Saturday, January 08, 2005

النيومحافظين و الاسلاميين المعتدلين

"النيومحافظين" و الاسلاميين المعتدلين
حول اخر مؤشرات تعاظم قناعة "النيومحافظين" بإشراك الاسلاميين المعتدلين في العملية السياسية

الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية
1
تتلاحق، و لو ببطئ، المؤشرات على أن تيارا داخل النيومحافظين يدفع باتجاه القبول بـ (و أحيانا حتى التشجيع على) اشتراك الإسلاميين المعتدلين في السلطة و من ثمة المشاركة في تأسيس العملية الديمقراطية خاصة على المستوى العربي. و قد كنت تعرضت لبعض اخر هذه المؤشرات قبل أسابيع قليلة (القدس العربي 11/12 كانون الأول (ديسمبر) 2004) كما كنت قد تعرضت لهذه المسألة في إطار المغرب العربي لأول مرة في مقال مطول قبل حوالي العام من الان (نشرية أقلام أون لاين التونسية العدد العاشر). و من الواضح أنه مقابل الإيمان الأمريكي الجديد بالدور الناجع الذي يمكن أن يلعبه الإسلاميون المعتدلون في البناء الديمقراطي عربيا تتناقص المؤشرات على الإعتماد الأمريكي على الحلقات الصغيرة لبعض "العلمانيين العرب" الذين فقدوا و يفقدون الكثير من المناصرين ليس لأن وهجهم "اليسارى" (فالكثير منهم من الـ"اليساريين السابقين") قد توارى فحسب بل لأن إنتعاشة قوية و غير مسبوقة يشهدها التيار الإسلامي منذ سنين قليلة (بجميع فرقه من المعتدلين الى المتشددين"القاعديين") على المستوى الشعبي العربي و ذلك في إطار "صحوة دينية" قوية (يخطئ البعض في إعتبارها خالية من أي أبعاد سياسية حتى و إن بدت كذلك) و هو الأمر الذي تلقفته بعض الأوساط الأمريكية (المخابراتية و السياسية و البحثية) بسرعة و بدأت بناءا عليه بتشكيل تصوراتها للمرحلة المقبلة.

طبعا من الضروري التذكير هنا أن الوازع الأمريكي المتزايد لإيجاد (و هو لا يشمل على كل حال كل الأوساط النافذة بما في ذلك الأوساط النيومحافظة) أسس دنيا لعملية ديمقراطية حقيقية عربيا لا يرجع أساسا الى قناعات إديولوجية بأهمية التغيير الديمقراطي (و لو أن جزءا من اراء النيومحافظين يرجع فعلا الى قناعات إيديولوجية "ثورية" ذات مسحة تروتسكية من نوع "الثورة الديمقراطية الدائمة") بل يرجع الى قناعة أمريكية متعاظمة بأن عملية ديمقراطية حقيقية ستستوعب الغضب العربي الداخلي و تمنعه من التوجه نحو مهاجمة الغرب داخل الغرب (و أمريكا داخل أمريكا) و هي خطوة تصب على المدى البعيد (و الاستراتيجي) في المصلحة الأمريكية. طبعا يرجع هذا الإستنتاج الى تقييم الأمريكيين لعملية 11 سبتمبر بأنها ناتجة ليس عن التورط الأمريكي في الإستراتيجيا الإسرائيلية بل عن يأس قوى متطرفة من القمع الداخلي لحكومات عربية غير ديمقراطية مما جعلها توجه سهامها الى الأطراف الغربية. و في الوقت الذي دافع فيه البعض (مثل المؤرخ برنارد لويس) على ضرورة بناء ديمقراطية "علمانية" تستبعد أي حضور للإسلام السياسي بدأ بعض النيومحافظين في ملاحظة الخصوصية العربية الإسلامية و من ثمة الدفاع عن ضرورة مشاركة إسلامية في البناء الديمقراطي. على كل حال بغض النظر عن صدقية هذا التحليل فهو موجود في واقع التفكير الإستراتيجي الأمريكي الراهن و هذه نقطة مهمة لمن يريد رصد التوجهات الأمريكية في المستقبل المنظور.

أرجع الان الى مسألة اخر مؤشرات تبني بعض النيومحافظين لاحتمال إشراك الإسلاميين المعتدلين في بناء ديمقراطية عربية. ففي الأسبوع الأخير وردت مؤشرات جديدة سأعرضها باختصار شديد في هذا المقال: (أولا) إصدار تقرير مؤسسة الراند الأخير "العالم الإسلامي بعد 11 سبتمبر" (11/9 The Muslim World After) يحتوى على أكثر من 500 صفحة و الذي تبنى بشكل واضح رؤية تدعو للقبول بإشراك الإسلاميين المعتدلين في العملية الديمقراطية. (ثانيا) الندوة الأخيرة التي عقدتها مؤسسة بحثية أمريكية "مركز دراسة الإسلام و الديمقراطية" (Center for the Study of Islam and Democracy) بالتعاون مع "المعهد العربي لحقوق الإنسان" و "منتدى الجاحظ" في العاصمة التونسية و التي بدى فيها (لأول مرة تونسيا) إمكانية تقبل الساحة السياسية الداخلية (بما في ذلك السلطات التونسية التي سمحت بعقد الندوة) لنقاش دور سياسي للإسلاميين المعتدلين، و ذلك بحضور "غير رسمي" للسفير الأمريكي.
2
قبل الحديث عن محتوى تقرير مؤسسة الراند الأخير من الضروري وضعه في إطاره. أولا لا يجب التضخيم من وقع بحث (و بحوث) مؤسسة الراند و أي من مؤسسات البحث الأخرى، فرغم كل الأهمية العملية (السياسية) التي يمكن أن تكون لهذه البحوث فهي تبقى مبادئ أفكار عامة من الممكن ألا يتم ترجمتها في الواقع. غير أن أهميتها تكمن في كونها بالذات مصادر أفكار مؤثرة في أوساط الإدارة الأمريكية خاصة في ظل هيمنة تيار نيومحافظ يؤمن بشكل إستثنائي بأهمية التحليل الفكري في تسطير الخط السياسي و المهام العملية. و بالرغم من أن التقرير الأخير للراند لم يُكتب رسميا لمؤسسة سياسية داخل الإدارة الأمريكية بل لمؤسسة عسكرية (كُتب التقرير بطلب من قيادة القوات الجوية الأمريكية) حيث تتخصص مؤسسة الراند في كتابة تقارير و بحوث لصالح البنتاغون، فإن بحوث الراند عادة ما تلقى إهتماما متميزا من قبل سياسيي الإدارة الأمريكية. و في الواقع ليس من الواضح إن كان جميع كتبة التقرير الثمانية من أتباع التيار النيومحافظ، باستثناء شيريل بينارد زوجة أحد أقطاب النيومحافظين زلماي خليلزاده و التي كانت كتبت تقريرا مشابها في وقت سابق من هذا العام (طالع مقالي في القدس العربي المُشار إليه أعلاه). و لكن من الواضح أن كتاب التقرير من أصحاب الخبرات البحثية و الجامعية (أغلبهم متحصل على الدكتوراه في العلوم السياسية أو في العلاقات الدولية أو في التاريخ) كما أن بعضهم عمل و يعمل في مؤسسات رسمية مثل وزراة الخارجية الأمريكية (بما في ذلك السلك الديبلوماسي) و/أو البنتاغون. غير أن القليلين منهم فقط يملك خبرات جدية في علاقة بمسألة الإسلام السياسي أو بمعرفة جدية ببعض المناطق التي قدموا تحاليل حولها (مثلا رولي لال Rollie Lal التي كتبت الجزء الخاص بالإسلام السياسي في منطقة المغرب لا يبدو من خلال كتاباتها أو سيرتها أي مؤشر على أنها خبيرة كبيرة في شؤون المنطقة). غير أن الهدف الأساسي على ما يبدو من كتابة هذا البحث هو تقديم صورة عامة للمعطيات الجديدة و المنحى السياسي العام في المنطقة العربية و الإسلامية و هو ما لا يبدو أنه يحتاج بالضرورة إلى خبير متضلع خاصة إذا توفر للباحث مصادر محلية تتمتع بقدر أدنى من النزاهة أو تعبر عن اراء الأطراف الأساسية في أي قطر. و يبدو أن ذلك كان منهج جل كتاب التقرير حيث يبدو واضحا من النص أنهم قاموا بمساءلة خبراء و سياسيين محليين من أطياف مختلفة. و على كل حال فإن محدودية خبرة كتاب التقرير يمكن فهمها من زاوية أنهم كانوا ربما مطالبين بالتوصل الى نتيجة سياسية واحدة و هو ما يتطلب حدا أدنى من الطاعة السياسية و ليس عمقا معرفيا مميزا.

يتكون التقرير من جزأين أساسيين: (أولا) مدخل عام أُختتم بتقديم توصيات نهائية، و هو الجزء الأهم من الناحية السياسية و لكنه الأقل من ناحية كم الصفحات. (ثانيا) جزء أكبر يشكل معظم البحث و يتمثل في عشر دراسات للوضع السياسي الراهن في الأقطار العربية و الإسلامية و حتى في علاقة بالمسلمين في أقطار لا تحتوي على أغلبية سكانية مسلمة و ذلك من خلال التخصيص على مسألة الإسلام السياسي و تقديم ملخص للتطورات المستقبلية المحتملة لكل قطر أو منطقة. أول الدراسات تتعلق بأقطار مشرقية مثل مصر و السعودية و الأردن و فلسطين و العراق . الدراسة الثانية حول منطقة المغرب (بالتعريف الفرنسي التقليدي أي فقط أقطار تونس و الجزائر و المغرب). الدراسة الثالثة خاصة بالنموذج التركي. الدراسة الرابعة تتعلق بإيران. الدراسة الخامسة تتعرض للوضع الباكستاني. الدراسة السادسة الوضع في الهند. الدراسة السابعة تتعلق بالجمهوريات السوفياتية السابقة في وسط اسيا. الدراسة الثامنة تتعلق بالنموذجين الماليزي و الأندونيسي. الدراسة التاسعة تتعلق بوضع المسلمين في نيجيريا. و أخيرا الدراسة العاشرة تتعلق بوضع الجاليات المسلمة في الغرب.

و في الجزء الأول (أي المدخل العام و التوصيات النهائية) تم عرض لعدد من الخصائص العامة للوضع الراهن منها ما يلي: في علاقة بموضوع "التحديات و المخاطر" يشير الكاتب الى مسألتين، ضرورة عدم التضحية بالديمقراطية من أجل ضمان الإستقرار في المنطقة و أهمية التركيز على الجانب الفكري في"الحرب على الارهاب". في نقطة أساسية أخرى من التقرير يتم التأكيد على ضرورة التفريق بين التيارات الإسلامية "الأصولية" و تعدديتها حيث تتم الإشارة الى وجود تيارات إسلامية معتدلة قادرة على مواجهة زحف التيارات الأكثر تشددا. و بالنسبة لكتاب التقرير فإن التيارات الإسلامية المعتدلة تتمثل خاصة في تنظيم الإخوان و غيره من الأطراف المشابهة من حيث التشكل التاريخي و الخط السياسي و تتم الإشادة بشكل خاص بتجربة جبهة العمل الإسلامي الأردنية. و في نقطة أخرى تتم الإشارة الى الطابع السلبي الكبير الذي تركته الحرب الأمريكية على العراق على الجهود الأمريكية في "الحرب على الإرهاب" و الدور الكبير الذي تلعبه هذه الحرب في تجنيد المناصرين لتنظيم القاعدة و غيره من التنظيمات المماثلة. لكن التوصيات النهائية تبدو أهم ما ورد في البحث و هي أيضا تتكرر بطرق مختلفة في الدراسات الخاصة بكل قطر أو منطقة. و تتعلق أهم التوصيات بـ"العمل على إشراك الاسلاميين في العمل السياسي الطبيعي" حيث يتم التأكيد على أن نجاح البناء الديمقراطي يتوقف بشكل كبير على النجاح في إشراك الإسلاميين الراغبين في المشاركة في العملية الديمقراطية و في العمل السياسي السلمي. و لكن البحث يؤكد على ضرورة القيام بكل ما أمكن لضمان تمسك هذه الأطراف بمبدأ التداول على السلطة و بأن العملية الديمقراطية ليست مجرد خطة تكتيكية مؤقتة للوصول الى السلطة و هو الأمر الذي تمت ملاحظته في الدراسات الخاصة بمناطق معينة خاصة الدراسات الخاصة بمصر و أقطار المغرب الثلاثة. أخيرا للراغبين في الاطلاع على البحث فهو متوفر للتنزيل مجانا على موقع الراند.

2
يُعتبر "مركز دراسة الاسلام و الديمقراطية" من أكثر المراكز المختصة في الشأن الإسلامي في الولايات المتحدة بروزا في السنوات الأخيرة. و بسبب إشراف مجموعة من المطلعين الأكاديميين على المنطقة العربية و الإسلامية بالإضافة الى عرب أمريكيين (رئيس و مؤسس المركز الدكتور رضوان المصمودي أمريكي من أصل تونسي) على أنشطة المركز فإن توجهاته كانت دقيقة و منسجمة الى حد مع المتغيرات الحاصلة في أوساط القرار في واشنطن و لكن حافظ المركز في المقابل على استقلالية توجهه خاصة في علاقة بالموضوع الفلسطيني و الحرب على العراق. و تميز المركز في السنة الأخيرة بالتنسيق مع مركز الاندومنت لدعم الديمقراطية و هو مركز أبحاث أمريكي ذي علاقة مميزة مع الإدارة الأمريكية ركز أخيرا على موضوع دعم الديمقراطية عربيا و إشراك الإسلاميين في العملية السياسية. و قد قام كل منهما بالتعاون مع مركز ابن خلدون برئاسة سعد الدين إبراهم في تنظيم ندوة في بداية الخريف الماضي في القاهرة حول "الاسلام و الاصلاح" تم فيها التأكيد على ضرورة إشراك الأطراف الاسلامية المعتدلة في العملية السياسية. و كان من الواضح أن الندوة الأخيرة (15 و 16 كانون الأول (ديسمبر) "الاسلام و الديمقراطية") في تونس التي أشرف على تنظيمها "مركز دراسة الاسلام و الديمقراطية" مع "المعهد العربي لحقوق الانسان" و "منتدى الجاحظ" كانت تتجه لطرح نفس الرؤية على طاولة النقاش. و بالرغم من تضارب الاراء (حيث دافع عدد من "العلمانيين" التونسيين على الفكرة التقليدية المتمثلة في إقصاء الاسلاميين من العملية السياسية) فقد نجح المنظمون في طرح النقاش على المستوى الداخلي العربي و اختراق صمت النخب العربية حول هذا الموضوع عوض إنحساره في بعض الأوساط الأمريكية. و هكذا من الواضح أنه بالرغم من تبني بعض النيومحافظين للرأي القائل بإشراك الاسلاميين المعتدلين في بناء العملية الديمقراطية فإن ذلك لا يعني أن هذه الفكرة تلقى و منذ زمن ليس بالقصير دعما محليا مهما يتفهم تعقيد الوضع العربي. من جهة أخرى من الواضح أن الموقف الأمريكي الجديد سيتصادم تدريجيا مع موقف القوى الأوروبية التقليدية و التي لا ترى عملية البناء الديمقراطي إلا من خلال واقعها الراهن المميز أو قراءتها النرجسية لتجربتها التاريخية الخاصة. و يتعلق ذلك خاصة بالموقف الفرنسي الذي يجعل من إقصاء الدين (و من ثمة الاسلام السياسي) شرطا أساسيا للعملية الديمقراطية و هو ما جعل النخب الفرانكفونية في المغرب العربي مثلا تعتمد قراءة فرنسية للمسألة العلمانية و تقرأ مهمة التحول الديمقراطي من زاوية غير واقعية بقدر ما هي إيديولوجية. والمعطيات الموضوعية تشير بوضوح الى أن المستقبل القريب يحمل تطورات واضحة في علاقة بموقع التيارات الإسلامية المعتدلة في الحياة السياسية العربية. و على سبيل المثال يمكن النظر للعفو الشامل الذي سيصدر قريبا على في الجزائر من هذه الزاوية بالذات.

صحيفة القدس العربي 8/9 جانفي (كانون الثاني) 2005

0 Comments:

Post a Comment

<< Home