Wednesday, April 13, 2005

من أجل تيار ليبرالي وطني

من أجل تيار ليبرالي وطني: في الحاجة التاريخية لتبني القوميين و الاسلاميين للمنظومة الليبرالية

الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية

اختطفت مجموعة محدودة من الأطراف الهامشية عربيا الشعار الليبرالي و ذلك من خلال الاستعانة بهيمنة إعلامية لا تعكس شعبية حقيقية. حيث أصبحت البرامج الحوارية الفضائية، مثلا، تستعمل تسميات تحيل على تباينات غير دقيقة من نوع وضع محاور "ليبرالي" ضد محاور "إسلامي" أو "قومي"، بما يعنيه ذلك من الفصل المطلق بين الرؤيتين الوطنية و الليبرالية. و في الواقع فإن هذه الأطراف "الليبرالية" تتميز بمعاداتها للمصالح الوطنية و القومية العربية أكثر من تميزها بأي مشروع ليبرالي. و بالرغم من كل جهودها للتطوع للمشاركة في بروباغندا الحملة الأمريكية العسكرية فإن أوساطا أمريكية رئيسية في الأوساط الحاكمة و تحديدا داخل مجموعة النيومحافظين قد اقتنعت أن مثل هذه الأطراف هامشية و أن الأطراف الوطنية و خاصة الاسلامية المعتدلة هي الوحيدة التي تملك زمام المبادرة السياسية عربيا و بالتالي التأثير على المجرى الفعلي للأحداث (أنظر سلسلة مقالاتي السابقة حول هذا الموضوع). و بالرغم من تبني بعض الأطراف الوطنية قومية و إسلامية لشعار الاصلاح السياسي و الدمقرطة إلا أن الكثير منها لايزال مترددا في التبني الحاسم و الواضح للمشروع الليبرالي في كليته. و من ثمة هي عاجزة سياسيا على التأثير بشكل إيجابي. و هو ما يجعلها تساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في الدفاع عن نظام عربي رسمي تتدعي التمايز عنه. و عوض تبني المشروع الليبرالي و الذي سيوفر لهذه القوى مجالا لتجديد علاقتها بالشارع العربي (الذي فقد ثقته في هذا النظام كما فقد ثقته في شعارات جامدة) فإن غالبيتها لايزال يعتقد أن الدمقرطة العربية تصب في المشروع الأمريكي. و هكذا يقع الخلط بين مواجهة السياسة الأمريكية و مواجهة شعاراتها، حيث يصبح التشكيك في جدوى الديمقراطية و أهميتها محورا لخطاب هذه القوى بذريعة الدفاع عن القضايا الوطنية. كما يقع الخلط بين ما تنويه السياسة الأمريكية و ما يمكن أن يحدث فعلا جراء تلك السياسات. فهل الدفاع عن القضايا الوطنية يعني استعداء المنظومة الليبرالية؟ و هل أن السياسة الأمريكية للدفع باتجاه إصلاحات ليبرالية يعني أن الإصلاحات الليبرالية معادية لمصالح الأمة؟

في "لاغربية" المنظومة الليبرالية
أولا نعني بالليبرالية بشكل أساسي تلك المنظومة الفكرية التي صادف أن نشأت و تطورت أساسا في المجال التاريخي و الحضاري الغربي و التي تعبر عدى بعض الخصوصيات عن قيم إنسانية شمولية تتجه نحوها حركة التاريخ بالرغم من كل السقطات و التراجعات. و ليبرالية العالم الغربي بالشكل الذي نراه اليوم لم تتشكل إلا مع بداية القرن العشرين حيث تم التقدم فعليا/عمليا في إقرار حق الانتخاب بشكل متساوي اجتماعيا و اثنيا (منذ الستينات في الولايات المتحدة). كما تم إقرار حقوق اجتماعية أساسية بما في ذلك حق التنظم النقابي و المشاركة النسوية في الحياة السياسية. و من جهة أخرى تم إقرار حقوق النشر و الإعلام بشكل سمح بشكل تدريجي لظهور العمل الصحفي كأداة تعديل سياسي و حتى كـ"سلطة رابعة". و لم تكن هذه المنجزات الحضارية نتيجة ميكانيكية للهوية "اليهودية-المسيحية" للمجال الغربي بقدر ما كانت في تباين بل و على الضد منها في بعض الأحيان. و في الواقع كان المحتوى الرئيسي للمنظومة الليبرالية التأكيد على المعنى الانساني للشخصية الغربية و ليس على خصوصيتها الثقافية الحصرية. و لكن كان هناك جهد كبير لإحداث نوع من التوازن بين الموروث الثقافي الخصوصي للغرب بما في ذلك مكوناته القومية و الثقافية المتنوعة و المنظومة الفكرية الجديدة: و في هذا الاطار يمكن فهم التزاوج المفارق بين المنظومة الليبرالية الفكرية و الخطاب و الفعل الاستعماريين في القرن التاسع عشر. و هكذا تم مثلا الادماج التدريجي و بأشكال متفاوتة للمؤسسة الدينية في المنظومة السياسية الليبرالية و ذلك من خلال تنازلات متبادلة بالأساس و ليس من خلال الإخضاع و الإلغاء الديني. فلم يكن الإلحاد شرطا حتى في المسار الغربي للتجربة الليبرالية بل كان أحد فروعها، و ربما الأقلها تأثيرا.
و هنا نؤكد على الرأي القائل بالعلاقة العضوية بين المنظومة الليبرالية الفكرية و نشأة الرأسمالية كنظام اجتماعي و اقتصادي متباين مع المرحلة ما قبل الرأسمالية. حيث أن تصادف ظهور الرأسمالية (و هي ظاهرة تاريخية عفوية بمعنى أنها لم تظهر نتيجة لقرار سياسي أو ثقافي محدد) في المجال الأوروبي الغربي كان شديد الارتباط مع ظهور الظاهرة الفكرية التي تم تعريفها تدريجيا بالليبرالية. و هكذا فتراكم الرأسمال مع بداية القرن الثالث عشر في المدن-الدول في شمال ايطاليا كان الحضن الاقتصادي (الممول و الراعي فكريا و نفسيا) لعصر النهضة الانسانوية المبكر الناشئ في نفس المجال الجغراسياسي. و بمعنى اخر كانت أعمال كل من جيوتو و بلوتارك التعبيرات الفكرية و الفنية عن الأفق الجديد للتاجر الشمال-إيطالي. و بنفس المعنى فإن التحولات الاقتصادية و الاجتماعية التي عصفت بالمجال العربي منذ بداية القرن الماضي (في إطار الصدمة اللاسياسية التي رافقت الاستعمار المباشر) و خاصة بعد تشكل "الدولة الوطنية" و لو بشكل متفاوت (حيث لا يمكن مقارنة البنى الاقتصادية و الاجتماعية لأقطار مثل مصر و تونس بأقطار عربية أخرى لازالت تكتشف مفهوم العمل) . و التاجر و المستثمر و رجل الأعمال العربي هو بالضرورة يهيئ لمنظومة فكرية جديدة من خلال مساهمته (فرديا أو مع الأطر الدولية الرأسمالية المهيمنة) في إدخال و ترويج أشكال اقتصادية و اجتماعية رأسمالية و في أحيان كثيرة شديدة الحداثة. و على سبيل المثال فإن الاستثمارات الجديدة التي تمس التقنيات العالية تفرض بالضرورة مفاهيم فكرية جديدة: فترويج الكمبيوتر يجلب معه بالضرورة سرعة تداول المعلومة و اتساع الانفتاح الثقافي بالرغم من كل الحدود الثقافية التي لازالت ترافق التجديد التكنولوجي. إن التجديد التكنولوجي الأخير و الذي ساهم بقوة في تجدد الرأسمالية و توسيع مجالها (أكثر من أي قرار سياسي أو عسكري) مرتبط بقوة بتجدد المنظومة الفكرية الليبرالية و اتساع مجالها الجغراسياسي. إن الوضع الدولي الراهن يشير أكثر من أي وقت اخر الى كونية القيم الليبرالية: عندما تصبح فينيزويلا شافيز حاجزا أمام الضغظ الاستراتيجي الأمريكي من خلال إقرار و تأكيد القيم السياسية الليبرالية فإن ذلك يعني أن الليبرالية لديها قابلية "فينزويلية" بقدر ما لها قابلية "أمريكية".

عجز و توتر "الليبراليين" العرب
تمتلك "العلامة المسجلة" لليبرالية عربيا أطراف لا تحظى فعليا بأي تأثير سياسي داخلي إلا إذا توفر ضغط أو تدخل عسكري و سياسي غربي. من جهة ثانية لا يمثل هؤلاء مشروعا ليبراليا قابل للتحقق عربيا و الأكثر من ذلك يمثلون مشروعا استبداديا يهدف الى إقصاء الأطراف الوطنية العربية من العمل السياسي مقابل التنازل عن مشروع الدولة الوطنية.
و قد لاحظت الهامشية السياسية لهذه الأطراف كل الدراسات التي حاولت تقييم الوضع العربي السياسي الراهن بشكل موضوعي بما في ذلك الدراسات التي أصدرتها مؤسسات بحثية غربية (أمريكية و أوروبية: أنظر مقالاتي السابقة). و يقابل هذا القصور الواقعي توتر إعلامي و سياسي يجعل من هذه الأطراف في موقع أقل إقناعا. فإعلاميا تتصدر مجموعة محدودة من الأشخاص صحافة (مكتوبة، مرئية، الكترونية...) مسنودة ماليا و سياسيا من قبل أطراف شديدة التناقض. و يمكن أن نسمي هذه الظاهرة الإعلامية بـ"الليبراليين الخليجيين" و الذين يرافقهم بضع عشرات من جنسيات عربية أخرى خاصة في المنافي الغربي انضموا بشكل جماعي و تطوعي الى الاعلام العسكراتي الأمريكي من نموذج قناة فوكس.
و المفارقة الأولى هنا هو التعاون القائم بين المذكورين و مثقفين عرب منتمين سابقا لتيارات يسارية متشددة. فـ"الليبراليون" الخليجيون حديثي النشأة و شديدي الالتصاق ببعض مراكز المؤسسات الرسمية المحلية و يتمتعون بمصادر مالية لا تنضب. و هؤلاء متطرفون بشكل مشابه لتطرف قاعديي الجزيرة حيث يسعون للتمايز بشكل استعراضي و بشكل يبعث على الاثارة و لهذا فهم يركزون على الشكل و على كيفية إخراج المشهد السياسي. و طبعا لا يتمتع هؤلاء بأي وجود سياسي فعلي في أقطارهم كما أثبتت ذلك الانتخابات البلدية و التشريعية الأخيرة. و المثير هنا أنهم رأس حربة ضد تيارات إصلاحية حقيقية حيث لا يقومون فقط بالتغاضي عن التجاوزات في حقوق المساجين السياسيين الذين واجهوا بجدية و بالفعل مشكل القمع الداخلي و غياب الحريات السياسية بل يعملون على تشويههم و وسمهم بـ”التطرف”. و عموما يقوم هؤلاء "الليبراليون" بالتعبير عن بعض دوائر الحكم لاغير، و الذين لا يبدون أي استعداد لإنهاء احتكار الأطراف الحاكمة للحياة السياسية و الاقتصادية، و بمعنى اخر فهم تعبير عن موقف استبدادي يفضل الاستعاضة عن التحالف التاريخي مع المؤسسة الدينية التقليدية بوضع جديد مماثل لأوضاع استبدادية عربية أخرى حيث تحيط بجهاز الدولة نخب "حداثية" تبرر الاستبداد السياسي. و مقابل ضعفهم الداخلي يتوفر هؤلاء "الليبراليون" على نزعة موالاة متطرفة للمصالح الأمريكية، حتى أنهم يبدون في أحيان كثيرة "أمريكيين أكثر من الأمريكيين".
و يلتصق بهذه الظاهرة مجموعة من المثقفين العرب أغلبهم من المنفيين و الذين حلت تنظيماتهم اليسارية المتشددة نفسها و يشمل ذلك خاصة مثقفين من العراق و سوريا و مصر و المغرب العربي يتميزون عن نظرائهم بنشاط "ثوري" سابق و بالتالي بخبرة حركية و إطلاع أوسع على المشهد السياسي العربي خاصة في تفاصيله "الثورية" السابقة. و هؤلاء لم يغيروا في الواقع خطابهم الإقصائي حينما كانوا زعماء و أعضاء في تنظيمات تحضر "الثورة العمالية الفلاحية" حيث يمارسون نفس النبرة المتوترة و شديدة اللهجة و خاصة ضد التنظيمات الوطنية و التي يصفونها جملة و تفصيلا بـ"الفاشستية" مقابل التغطية بل و التبرير و الإشادة بالممارسات الاسرائيلية و الأمريكية الاستعمارية و العدوانية عوضا عما كانوا يقومون به في السابق من الاشادة بالتجربة السوفياتية و استعداء الولايات المتحدة. و طبعا لا تقدم هذه الفئة المتوترة أي تفسير لهذا الانقلاب و تواصل التعامل مع قرائها بنفس التعالي السابق. و الليبرالية بالنسبة لهذه الفئة تتمثل تحديدا في الالتجاء لكل السبل بما في ذلك الاستبداد السياسي الداخلي أو قوات الاحتلال و إلغاء الدولة الوطنية من أجل فرض نظام سياسي يقصي أية أطراف تدافع عن الهوية الوطنية و خاصة الأركان القومية العربية و الاسلامية لهذه الهوية. و هؤلاء يقبلون بل و يتصدرون التطرف القومي و الديني عندما يأتي من أطراف غير عربية (كردية مثلا) أو غير إسلامية (قبطية أو مارونية أو يهودية مثلا) و لهذا فهم ليسوا تحديدا ضد التطرف القومي و الديني بل ضد المقاومة القومية و الاسلامية في ظرفية العدوان الحالية. و في هذا الاطار يقومون مثلا بالخلط المتعمد بين حركات ارهابية من نوع القاعديين و حركات وطنية أخرى في الحالة العراقية.

"الليبرالية" اللبنانية
في المقابل يتميز "الليبراليون" اللبنانيون بعراقة تاريخية عربيا و بوجود سياسي فعلي وقعت ترجمته أخيرا في الأحداث اللاحقة لمقتل رفيق الحريري. غير أن الوضع اللبناني كثير التعقيد و يحتاج تركيزا خاصا. فالحركة الليبرالية اللبنانية لازالت في مرحلة الفرز و إعادة التشكل حيث أثبت حزب الله من جهة أنه قاعدة أساسية في أي تطور ليبرالي في لبنان كما أن عددا من المطالبين بانسحاب سوري فوري (خاصة وليد جنبلاط و أهم الأطراف السنية) يتباينون مع بقية الأطراف التي تسعى الى اقتناء الطرد البريدي الأمريكي بكامله أي "ديمقراطية" تعادي السوريين و تتحالف في المقابل استراتيجيا مع اسرائيل. و تمثل الأطراف اللبنانية في الأساس نفوذا طائفيا أكثر منه سياسيا حيث لا يزال ثقل الحرب الأهلية و ذكراها مؤثرا على طبيعة التحالفات السياسية و برامجها. و هكذا فبالرغم من الالتحام الحاصل حول هدف المطالبة بانسحاب سوري فإن ذلك لا يعني أن هذه القوى السياسية نفسها هي التي ستكون القوة الرافعة للمشروع الليبرالي اللبناني، في ظل عدم حسم مسألة "الاستقلال الوطني اللبناني" خاصة و أن الكثيرين من المعارضة لا يرون تحققه في إطار انسحاب سوري فحسب بل يقرنونه بموقف حازم تجاه الاعتداءات الاسرائيلية و لهذا لا يوجد إجماع للمعارضة حول سلاح حزب الله بقدر ما يوجد إجماع حول سلاح سوريا. و عموما فإن المسألة الوطنية محدد أساسي سيحسم طبيعة و مكونات الجبهة الليبرالية اللبنانية اجلا أم عاجلا. و هذه القاعدة ليست خاصة بالوضع اللبناني بل تشمل الوضع العربي. و لهذا فالسبب الرئيسي لرخاوة و ضعف "الليبراليين" العرب أو أولائك العرب الذين يقدمون أنفسهم أساسا كـ"ليبراليين" هو تخليهم عن أجندة وطنية بل العمل على نقض أي مصلحة وطنية في تجاهل كامل لحيوية المسائل الوطنية في الظرفية العربية.

حيوية المسألة الوطنية في المنظومة الليبرالية عموما
تم تقديم الرؤية الليبرالية عربيا، للأسف، كرؤية بالضرورة معادية للمصالح الوطنية العليا و مفهوم الأمن القومي العربي. و يرجع ذلك بالأساس لتبنيها خاصة في الصخب السائد حاليا (كما يجسده بامتياز "الليبراليون العرب الجدد") من قبل الأطراف الذين أشرنا إليهم أعلاه: إما أطراف مرتبطة بمصالح أطراف خارجية تقدم مفهوم الأمن القومي العربي أو حتى مفهوم المصلحة الوطنية كمفاهيم متخلفة عن الواقع الراهن و "غير عقلانية"، و إما أطراف هي أيضا مرتبطة أيضا بمصالح نفس الأطراف الخارجية و لكن تستعمل قاموسا يساريا يرجع لمرحلة الصراع البدائي بين القوى اليسارية و القومية العربية حيث يقع تقديم المفاهيم أعلاها كمفاهيم "شوفينية" و "فاشستية".
و طبعا هذه المواقف لا تعبر عن موقف سياسي غير وطني فحسب بل و الأهم من ذلك لا تعبر عن برنامج ليبرالي عقلاني و واقعي أي تحديدا عن برنامج ليبرالي قابل للتحقيق عربيا. و لكن قبل أي شيئ لا تعبر عن "تقليد لنموذج غربي جاهز" كما يعمد الى القول البعض من منتقدي "الليبراليين العرب". فنشأة و تفوق الرؤية الليبرالية في المجال الغربي كانت ناتجة بالأساس و قبل كل شيئ عن تحقيق مساواة سياسية/قانونية بين مواطني الدولة-الأمة الناشئة: و هكذا حتى في أكثر الأمثلة الأوتوقراطية مثل حالة الاستبداد الملكي الفرنسي فإن التوحيد الفعلي للمجال الجغراسياسي كان غير ممكن في ظل التميز القانوني الأرستقراطي السابق للثورة. كما كان التأسيس للجمهورية في المثال الفرنسي أو البروسي-الألماني أو الأمريكي مرتبطا بتصاعد قوي لمفهوم "المصلحة الوطنية" و "الأمن القومي". كما أن توحيد السوق القومي في جل هذه الأمثلة كان المطلب الرئيسي من وراء الشعار الليبرالي الاكثر شهرة "دعه يعمل دعه يمر". و هكذا كانت أسس الإقتصاديات الليبرالية الغربية مستحيلة من دون تلك الخطوة الوطنية/القومية بالأساس.

و هكذا فالنموذج الغربي للتجربة الليبرالية بالذات يشير الى محورية المسألة الوطنية و القومية في المشروع الليبرالي. طبعا لا يوجد مسار واحد و لا نقوم هنا بالدفاع عن تاريخ تطوري مستقيم إذ سنستطدم بالضرورة مع القوى الغربية التي تحولت قوميتها الى شوفينية من خلال اتساعها لتنتهك مجالات لازالت في طور الدفاع عن حقها في السباق. حيث أن "الأمن القومي العربي" يكمن جزئيا في الحد من تغول "الأمن القومي" الأمريكي، كما أن "دعه يعمل دعه يمر" في المعنى الغربي راهنا لا تتفق بالتدقيق مع المقصود العربي من هذا المعنى. و هكذا هل يمكن لليبرالية العربية أن تنجح في حالة غياب الدولة التي تمثل السكان المحلليين؟ هل استعادة مشروع الدولة المحلية الشكلية التي تخضع مباشرة الى دكتاتورية عسكرية خارجية هو الإطار المناسب للتخلص من دكتاتورية محلية؟ و هل يمكن تصور ليبرالية اقتصادية عربيا بدون عناصر اقتصادية محلية ليبرالية قوية أي بورجوازية ليبرالية حقيقية؟ و حتى في ظل حتمية التشارك الاستثماري مع الأقطاب الليبرالية الدولية هل من الممكن أن تنجح هذه الليبرالية (أي لا ترتد اجتماعيا و سياسيا مثلما حصل في السابق) إذا ما وقع تجاهل الموقع الرئيسي للشريك المحلي؟ إن الدولة الوطنية هي شرط رئيسي لتحقيق الليبرالية السياسية و النخب الليبرالية الاقتصادية المحلية شرط محوري لتدعيم إقتصاد السوق عربيا. و هكذا فإن الليبرالية يمكن و يجب أن تكون وطنية عربيا، و لا يمنعها عن ذلك لاوطنية من يعتقد نفسه "ليبراليا".

في معنى الوطنية و علاقتها بالقومية و الاسلام
عربيا، ليس كل من هو وطني يتبنى ضرورة و بشكل واضح الطرح القومي و الاسلامي. نعرف نحن المغاربة هذه الظاهرة ربما أكثر من اخواننا المشارقة لأن حركاتنا الوطنية لم تتجه اتجاها قوميا أو إسلاميا معلنا حيث كان ذلك جزءا طبيعيا لم يقم رواد الحركات الوطنية بأدلجته. غير أننا نعلم من الطرح و لكن أيضا من التجربة أن معظم الاسلاميين و القوميين هم وطنيون بالضرورة. و طبعا توجد حالات مناقضة لذلك مثل جزء من الحالة الاسلامية الشيعية في العراق الان و التي التحمت عضويا بمشروع إلغاء الدولة الوطنية العراقية و قدمت خدماتها و لاتزال لمشروع الاحتلال العسكري. و لكن حتى هذه المجموعات تستفيد من خطاب وطني قوي داخل المشهد الاسلامي الشيعي في العراق و الذي يرى في الانتخابات الأخيرة مثلا مدخلا للاستقلال الوطني.
و لازالت مسألة طبيعة المصلحة الوطنية/القطرية و علاقتها بالمصلحة القومية مسألة إشكالية لم يقع الحسم فيها. كما يشكك البعض (من القوميين خاصة) في العلاقة بين ما هو وطني و ماهو قطري حيث تقع المماهاة غير الضرورية (تاريخيا و واقعيا) بين من هو وطني و من هو قومي. و من إشكالات التجربة القومية هو اعتبار المصلحة الوطنية/القطرية مناقضة للمصلحة القومية قبل الوصول الى السلطة مقابل اعتبارها مماهية للمصلحة القومية حين الوصول الى السلطة في قطر محدد. و يوجد إشكال مماثل في علاقة بتجربة الحركات الاسلامية، و لكن تتميز الأخيرة عن الأولى بواقعية أكبر في علاقة بمنزلة المصلحة القطرية/الوطنية و هو من العوامل المفسرة لشعبيتها نسبيا مقارنة بالطرف القومي.
و لكن عدى هذه التعقيدات الثانوية فإن الأطراف الإسلامية و القومية هي الرافعة الشعبية في الوضع العربي الراهن للمواقف الوطنية، و هو ما يفسر عموما شعبيتها مقارنة ببقية الأطراف السياسية العربية. و هذه الشعبية هي التي تجعل من الحركية السياسية عربيا بما في ذلك تحقيق مطلب صعب مثل الاصلاح السياسي غير ممكن داخليا من دون مشاركة الأطراف القومية و الاسلامية.


لحظة تاريخية مناسبة للتوازن
كنا قد أشرنا في سلسلة من المقالات السابقة الى أن هناك قسما رئيسيا ضمن النخبة الحاكمة الأمريكية بدأ يؤمن بجدية في أن هناك مصلحة أمريكية حقيقية في إصلاح سياسي و لو جزئي عربيا يتضمن أساسا إدماج الأطراف الوطنية الأساسية و خاصة الأطراف الاسلامية في الحياة السياسية العربية و القبول بحقها في الوصول الى السلطة عبر العملية الديمقراطية. و كنا وضحنا أن هذه الرؤية الأمريكية (و التي تمثل أهم تيار داخل النيومحافظين) تأتي ليس في إطار محبة فجئية للأطراف الاسلامية أو غيرها بل في إطار وعي بالأهمية المتزايدة لأطراف إسلامية شديدة الراديكالية برهنت على قدر الضرر الذي يمكن أن تلحقه الولايات المتحدة في الداخل الأمريكي. و وفقا لرؤية سابقة خلال الحرب الباردة برهنت على أهمية الاستفادة من جهود أطراف اشتراكية غير راديكالية في الحد من زحف الأطراف الاشتراكية الراديكالية (الشيوعية) فإن هذه النخبة الأمريكية أصبحت ترى في الأطراف الاسلامية غير المتشددة الحاجز الوحيد الناجع أمام القاعديين حتى و لو كانت هذه الأطراف الأسلامية تتمسك بمواقف وطنية أساسية تجعلها على تباين مع الكثير من السياسات الأمريكية. و بعكس المثل العربي القائل "يستجير من الرمضاء بالنار" فإن الطرف الأمريكي يتبع أساسا سياسة ذات روح ذرائعية (يشوبها خطاب ايديولوجي غير مسبوق) تتبنى أسلوب "الاستجارة من النار بالرمضاء".
إن تعقد الظاهرة السياسة هي القاعدة و ليست الاستثناء. حيث لا تحكم الأوضاع السياسية القاعدة الميكانيكية "إما أبيض أو أسود". و هكذا يجب على الكثير من المحللين و السياسيين العرب التخلي عن تعليقهم المستغرب عن النوايا الأمريكية في علاقة بالاصلاح السياسي و الذي لا يستطيع أن يفهم كيف يمكن للولايات المتحدة أن تقبل بوصول أطراف وطنية عربية الى السلطة السياسية. حيث أن الأمريكيين في موقف صعب و لا يوجد مثال واحد يدل على أن سياساتهم تلقى الترحيب، و لهذا فقط يلجؤون للعب بالنار، أي المراهنة على الدمقرطة العربية. و هذه لحظة تاريخية تجعل من الأنظمة العربية في أصعب أوضاعها حيث لم يعد بإمكانها الاستفادة من التغطية السياسية و الاقتصادية السابقة من الطرف الأمريكي. و حتى المحاولات المستمرة لشراء الصمت الأمريكي في قضايا الاصلاح السياسي من خلال التطبيع و التقرب من الطرف الاسرائيلي أو تبني المشروع الأمريكي في العراق لن تعود ممكنة. حيث لا تملك خيارات كثيرة و لا تستطيع استبدال أوراق لعب بأخرى حيث يملك الطرف الأمريكي كل أوراقها. و الطرف الأمريكي على وعي كامل بالأهمية الشعبية للأطراف الوطنية و هو يستهدف بالذات إشراكها في السلطة، كما وضحنا بسبب العداء غير المسبوق للمصالح الأمريكية في منطقة يراها الأمريكيون على رأس المناطق الاستراتيجية في العالم. و هكذا فمن الواضح أن هناك تراجعا أمريكيا على أساس الضغط القائم و في هذا الاطار يأتي دعم الولايات المتحدة للاصلاح السياسي.
إن أي خطوة في اتجاه دمقرطة حقيقية هي بالضرورة في مصلحة القوى الوطنية العربية لأنها ستسمح لها بترجمة نفوذها الشعبي على مستوى سياسي مؤثر. و هذا لن يتم من خلال اشتراط أمريكي بالتخلي عن الدفاع عن مكونات الهوية و تحديدا العروبة و الاسلام، حيث يعرف الأمريكيون أن هذه المطالب لن تلقى أي أثر في ظل هامشية حلفائها المباشرين و تحديدا "الليبراليين" العرب. و هذا لا يعني أن الأمريكيين سيمتنعون عن الضغط. و لكن الضغط مختلف عن الاستهداف و الاستئصال. و في كلمة هذه فرصة تاريخية لإحداث توازن في علاقة بحلفاء الولايات المتحدة من الأنظمة الاستبدادية و الذين هيمنوا لفترة طويلة على الساحة الرسمية العربية من دون الحاجة الى دفع أي ثمن وطني حيث سيُرغم الأمريكيون على القبول بالأطراف الوطنية المعتدلة أي التي لا تدعو الى "جهاد عالمي" و لكنها تدعم على كل حال قوى التحرر الوطني في فلسطين و العراق.


نماذج تصدر القوى الوطنية لمسار الدمقرطة الفعلية
من النماذج الأخيرة على تصدر القوى و المواقف الوطنية لتحركات تمثل في ذاتها مناسبات للعمل من أجل تكريس الحقوق السياسية الأساسية و ترسيخ ثقافة تعددية حقيقية هي التحركات العربية لمقاومة التطبيع. و هكذا مثلا فإن حركة "كفاية" المصرية التي تتصدر التحركات المعارضة لإعادة ترشيح الرئيس المصري ترفع كشعار أساسي في تحركاتها "كفاية تطبيع" و من المعروف أنها إطار لعدد من القوى السياسية اليسارية و لكنها أيضا تحتوي على تيار قومي قوي و هو ما يفسر نواياها لدعم ترشيح المناضل القومي حمدين صباحي في الانتخابات الرئاسية القادمة. كما أن الساحة المصرية أصبحت تجمع شعارات أساسية وطنية مثل مقاومة التطبيع أو دعم المقاومة في العراق و فلسطين مع التحركات المناهضة لتواصل حالة الطوارئ و الانغلاق السياسي بما في ذلك تحركات القوميين و الاسلاميين بكافة أطرهم.
من جهة أخرى فإن نموذج حزب الله اللبناني مثال اخر فرض نفسه شعبيا في محور الاصلاح اللبناني حتى من خلال تأكيده على التحالف مع سوريا حيث أن رصيد الحزب في المقاومة الوطنية و كخط دفاع رئيسي ضد أي تطبيع مع الاسرائيليين يكسبه شعبية تجعله رقما أساسيا في المعادلة السياسية الداخلية في اتجاه ترسيخ ثقافة حوار تعددي حيث لم يهاجم الحزب التظاهرات الأخرى بل قام بمواجهتها من خلال التظاهر الموازي. و تبرز حركة حماس الفلسطينية نموذجا اخر على التطورات التي يمكن أن تمر بها حركة وطنية في علاقة بتبني مفاهيم ليبرالية حيث ستشارك الحركة في الانتخابات التشريعية القادمة كما شاركت في الانتخابات البلدية في غزة و يأتي ذلك في إطار استراتيجيا تبني على أساس المصالح الوطنية الفلسطينية و التي لا تتناقض مع الاطار القومي و الاسلامي للقضية الفلسطينية و الذي يتكرس هنا من خلال التأسيس لنظام ديمقراطي فلسطيني يسمح بتعدد الأصوات الوطنية الفلسطينية. و من هنا كان قرار الحركة في تبني موقف التهدئة في علاقة بتثبيت الإجماع الفلسطيني في المرحلة الراهنة. و من الملاحظ أن الموقف الأمريكي من الحركة لم يكن في اتجاه واحد كما يعتقد البعض، حيث كان هناك دائما مجال للحوار و تبادل الاراء سواء حينما كان موسى أبو مرزوق زعيما للحركة من الولايات المتحدة أو حتى حينما وقع نفيه حيث بقيت للحركة مؤسسات عديدة خاصة مالية و ذلك بعلم السلطات الأمريكية و هي المؤسسات التي تعرضت للمصادرة بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) و هو ما يشكل خلفية رفض الحركات الاسلامية الفلسطينية للتنظيمات القاعدية و أساليبها. و في المقابل يعرف الامريكيون بما في ذلك أقطاب النيومحافظين الاختلاف البديهي بين التنظيمات القاعدية و تنظيمات المقاومة الاسلامية الفلسطينية و هم يتصرفون على ذلك الأساس، و هي النقطة التي أكد عليها تشارلز كراوثمر في مقاله بالناشيونال انترست في العدد الأخير حينما أكد على أن التنظيمات الاسلامية الفلسطينية ليست عدوة استراتيجية للولايات المتحدة. و في هذا الاطار يأتي التشجيع الأمريكي للنظام المصري لتنظيم حوار وطني فلسطيني كما تأتي في هذا الاطار أيضا الحوار بين أطراف أمريكية و قيادات من حزب الله و حماس أخيرا (22 اذار/مارس 2005) في بيروت (أنظر موقع الجزيرة نت) لـ"مناقشة موقف الحركات الاسلامية من قضايا المنطقة". و في الواقع من المنطقي أن تلتقط حركات المقاومة الوطنية و التي تتميز بالتصاقها المباشرو الساخن بالعمل السياسي أن تلتقط التغيرات في المنطقة و أن تكون سباقة في تبني خطاب و أساليب جديدة.

الاستعداد لتحمل مسؤولية الحكم
لكن بالرغم من هذه النماذج و التي تشكل مقدمات، علينا أن نأمل، لتبني كامل و صريح للمنظومة الليبرالية من قبل القوى الوطنية قومية كانت أم إسلامية، فإن هناك مؤشرات قليلة عن استعداد هذه القوى على تحمل مسؤولية الحكم. و عموما لا يزال هناك غموض حول برامجها الاقتصادية و الاجتماعية، حيث لا يمكن القيام بالحكم فقط على قاعدة المواقف الوطنية (توحيد الأمة، تحرير الأرض، مقاومة التطبيع...) و لا حتى على قاعدة الدمقرطة وحدها بل تحتاج مسؤولية الحكم رؤى واضحة في خصوص التعامل مع خطط التنمية الاقتصادية و الاجتماعية. و في الواقع كان للقوى القومية و الاسلامية برامج تتشابه في علاقة بقضايا التنمية و عموما (مع فوارق طفيفة) فقد تبنت القوى القومية (الأمثلة الناصرية و البعثية) و الاسلامية (المثال السوداني حتى أواسط التسعينات بتأثر مباشر من التجربة الإيرانية) برامج متأثرة الى حد كبير بالتجربة الاشتراكية التي تعتمد على التأميم و هيمنة قطاع الدولة و القطاع الاجتماعي في التسيير الاقتصادي. و من الواضح الان أن هذه الفلسفة الاقتصادية قد أثبتت محدوديتها على مدى التجارب التي حصلت طوال القرن العشرين. و في المقابل فقد صمدت الفلسفة الليبرالية الاقتصادية أمام مشاريع استبدالها حيث نجحت في البقاء من خلال قدرتها و قدرة أسسها الواقعية على التأقلم مع المتغيرات و التعديل الذاتي بل و إستعادة مجالها الجغراسياسي و توسيعه. و الان لم يعد من الممكن من وجهة النظر الموضوعية الدفاع عن وجهة النظر القائلة باستبدال جذري للنظام الاقتصادي الليبرالي كما دافعت عن ذلك التجربة الشيوعية و التي قامت على ضفافها تجارب التنمية التي قادتها القوى الوطنية العربية. و هنا من الضروري توضيح نقطة رئيسية: إن المدرسة الليبرالية الاقتصادية تحتوي العديد من التيارات و التيار النيوليبرالي الراهن لا يعبر وحده عن مختلف التيارات الليبرالية. و لهذا من غير الممكن إختزال الليبرالية الاقتصادية في النموذج النيوليبرالي و استتباعاته المضرة خاصة على مستوى الدول النامية بما في ذلك الأقطار العربية. و هنا من الضروري التذكير أن المدرسة الكينيزية و التي تتميز بحساسيتها تجاه المسألة الاجتماعية و رفضها للفوضى الكلية للانتاج، و كذلك بوصفها المسؤولة عن الرفاهية التي اجتاحت الغرب اثر الحرب العالمية الثانية هي في الأساس تيار تعديلي ليبرالي. حيث كانت إصلاحا ذاتيا للنظام الليبرالي في مواجهة الأزمات الخانقة التي توجت سنة 1929 بالأزمة المالية الدولية. و هي بالتالي نموذج يستحق الاهتمام و الدراسة بالنسبة للقوى الوطنية العربية. و عموما يجب الإقرار بوضوح بأهمية النموذج الليبرالي كأفق للتنمية الاقتصادية و هذا لا يعني استنساخ أي نموذج معين و لكنه يعني التزاما فلسفيا ينسجم مع ضرورات الواقع و دروس التجارب الاقتصادية الدولية بما في ذلك التجارب العربية. و يمكن التذكير في هذا الاطار أن كل دول العالم (بما في ذلك الصين و كوبا و حتي العراق قبل الاحتلال) تسعى للالتحاق بمؤسسات الاقتصاد الدولي بصفته الليبرالية، و هو مؤشر واضح على استحالة إيجاد أي طرق أخرى بديلة جذريا عن النموذج الليبرالي.
من جهة أخرى و في إطار نفس الرؤية الليبرالية يمكن التأكيد على الجهود التي تقوم بها يعض الأوساط الرسمية العربية بدفع من قطاع هام من رجال الأعمال العرب للتركيز على تكثيف التبادل التجاري العربي و تأسيس أسواق حرة عربية حتى من أطر إقليمية. و على سبيل المثال فإن على جميع القوى في المغرب العربي الدفع بكل قوة تجاه تكوين سوق مغاربية، وهذا ليس مشروعا خياليا حيث يشترط عنصرين يمكنهما التوفر في الظروف الدولية الراهنة: أولا، أنظمة تتميز بحد أدنى من الديمقراطية و هو ما يوفر مجالا لترجمة إرادة شعبية قوية على المستوى المغاربي لتوحيد السوق و الشفافية اللازمة لمثل هذا المشروع الاقتصادي الهام. ثانيا، الاستعداد بل التشجيع الدولي و خاصة من قبل القوى الأكثر تصنيعا (بما في ذلك الاتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة و الصين) للتعامل مع سوق مغاربية واسعة و من المعروف أن هذه القوى و واجهاتها (مثل صندوق النقد الدولي) تدفع باتجاه تطور مماثل. و طبعا نجاح مثل هذه الخطوة سيدعم استقلالية القرار (مثلما حال دولة مثل الهند الان) و الدفع باتجاه توسيعها في المجال العربي (نحو مصر مثلا). و عموما فإن مثل هذه السوق الحرة و الموحدة تمثل رهانا ضروريا لإنقاذ المنطقة من تحديات التجارة الدولية.

إن هناك حاجة تاريخية من قبل القوى الوطنية العربية و خاصة منها القوى القومية و الاسلامية لحسم أمرها بشكل واضح (فكريا و عمليا) في علاقة بالمنظومة الفكرية الليبرالية و هو ما لا يعني تجاهل الخصوصيات العربية. و لكن هذه الخصوصيات لا يجب أن تكون ذريعة للتغطية على تجارب دكتاتورية سابقة و مواصلة تجاهل سلبية الاقصاء السياسي و تهميش حريات التعبير و التنظم. و من جهة أولى على القوى "الليبرالية" المعزولة أن تفهم أن المشروع الليبرالي غير ممكن عربيا من دون مشاركة الأطراف الوطنية و من خلال الدعوة و المشاركة في نسف الدولة الوطنية. كما أن على الأطراف الوطنية أن تفهم أن تحقيق الحقوق الوطنية و الأهداف القومية غير ممكن في حالة الإقصاء و فرض نماذج محددة بالقوة على الشارع العربي، حيث يطلب المواطنون العرب خطابا أكثر احتراما لعقولهم.

و لايعوز القوى الوطنية العربية الوثائق و البيانات للقيام بذلك. إن وثيقة البيان الأخير للمؤتمر القومي العربي المنعقد في الجزائر (مثله مثل الكثير من البيانات السابقة له) يمكن أن يكون وثيقة مبدئية (على الأقل في علاقة بالليبرالية السياسية) تكون قاعدة لتحولات ميدانية، بما يعنيه ذلك من تغييرات في الخطاب و الممارسة و المهام اليومية و ليس مجرد إعلان سنوي. فالمشكل الرئيسي بالنسبة لبعض القوى هو في البرامج العملية و عمق تعلقها و تشبعها فعليا بالرؤية الليبرالية التي تعلن، و لو حتى ضمنيا، التمسك بها.



ميدل ايست اون لاين 13 أبريل 2005

0 Comments:

Post a Comment

<< Home