهنة، وبقيت كذلك حتى بعد 11 سبتمبر. المسألة الرئيسية هنا، هل يمكن اعتبار الإجراءات الخاصة القاضمة لحريات الكثيرين بما في ذلك المسلمين (وليسوا وحدهم) "إنجازا"؟ لنقل كلمة الآن في علاقة بالمسلمين في الولايات المتحدة بعيدا عن التعميمات التجريدية للسيد ديرار: يعيش المسلمين هنا (قبل وبعد 11 سبتمبر) في أوضاع حريات لا يمكن مقارنتها بأي شكل من الأشكال بوضعية القمع والاستبداد التي يعيشونها في أقطارهم الأم. هل من الضروري أن نذكر هنا أن أئمة "الجهاديين" كانوا لاجئين لدى هذه المجتمعات بدءا من عمر عبد الرحمان الى أبي قتادة المصري، قبل طبعا الغدر بمضيفيهم والذين التزموا لهم بالأمان؟ هل من الضروري أيضا أن نذكر نسب الأسلمة العالية المتصاعدة في هذه المجتمعات الديمقراطية في ظل حرية الدعوة والتعبير؟ الباحث "الموضوعي" لا يمكن أن يتغافل عن مجمل هذه الأسئلة وما تختزنه من معطيات.
"الانجاز" الثاني يتمثل، حسب الكاتب، في أن القاعديين "عروا تماما طبيعة العلاقة جد المنحطة التي تجمع معظم الحكام العرب بأمريكا". ما تجب ملاحظته هنا أن هذا سيكون "إنجازا" متى كان صحيحا. الواقع أن هذه العلاقة وطبيعتها تمت تعريتها "تماما" منذ كامب ديفيد وصولا الى حرب الخليج الأولى ومؤتمر مدريد. لا نحتاج الى كثير من الجدال حول ذلك. "الانجاز" الثالث أيضا مبنى على معطيات مغلوطة. يقول الكاتب أن حروب القاعديين فضحت "الأحزاب الحداثية" العربية والتي أصبحت سندا للأنظمة الاستبدادية. لكن مهلا ألم يحدث ذلك منذ فترة طويلة؟ ألم يحدث ذلك مثلا في الجزائر من خلال تحالف أحزاب "يسارية" مع الجيش لتدمير التجربة الديمقراطية واستئصال التجربة الاسلامية المعتدلة وهو ما فسح المجال بالمناسبة للحروب الأهلية، أي الشطر الآخر من "حروب الجهاديين" الذي يتجاهله السيد ديرار... ذلك الشطر الآخر الذي يفتح النار على "المرتدين" و"الكفرة" في الداخل؟ ألم يحصل ذلك التحالف في مصر من خلال تجند حزب رفعت السعيد ضد الاخوان؟ ألم يحصل كل ذلك قبل 11 سبتمبر و"حروب الجهاديين"؟ علينا أن نتساءل هنا لماذا يعمد باحث "موضوعي" لمنح "إنجازات" مجانية للقاعديين؟ ألا يمكن أن يعكس ذلك شعور السيد ديرار بالحماسة والانجذاب تجاه هؤلاء وحروبهم؟ هو الذي عبر عن عدم اتفاقه مع "منطق القاعدة" أليس من مضيعة الوقت الاستمرار في سوسيولوجيا التحديث و"التفاهات" الحداثية و"حروب الجهاديين" تحقق كل هذه "الانجازات"؟
"الإنجاز" الرابع لا يستأهل عرضا طويلا. يرى الكاتب أن هجمات القاعديين أدت الى "إثبات" دور الاسلام الرئيسي في حياة المسلمين السياسية. يتعلق الأمر هنا بمسألة المد الاسلامي في المنطقة العربية والاسلامية أي تحول الاسلام السياسي الى مقدمة العناصر التي يعبر بها العرب والمسلمون عن مشاغلهم الرئيسية. طبعا أي عارف بتاريخ "الجهاديين" ومسار حروبهم يعلم أنهم طفرة متأخرة في مسار "صحوة إسلامية" بدأت في الاتساع غير المسبوق إثر نكسة 1967 وخاصة بعد نجاح الثورة الايرانية. "الانجاز" الخامس أيضا يعكس رغبة الكاتب في تضخيم القاعديين وهو يتعلق بالمصطلح المغالط الذي يستعمله في عنوانه "الحروب". قبل الحديث عن مسألة ثانوية العامل التكنولوجي في حروب تحركها قضايا عادلة (يشير هنا للمقارنة فيتنام والجزائر) لا بد من حسم مسألة أخرى: هل هجمات القاعديين على ناطحات السحاب ومترو الأنفاق "حروب"؟ علينا اعتماد الدقة هنا. يشير الكاتب بشكل مغالط الى الوضع العراقي. في الواقع يعتمد القاعديون هناك الأسلوب الذي يعتمدونه دائما أي الهجمات العشوائية التي تستهدف الاستعراض لإحداث الضجة الإعلامية. أم الحرب في العراق فتقوم بها أطراف وطنية تعتمد أسلوب حرب شعبية ملتصقة بواقعها الاجتماعي والسياسي. عند الحديث عن "حروب" القاعديين لا يمكن استذكار فيتنام والجزائر بل يجب استذكار كارلوس. حتى في إفغانستان ولأنهم ليسوا جزءا أصيلا من النسيج الاجتماعي والقبلي لم يبق هناك للمقاومة سوى القوى المحلية وتحديدا قوى طالبان. القاعدة لا توجد هناك إلا لتوفرها على حماية قوات الملا عمر. الهجمات العشوائية ضد المدنيين لا تدخل ضمن سياق "الحروب العادلة". المقاومة العراقية براء من هذا الأسلوب (أنظر مقالنا حول الخاصيات العسكرية للصراع في العراق في عدد 31 كانون الأول/ديسمبر 2004 في القدس العربي).
طبعا يمكن أن يكون الأمر محيرا: أي في النهاية كيف يمكن لمثقف كيركيغاردي أن يكون متعاطفا مع القاعديين؟ يستعرض الكاتب بعض الأسباب: فشل الأحزاب الحداثية، "الأغلبية الساحقة" من الشارع العربي تتعاطف مع بن لادن... بمعنى آخر "اليأس" (بمعناه السطحي والكيركيغاردي في آن واحد) هو الذي يقف على خلفية هذه الصورة المفارقة والكاريكاتورية. المعضلة الحقيقية أنه لا مكان بالنسبة للقاعديين لمثقفين كيركيغارديين في الصراع الحالي... ليس ذلك إلا أحد تمظهرات "الكفر" و"الجاهلية" المعاصرة في الواقع العربي. لا يتعلق مشروع الابادة هذا بمراحل مستقبلية بعيدة. مثلما حاجج الظواهري مرارا فإن مسألة "حاكمية الشريعة" (بالمعنى السلفي الحنبلي القاعدي للكلمة) هي مسألة ملحة في الوقت الراهن وأولية وعلى أساسها يتم الفرز السياسي. بمعنى آخر فإن الحرب الطائفية حتمية ما دام الفرز يتم على أساس مذهبي عقائدي وليس سياسي يقودهم في ذلك شعورهم بطهرية استثنائية تذكر بأي تجربة راديكالية فاشلة (أنظر مقالنا حول العلاقة بين القاعديين والبلاشفة في عدد 5 فبراير/شباط ميدل إيست أونلاين). على هذا الأساس النظري يمكن النظر لاستراتيجيا القاعديين في ترويج الحروب الأهلية عربيا ضد "المرتدين" (وبالمناسبة لا يتم استثناء المثقفين الكيركيغارديين هنا) وذلك من الرياض (قاعدة الجزيرة) الى جبال القبايل (الجماعة السلفية للدعوة والقتال). في النهاية تلك هي مفارقة المثقف العربي المُطلبن: يمارس الترويج لحفاري قبره.
الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية
http://www.middle-east-online.com/opinion/?id=33461
First Published 2005-09-19, Last Updated 2005-09-19 13:09:59
">Link
0 Comments:
Post a Comment
<< Home