Tuesday, November 11, 2003

نشأة و تطور استراتيجيا "الحرب الاستباقية" (Preemptive War)


نشأة و تطور استراتيجيا "الحرب الاستباقية" (Preemptive War)
بقلم: الطاهر الاسود (*) لا تملك نوايا مفكر حالم وسائل تشكيل ظاهرة تاريخية مثل الظاهرة الامبراطورية. فلا يصنع المفكرون امبراطوريات بينما يمكن القول ان الامبراطوريات تصنع مفكريها. غير أنه بمجرد ولادة المفكر الامبراطوري فإنه يضطلع بمهمة ترويج و عقلنة عقيدة الازدهار المستديم للامبراطورية, و تصبح بالتالي الخطوات العملية التي تترجم استراتيجيتها العامة محاطة بهالة تلك العقيدة. و هكذا يساهم المفكر العقائدي في توسيع و إعادة إنتاج الامبراطورية من خلال عمله الحثيث على صناعة أسطورتها. و مثلما كان للامبراطورية الرومانية عقائديون من طراز تاسيتوس (Tacitus) فللولايات المتحدة عقائديوها الذين يؤمنون بحقها الامبراطوري و يسعون الى وضع وسائل تجسيده.و تعيش الولايات المتحدة في السنوات الاخيرة تحولا مهما أصبحت فيه مجموعة من المبادئ العقائدية –و التي يمكن وصفها بعناصر ايديولوجيا واضحة المعالم يتبناها و يروج لها أساسا فريق المحافظين الجدد— المرجع الأساسي للخطوات العملية للاستراتيجيا العسكرية الامريكية. و تُعتبر الحرب الامريكية الاخيرة على العراق التجلي الأكثر وضوحا على مثل هذا التحول حيث كانت النموذج الاول للمفهوم الاستراتيجي المتمثل في "الحرب الاستباقية" (Preemptive War). و سنسعى في هذا المقال الى محاولة تتبع نشأة و تطور هذا المفهوم من خلال الوثائق المتوفرة و هو ما سيبين أن أحداث 11 سبتمبر لم تقم إلا بتعجيل تبني الادارة الامريكية للاستراتيجيا الجديدة فقد توغل المؤمنون بها قبل ذلك بسنوات في دوائر القرار الامريكي بدرجة كافية لجعلها عقيدة رسمية. “عقيدة بوش” اثر أيام قليلة من الذكرى السنوية الاولى لاحداث 11 سبتمبر و تحديدا يوم 17 سبتمبر 2002 اصدرت الادارة الامريكية وثيقة لم تلق بعد القدر الكافي من الاهتمام. الوثيقة (من 31 صفحة) تحمل عنوان"استراتيجيا الامن القومي للولايات المتحدة الامريكية" ممضاة من الرئيس الامريكي, الذي قام بتقديم موجز لها, و هي رسميا من انجاز مجلس الامن القومي, احد الدوائر الرئيسية المحددة للسياسة الخارجية الامريكية. [1] وبسبب التبني الرسمي للوثيقة من قبل الرئيس الامريكي فقد اختارالمحللون السياسيون لهذه الوثيقة اصطلاح "عقيدة بوش(Bush Doctrine)". غير انه من المرجح ان تكون كوندوليزا رايس (Condoleeza Rice) المشرف الرئيسي على انشطة مجلس الامن القومي هي المسؤولة الرئيسية عن كتابتها. ان الاعلان عن مثل هذه الوثائق أمر نادر. فليس من المعتاد ان تنشر الولايات المتحدة وثيقة رسمية تعلن فيها بشكل تفصيلي عن المبادئ الرئيسية لاستراتيجيتها العسكرية. [2] و من النماذج القليلة المماثلة للوثيقة التي بين ايدينا تلك الدراسة الصادرة ضمن بحوث الخارجية الامريكية سنة 1947 و المحررة من قبل جورج كنان (George Kennan) وهو أحد الرواد الرئيسيين للمدرسة "الواقعية" في السياسة الخارجية الامريكية و التي كانت المرجع الرئيسي للسياسة العامة للولايات المتحدة خلال الحرب الباردة المعروفة باسم "الاحتواء (Containment)". غير أن جدلا كبيرا حدث اثر نشر الوثيقة الاخيرة بالاضافة الى ان كنان لم يمض بشكل رسمي على دراسته. و تفسر هذه السابقة جانبا من الدهشة التي اعترت البعض اثر نشر وثيقة 2002, و التي جعلت باحثا جديا مثل قاديس من الا يتمالك نفسه من التعليق قائلا: "من التاملات المثيرة انه في عصر الديمقراطية هذا اصبح من الممكن ان نتوقع من امم العالم ان تنشر استراتيجياتها الكبرى قبل العمل على تحقيقها". غير انه من الصعب الموافقة على هذا الرأي, إذ تبدو هذه الوثيقة مؤشرا على انغلاق بعض الدوائر الرسمية على الاراء الاخرى و تصميمها على إملاء رؤيتها الاستراتيجية على بقية الأطراف العالمية. و في الواقع يمكن ان نلاحظ منذ الان انها تعكس روحا مميزة تعطي اهمية خاصة للعقيدة الفكرية و الايمان بمبادئ اديولوجية واضحة و هو سلوك غريب عن الروح الذرائعية, و المتجسدة في المدرسة "الواقعية", و التي طالما عُرفت بها الادارة الامريكية.[3] يدافع كاتب "عقيدة بوش" عن ثلاث افكار اساسية: (أ) إن القوة الامريكية تتميز بتفوق غير مسبوق:"اليوم تتمتع الولايات المتحدة بموقع قوة عسكرية لا يوجد لها مثيل"(مقدمة الرئيس). (ب) أن المعضلة الامنية الموجودة منذ ما قبل نهاية الحرب الباردة اي "الارهاب" اضحت التهديد الرئيسي للامن العالمي الراهن, غير انها لا ترقى الى مرتبة التهديد الرئيسي الا لانها تتوفر حسب نص الوثيقة على حلفاء في مرتبة دول "مارقة" تتوفر على عداء للولايات المتحدة و على اسلحة دمار شامل. و هكذا يشكل هؤلاء مجموعة واحدة من دون إبراز الأدلة على ذلك:"تحديات جديدة و قاتلة ظهرت من الدول المارقة و الارهابيين(....) خلال سنوات التسعينات شهدنا ظهور عدد صغير من الدول المارقة(...) التي تشترك في عدد من الصفات(...) [منها] ترهيب شعوبها(...) لا تولي أهمية للقانون الدولي(...) و هي مصممة على حيازة اسلحة الدمار الشامل(...) و تمول الارهاب حول العالم(...) و ترفض القيم الانسانية الاساسية و تكره الولايات المتحدة و المبادئ التي تؤمن بها." (ص13 و 14). (ج) و في النهاية فان المواجهة العسكرية ضد هذه "المجموعات الارهابية" ليست هي الهدف العسكري الرئيسي بل ان "تحطيم" السيطرة السياسية المعادية للولايات المتحدة في مجالات جغرافية محددة, ممثلة في دول بأسرها "الدول المارقة", هي المهمة العسكرية الاكثر الحاحا. غير ان طبيعة العدو حسب الوثيقة تفرض التخلي عن مفهوم "الردع (Deterrence)" و الذي لا يستلزم التدخل العسكري المباشر و قد كان مفهوما اساسيا يتحكم بالسياسة الخارجية الامريكية طيلة الحرب الباردة. و في المقابل فان هذه المرحلة الجديدة تفرض ضرب هاته الدول دون انتظار تورطها في اعمال معادية, اي اعتماد سياسة "الحرب الاستباقية":"يجب علينا ان نكون متهيئين لوقف الدول المارقة و أعوانها من الارهابيين قبل ان يصبحوا قادرين على التهديد او استعمال اسلحة الدمار الشامل ضد الولايات المتحدة و حلفائها و اصدقائها(...) لقد مضت حوالي العشر سنوات حتى استطعنا ان ندرك الطبيعة الحقيقية لهذا التهديد الجديد(...) فلا يمكن ان نترك اعداءنا يضربوننا اولا(...) و كان [خلال الحرب الباردة] اسلوب الردع دفاعا ناجعا. لكن هذا الاسلوب المرتكز فقط على التهديد بالرد اصبح اقل نجاعة لمواجهة قادة الدول المارقة و الذين هم اكثر تصميما على المخاطرة و المراهنة بحياة شعوبهم و ثروات اممهم(...) و على مدى قرون اعترف القانون الدولي بان الامم لا تحتاج للتعرض الى اعتداء قبل ان يتمكنوا شرعيا من الرد للدفاع عن انفسهم ضد قوات تمثل خطرا وشيكا للاعتداء. لقد اشترط علماء القانون و القضاة الدوليون شرعية الاستباق بوجود تهديد وشيك كثيرا ما يتمثل في استنفار بيّن للجيوش و الاساطيل و القوات الجوية استعدادا للهجوم. يجب علينا ان نحيّن مفهوم التهديد الوشيك مع قدرات و اهداف اعداء اليوم. الدول المارقة و الارهابيون لا يعملون على مهاجمتنا باستعمال الوسائل التقليدية(...) عوضا عن ذلك يعتمدون على اعمال ارهابية و في امكانهم ان يستعملوا اسلحة الدمار الشامل(...) و لمنع او استباق مثل هذه الاعمال المعادية من قبل اعدائنا ستتصرف الولايات المتحدة, اذا دعت الضرورة, بشكل استباقي."(ص 14 و 15). في تعليقه على محتوى الوثيقة يشير قاديس الى ما يلي:" هذه الخطط تعتمد اساسا على أن يُستقبل غزونا لبغداد بالترحيب مثلما تم الترحيب بنا في كابول. و اذا لم يحصل ذلك فإن الاستراتيجيا باسرها ستنهار لانها مؤسسة على الاعتقاد بان عموم العراقيين سيخيرون احتلالا امريكيا على الوضع الراهن الذي يعيشونه(...) إن هذه الاستراتيجيا قائمة على تلقي الترحيب و ليس الرصاص."و إلى حد الان لا يبدو أن الامريكيون في العراق يتلقون الترحيب بقدر ما يتلقون الرصاص. و في كابول ايضا الامور بصدد التغير بسرعة. من البديهي ان تكون احداث 11 سبتمبر فاعلا رئيسيا في التبني الرئاسي لهذه الاستراتيجيا و الاعلان عنها. غير انه من الخطأ الاعتقاد انها وليدة ما بعد 11 سبتمبر. لم تكن هذه الرؤية تحتاج لتلك الاحداث لتتبلور, فقد تكونت اهم ملامحها منذ الاشهر الاولى لنهاية الحرب الباردة, و صاغ المؤمنون بها تقارير وقع تبنيها رسميا منذ 1992. كراوثمر و مفهوم "القطبية الأحادية" في محاضرة القاها تشارلز كراوثمر (Charles Krauthammer) الصحفي بالواشنطن بوست[4] لاول مرة يوم 8 سبتمبر 1990 اي اشهر قليلة قبل الحرب الامريكية الاولى على العراق, تم الترويج بشكل واسع و لاول مرة لمفهوم جديد: "القطبية الأحادية (Unipolarity)".[5] لن نتعرض هنا لجميع النقاط الواردة في هذه المحاضرة لكننا ندعو للترجمة الكاملة لنصها لاهميتها الخاصة. نكتفي هنا بالقول أنها من اهم و اول النصوص التي تفسر الاستراتيجيا الامريكية الجديدة. من أهم النقاط التي يتعرض اليها كراوثمر هي مسألة: هل ان سقوط الاتحاد السوفياتي يعني نهاية أية تهديدات جدية للولايات المتحدة ؟ و يرى الكاتب أن هناك تغيرا أساسيا طرأ على العالم مع بداية انهيار الكتلة الشرقية يتميز بحيازة دول "صغيرة" و "مغامرة" على اخطر الاسلحة :"تتسم [مرحلة ما بعد الحرب الباردة ب] ظهور بيئة استراتيجية جديدة تتميز برواج اسلحة الدمار الشامل(...) و قبل خمسين سنة كانت ألمانيا –المتمركزة وسط العالم, و عالية التصنيع, و كثيفة السكان—تشكل تهديدا للامن العالمي و للقوى الكبرى الاخرى. و قد كان من غير الممكن لاحد ان يتصور ان دولة صغيرة نسبيا من الشرق الاوسط كل قاعدتها الصناعية مستوردة يمكن ان يكون لديها القدرة على تهديد مجال يتجاوز محيط جيرانها. فالحقيقة المركزية المميزة للعصر القادم أن مثل هذا التوقع لم يعد صالحا: دول صغيرة نسبيا و هامشية و متخلفة سيكون بامكانها البروز بسرعة كتهديد ليس على المستوى المحلي فحسب بل ايضا على مستوى الامن الدولي. إن العراق— الذي اذا لم يتم نزع اسلحته في عاصفة الصحراء سيحوز صواريخ عابرة للقارات خلال عشر سنوات—هو النموذج لهذا التهديد الاستراتيجي الجديد, و هو الذي يمكن ان يطلق عليه اسم 'الدولة السلاح' "(ص 30). لمواجهة هذا التهديد يقترح كراوثمر اعتماد استراتيجيا جديدة تتميز بالهجوم و بالتالي استباق التهديدات المحتملة لهذه الدول:" مع بروز 'الدولة السلاح' ليس هناك بديل عن مواجهتها, و صدها, و في حالة الضرورة, نزع اسلحتها(...)"(ص 32). و من المثير ان الكاتب استنجد انذاك بارقام قدمها وزير الدفاع الامريكي انذاك ديك تشيني لدعم اطروحة الانتشار السريع لاسلحة الدمار الشامل بين دول العالم الثالث. لكن بالرغم من الضجة التي احدثتها محاضرة كراوثمر بما في ذلك في الاوساط المقربة من دوائر الحكم لم يكن واضحا ان المنعرج الذي ينادي باحداثه كان يلقى اي صدى في الوسط الرسمي الامريكي. تقرير وولفويتز في عددها الصادر يوم 8 مارس 1992 نشرت نيو يورك تايمز خبرا غير عادي حمل عنوان "استراتيجية امريكية تدعو لضمان عدم نمو قوى منافسة: عالم القطب الواحد". و يقول المقال الذي يقدم لتقرير اشمل ما يلي: " تؤكد وزارة الدفاع الامريكية في اعلان سياسة شامل و جديد في مرحلة تحريره الاخيرة ان رسالة الولايات المتحدة السياسية و العسكرية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة ستكون العمل على ضمان عدم بروز اي قوة عظمى منافسة للولايات المتحدة(...) و تشير الوثيقة المكونة من 46 صفحة و التي هي بصدد المتابعة في اعلى مستويات وزارة الدفاع منذ اسابيع, و التي يتوقع وزير الدفاع ديك تشيني نشرها اخر هذا الشهر, ان جزءا من رسالة الولايات المتحدة سيكون 'اقناع المنافسين المحتملين انهم لا يحتاجون التطلع الى ادوار اكبر'. و تم تحرير هذا التقرير تحت اشراف بول وولفويتز (Paul Wolfowitz) نائب وزير الدفاع المكلف بالتخطيط(...) لقد تم توفير هذه الوثيقة للنيو يورك تايمز من قبل مسؤول يعتقد انه من الافضل ان تتم مناقشة استراتيجيا ما بعد الحرب الباردة على مستوى الرأي العام" (ص 1). في ثنايا التقرير الذي يلخص و ينشر فقرات من الوثيقة التي حررها وولفويتز[6], نقرأ ما يلي: "إن التركيز الكبير في هذه الوثيقة و غيرها من وثائق التخطيط العسكري التابعة لوزارة الدفاع يقع على استعمال القوة اذا دعت الضرورة لاستباق انتشار الاسلحة النووية و اسلحة اخرى للدمار الشامل في دول مثل كوريا الشمالية و العراق(...)" و في مقتطف من الوثيقة نقرأ ما يلي: "إن هدفنا العام في الشرق الأوسط و جنوب غرب اسيا هو البقاء في مستوى القوة الخارجية المهيمنة في المنطقة و تأمين السيطرة للحفاظ على الوصول الامريكي و الغربي لمنابع نفط المنطقة(...) و كما برهن على ذلك الغزو العراقي للكويت يبقى من المهم منع قوة او مجموعة من القوى من السيطرة على المنطقة." (ص 14).الى حد الان لم يقع نشر الوثيقة نفسها. في حين تجنبت ادارة بوش الاب انذاك تبنيها, و خاصة سكووكروفت (Scowcroft) مستشاره للامن القومي, الذي رفض الموافقة عليها. و قد استمر الأخير في رفضه لعناصر هذه الاستراتيجياعند احيائها مع بوش الابن في سلسلة من المقالات خلال النقاش الساخن الذي جرى حول ضرب العراق صيف 2002. "الحرب الاستباقية" وتصاعد صوت المحافظين الجدد لن نتعرض هنا الى ظروف نشأة و نمو تيار المحافظين الجدد حيث يستحق ذلك ان يكون موضوع مقال خاص و لكن من الضروري ملاحظة ارتباط هذا التيار القوي بتصاعد الدعوة الى استراتيجيا "الحرب الاستباقية". فقد بدأ تيار المحافظين الجدد بالبروز بشكل مميز بداية من أواسط التسعينات بظهور سلسلة من المقالات و المحاضرات تدافع عن الأفكار الأساسية لهذا التيار. و من أهم المنظرين المحافظين الجدد الذين كان و لايزال لهم تأثير كبير على الملامح النظرية العامة لهذا التيار نذكر ويليام كريستول (William Kristol) و روبرت كاغان (Robert Kagan). تخرج الاول من هارفارد بدكتوراه في العلوم السياسية و هو اهم منظري تيار المحافظين الجدد حاليا و ابن ارفينغ كريستول (Irving Kristol) المؤسس الفعلى لهذا التيار. أما كاغان فقد تخرج من مدرسة كينيدي للادارة التابعة لهارفارد و هو المفكر التوأم لويليام كريستول اذ ينشر الاثنان اهم مقالاتهما بشكل ثنائي. و يكتب كاغان حاليا تعليقات شهرية في الواشنطن بوست و يشرف على مركز "مشروع قيادية الولايات المتحدة" بينما يشرف كريستول على عدد من مراكز البحث اهمها "مشروع القرن الامريكي الجديد" كما يشرف على عدد من الدوريات اليمينية أهمها (Weekly Standard). و قد نشر الاثنان في عدد جويلية/أوت 1996 لدورية (Foreign Affairs) مقالا مشتركا بعنوان "من أجل سياسة خارجية نيوريغنية(Reganite-Neo)"[7] يدعوان فيه الى تغيير جذري و واضح في السياسة الخارجية الامريكية و يقولان في مقدمته: "إن المسألة الدائمة لما بعد الحرب الباردة, و المتمثلة في تساؤل ’أين هو التهديد؟’ هو مطروح بشكل خاطئ. ففي عالم يعتمد السلام و الامن الامريكيين فيه على القوة الامريكية و ارادة استعمالها, يتمثل التهديد الاساسي الذي تواجهه الولايات المتحدة الان و في المستقبل هو ضعفها. إن الهيمنة الامريكية هي خط الدفاع الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في وجه انهيار السلام و الامن الدوليين. بالتالي فإن الهدف المناسب للسياسة الخارجية الامريكية هو المحافظة على هذه الهيمنة ما أمكن ذلك في المستقبل. و تحتاج الولايات المتحدة لتحقيق هذا الهدف الى سياسة خارجية نيوريغنية تؤمن بالهيمنة العسكرية و الثقة الاخلاقية." و من أجل المحافظة على الهيمنة الامريكية يدعو كلاهما الى ثلاث توجهات أساسية تتمثل في: "إنخراط المدنيين"—و الذي يعنيان به أولوية دورالمدنيين على العسكريين في تقرير الشؤون العسكرية—و "الوضوح الاخلاقي", و خاصة "ميزانية عسكرية كبيرة". لقد كانت بالنسبة لهما ميزانية الدفاع المقترحة أنذاك من قبل ادارة كلينتون غير كافية و قد اختارا مرجعا لهما جوزيف ليبرمان (Joseph Liberman) النائب في الكونغرس ليستشهدا بتعليقه أن الميزانية: "غير مناسبة للواقع الراهن و بالتأكيد للمستقبل." و بشكل عام فإن ميزانية كبيرة ضرورية بالنسبة لهما لتعميق التباين العسكري بين الولايات المتحدة ة و اي منافس او منافسين محتملين لها.و بالرغم من عدم تعرضهما بشكل صريح لاستراتيجيا "الحرب الاستباقية" فإن اراء كلاهما حول الاستراتيجيا العامة الخاصة ب"المحافظة على الهيمنة الامريكية" بالاضافة الى تركيزهما على ضرورة اعتماد ميزانية دفاع كبيرة كلها خصائص شكلت و ستشكل أهم الاسس التي ستنبني عليها اطروحة "الحرب الاستباقية". وهو ما يفسر التبني العلني و الواضح في وقت لاحق من قبل الكاتبين لهذه الاستراتيجيا. تقرير كوهين "المراجعة الرباعية للدفاع" لسنة 1997: اختفت مع الفترة الرئاسية الاولى للرئيس بيل كلينتون اي مؤشرات على تفكير الاوساط المحددة للسياسة الخارجية الامريكية في استراتيجيا "الحرب الاستباقية". و عادت هذه الرؤية للبروز في أوساط الادارة الامريكية مع حلول 22 ماي 1997 تاريخ بداية عرض ومناقشة تقرير "المراجعة الرباعية للدفاع" (The Quadrennial Defense Review)[8] من قبل وزير الدفاع الامريكي ويليام كوهين (William Cohen) امام الكونغرس. [9]و قبل التطرق لمحتويات التقرير نشير الى انه قد سبقت اعداده مراحل مختلفة كانت نقطة البدء التي مهدت للانقلاب الذي حدث مع ادارة بوش الابن.أصدر الكونغرس الامريكي في جوان 1996 توجيه " ليبرمان لتصحيح الدفاع" (Liberman Defense Amendment) و هو بمثابة توصية من الكونغرس الى وزارة الدفاع اقترحها على التصويت النائب ذاته. تنص التوصية على انشاء "مجلس للدفاع الوطني" (National Defense Panel) لاحزبي "يراجع و يحور الاستراتيجيا الدفاعية للولايات المتحدة, و بنيتها العسكرية, و خطط تحديثها, و البنية التحتية و عناصر البرنامج العسكري الاخرى للقرن القادم". ثم اصبح وزير الدفاع في ادارة كلينتون ويليام بيري (William Perry) في 1 ديسمبر 1996 ملزما باحداث هذا المجلس وهو ما تم فعلا و بعد ذلك باسابيع قليلة أقدم كلينتون على تغيير في غاية الاهمية: فقد عين الرئيس الامريكي في ظروف غامضة ويليام كوهين وزيرا جديدا للدفاع حيث قام هذا الاخير بعيد مباشرة مهامه في شهر فيفري 1997 بتعيين عناصر جديدة في "مجلس الدفاع الوطني" و اشرف بشكل سريع و في غضون بضعة اشهر على احياء و اصدار"المراجعة الرباعية للدفاع". لقد تكون المجلس من قسمين قسم يشمل مجموعة من كبار المسؤولين العسكريين و قسم اخر يتكون من المدنيين المختصين في الشؤون الخارجية. و من ضمن هؤلاء نجد: ريتشارد ارميتاج (Richard Armitage) المسؤول القديم في وزارة الدفاع و المساعد الحالي لوزير الخارجية كولن باول؛ و روبرت كيمميت (Robert Kimmit) المختص في العلاقات الاوروبية-الامريكية و الذي كان ينزع سابقا للتأثر بالرؤى "الواقعية" لصديقه كيسنجر؛ و اندرو كريبينيفتش (Andrew Krepinivich) العسكري في الاصل لكنه توجه لاحقا للدراسات المدنية حيث حاز من جامعة هارفارد على دكتوراه في العلاقات الدولية. و سيصبح كريبينيفتش لاحقا من اهم مستشاري وزير دفاع بوش الابن رامسفيلد كما تنسب اليه مجمل اراء الاخير في خصوص سياسة الهجوم بقوات قليلة العدد و التركيز على تطوير و الاعتماد على التكنولوجيا العسكرية و خاصة منها الصواريخ بعيدة المدى.لقد وقعت مناقشة تقرير كوهين في الكونغرس بين 22 ماي 1997 و 15 ديسمبر من نفس السنة حيث وقع تبنيه بشكل نهائي. يقول التقرير في اهم فقراته ما يلي:"سيبقى العالم مكانا خطرا و غير امن بشكل كبير و ستواجه الولايات المتحدة على الأغلب عددا من التحديات الجدية لامنها من الان حتى سنة 2015. أولا, سنواصل التعرض لمجموعة من المخاطر الاقليمية. اكثرها أهمية على الاطلاق يمثله تهديد التحرش بالولايات المتحدة و اصدقائها في مناطق حساسة و غزو كبير لحدودها من قبل دول معادية تملك قوة عسكرية مهمة. و في جنوب غرب اسيا, يواصل كل من العراق و ايران التسبب في المخاطر لجيرانهما و للتدفق الحر للنفط من المنطقة. سيبقى الحصول على النفط في المستقبل المنظور حاجة قومية للولايات المتحدة." و في مكان اخر يتعرض التقرير بشكل مباشر الى خيار "الحرب الاستباقية" كخيار استراتيجي للولايات المتحدة حيث يقول:"إن مسألة اتخاذ القرارات بشأن استعمال القوة العسكرية يجب ان تُحدد قبل اي شيء على اساس المصالح القومية للولايات المتحدة(...) و عندما تكون المصالح حيوية –اي تتسم باهمية كبيرة و شاملة في بقاء و امن و حيوية الولايات المتحدة—فيجب انذاك ان نقوم بكل ما يلزم للدفاع عنها بما في ذلك و اذا دعت الضرورة الاستعمال الاحادي للقوة العسكرية (the unilateral use of military force) [و ذلك لاسباب منها] منع ظهور تحالف او قوة اقليمية معادية." رسالة الى كلينتون كان الاعتماد الرسمي و العلني للمرة الاولى لاستراتيجيا "الحرب الاستباقية" انتصارا صامتا و لكنه انتصار كبير للغاية لتيار المحافظين الجدد الذي كان بصدد التشكل. غير ان هؤلاء فهموا ان التبني الرسمي لوزارة الدفاع و الكونغرس سيكون حتما ذا طابع شكلي إن لم تسر مؤسسة الرئاسة الامريكية في نفس الاتجاه. هكذا و بعد اسابيع قليلة من تاريخ تبني تقرير كوهين من قبل الكونغرس في 15 ديسمبر 1997 و في رسالة علنية بتاريخ 26 جانفي 1998 موجهة الى الرئيس الامريكي كلينتون دعا انصار "الحرب الاستباقية" الرئيس لتبني استراتيجيتهم الهجومية و وضعها موضع التنفيذ من خلال العدوان على العراق, ذلك المثال الذي ما فتئت كل الوثائق اعلاه من الرجوع اليه عند الدعوة لاستراتيجيا "الحرب الاستباقية".[10] لقد أُمضيت هذه الرسالة من قبل ثمانية عشر شخصية سياسية و فكرية كشفوا فيها لاول مرة عن وجود تيار واضح المعالم يتبنى استراتيجيا "الحرب الاستباقية",[11] غير أن هذا التيار لا يزال محدودا انذاك حيث بقي يطلب حتى ذلك الوقت الدعم الكامل للأطراف السياسية الأساسية.[12] إن أغلب هؤلاء سينظّرون و يباشرون التنفيذ الفعلي لهذه السياسة خلال ادارة الرئيس الذي تبناها, بوش الابن. ولا توجد ضمن هؤلاء الشخصيات اي شخصية عسكرية.لقد شملت قائمة الشخصيات الممضية على الرسالة و التي لعبت ادوارا سياسية في الحرب الاخيرة على العراق: دونالد رامسفيلد, وزير الدفاع الحالي و قبل ذلك المسؤول البيروقراطي و المخضرم في وزارة الدفاع و النائب المتنفذ في الكونغرس؛ و بول وولفويتز, نائب وزير الدفاع الحالي؛ و ريتشارد بيرل (Richard Perle) كبير مستشاري وزير الدفاع حتى الحرب على العراق و الذي بدأ حياته السياسية ضمن دواليب وزارة الدفاع في السبعينات رفقة صديقه وولفويتز؛ و بيتر رودمان (Peter Rodman) مساعد وزير الدفاع الامريكي المكلف بشؤون الامن الدولي حاليا و الذي عمل في وزاراتي دفاع ادارتي ريغن و بوش الاب؛ و ريتشارد ارميتاج مساعد وزير الخارجية الامريكي حاليا؛ و جون بولتون (John Bolton) و هو الاخر مساعد وزير الخارجية الامريكي حاليا؛ و باولا دوبريانسكي (Paula Dobriansky) نائبة وزير الخارجية الامريكي المكلفة بالشؤون الدولية؛ و زلماي خليلزاد (Zalmay Khalilzad) و الذي كُلف كمبعوث رئاسي في مهام حساسة في حروب الرئيس بوش الابن سواء في افغانستان او العراق و الذي له إرتباطات قوية بعدد من الشركات النفطية الأمريكية خاصة منها Unocal؛ و ايليوت ابرامز (Elliot Abrams) كبير مستشاري الرئيس بوش الابن في مجلس الامن القومي في شؤون الشرق الاوسط و شمال افريقيا؛ و روبرت زوليك(Robert Zoellick) و الذي يشغل حاليا منصب الممثل التجاري الأعلى للولايات المتحدة ضمن مكتب الرئيس بوش الابن و الذي عمل فيما قبل ضمن دواليب وزارة الخارجية خاصة عهد الرئيس بوش الاب.كما ضمت قائمة الممضين على الرسالة تشكيلة منوعة من "مفكري الظل" منهم بالخصوص: فرنسيس فوكوياما المحسوب عادة على "الليبراليين"؛ و ويليام كريستول اهم منظري تيار المحافظين الجدد حاليا ؛ و روبرت كاغان المنظر الثاني في مجموعة المحافظين الجدد؛ ثم جيمس وولسي (James Woolsey) مدير وكالة المخابرات المركزية الامريكية خلال اواخر الثمانينات و العضو في عدد من مراكز البحث الامريكية و احد اهم الوجوه التي تتصدر منظري المحافظين الجدد؛ و ويليام بينيت (William Bennet) أحد المفكرين الأساسيين لتيار المحافظين الجدد و الذي يرجع تأثيره الى عهد الرئيس ريغن خيث شغل منصب وزير التعليم و هو متحصل على دكتوراه في الفلسفة السياسية من جامعة تكساس. بالاضافة الى هؤلاء فان عددا من الوجوه السياسية مثل وولفوويتز و بيرل و رودمان و دوبريانسكي تلعب في الواقع دورا تنظيريا و تملك عموما خلفيات اكاديمية في مجال العلوم السياسية. تعلن الرسالة من البدئ موضوعها الاساسي: "اننا نكتب اليكم [الرئيس كلينتون] لاننا مقتنعون ان السياسة الامريكية الحالية تجاه العراق غير ناجحة(...) و نحثكم لاستغلال الفرصة الحالية من اجل البدئ في استراتيجيا جديدة يمكن ان تؤمن مصالح الولايات المتحدة و مصالح اصدقائها و حلفائها في العالم. و يجب ان تهدف هذه الاستراتيجيا قبل كل شيء الى تنحية نظام صدام حسين من السلطة."و تقف الاستراتيجيا الجديدة حسب الرسالة في مواجهة استراتيجيا قديمة:" ان سياسة ’احتواء‘ صدام حسين تعرضت للتاكل المستمر طيلة الاشهر الماضية(...) و حتى اذا تواصلت عمليات التفتيش في وقت لاحق وهو ما لا يبدو متوقعا في الوقت الراهن فان التجربة اظهرت صعوبة ان لم يكن استحالة مراقبة انتاج العراق للاسلحة الكيميائية و البيولوجية." و تتمثل الاستراتيجيا الجديدة فيما يلي:"إن الاستراتيجيا الوحيدة المقبولة هي التي تلغي امكانية ان يستعمل او ان يهدد العراق باستعمال اسلحة الدمار الشامل. فعلى المدى القصير يعني ذلك التصميم على القيام بعمل عسكري مادام العمل الديبلوماسي فاشلا حسب ما هو واضح. اما على المدى الطويل فيعني ذلك تنحية صدام حسين و نظامه من السلطة. هذا ما يجب ان يصبح هدف السياسة الخارجية الامريكية."أما بالنسبة للشرعية الدولية و قرارات الامم المتحدة فانها اذا ما لم تخدم هذا الهدف فإنه يصبح من الضروري تجاهلها حسب رأي أصحاب الرسالة :"نعتقد ان الولايات المتحدة لديها الحق حسب قرارات الامم المتحدة الموجودة في اتخاذ الخطوات المناسبة بما في ذلك الخطوات العسكرية لحماية مصالحنا الحيوية في منطقة الخليج. و في جميع الاحوال فلا يمكن للسياسة الامريكية ان تقبل تواصل تعثرها جراء الاصرار غير الحكيم على مبدأ الاجماع في مجلس الامن الدولي." مجموعة "الحرب الاستباقية" في ادارة بوش الابن قبل 11 سبتمبر إن لم تنجح هذه المجموعة في اقناع الرئيس كلينتون فقد نجحت في التحكم في طاقم ادارة الرئيس بوش الابن. فكما اوضحنا اعلاه فان عددا هاما من الممضين على الرسالة عُينوا في مناصب حساسة من قبل بوش الابن و هو ما عكس سيطرة كاملة على وزارة الدفاع –حيث يجب اضافة اسم دوغلاس فايث (Douglas Feith) الى المجموعة أعلاه—بالاضافة الى سيطرة جزئية على وزارة الخارجية. تجب الاشارة هنا الى ان سرعة التغيرات الميدانية دفعت بالبعض الى التراجع او تبني مواقف هذه المجموعة. و ينطبق ذلك بالنسبة للوضع الراهن على كل من كولن باول و ريتشارد ارميتاج. فالاول قد أظهر تقلبا كبيرا في مواقفه و بالرغم من إعلانه المناهض للتوجه الجديد الذي عبر عنه في مذكراته اواسط االتسعينات و رغم تهديداته بالاستقالة خلال النقاش الحامي الذي دار حول ضرب العراق في صيف 2002 فانه قاد العمل الديبلوماسي الذي هيء للحرب و ذلك ضمن الاطر التي حددتها مجموعة وزارة الدفاع. مقابل ذلك فإن ارميتاج الذي كان من بين الذين ساهموا بشكل حثيث في احياء رؤية "الحرب الاستباقية" من خلال تقرير كوهين لسنة 1997 يبدو انه ليس مرتاحا للوضع الراهن كما تدل على ذلك نيته في الاستقالة الان مع باول.غير ان اهم المؤشرات التي تدل على الاضطراب الذي يمكن ان يحدث داخل هذه المجموعة و يعكس وحدتها الهشة كان الصراع الذي دار بين مجموعة السياسيين و مجموعة المنظرين صيف 2001 اي اسابيع قليلة قبل أحداث 11 سبتمبر. يوم كانت إدارة الرئيس بوش الابن تمر بحالة صعبة جدا حيث استمر بشكل واسع الجدال حول مدى شرعية الرئيس الامريكي اثر واحدة من اكثر الانتخابات الرئاسية إثارة للجدل في تاريخ الولايات المتحدة. كان لذلك تأثير أكيد على البرامج الاولية التي قررها طاقم الادارة الامريكية و التي تأثرت بالشعبية الضعيفة للادارة الجديدة. فمن جملة التغييرات الطارئة كان التخفيض في ميزانية وزارة الدفاع مقارنة لما نادى به في السابق أقطاب المحافظين الجدد المسيطرين على وزارة الدفاع.فقد نشر كل من كريستول و كاغان في عدد 23 جويلية 2001 من دورية (Weekly Standard) مقالا مشتركا بعنوان "بدون دفاع".[13] يبدأ المقال كالتالي: " هذه نصيحة ضرورية الى صديقين قديمين, هما دونالد رامسفيلد و بول وولفويتز: استقيلا." و لتفسير هذه الدعوة المفاجئة يقول الكاتبان:"حسب مصادر قوية الاطلاع في ادارة بوش, توجه دونالد رامسفيلد الى البيت الابيض في الاسابيع القليلة الماضية ليعرض احتياجاته من ميزانية العام الضريبي 2002. و بعد حوالي خمسة اشهر من المراجعة, استخلص رامسفيلد انه بحاجة الى حوالي 35 بليون دولار كتمويل اضافي للعام الضريبي 2002, مع تمويل اكبر بحلول العام الضريبي 2003. " و اعتبر المعلقان ان ذلك "اقل بكثير" مما اثبتته "دراسات جدية" و يتهمان رامسفيلد بانه: "يعطي لنا لمحة عن المستقبل—مستقبل من التراجع و التقلص الامريكي." و يرى كلاهما ان ذلك ليس مجرد تخفيض في الميزانية و انما هو مؤشر على التراجع عن استراتيجيا القدرة على خوض حربين في نفس الوقت وهو ما يعني بالنسبة اليهما رسالة خطيرة من الولايات المتحدة الى المتربصين بها تحثهم على تحدي مكانتها. ختاما يقول الكاتبان:"ذهب وولفويتز للقول [في الاجتماع الذي دار في البيت الابيض] ’من التهور المخاطرة بحظوظنا الراهنة و بمستقبل اطفالنا’ من خلال صرف 3 بالمائة من من الناتج الداخلي الخام على الدفاع(...) و المشكل ان الرئيس الذي يخدمه وولفويتز اقر ميزانية للدفاع تساوي 3 بالمائة من الناتج الداخلي الخام ويمكن ان تنزل تحت هذا الرقم العام القادم. فكان كل الشرف لوولفويتز قوله للحقيقة حول ميزانية ادارته ’المتهورة’. فهل يوافق رامسفيلد نائبه؟ و ماذا عن موقف القائد الاعلى, جورج بوش الابن؟" هنا نذكّر ان مسألة الزيادة في ميزانية الدفاع عنصر جوهري في الرؤية الاستراتيجية العامة للكاتبين كما يوضح مقالهما المكتوب سنة 1996 المذكور اعلاه. لكن ما هو مؤكد انه مع حلول أحداث 11 سبتمبر و الحرب على افغانستان ثم القيام ب"الحرب الاستباقية" على العراق قفزت ميزانية وزارة الدفاع الى ارقام خيالية لا يبدو ان كريستول و كاغان نفسهما حلما بها. عندما يُواجه المؤمنون بالحق الامبراطوري للولايات المتحدة بأنه لم توجد بعد إمبراطورية أبدية فإنهم يجيبون بأنهم يدافعون عن إمبراطورية من نوع جديد ليس في الدفاع عنها مصلحة قومية أمريكية فحسب بل مصلحة دولية أيضا. وضمن هذا الاطار تُقدم "الحرب الاستباقية" على العراق كاستمرار للحرب على ألمانيا النازية و من ثمة كمواجهة عسكرية من أجل تحرير البشرية. بيد أن هؤلاء العقائديين يتجنبون التفكير في أن الاستراتيجيا الألمانية كانت مبنية على مفهوم "الحرب الإستباقية". و في الواقع فإن هذا المصطلح ماهو إلا التسمية الامريكية للحرب الامبراطورية. و أكثر من ذلك فإنه ليس مفهوما جديدا تماما لدى أوساط الاستراتيجيين الامريكيين. فالأباء الروحيين لوولفويتز و بيرل مثل أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو أواسط القرن الماضي ألبرت ووهلستتر (Albert Wohlstetter) دافعوا عن أفكار مشابهة, كما أن الحروب الامريكية على المكسيك ثم كوريا و الفيتنام تحمل في أقل الاحوال المؤشرات الجنينية على مفهوم "الحرب الاستباقية". غير أن ذلك يستحق مقالا اخر. (*) باحث تونسي يقيم في الولايات المتحدةأوت 2003
[1]http://www.whitehouse.gov/nsc/nssall.html يمكن الاطلاع على هذه الوثيقة في الموقع الالكتروني التالي:
[2] لم تلق هذه الوثيقة الاهتمام الكافي حتى داخل الولايات المتحدة. و من المقالات القليلة التي علقت تعليقا مفصلا على هذه الوثيقة مقالة الباحث الامريكي في التاريخ العسكري جون قاديس (John Gaddis):Gaddis, J. “A Grand Strategy of Transformation” Foreign Policy Nov/Dec 2002: 50-57.[3] من أهم ممثلي المدرسة "الواقعية" هنري كيسنجر الذي يتعرض للكثير من الاستهزاء من قبل المحافظين الجدد كعجوز مخرف لايزال مأسورا في حرب الفيتنام. و من الضروري التوضيح هنا ان المنتسبين لهذا التيار ليسوا ملائكة. فكيسنجر معرض للملاحقة القضائية بوصفه متهما كمجرم حرب كما نعرف نحن العرب الطبيعة التامرية لوزير الخارجية الامريكي الاسبق. غير ان كيسنجر الميكيافيلي هو الذي دفع بنيكسون لتمتين العلاقات مع الصين قبيل وقف حرب الفيتنام. و بمعنى اخر لا يجرؤ سياسيون من طينة كيسنجر على تقييد انفسهم بالاعلان عن "استراتيجيا امن قومي" ثابتة و مفصلة تحددالاعداء قبل الاصدقاء. وطبعا لا يعني ذلك ايضا ان ادارة وزير خارجيتها "كيسنجر" لا تبني سياستها العامة على ثوابت. غير انه من المؤكد انها ستمتنع عن الاعلان عنها. [4] لعب و يلعب كراوثمر دورا اعلاميا رئيسيا في مجموعة المحافظين الجدد فإلى جانب العمود الذي يكتبه في الواشنطن بوست فانه يظهر بشكل متواتر في البرامج الاخبارية للقناة المحافظة "فوكس (Fox)" و المملوكة من روبرت مردوخ (Robert Murdoch) غير أن كراوثمر يتمتع بخلفية اكاديمية عميقة تفسر الثقة التي يبديها في هذا المقال و الحظوة التي يتمتع بها داخل اوساط المحافظين الجدد عموما. فبعد تحصله من هارفارد على دكتوراه تخصص في الطب تلقى دروسا على مستوى الدكتوراه في العلوم السياسية و أعد رسالة في هذا التخصص من نفس الجامعة. و بالاضافة الى ذلك فقد انخرط في طاقم ادارة الرئيس كارتر في أواخر السبعينات.[5] نُشرت المحاضرة لاول مرة في33-23:(1991- 1990) 1 /70 No Foreign Affairs "The Unipolar Moment" .ChKrauthammer,[6] باقتضاب شديد نقول ان وولفوتز الذي يشغل الان نفس المهمة التي شغلها عند كتابة هذا التقرير انخرط في هياكل التخطيط المتعلقة بوزارة الدفاع منذ بداية السبعينات وتقلد مناصب عالية في الفريق الحكومي الذي شكله ريغن. و تخرج وولفويتز من قسم العلوم السياسية من جامعة شيكاغو بدرجة دكتوراه اواخر الستينات.[7]Kristol, W. and Kagan, R. “Toward a Neo-Reganite Foreign Policy” Foreign Affairs July/August 1996. [8] "المراجعة الرباعية للدفاع" (The Quadrennial Defense Review) هو تقرير تعده وزارة الدفاع الامريكية نظريا كل اربع سنوات.[9]يمكن الاطلاع على هذه الوثيقة و الظروف المحيطة بها على الموقع الالكتروني التالي:http://www.dtic.mil/armylink/news/May1997/a19970516qdr3.html [10]توجد نسخة من هذه الرسالة على الموقع الالكتروني ل:" مشروع القرن الامريكي الجديد The Project for a New American Centuryhttp://www.newamericancentury.org/iraqclintonletter.htm [11] وُجهت رسائل مماثلة من شخصيات قريبة من المجموعة الممضية على هذه الرسالة الى الرئيس كلنتون منها واحدة ممضاة من نائب الرئيس الحالي ديك تشيني.[12]أشهر إثر الرسالة التي وُجهت الى الرئيس كلنتون وجهت تفس هذه المجموعة رسالة الى القادة الجمهوريين في الكونغرس بنفس المضمون. و قد انضم هؤلاء القادة و خاصة نيوت غنغريتش (Newt Gingrich) الى هذه المجموعة فيما بعد. أنظر:http://www.newamericancentury.org/iraqletter1998.htm[13] Kristol, W and Kagan, R. “No
Defense” Weekly Standard July 23 2001.
نشر تونسنيوز 11 نوفمبر 2003