Friday, February 11, 2005

محاولة لتقييم شمولي للحظة الراديكالية الراهنة: «القاعديون»، بلشفيو المرحلة الراهنة؟
بقلم: الطاهر الأسود
إن 11 سبتمبر مثل ثورة أكتوبر حدث يعكس ظاهرة تاريخية عريقة: الظهور الدوري للحظة راديكالية تدفع بالوضع الدولي الى إنقسام عميق حدي الى خندقين يركزان القوى البشرية في مواجهة عنيفة لا تنتهي إلا بانهيار أحد الطرفين.
ميدل ايست اونلاينليس الهدف من هذا المقال المماثلة بشكل إطلاقي بين التجربة البلشفية والتجربة القاعدية. لكننا نرى إمكانية التقييم الشمولي للحظة التاريخية الراهنة من خلال التذكير بلحظة المد البلشفي اللاحق لثورة أكتوبر. يرجع ذلك لدوافع عديدة سنعرضها فيما بعد ولكن في البداية يمكن الإشارة الى الحوافز الأولية لمثل هذه المقارنة التي بدت لي (و ستبدو للكثيرين على ما أعتقد) سوريالية عندما خطرت بذهني في البداية.
يرجع أحد هذه الحوافز الى المعطى التالي: عندما قررت الولايات المتحدة مواجهة المد الشيوعي الذي تلى الثورة البلشفية على الجبهة الفكرية وليس السياسية والعسكرية فحسب، وكان ذلك بالأساس إثر نهاية الحرب العالمية الثانية، توصلت الى خلاصة مركزية، وهي أن أقدر من يواجه الطروحات الشيوعية في تعبيراتها السوفياتية هم شيوعيون غير سوفياتيين. وهكذا على سبيل المثال رأت الولايات المتحدة في الأطراف الإشتراكية الديمقراطية (التي كانت تتقاسم مع البلشفيين عضوية الأممية الثانية) أو في الأطراف التروتسكية حلفاء محتملين في الحملة الفكرية المضادة للرؤية الشيوعية بصياغتها الستالينية. طبعا كان معنى التحالف هنا غامضا: حيث عمل الأمريكيون في بعض الحالات على البحث عن عملاء وليس حلفاء. كما أن بعض هذه الأطراف لم يرغب في الظهور في الصورة الأمريكية حتى وإن تقاطعت بعض مصالحها معه. على كل حال تلك قصة أخرى سنتعرض إليها بتفصيل أكبر في مناسبة لاحقة. ما يهمنا هنا هو أن هذا التصور الأمريكي بصدد التكرار في المرحلة التاريخية الراهنة: حيث أصبح واضحا أن الولايات المتحدة (ويعني ذلك أطرافا قوية التأثير في صياغة القرار السياسي) ترى في التيارات الإسلامية المعتدلة أقدر الأطراف التي يمكن أن تواجه المد الإسلامي في شكله السلفي الجهادي.
سيكون هذا المقال في جزئين: الجزء الأول سنتعرض فيه الى معنى اللحظة الراديكالية وكيف تشكل مدخلا للمقارنة بين حدثي ثورة تشرين الأول/أكتوبر و11 أيلول/سبتمبر. وجزء ثاني سنتعرض فيه الى المحتوى الإيديولوجي المشترك بين الطرفين البلشفي والقاعدي. وسنستعمل مصطلح "القاعدية" هنا بنفس الاستعمال الاصطلاحي لكلمة البلشفية أي ذلك المصطلح الذي يتحول من كونه صفة لحالة سياسية تنظيمية خاصة الى أن يكون صفة لمنهج سياسي وعقائدي خاص. وهكذا فمثلما أصبحت البلشفية حالة غير روسية تجد أتباعا على المستوى الدولي فإن "القاعدية" لم تعد الان حالة خاصة بتنظيم القاعدة بل أصبحت منهجا لتنظيمات كثيرة ليس لها بالضرورة علاقة تنظيمية مباشرة بذلك التنظيم بقدر ما هي موالية لنهجه السياسي والاستراتيجي والعقائدي.
مسألة اللحظة الراديكالية: "ثورة أكتوبر 1917" و"غزوة سبتمبر 2001" وخندقة الوضع الدولي
لا يمكن بالتأكيد المجازفة بأي تحليل يمكن أن يوهم القارئ بأن حدثي الثورة البلشفية و11 سبتمبر متطابقين لكن يمكن المجازفة بالقول بالتأكيد غير أن دور كل منهما التاريخي متقاطع الى حد كبير. حيث يشغلان مكانة مماثلة في إطار منعطف تاريخي مصيري يمس ليس فقط إطارا جغرافيا إقليميا فحسب بل أيضا الإطار الدولي. ويتمثل هذا المنعطف بما نسميه بـ"اللحظة الراديكالية" التي تدفع الى خندقة الوضع الدولي ليس على أساس الصراع بين قوى متماثلة (مثل الحرب العالمية الأولى) بل على أساس الصراع بين قوى تحمل مشاريع متناقضة راديكاليا غير قابل للمواءمة، ظاهريا. إن التماثل هنا ليس بين محتوى الحدثين بل بين كونهما يمثلان لحظة راديكالية متماثلة ولو في ظرفيتين تاريخيتين غير متماثلتين. وبمعنى اخر فبالرغم من أن ثورة أكتوبر ليست 11 سبتمبر و11 سبتمبر ليس ثورة اكتوبر إلا أن لحظة 11 سبتمبر في المنعطف الدولي لما بعد الحرب العالمية الأولى غير ممكنة التصور إلا من خلال ثورة أكتوبر 1917 كما أن ثورة أكتوبر في المنعطف الدولي لما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي لا يمكن أن تكون سوى حدث 11 سبتمبر 2001. ليس ذلك توصيفا قيميا (متعاطفا أو منددا) بل توصيفا موضوعيا للمسار الدولي كما هو.
سنبدأ بتحديد الإختلافات البديهية بين الحدثين. أولها، أن ثورة أكتوبر نجحت في تغيير وضع السلطة السياسية الحاكمة لصالح الطرف الراديكالي وهو ما كانت تهدف إليه، حيث نجح طرف سياسي يتكلم باسم طبقة مقموعة بالوصول الى السلطة بالقوة والحفاظ عليها في مجال سياسي محدد. غير أن 11 سبتمبر لم ينجح في افتكاك السلطة فذلك لم يكن أحد أهداف مخططيه. وفي الواقع يعكس هذا الإختلاف الشكلي (أي على مستوى الخطة السياسية) إختلافا اخر برامجيا/استراتيجيا. فبناء المجتمع الاشتراكي (ثم الشيوعي) كان يستلزم إفتكاك السلطة مبدئيا في دولة محددة. وبالرغم من وجود الأممية الثانية ثم الثالثة (وبالتالي خطة أممية عامة ترفع شعار الثورة الأممية) فإن الأحزاب الشيوعية السابقة لثورة أكتوبر (أي الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية) واللاحقة لها (أي بعد مخاض الثورة وإعادة تأسيس معظم الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية) كانت تخضع لواقع خصوصيات مجالاتها القومية والاقليمية، وهكذا لم تكن الأطروحة التروتسكية الدولية ("الثورة الدائمة") قادرة على الصمود أمام النموذج الستاليني الاقليمي ("بناء الاشتراكية في دولة واحدة"). وهكذا الت القيادة الاممية لصالح نفوذ القيادة السوفياتية وأصبح المشروع الأممي مجرد غطاء من أجل الدفاع عن تجربة إقليمية محددة.
على العكس من ذلك فإن الاستراتيجيا القاعدية وقع تقريرها من قبل قيادة "أممية" مركزية تجعل دور الطابع الدولي للمواجهة رئيسيا مقابل المهام الإقليمية. وهكذا فرغم وجود ساحات إقليمية فلا يوجد تركيز على بناء "الدولة الاسلامية" في مجال سياسي محدد قبل الحسم النهائي للمعركة دوليا. وتوضحت هذه الاستراتيجيا من خلال التضحية بـ"الامارة الاسلامية في إفغانستان" من أجل هدف استفزاز الولايات المتحدة وجرها الى معركة مباشرة على المجال الدولي تنقسم الى معارك إقليمية تتفاوت في الأهمية ولكن لا يتم فيها التركيز على "إقليم قاعدة" معين كما كان حال التجربة البلشفية. إن الاستراتيجيا القاعدية لا تسعى الى بناء نموذج دولتها بغض النظر عن المصير النهائي للمعركة بل تسعى الى تحطيم عدوها نهائيا على المستوى الدولي قبل بناء نموذج الدولة/الخلافة، أيضا على المستوى الدولي. تنعكس هذه الاستراتيجيا العامة بجلاء من خلال الميتافيزيقا العسكرية لتنظيم القاعدة والتي تعتقد بجدية بأن إنهيار برجي التجارة سيؤدي الى إنهيار الإقتصاد الأمريكي (أنظر كلمة بن لادن المشهورة "غزوة نيويورك وواشنطن" والتي أعلن فيها بشكل رسمي عن تبني القاعدة لهجمات 11 سبتمبر). كما أنها تذهب الى أن تحطيم الولايات المتحدة النهائي ممكن من خلال القيام بعمليات إنتحارية نووية على الأراضي الأمريكية (أنظر مثلا مقال أحد قيادات القاعدة أبو مصعب السوري «عمر عبد الحكيم» "ردا على إعلان وزارة الخارجية الأمريكية" كانون الأول/ديسمبر 2004 المنشور على موقعه الالكتروني).
ويعكس هذا الاختلاف الاستراتيجي إختلافا بديهيا على مستوى المنهج الفكري العام: فمقابل الرؤية البلشفية (الماركسية أساسا) التي تتقاسم مع الحداثة البورجوازية حدا أدنى من مفهوم النهج العلمي والبراغماتي فإن الرؤية القاعدية تعول بالتأكيد على التوفيق الإلاهي متى كانت الطهرية الإيمانية حاضرة. وهكذا فإن توصيف مجموعة النيومحافظين (كما تجسد في وثيقة "عقيدة بوش") للفرق الرئيسي بين عدو الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة وعدوها الان بأنه فرق بين عدو (البلشفية ومن ثمة قاعدتها السياسية الممثلة في الاتحاد السوفياتي) يمكن التفاوض معه واخر (القاعدية) لا يريد وغير مستعد للتفاوض هو في الأساس إنعكاس لواقع حقيقي.
غير أن كل هذه الإختلافات البديهية لا تنفي إمكانات التقاطع بين الحدثين. فمن ناحية الهوية الجغرافية لكل منهما نلاحظ تماثلا أساسيا في ترابط الإنتشار الإقليمي بالانتشار الدولي. حيث كانت الساحة الاقليمية الرئيسية التي عبرت عن تأثير شعبي للثورة البلشفية روسيا ومجالها الإمبراطوري العتيق أولا (أوكرانيا وروسيا البيضاء وجورجيا... إلخ) وأوروبا الغربية وخاصة ألمانيا ما بعد الحرب الأولى ثانيا. وكان للعنفوان الراديكالي لحدث 11 سبتمبر تأثيرا إقليميا متعاطفا يتعلق بالمنطقة العربية أولا ويمتد الى المجال الإسلامي وحتى الجاليات المسلمة في أوروبا أساسا ثانيا. غير أنه كان لكلاهما تداعيات دولية عميقة جعلت محاور التحالف والصراع تتأسس رئيسيا على قاعدة الولاء أو العداء لصناع اللحظة الراديكالية. ينعكس ذلك أولا على المستوى الخطابي لجل الأطراف المؤثرة. فثورة أكتوبر كانت لحظة مفصلية في تصور الخطاب البلشفي ("افتتحت ثورة اكتوبر عصر نهاية الامبريالية" أعلنت الأممية الثالثة بقيادة زينوفييف أكثر من مرة في السنوات القليلة التي تلت الثورة وهو الشعار الذي وقع التمسك به في أدبيات الحزب حتى سقوط الاتحاد السوفياتي) وهو ما كان يعني إنقسام العالم الى خندقين: أنصار الثورة وأعداؤها. ولم يختلف التقييم البورجوازي في شيء عن ذلك وباستثناء لحظة التحالف المؤقتة والقصيرة التي فرضتها خطط ألمانيا النازية خاصة خلال الثلاث سنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية فإن خطاب "العالم الحر" كان أيضا يعتبر التهديد الرئيسي للأمن العالمي اتيا من العدو البلشفي. نفس الشيء ينطبق على الخطاب القاعدي في نظرته لحدث 11 سبتمبر وخطاب الولايات المتحدة في علاقة بنفس الحدث.
غير أن الخندقة الحدية (تركز مواجهة عنيفة وحامية بين طرفين أساسيين أو خندقين) على المستوى الدولي الناتجة عن كلى الحدثين هي خندقة واقعية وليست خطابية فحسب. وهو أمر لا يحتاج الى تعليق إضافي في علاقة بثورة أكتوبر. أما في علاقة بـ 11 سبتمبر فمن الواضح أن كل التناقضات الطفيفة التي طفت على السطح الدولي مباشرة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي (مثل التنافس الأمريكي الأوروبي أو الأمريكي الصيني-الروسي) قد توارت في ظل الأهمية المتعاظمة للصراع الأمريكي ضد القاعديين عبر العالم وهو صراع يجعل من نزاعات إقليمية من المفروض أن تكون معارك للتحرير الوطني مثلا (العراق والشيشان) تتداخل مع معركة دولية حيث تحظى برامج وقيادات القاعدة بنفوذ خاص يتجاوز الحدود الوطنية والقومية. كما يفرض هذا الصراع بشكل متنامي على كافة القوى الدولية إختيار أحد الصفوف ليس على مستوى الموقف السياسي البلاغي فحسب بل أيضا على مستوى الممارسة العملية (التنسيق الأمني والمخابراتي مثلا بين الولايات المتحدة وجل دول العالم ضد خلايا القاعدة والقاعديين). في المقابل يتصرف القاعديون بوعي كامل وبقدرات واقعية على أساس أن كافة أنحاء الكرة الأرضية (ذات أغلبية مسلمة أو غير مسلمة) هي مجال مفتوح للعمل المسلح واللوجستي من بالي أندونيسيا الى الغابات الكينية والصحراء الكبرى حيث قبائل الطوارق الى مدريد ونيويورك مرورا بالدار البيضاء وجربة والرياض فضلا عن المدن العراقية أو "بلاد الرافدين" (كما يحرص القاعديون على تسمية العراق بشكل يتجنب التركيز على الصفة الوطنية لذلك المجال الجغرافي). وتجسدت هذه الخندقة الدولية في أقصى رموزها المرئية عندما ارتدى شباب صينيون قمصانا عليها صورة أسامة بن لادن وعندما رفع صبيان من أمريكا اللاتينية أعلاما تحمل صورة شيخ القاعدة. كما يتجسد الطابع الدولي لهذه المواجهة بشكل مركز من خلال المواجهة العسكرية التي تخوضها القوة العسكرية الرئيسية في العالم (أي الولايات المتحدة) في العراق حيث تنشط العديد من التنظيمات ذات التوجه القاعدي بل أن أحدها يمثل رسميا تنظيم القاعدة ("قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين" "حركة التوحيد والجهاد" سابقا) كما أنها لا ترى مشكلا في أن يكون أمير ذلك التنظيم غير عراقي.
إن 11 سبتمبر مثل ثورة أكتوبر حدث يعكس ظاهرة تاريخية عريقة: الظهور الدوري (cyclic) للحظة راديكالية تدفع بالوضع الدولي الى إنقسام عميق حدي يقسمه الى خندقين يركزان القوى البشرية في مواجهة عنيفة لا تنتهي إلا بانهيار أحد الطرفين.
إيديولوجيا "اللحظة الراديكالية": الطهرية في مقابل الديمقراطية "البورجوازية/الكافرة"
تتميز اللحظة الراديكالية بإيديولوجيتها الحدية والقاطعة التي لا تقبل المساومات وتختار بشكل فوري الحلول النهائية ومن ثمة العنيفة. طبعا تتفاوت رومانسية الأسلوب العنيف بين "العنف الثوري" و"الجهاد" على سبيل المثال. وطبعا لا يعني ذلك أن عنف اللحظة الراديكالية هو إما سلبي أو إيجابي من الناحية القيمية حيث أن الواقع أكثر تعقيدا من أن يتحمل أحكاما إطلاقية بهذه الدرجة. كما لا يعني ذلك أن تلك الحلول العنيفة تعبر عن عقول مريضة غير متأثرة بواقع عنيف أصلا. إن كل ما في الأمر أن للحظة الراديكالية أسبابها وظرفيتها التي تبرر وجودها. ومهما كان مشهدها مأساويا فهي تعبير مركز عن ظرفيات مأساوية لا تُشاهد في الأكثر. وهكذا لا يوجد هناك موضوعيا ما يبرر الطابع الإعتذاري المرافق عادة لتحليل اللحظة الراديكالية. من الزاوية الإيديولوجية توجد إختلافات بديهية بطبيعة الحال بين الطرف البلشفي والاخر القاعدي. لن نتحدث هنا عنها لأنها معروفة للقاصي والداني. سنتحدث في المقابل عما يلقى أقل إهتماما: التشارك الإيديولوجي بينهما والذي يكمن أساسا في صيغتهما الطهرية (puritanist) التي تمنح لكلاهما حق تقرير مصائر غالبية المجتمع للإعتقاد في إطلاقية صحة رؤيتهما الايديولوجية وهو ما لا يترك مجالا للإستثاقة في تلك الأغلبية وتركها تختار بنفسها تقرير مصيرها. إن الطهرية، في الحالتين، تؤسس لمفارقة الجمع بين الإعتقاد في أحقية إحتكار التعبير عن مصالح الأغلبية مقابل رفض حق الأغلبية في اختيار المعبرين عنها: في الحالتين يتم تعريف الديمقراطية الأساسية كنظام يستحق التدمير لأنه لا يضمن إحتكار الطهريين لتمثيل الأغلبية.
في الطهرية البلشفية
في أواخر صيف سنة 1917 أنهى فلاديمير إليتش لينين واحدا من أهم مؤلفات القرن العشرين وأكثرها تأثيرا: "الدولة والثورة". فيه حسم الزعيم البلشفي نهائيا مسألتين واحدة عملية/راهنة والأخرى نظرية/سرمدية: إستراتيجيا الثورة البلشفية في روسيا ما بعد الحرب وإستراتيجيا الثورة البروليتارية أين ما كانت وفي كل الأوقات. كتب لينين "الدولة والثورة" لمعالجة نقطة أساسية: كيف تصل البروليتاريا الى السلطة. غير أن الكتاب هو في الأساس رد اخر من مجموعة من الردود على رؤية كانت تشق الأممية الاشتراكية (الثانية) مثلها الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني وأكثر القادة الأمميين شعبية حتى ذلك الوقت، كارل كاوتسكي. كان الأخير يدافع بالأساس عن وصول البروليتاريا السلمي للسلطة وكان ذلك يعني الإنخراط في العملية الديمقراطية القائمة، والتي كان هناك إجماع في صفوف الأممية الثانية على أنها "ديمقراطية بورجوازية". بعد صراع خافت تفجر خاصة مع إندلاع الحرب العالمية الأولى (حينما لم يتخذ كاوتسكي موقفا معاديا من الحرب) وتعمق مع أواخر فترة الحرب وظهور إمكانية ثورة بروليتارية روسية في صيف سنة 1917 حسم لينين علاقته بالأممية الثانية (و التي كان يصفها بـ"الأممية الثانية والنصف") وشمل ذلك بشكل خاص مسألة تقييم الدولة البورجوازية والنظام الديمقراطي. مع نجاح الثورة البلشفية وتأسيس الأممية الثالثة حسم لينين نهائيا علاقته بكاوتسكي بشكل يشبه انقساما داخل أحد الفرق الدينية: ففي نهاية خريف سنة 1918 نشر لينين كراس "الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي". بدى إستعمال لينين انذاك للفظ ذي شحنة دينية مثل "المرتد" مجرد أمر بلاغي يدخل ضمن خصوصيات الخطاب اللينيني المتميز بطابعه الحاسم والحدي. غير أن نظرة تأملية راهنة تدرك تطورات الثورة البلشفية والدولة السوفياتية خاصة خلال المرحلة الستالينية تساعد على ملاحظة الطابع التكفيري العميق للخطاب البلشفي والذي أضحى يتصف بإطلاقية عنيفة تستذكر الوسائل الإحتجاجية التي تميز بعض جوانب الأنظمة الفكرية الدينية العريقة.
لم تكن المسألة مجرد إستعارة لعناصر خطاب ديني تكفيري. لقد دافع لينين في "الدولة والثورة" عن فكرة أساسية تماثل الطرح الراديكالي الذي كان يرافق في الماضي تأسيس دين جديد مقابل تحطيم دين قديم. ومن المفارقة أن معالجة لينين لمسألة إطلاقية كهذه تمت بشكل إبداعي من خلال نص شديد السلاسة والاسترسال، من الممكن إعتباره من أفضل النصوص التي كتبها على الإطلاق. وكانت الفكرة الأساسية التي دافع عنها تعتمد على وقائع جدية تستأهل التأمل حتى من وجهة النظر الانية: هل أن النظام الديمقراطي السياسي الذي تم إرساؤه في إطار مجتمعات رأسمالية قابل لاستيعاب مساواة سياسية فعلية؟ هذه المساءلة ترجع طبعا الى أن غياب الديمقراطية الإجتماعية (أي وجود المجتمع الطبقي) ستجعل أي ديمقراطية سياسية خاضعة في النهاية للطبقة المهيمنة إجتماعيا وإقتصاديا أي البورجوازية في هذه الحالة. غير أن لينين اتجه ضمن هذه المعطيات لإختزال معنى الدولة في كونها أداة للعنف والإكراه. وعلى هذا الأساس تخلص الى أن الطريق الرئيسي لوصول البروليتاريا الى السلطة يرجع لمواجهة الإكراه البورجوازي القائم من خلال الإكراه الثوري ثم تحطيم الدولة البورجوازية بما فيها النظام الديمقراطي.
في النهاية عمليا لم ينتزع لينين "الديمقراطية البورجوازية" فحسب بل دفع عمليا الى التخلي عن الديمقراطية السوفياتية حيث تم حل كافة الأحزاب غير البلشفية التي كانت تنشط داخل السوفياتات وتم إرساء هوية طهرية مقدسة للحزب البلشفي كانت لاحقا المفتاح الرئيسي لشخص بيروقراطي مثل ستالين لإقامة نظام فرداني بامتياز كان بالتأكيد أحد العوامل التي ساهمت في فشل التجربة السوفياتية. المثير أن لينين لم يقم إلا بالتمديد المنطقي لحجج سابقة شارك كاوتسكي نفسه في صياغتها: حيث أعلن الأخير في مؤتمر الأممية الثانية سنة 1904 (مؤتمر أمسترادم) أن حق الأطراف السياسية "غير البروليتارية" في التواجد السياسي هو مجرد تكتيك مرحلي. بينما جسد تصريح القيادي البلشفي البارز كامنييف في مؤتمر الحزب لسنة 1927 ("إما الإنضباط لأغلبية الحزب أو خيانة الثورة") الطابع التراجيدي للبلشفية حيث سيُعدم الأخير بعد إتهامه بالخيانة من قبل "الأغلبية" مثله في ذلك مثل الكثيرين وذلك إثر إندحار رهيب حتى لأبسط قواعد الديمقراطية الحزبية التي وضعها لينين نفسه للحزب البلشفي. حيث تمت في النهاية التصفية الجسدية ليس لغير البلشفيين فقط بل لعناصر وقيادات بلشفية. وبالمناسبة ليس من الضروري الوقوع تحت تأثير الدعاية الغربية المنتظمة التي استعدت الحركة الشيوعية لأجل تقييم تلك المرحلة التاريخية (خاصة الفترة الستالينية) بل يمكن الإقتصار على الأرشيف السوفياتي الخاص بتلك المرحلة والذي تم نشره وترجمته في السنوات الأخيرة والذي يحتاج من كل المرددين بشكل دوغمائي لشعارات قديمة مراجعته بشكل جدي.
يصعب الحكم على ما انتهى اليه البلاشفة من طهرية على أنه النهاية الطبيعية للطروحات الماركسية أم هي النتيجة الضرورية للوضع الروسي ما بعد الحرب، أم خليط من الإثنين. على كل حال تبدو راديكالية اللحظة التاريخية الدولية المحيطة بالحدث البلشفي ذات تأثير ما على ما حدث. وعموما كان قرار الثورة العنيفة ومشروع "تحطيم الدولة البورجوازية" القاعدة العملية والايديولوجية التي جعلت من التفكير الإقصائي والتصفوي مسألة غير قابلة للمراجعة بالحسابات البراغماتية، وهذا ما يشكل في الواقع محرك القاعدة الثابتة التي تعيد نفسها تاريخيا في أي حدث راديكالي: "الثورة تأكل أبناءها". وبالرغم من كل الإختلافات الايديولوجية بين الظاهرتين البلشفية والقاعدية فإن ذلك الاتجاه الإقصائي والتصفوي غير القابل للتوقف والذي يدفع الى دائرة مفرغة من الصراعات ضد صفوف لا تنتهي من المرتدين هو تحديدا ما يشكل نقطة التقاطع الرئيسية بينهما.
في الطهرية القاعدية
لا يكتب القاعديون كثيرا. وإن كتبوا فإن حضورهم الكمي المباشر في النص محدود لأن النصوص المقتبسة أو المنقولة تحتل عادة مجالا واسعا في كتاباتهم. هذا عدا الإستطرادات الشعرية المطولة التي تميز نصوصهم ليس مقارنة بالنص التحليلي السياسي المعاصر عموما فحسب بل حتى بالنسبة للنص السياسي العربي المعاصر (سيكون من المثير قراءة دراسة جدية تحدد هوية "النص القاعدي"). ولكن بالرغم من إلتزامهم ببلاغة وأسلوب تقليديين بشكل متعمد وواعي يسعى لإحداث التناسق الشكلي مع النصوص الأصولية المهيمنة على نصوصهم كميا فإن الظواهر المعاصرة التي يعالجونها بما في ذلك مسائل الديمقراطية والعلمانية وحتى السجائر والسينما تمنع عن نصوصهم هوية أصولية مجردة يرغبون في التمسك بها.
لن نعتمد هنا نصوصا تحريضية لقادة قاعديين يتميزون بالدور السياسي أكثر من الدور التنظيري أو "التأصيلي". ولهذا ستنستبعد نصوص أسامة بن لادن وأبي مصعب الزرقاوي، والتي تكرر على كل حال أهم عناصر نصوص القادة المنظرين. سنعتمد في المقابل على نصوص ثلاث رموز تميزت بـ"عمق" ووضوح نسبيين بالإضافة الى تأثيرها الواضح على النسق العقائدي لمعظم التيارات القاعدية. يتعلق الأمر أساسا بعبد الله عزام وأيمن الظواهري وبدرجة أقل عمر عبد الحكيم (أبو مصعب السوري) والذي تتميز نصوصه ببعد تحليلي أعمق بعض الشيء من الأولين ولو أنه لا يحظى بنفس درجة تأثيرهما. بالنسبة لنصوص عبد الله عزام وأيمن الظواهري سنعتمد ما نُشر منها مؤخرا من قبل عبد الرحيم علي في ملحقات كتابه "حلف الارهاب" (القاهرة 2004 ج 1 و3). في حين سنعتمد بالنسبة لعمر عبد الحكيم على ما نشر في موقعه الالكتروني خاصة في الأشهر الأخيرة.
لم يشارك عبد الله عزام، بطبيعة الحال، في التحضير لحدث 11 أيلول (سبتمبر)، ولكنه شخصية محورية في تكون الظاهرة القاعدية. ويخطئ البعض عندما يحصرون دوره في الجانب التنظيمي التأسيسي من خلال نسب تأسيس تنظيم القاعدة إليه. فعلاوة على هذا الدور يتميز عزام بتشكيله لرؤية أساسية في تنظيم القاعدة تميزه ومن بعده الظاهرة القاعدية بشكل عام. وفي الواقع على عكس ما يردده الكثيرون من جهة مسؤولية أيمن الظواهري على حسم توجه القاعديين (وأسامة بن لادن) في علاقة بـ"الجهاد" ضد "الكفار الأصليين" (تحديدا الولايات المتحدة) فإن هذا المفهوم يرجع بالأساس الى عبد الله عزام ولم يقم أيمن الظواهري إلا ببعض التحويرات في هذا المجال على ضوء المستجدات الواقعية. فقد "أصل" عزام في إطار مجموعة خطبه التي ألقاها قبل مقتله أواخر الثمانينات والمعنونة بـ"في الجهاد فقه واجتهاد" لقضية "دار الاسلام" و"دار الحرب" حيث اعتبر أن الجهاد أصبح "فرض عين" منذ اللحظة التي احتلت فيها قوات غير مسلمة أراضي في دار الاسلام ويشير على هذا الاساس الى أن تاريخ انبعاث هذا الفرض يرجع أساسا الى تاريخ سقوط غرناطة في أيدي القوى المسيحية. ومن الواضح هنا أن عزام يركز بشكل خاص على مواجهة العدو الخارجي وعلى الأراضي التي تقع تحت إحتلال أجنبي وهو ما يمكن تفسيره بأصوله الفلسطينية وتجربته ضمن حركة فتح حيث كان قد شارك ضمن أنشطتها في الضفة الغربية أواخر الستينات قبل إقتناعه "بعدم نجاعة الجهاد تحت راية علمانية". وهكذا لم تحتل مسألة الوضع الداخلي أو الصراع ضمن مجال دار الإسلام موقعا مركزيا في البداية. ومن ثمة لم يطرح عزام مسألة تكفير الحكام بشكل ممنهج وواضح واقتصرت إشاراته في هذا الإطار على ملاحظات متفرقة وهو ما عكس رؤية محددة في الصفوف العربية المتمركزة في إفغانستان وهو ما انعكس كذلك في مساهمة تنظيمات إسلامية متنوعة (تلك التي تكفر الحكام أو التي تمتنع عن ذلك) في المجهود العربي في إفغانستان. بالإضافة الى ذلك لم يكن خطاب عزام (بالرغم من خلفيته السلفية) يتعرض الى الصراع الطائفي تحديدا ضد الشيعة كجزء من "معركة الإسلام" وهو الأمر الذي يشكل علامة أساسية في الخطاب القاعدي الراهن (العراق نموذجا) والذي لا يمكن تعريفه بمعزل عن الهوية الطائفية المضيقة لأحد الفرق السلفية/الحنبلية. غير أن عزام ساهم في نهاية التحليل في التأسيس لمنهج تكفير الحكام الذي سيتأصل لاحقا من خلال التركيز على فكرة محورية لاطالما كررها وهي أن الطرف الوحيد القادر على الممارسة الجهادية وتحرير دار الإسلام هو الطرف المتمسك بـ"الشريعة الاسلامية"، وهو ما يعني طبعا التمسك السلفي/الحنبلي بالشريعة لا غير.
وهذه النقطة تحديدا هي التي سيقوم بإنضاجها أهم منظري الخطاب القاعدي الراهن أيمن الظواهري. وفي أحدث كتابات (تسجيلات) الظواهري وأكثرها إثارة للإهتمام من حيث البناء النظري والتناسق والدقة "تحرير الانسان والأوطان تحت راية القران" (نشر موقع "شفاف الشرق الأوسط" في 31 يناير/كانون الثاني 2005) يحدد الزعيم القاعدي بشكل لا لبس فيه تراتبية دقيقة يضع فيها مسألة "تحرير الأوطان" كمسألة ثانوية وتابعة لمسألة محورية يتوقف عليها كل شيء: "حاكمية الشريعة". وقد سلك الظواهري طريقا معقدا من الناحية التنظيمية ليصل الى المشاركة في تأسيس تنظيم القاعدة. وعكس ذلك المسار التنظيمي في الواقع مسارا فكريا وبرامجيا. غير أنه طيلة ذلك المسار المليء بالتحولات والتحويرات حافظ الظواهري على إيمان أساسي وهو رئيسية مسألة الصراع ضد "المرتدين" وتكفير الحكام على حساب مسألة الدفاع عن دار الإسلام. وهنا من الضروري التذكير بمحطة نظرية أساسية ليس في مسار الظواهري فحسب بل في التأصيل للتيار القاعدي بشكل عام وهي كتابة عبد السلام فرج، الزعيم الرئيسي لتنظيم الجهاد المصري قبل تزعمه من قبل الظواهري، لمؤلف "الفريضة الغائبة" والذي أسس بشكل منهجي للمنهج النظري الذي يجعل من مسألة التحرير الوطني خاضعة لمسألة تحرير دار الإسلام من "كفار الداخل". وهي الرؤية التي عمل على نقلها الى الواقع من خلال تركيز الخطة السياسية لتنظيم الجهاد وخاصة خلال مرحلة إشرافه على التنظيم على الإطاحة بالنظام المصري. ولم يكن تأسيسه للجبهة القاعدية صحبة بن لادن وإعلان "الجهاد على رأس الكفر" الخارجي (الولايات المتحدة) تعبيرا عن تحوله عن أجندة الصراع الداخلي مقابل تبني أجندة للصراع مع الخارج بل كان تعبيرا عن توسيع جبهة الصراع لا غير. وكان من ضمن اخر كتاباته التي قدم فيها تحليلا إضافيا في اتجاه طبيعة العلاقة بين الصراع ضد "كفار" الخارج و"كفار" الداخل هي رسالة كتبها في كانون الأول/ديسمبر 2002 بعنوان "الولاء والبراء: عقيدة منقولة وواقع مفقود". وقد قام فيها باسترجاع قاعدة فقهية مشهورة وهي "عقيدة الولاء والبراء" والتي تعني في تحليل الظواهري خندقة الواقع داخليا وخارجيا، وشرح العلاقة بينهما حيث أعتبر أنه ليس من الضروري محاربة "الكفار الأصليين" (المسيحيين، اليهود... إلخ) فحسب بل أن "الكفار المرتدين والمنافقين" هم كذلك ليس لمجرد "الموالاة" السياسية للـ"الكفار الأصليين" بل لـ"تعظيم شعائرهم" وهو ما يشمل أيضا القبول بـ"النظام الديمقراطي". غير أن الفرز الداخلي الى "مرتدين ومنافقين" في مقابل "مسلمين" لا يتوقف عند هذه الحدود بل يشمل طيفا واسعا جدا من الداخل، وهو ما شرحه في الفصل الثاني من الرسالة "صور من الإنحراف عن عقيدة الولاء والبراء" حيث حدد صور الإنحراف في أربع فئات يضعها في سلة واحدة: فلا يشير الى "الحكام الخارجين عن الشريعة" و"مجاهدي أمريكا" (و يعني بذلك الذين يرفعون شعارات إسلامية ويحاربون مع الولايات المتحدة مشيرا الى النموذج الأفغاني) فحسب بل يضيف إليهما "أعوان الحكام" (ولا يشمل ذلك فقط "الموظفين الرسميين" الذين يساندون الأنظمة القائمة بل يتعداه الى كل من يدعو الى "إرجاء الجهاد") بل أيضا "دعاة التصالح الموهوم" (ويُعرف الظواهري هؤلاء بأنهم "الفئة التي تدعو الى التصالح مع الحكومات الخارجة على الشريعة لمقاومة الأعداء"). وهكذا لا يتوقف الأمر على جوهرية الصراع الداخلي ضد الحكام فحسب بل أن كل حتى من يدعو الى تكتيك مخالف للخطة القاعدية (من نوع تأجيل الصراع ضد الحكام مقابل الصراع ضد الولايات المتحدة وإسرائيل) هم أيضا جزء من الفئة "المرتدة"، وهو ما يشمل معظم التيارات الوطنية إسلامية وقومية ويسارية. والمفارقة أن بعض قطاعات هذه التيارات يمارس خطابا متعاطفا وتبريريا لصالح التيار القاعدي. وتأتي الرسالة الأخيرة "تحرير الانسان والأوطان تحت راية القران" للتأكيد القاطع على هذه النقطة حيث يشترط التعاون في ممارسة "تحرير الأوطان" بالقبول أولا بمفهوم "حاكمية الشريعة" وهو موقف لا يستند الى رؤية مضادة من الديمقراطية السياسية فحسب بل الى تحليل مذهبي يستعمل اليات تحليل السلفية/الحنبلية ولا يقبل بغيرها. وفي كلمة يقطع الظواهري والبرنامج القاعدي الطريق على كل من ينتظر أن يركب الموجة ويشكل مع تنظيم القاعدة "جبهة وطنية" حيث ليس لدى القاعديين أي إستعداد للقيام بذلك.
وليست المواقف أعلاه مجرد تهويمات نظرية بل توجد لها دلائل قوية على أرض الواقع. وكانت ولا تزال أهم المؤشرات العملية على جوهرية مسألة الصراع الداخلي لدى الظواهري هي هجومه العنيف على مراجعات "الجماعة الإسلامية" في مصر وتخليها عن محاربة النظام ورفضه لإعلان أي تراجع في علاقة بتنظيم الجهاد في مصر. ولكن من الواضح أن الظواهري لم يعد له نفوذ قوي على جماعته وقيادتها التاريخية فمن المعروف أن عبود الزمر وهو أهم قادة تنظيم الجهاد داخل مصر حيث لا يزال يتمتع بالنفوذ الأكبر قد أعلن ليس عن رغبته في وقف الصراع داخليا فحسب والانضمام الى مبادرة "الجماعة الاسلامية" لوقف العنف بل تجاوز ذلك للحديث عن ضرورة تبني النموذج الديمقراطي ومفاهيم التعددية السياسية (راجع مقال الزمر بالغ الأهمية في دورية "المنار الجديد" صيف 2004). وبالمناسبة توفر المقارنة بين "رفيقي كفاح" مثل الظواهري والزمر نموذجا مميزا لمدى التناقض الذي يمكن أن يظهر عند إستخلاص الدروس من التجربة الواحدة.
بالإضافة الى موقف الظواهري من الوضع المصري، فإن موقفه من الوضع الجزائري يؤكد ما أشرنا إليه أعلاه. حيث قام الظواهري ومن ورائه التيار القاعدي بدعم "الجماعة الإسلامية المسلحة" حتى عندما بادرت أواسط التسعينات الى مهاجمة المدنيين من موظفي الدولة وخاصة مقتل غيرهم من المدنيين الأبرياء حيث تم تبرير ذلك بـ"التترس" وهي المسألة الفقهية التي ساهم في التنظير لها (أنظر مثلا رسالته "الجهاد وفضل الشهادة") مع غيره من المنظرين للتيار القاعدي مثل أبو قتادة الفلسطيني. وقد بسط عمر عبد الحكيم (أبو مصعب السوري) في مؤلف مهم نشره إلكترونيا سنة 2004 ("مختصر شهادتي على الجهاد في الجزائر") خفايا الصراع داخل القاعديين وخاصة تذبذب مواقفهم في علاقة بمسلسل المذابح التي أعلن عنها تنظيم "الجماعة الإسلامية" غير أن المسألة الأساسية التي أدت الى قرار القطيعة بين التيار القاعدي و"الجماعة الاسلامية المسلحة" كانت مقتل الشيخ محمد السعيد وليس مسألة "التساهل في قتل المدنيين". وبقي إهتمام القاعديين والظواهري بدعم الصراع الداخلي في الجزائر ورفض أية مصالحة وطنية متواصلا حيث تركز الإهتمام في السنوات الأخيرة على دعم "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" والتي تبدو علاقتها بهم (تنظيميا وفكريا) أكثر تماسكا: حيث قبلت الأخيرة على عكس "الجماعة الإسلامية المسلحة" باحتضان مبعوثين من تنظيم القاعدة للإشراف علي خططها (يذكر أبو مصعب السوري أنه كان مرشحا للقيام بذلك الدور أيام التحالف مع الجماعة الإسلامية غير أن الأخيرة ماطلته).
وتبرز هذه الإستراتيجيا الإقصائية والعنيفة على المستوى الداخلي بشكل أكثر تناسق بعد أحداث 11 سبتمبر حيث أصبح من الواضح أن الصراع والتحرش الذي تقوم به على سبيل المثال "جماعة الضنية" اللبنانية ضد فصائل المقاومة الفلسطينية في مخيم عين الحلوة و"جهاد" تنظيم "قاعدة الجزيرة" ضمن هذه الخطة العامة التي لا تؤجل الصراع الداخلي على حساب الصراع الخارجي بل هي أكثر من ذلك لا تحصر الصراع الداخلي في الحكام فحسب بل تشمل فيه قطاعات واسعة من "المرتدين" وحتى من غير "المرتدين" حيث يأتي دور فتاوى "التترس" لتبرير قتل كل من هو ليس قاعديا تقريبا. وفوق أي مثال يأتي الوضع العراقي ليوفر مثالا دقيقا على البرنامج القاعدي: حيث لا يتم مهاجمة "العملية الإنتخابية" الأمريكية لأنها مسرحية تستهدف إطالة الإحتلال بل يتم مهاجمتها بالأساس لأنها ممارسة "كافرة" في كل الظروف: وهكذا لا يتعلق التكفير هنا بمواجهة الإحتلال القائم بل يتعلق بمسألة إجتهادية مذهبية تهم جميع الأقطار الإسلامية الواقعة منها تحت "كفر" الإحتلال أو "كفر" الحاكم (أنظر في علاقة بالوضع العراقي مقالنا السابق "حول القاعديين في العراق وماهية المقاومة العراقية" 25 أكتوبر 2004).
إن سقف الطبيعة الطهرية للمشروع القاعدي تتجسم في روحها الإقصائية التي تمتد حتى الى من ينوي قتال "الكافر" المحتل تحت راية لا تدين مذهبيا بالسلفية/الحنبلية، دع عنك الراية العلمانية. إن تكفير الديمقراطية فكرة في غاية الإنسجام مع هذا المشروع الإقصائي العام والذي تمت صياغتها على أساس مذهبي محدد. إن القاعديين لا تهمهم قضية التحرير الوطني إلا متى كان الوطن مذهبيا (سلفيا/حنبليا). وتفتضح الطبيعة المذهبية الإقصائية بالتحديد في المثال العراقي: فحيث يعرف القاصي والداني أنه لن يمكن تحرير العراق من دون التعاون بين شيعته وسنته، ولكن الشيعة العراقيين لا يهمون القاعديين إلا بوصفهم "رافضة" يمارسون تأمرا تاريخيا على "أهل السنة والجماعة" (إقرأ أهل المذهب السلفي/الحنبلي)، وهو ما يشكل عاملا طاردا لجهود التقارب بين صفوف المقاومة السنية والشيعية. وتنكشف حدة هذه الرؤية التي ترى الشيعة عدوا ضروريا في الحالة اللبنانية حيث لاطالما قام القاعديون بالتشكيك في حرب المقاومة التي خاضها حزب الله، وتحتوي مواقعهم الالكترونية على سبيل المثال على قصص تشير الى "إهتداء" مقاتلين عرب ذهبوا لمساعدة "قوى الضلال الرافضي" في لبنان قبل إستفاقتهم وانضمامهم الى صفوف "المجاهدين" في إفغانستان والشيشان: فـ"الجهاد" بمعناه القاعدي هو سلوك مذهبي (سلفي/حنبلي) قبل أن يكون حربا ضد "اليهود والنصارى". وهكذا ليس تكفير الديمقراطية في هذه الحالة مجرد تفصيل فقهي يتعلق بقواعد أساسية للإسلام (كما يحاجج الظواهري) بل هو جزء من منهج فكري إقصائي يرتكز على الفرز المذهبي، ويتسم بالإعتقاد المطلق في طهريته الذاتية، وهي حالة لا تجد جذورها في قواعد الفقه الإسلامي (كما يعتقد منظرو القاعدة) بل في طبيعة اللحظة الراديكالية الراهنة والتي تحتاج على أي حال إلى مثل هذا الخطاب الطهري مهما كانت هويته الثقافية. وهذا النهج، كأي نهج طهري اخر بما في ذلك الطهرية البلشفية، سيقوم في النهاية بتفجير صراعات داخلية لامتناهية تنهك الصورة الناصعة للطهريين. وهكذا لا يهم إن كانت الطهرية القاعدية طهرية ربانية/سماوية على المستوى الخطابي فإن شروطها ومعانيها هي واقعية/أرضية لا تختلف عن شروط ومعاني الطهرية البلشفية.
في الخاتمة نود أن نكرر ما سبق أن أشرنا إليه وهو أننا لسنا بصدد التقييم القيمي لأي من الظاهرتين، البلشفية والقاعدية. كما أننا لم نتجاهل الاختلافات البديهية بينهما بقدر ما رأينا فيهما تعبيرا ضروريا عن منعطف تاريخي دوري تختلف تعبيراته للاختلاف البديهي لمعانيه، فـ"التاريخ—ببساطة—لا يكرر نفسه". غير أننا أشرنا الى أن هذا المنعطف يحتوي تعبيرا فكريا/مذهبيا ثابتا وهو الطهرية التي تتكلم باسم التاريخ/المجتمع بدون الإستعداد للثقة في خياراته الحرة.
إن للطهرية سحرها الخاص. ويبدو أن لذلك السحر تأثير على التعرف البشري الخلاق على بدائل أكثر واقعية للخلل الذي يقف وراء أي لحظة راديكالية. غير أن تلك البدائل الوسطية تنشأ تحديدا على أنقاض البدائل الطهرية. فليست الإمكانية الواقعية لتحقيق المشروع الطهري هي التي تجعله يساهم في صنع التاريخ. يساهم هكذا مشروع في إنتاج مراحل تاريخية جديدة بقدر مساهمته في صناعة الواقع الراديكالي الناشئ عن الإعتقاد فيه. أي بقدر توفيره للظروف المناسبة لبدائل قادرة على تجاوز طبيعته الطهرية بالذات.
الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية
نُشر كاملا في موقع ميدل إيست أون لاين في 5 فبراير (فيفري) 2005 و على جزئين في صحيفة القدس العربي يومي 4 و 11 فبراير (فيفري)

0 Comments:

Post a Comment

<< Home