Saturday, May 21, 2005

حول نيوماركسية النيومحافظين

حول نيوماركسية النيومحافظين

الطاهر الأسود—باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية

I
الجينيولوجيا التنظيمية النيوماركسية لشخصيات نيومحافظة

في مقال سابق ("محاولة لتقييم شمولي للحظة الراديكالية الراهنة") كنا اقترحنا تقاطعا بين ظاهرتين تبدوان على طرفي نقيض: البلشفية و القاعدية. أشرنا الى أن طبيعة ذلك التقاطع مزدوجة، تتعلق بالأمور النظرية (ما سميناه "الطهرية") و جانب الظرفية التاريخية ("اللحظة الراديكالية"). طبعا يمكن أن يبدو ذلك التلاقي مفارقا. غير أن ماهو مفارق ليس بالضرورة غير واقعي. توجد في الواقع مفارقات أخرى تستحق الانتباه. سنتتبع هنا أحدها: و مرة أخرى يتعلق الأمر بـ "أطياف ماركس" Specters of Marx (حسب تسمية فيلسوف التفكيكية الراحل أخيرا جاك دريدا) التي لا تزال تخيم على واقعنا الراهن بالرغم من كل محاولات التناسي. لا يتعلق هذا المقال تحديدا بجرد مختلف المعطيات التي تؤكد على الأصل التروتسكي أو النيوماركسي لشخصيات رئيسية في التيار النيومحافظ. و لكن سنقوم بذلك لا لسبب إلا لتجاوز الأسلوب الذي يتبعه الكثير من المحللين (بما في ذلك العرب) و الذي يعتمد على تكرار معلومات عامة عن "تروتسكية" النيومحافظين دون بذل أي عناء لاستقصاء جدي لهذه المسألة. لكن في الحقيقة لا تستحق هذه النقطة إهتماما في ذاتها كما يمكن أن يعتقد البعض. ما يجعل مسألة تتبع الجينيولوجيا الايديولوجية لبعض الشخصيات النيومحافظة مسألة مهمة هو ما توفره من معطيات لاقتفاء أثر الجينيولوجيا الايديولوجية للفكر النيومحافظ ذاته. و لكن من الضروري توضيح نقطة اصطلاحية في البداية. يجب النظر الى التروتسكية كرؤية نيوماركسية في الأساس. ينسحب ذلك على مدارس أخرى: اللينينية، الماوية، الغيفارية، و حتى الاشتراكية-الديمقراطية في أحيان كثيرة... و هنا يمكن للرؤية الماوية مثلا أن تنفي عن الرؤية التروتسكية ماركسيتها، و العكس بالعكس، و لكن نرى أنه متى اعتبرت أي من هذه المدارس الرؤى الماركسية منبعا رئيسيا للإلهام النظري فيجب الإقرار شكليا على الأقل بحقها في إدعاء ما تشاء. و هنا إصرارنا على مصطلح "نيوماركسية" أساسي في فهم أصول النيومحافظين و فكرهم حيث تم التركيز بشكل مبالغ فيه (خاصة في الولايات المتحدة) على الأصول التروتسكية دون غيرها للنيومحافظين وهو ما همش أصولا غير تروتسكية و لكن نيوماركسية على أي حال للنيومحافظين، كما أدى الى التركيز على النواحي الحزبية و التنظيمية على حساب النواحي الايديولوجية في أغلب التحليلات كما سنرى لاحقا. سنطرح هنا مسألتين: أولا(مسألة الجينيولوجيا التنظيمية)، من هي الشخصيات النيومحافظة التي كانت تنتمي لتنظيمات تروتسكية أو نيوماركسية؟ ثانيا (مسألة الجينيولوجيا الايديولوجية)، هل كانت نيوماركسية هؤلاء (التي تمردوا عليها ظاهريا) مصدرا أساسيا في نهاية الأمر لصياغة رؤيتهم النيومحافظة؟

الجدال حول "تروتسكية" النيومحافظين

سال الكثير من الحبر في أمريكا الشمالية حول مسألة "الأصل التروتسكي" لشخصيات نيومحافظة اختلطت فيه الحقيقة في أحيان كثيرة بالخيال. ظهرت أولى المقالات الجدية حول هذه المسألة منذ بداية التسعينات في إطار رد فعل "الباليومحافظين" ("المحافظون القدامى") على بداية اكتساح النيومحافظين للحزب الجمهوري. غير أن أهم المقالات و الدراسات كانت على الخصوص إثر بداية الحرب على العراق و البزوغ غير المسبوق لنجم النيومحافظين. حينها حاول عدد من الكتاب المحافظين القدامى (مثل بات بوكانان) تنظيم حملة على هؤلاء من جهة غير متوقعة: حيث تمت إثارة وقائع تشير الى أن عددا من الذين يتصدرون اليمين الأمريكي كان ينشط في أوساط يسارية راديكالية قبل الالتحاق بالتيار النيومحافظ بل و المساهمة في إنشائه. أفرزت هذه الحملة ردودا من الجانب الاخر ساهمت في النهاية في تأكيد الوقائع المذكورة أكثر من نفيها بل و التدقيق فيها أحيانا. كُتبت أكثر المقالات إثارة في علاقة بهذا الموضوع في شهر يونيو/جوان سنة 2003 حيث وصل الجدال أوجه بين الطرفين. يتعلق الأمر على وجه الخصوص بثلاث مقالات: في عدد 7 يونيو/جوان من اليومية الكندية الناشيونال بوست كتب الصحفي الكندي جات هيير Jeet Heer مقالا طويلا عنونه بشكل مثير "شبح تروتسكي يجول في البيت الأبيض" عرض فيه معطيات تاريخية تشير الى "تروتسكية الكثير من الشخصيات النيومحافظة". بعدها، و بسرعة قياسية، لقي المقال ردا عنيفا في النشرية النيومحافظة الرئيسية الناشيونال ريفيو و هو ما عكس إنزعاجا نيومحافظا من مقال هيير خاصة أنه لاقى رواجا فوريا في بعض الدوريات و المواقع الاخبارية الأمريكية. الرد الأول كتبه الباحث في مؤسسة هوفر أرنولد بايشمان Arnold Beichman في عدد 9 يونيو/جوان و الرد الثاني كتبه أحد الوجوه الهامة من التيار النيومحافظ و الذي يعتبر من الشخصيات المعنية بهذا النقاش بوصفه تروتسكيا سابقا ستيفان شفارتز Stephen Schwartz في عدد 11 يونيو/جوان. ما سنعرضه هنا من معطيات يعتمد جزئيا على ما ورد في هذه المقالات. و لكن أهم مصادرنا ستكون كتابات شخصيات أخرى رئيسية في التيار النيومحافظ خاصة مذكرات أهم شخصية نيومحافظة على الاطلاق إرفينغ كريستول Irving Kristol المنشورة على التوالي سنتي 1983 و 1995. بالإضافة الى ذلك سنعتمد على مقال يتميز بتحقيق دقيق للمعلومات (بعنوان "النيومحافظين و التروتسكية") للصحفي و الباحث الكندي ويليام كينغ William King نشره في اذار/مارس 2004 في موقع الكتروني للمحافظين الكنديين و تم طبعه في عدد كانون الأول/ديسمبر 2004 من دورية American Communist History. كما سنرجع الى بعض المراجع الأخرى و التي سنذكرها في حينها. و هنا من الضروري الاشارة مرة أخرى الى أننا ركزنا على مسألة تحقيق المعلومات و ذلك بسبب الخلط الذي اعترى الكثير من الكتابات و ذلك بتأثير الظروف السياسية التي أحاطت بالنقاش.

نيومحافظون و لكن نيوماركسيين سابقا: الجيل الأول

يوجد جيلين من النيومحافظين مثلما يوجد جيلين من التروتسكيين أو النيوماركسيين الذين تحولوا الى نيومحافظين. الجيل الأول عاش نيوماركسيته في خضم المد النيوماركسي في عشرينات و ثلاثينات القرن الماضي، في حين عاش "تخلصه من الوهم الماركسي" و مسيرته نحو اليمين ثم التأسيس للتيار النيومحافظ منذ الأربعينات. الجيل الثاني عاش نيوماركسيته حتى المد النيوماركسي ستينات القرن الماضي، في حين توصل الى "الخلاص" النيومحافظ في السبعينات. عندها، أي في السبعينات، تشكل بشكل نهائي الاطار الفلسفي للنيومحافظين. لنبدأ بالجيل الأول وبأهم عناصره على الاطلاق إرفينغ كريستول.

لم تمض بعد بضع سنوات على وعي التيار النيومحافظ بذاته (أواسط السبعينات حين تجمع أهم أقطابه في "معهد المؤسسة الأمريكية للسياسات العامة" AEI في واشنطن) عندما نشر كريستول مذكراته في شكلها الأولي سنة 1983. في العنوان تحديدا تم الاعلان عن تسمية التيار الجديد: "تأملات نيومحافظ" Reflections of a Neoconservative، و بمعنى اخر كانت المذكرات الشخصية لكريستول مناسبة لنشر مانيفستو هذا الفريق الجديد. غير أن عنوان الفصل الأول كان ذي مغزى خاص: "مذكرات تروتسكي". كان من الواضح أن عراب التيار النيومحافظ لم يكن يرى حرجا في الحديث عن هويته التروتسكية السابقة فحسب بل أكثر من ذلك يعمل جاهدا على إبرازها كفصل رئيسي في دراميته الشخصية. يروي كريستول أنه أصبح تروتسكيا عندما التحق بالمؤسسة التربوية المشهورة"معهد مدينة نيويورك" و ذلك خلال الثلاثينات. و يرمز الى تلك المرحلة من خلال الموقع الذي كان يجتمع فيه مع بقية مجموعته وهو "قاعة المراجعة و الأكل رقم 1" (مقابل القاعة رقم 2 الأكبر مساحة و التي كانت مقر "اليسار الستاليني"). و لم يكن كريستول متعاطفا فحسب بل كان عضوا منتظما في التنظيم التروتسكي "شبيبة رابطة الشعب الاشتراكية-الأممية الرابعة" و الذي كان منتشرا في الأوساط الشبابية المثقفة في نيويورك (و لكن الأقل تأثيرا من التنظيم اليساري الرئيسي في الأوساط الشبابية "شبيبة الرابطة الشيوعية" الموالية للخط الستاليني انذاك). يذكر كريستول أسماء عناصر خلية "معهد مدينة نيويورك" و من المثير أن غالبيتها أصبحت إما متموقعة ضمن التيار النيومحافظ أو قريبة منه. من ضمن هؤلاء نذكر: عالمي الاجتماع سيمور ليبست Seymour Lipset و دانيال بالDaniel Bell و الذين تميزا في السنوات الأخيرة بـ "نظرية بال-ليبست حول نهاية الايديولوجيا". عالم الاجتماع أيضا ناثان قلايزر Nathan Glazer. ميلفين لاسكي Melvin Lasky رئيس تحرير نشرية واجهة للمخابرات المركزية خلال الحرب الباردة و التي ساهم كريستول نفسه في تأسيسها و هي نشرية "انكاونتر" Encounter. من الضروري الإشارة الى أن غالبية هذه الخلية (مثلما هو الحال بالنسبية لغالبية طلبة "معهد مدينة نيويورك") يتحدرون من الطبقات الفقيرة و المتوسطة للأقلية اليهودية و قد تقلدوا و لايزالون أدوارا رئيسية في المؤسسات الرئيسية للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة. علينا أن نضيف الى الأسماء أعلاه الصديقين المقربين في نيويورك لكريستول و زوجته (بالرغم عدم مرورهما من "معهد مدينة نيويورك") من الأوساط التروتسكية نورمان بودوراتز Norman Podhoretz الناشر لاحقا للدورية النيومحافظة (و الموالية أيضا للوبي الصهيوني) "كومنتري"Commentary، و زوجته ميدج ديكتر Midge Decter و التي كانت شريكا ملازما لكريستول في الأنشطة التي قام بها خاصة خلال ترؤسها لأحد واجهات المخابرات المركزية الأمريكية "لجنة العالم الحر" Committee on the Free World في الصراع ضد السوفيات خلال الحرب الباردة.

القتال الايديولوجي ضد السوفيات

انتقل هؤلاء جميعا في نفس الفترة تقريبا، أي خلال الأربعينات، الى اليمين الراديكالي حيث شارك عدد منهم في الحرب العالمية الثانية و كتبوا خلال ذلك أو فيما بعد مجموعة من المقالات و المؤلفات تنتقد إلتزامهم السابق برؤى يسارية راديكالية و تراجع موقفهم من دور الولايات المتحدة كقوة جديدة عالميا. و أتى هذا التحول في ظرفية صعبة للتنظيمات التروتسكية عالميا بما في ذلك في الولايات المتحدة حيث تراجعت جاذبيتها خاصة بعد نجاح ستالين في اغتيال تروتسكي سنة 1940 و الانتصار التاريخي للاتحاد السوفياتي في الحرب. و من الواضح أنه في الوقت الذي تخلوا فيه عن الرؤى التروتسكية فقد حافظوا على موقفهم المعادي بشدة للمعسكر السوفياتي و هو ما جعلهم بشكل مستمر من أنصار التصعيد و المواجهة مع الاتحاد السوفياتي و هو ما ميز هوية التيار النيومحافظ في ظرفية الحرب الباردة خاصة خلال السبعينات و الثمانينات. و من أهم الدراسات الصادرة أخيرا و التي تركز خاصة على علاقة الجيل الأول من النيومحافظين بالمخابرات الأمريكية و بحربها الثقافية ضد السوفيات مؤلف صادر سنة 2002 للباحث البريطاني جيل سكوت-سميث Giles Scott-Smith بعنوان: The Politics of Apolitical Culture. و يشير سكوت-سميث الى أن كرسيتول و عددا من رفاقه السابقين كانوا في مقدمة الفريق الذي عمل على إنشاء واجهات ثقافية للاستخبارات الأمريكية خاصة من خلال المشاركة بنشاط في تأسيس "المؤتمر من أجل الحرية الثقافية" Congress for Cultural Freedom سنة 1950 إثر لقاء بالعاصمة الألمانية برلين و الذي واصل العمل حتى افتضاح علاقته الوثيقة بالمخابرات الأمريكية سنة 1966. و نفس الشيء ينطبق على "لجنة العالم الحر" التي تم تأسيسها سنة 1981 أو نشرية "انكاونتر" و التي تأسست سنة 1953 في لندن. و كان الهدف الرئيسي لهذه المبادرات تجميع مثقفين خاصة من الأوساط اليسارية الأوروبية المعادية للاتحاد السوفياتي، و هكذا كان من أهم العناصر التي تم جذبها لهذه المؤسسات شخصية مؤثرة مثل الكاتبة حنا أرندت Hannah Arendt مؤلفة الكتاب الذائع الصيت "جذور الشمولية" The Origins of Totalitarianism كما تمت اتصالات و محاولات (فاشلة في أحيان كثيرة) لجذب مفكرين اخرين مؤثرين في الأوساط اليسارية غير الموالية للسوفيات مثل سارتر و ميرلوبونتي. غير أن "المؤتمر من أجل الحرية الثقافية" ضم عددا كبيرا من الناشطين النيوماركسيين سابقا (بما في ذلك المنتمين لأحزاب شيوعية موالية للسوفيات) أقل شهرة من الأسماء أعلاه و لكنهم تقلدوا مواقع رئيسية فيه، يتعلق الأمر خاصة بسيدني هوك و جيمس بورنهام (الولايات المتحدة) و أرثر كوستلر (المجر) و تشارلز بليسنيير (بلجيكا) و نيكولاس نابوكوف (روسيا- تحصل لاحقا على الجنسية الأمريكية). و بعض هؤلاء كانوا أيضا عناصر أساسية في المرحلة التأسيسية للنيومحافظين: على سبيل المثال جيمس بورنهام ساهم في الخمسينات بشكل كبير في تأسيس النشرية الرئيسية حتى الان للنيومحافظين أي الناشيونال ريفيو. و قد كان هذا التوجه الأمريكي الاستخباري في الحقل الثقافي متوازيا مع مشاريع أخرى ضمن خطة أمريكية عامة تنزع للاستثمار السياسي في الأوساط اليسارية التي كانت تهيمن على المشهد العالمي و ذلك من خلال التركيز على الأطراف المعادية للأطراف الشيوعية في نسختها السوفياتية. و على سبيل المثال تجسدت هذه الخطة على مستوى الحركة النقابية العالمية من خلال دعم النقابات المعادية للسوفيات و لعب نقابي أمريكي ذائع الصيت مثل جاي لوفستون Jay Lovestone و الذي كان عضوا في الحزب الشيوعي الأمريكي (قبل طرده في الثلاثينات) دورا عالميا مميزا اخترق عبره الكثير من النقابات على المستوى الدولي خاصة في الدول حديثة الاستقلال لتجميعها في تحالفات مضادة للنقابات الموالية للسوفيات. و من المعروف الان أن لوفستون كان موظفا كبيرا في المخابرات المركزية الأمريكية مثلما كان صديقا مقربا من قيادات نيومحافظة رئيسية مثل سكوب هنري جاكسون (يتعرض كتاب صدر سنة 1999 بالتفصيل و بالاعتماد على الوثائق و الشهادات لحياة لوفستون: الكتاب تأليف تيد مورغان بعنوان A Covert Life).

نيومحافظون و لكن نيوماركسيين سابقا: الجيل الثاني

بالرغم أنه لا توجد علاقة مباشرة بين الجيل الأول و الجيل الثاني من نيوماركسيي النيومحافظين إلا أن هناك رابطا قويا يستدعي الانتباه. يتعلق ذلك أساسا بشخص رئيسي في الأوساط النيوماركسية الأمريكية طوال القرن العشرين: ماكس شاختمان Max Shachtman. و تتقاطع مسيرة شاختمان مع الجيل الأول و تحديدا خلايا نيويورك التروتسكية من "شبيبة رابطة الشعب الاشتراكية-الأممية الرابعة" و خاصة خلية "معهد مدينة نيويورك". ففي البداية كانت هذه المجموعة بمثابة الذراع الطلابية للتنظيم التروتسكي الأساسي في الولايات المتحدة و الذي لم يتأسس فعليا إلا سنة 1938 أي "حزب العمال الاشتراكي" بقيادة جيمس كانون (في الواقع كانت هناك كتلة تروتسكية لها استقلالية تنظيمية قبل ذلك التاريخ غير أنها بقيت جزءا من "الحزب الاشتراكي" الأمريكي حتى اقتنعت بالانفصال تحت ضغوط تروتسكي نفسه). غير أنهم انضموا (بما في ذلك عناصر خلية "معهد مدينة نيويورك" مثل كريستول و ليبست) الى فصيل جديد نشأ على إثر انقسام طرأ على الحزب تعمق خاصة إثر مقتل تروتسكي سنة 1940 و كان ذلك الفصيل الجديد "حزب العمال" بقيادة شاختمان، و الذي يذكره كريستول بشيء من الاحترام في مذكراته، وجه انتقادات لغموض موقف الحزب من المسألة الديمقراطية و قدم تأويلا جديدا لموقف تروتسكي من ذلك (تم ذلك خاصة في مقدمة كتبها شاختمان لطبعة شهيرة سنة 1943 من أحد المؤلفات الأخيرة لتروتسكي The New Course ترجمها شاختمان بنفسه مثلما ترجم عددا اخر من مؤلفات تروتسكي). لم تدم هذه العلاقة عاما واحدا حيث انضم كريستول و مجموعة نيويورك الى انشقاق اخر ضمن "حزب العمال" وجه انتقادات للخلفية التروتسكية و "البلشفية" للتنظيم و أبدى تركيزا أكبر على المسألة الديمقراطية. لا بد من الاشارة هنا أن أرقام الناشطين في جل هذه التنظيمات لم يتجاوز خلال هذه الفترة في أحسن الحالات الألف عنصر. غير أنه في هذه الحلقة الضيقة تتكرر الأسماء التي ستشكل القيادات المؤسسة للتيار النيومحافظ: و على سبيل المثال فإن شاختمان كان على علاقة وثيقة نظريا و عمليا خلال هذه النزاعات مع كل من سيدني هوك و جيمس بورنهام و هي العلاقة التي ستنتهي الى القطيعة إثر التشخيص السلبي بشكل مطلق الذي توصل اليه الأخيرين للتجربة السوفياتية في حين رفض شاختمان هذا الموقف. إثر هذه القطيعة مع الجيل الأول للنيومحافظين لن تتقاطع مسارات الأخير مع النيومحافظين إلا بعد سنوات كثيرة عندما بادر شاختمان بتبني تكتيكات و مواقف نظرية غير مسبوقة من حيث قطعها مع ماضيه التروتسكي. ففي سنة 1958 انضم شاختمان مرة أخرى مع ما تبقى من الموالين له الى "الحزب الاشتراكي" المغمور و الذي كان يسعى لتأسيس قطب ثالث في الولايات المتحدة. غير أنه قرر سنة 1964 الالتحاق بالحزب الديمقراطي بعد التوصل الى موقف استحالة الدفع بإصلاحات اجتماعية خارج النظام السياسي القائم و بالتالي خارج الحزبين الرئيسيين. و هو موقف عنى التخلي نهائيا عن نظرية "الثورة البروليتارية" على الأقل بمعناها البلشفي، و لكنه بقي يحاجج من موقع نيوماركسي بالأساس يدافع فيه عن "الطابع الماركسي" لرؤاه. غير أن هذا التحول الكبير كان أكثر وضوحا على جبهة القضايا الخارجية حيث أصبح شاختمان تدريجيا رأس حربة ضمن الحزب الديمقراطي للدفاع عن الحرب الأمريكية في الفيتنام و رفض الانسحاب. و قد بوأت هذه المواقف الحاسمة على الجبهة الداخلية (إصلاحات اقتصادية و الدفع تجاه إدماج السود و حل مشاكل الحقوق المدنية) و القضايا الخارجية (التمسك بالحرب في الفيتنام على أساس الايمان بالدور الطليعي للولايات المتحدة في حماية "العالم الحر") مجموعة شاختمان موقعا مميزا داخل الحزب الديمقراطي منذ سنة 1964 جعلتهم يمسكون بسرعة موقع القرار في الحزب و من ثمة في البيت الأبيض من خلال تبني الرئيس ليندون جونسون أجندتهم السياسية. و على هذا الأساس أصبح أبرز القادة في الحزب من مجموعة شاختمان و يتعلق ذلك على وجه الخصوص بالفريق الذي تحلق حول السيناتور هنري سكوب جاكسون Henry Scoop Jackson و أصبح بمثابة حكومة ظل خلال فترة نيكسون. و هنا الحلقة المفتاح بالنسبة للجيل الثاني للنيومحافظين: حيث أصبح من المعروف على نطاق واسع الان بأن سكوب جاكسون و أهم مساعديه من أنصار شاختمان (مثل جوشوا مورافشيك Joshua Muravchik) كانوا الرعاة الأساسيين للأقطاب الحاليين للنيومحافظين خاصة بول وولفويتز و ريتشارد بيرل.

II
نيوهيجلية الفكر النيومحافظ و النيوماركسية

كنا تعرضنا في الجزء أعلاه الى الجينيولوجيا التنظيمية لبعض الرموز النيومحافظة و أشرنا بشكل مختصر الى أصولها النيوماركسية من ناحية انتماءاتها الحزبية السابقة. و في الواقع لا تعني تلك المعطيات أي شيئ في ذاتها: حيث يضم التيار النيومحافظ وجوها كثيرة لم تنتم الى أي تنظيم تروتسكي أو نيوماركسي. على سبيل المثال فإن شخصية محورية في التيار النيومحافظ مثل السفيرة الأمريكية السابقة في الولايات المتحدة خلال فترة الرئيس رونالد ريغن جان كيركباتريك Jeane Kirkpatrick لم تنضم الى أي تنظيم مماثل. و مثلما ذكرنا فإن شخصا رئيسيا خاصة في المراحل الأولى للتيار النيومحافظ مثل هنري سكوب جاكسون لم يكن هو نفسه منتميا لتيارات نيوماركسية رغم تحلق تيار شاختمان في الحزب الديمقراطي حوله. كما أن شخصا مثل بيل كريستول، نجل عراب التيار النيومحافظ إرفينغ كريستول، و أحد أهم الوجوه المنظرة في التيار في الوقت الراهن لم ينتم البتة، مثلما كان حال والده، الى أي تنظيم تروتسكي أو حتى يساري، إلا إذا قررنا أنه كان نيوماركسيا من خلال جيناته الوراثية. هذا بالاضافة طبعا لقيادات سياسية رئيسية في التيار النيومحافظ في الوقت الراهن مثل ديك تيشني و رامسفيلد و الرئيس بوش الابن نفسه و التي لم يكن لها أي علاقة بتيارات نيوماركسية. و هكذا من حق بعض المعلقين (مثل ويليام كينغ) انتقاد الروح التبسيطية في بعض الكتابات اليسارية أو المحافظة و التي تكتفي بجرد التاريخ الشخصي لبعض القيادات النيومحافظة لاستخلاص علاقة وطيدة بين الفكر النيومحافظ و التروتسكية. كما أنهم على حق حينما ينتقدون نفس هذه الكتابات في قراءتها التجزيئية و الانتقائية للتروتسكية لكي تجعلها ملائمة للخيارات الاستراتيجية و السياسية للنيومحافظين: و هكذا تبدو قراءات من نوع أن هناك استنساخا نيومحافظا لنظرية تروتسكي حول "الثورة الدائمة" في قالب نظرية "الحرب الاستباقية" أو "نشر الديمقراطية بالقوة العسكرية" تبدو نابعة عن عدم فهم لرؤي تروتسكي نفسه، حيث تعتقد أنه كان ينادي بزحف الجيش الأحمر السوفياتي لنشر الشيوعية عالميا و هو في الحقيقة موقف "اليسار البلشفي" مباشرة بعد ثورة اكتوبر و الذي انتقده في حينه تروتسكي و أنصاره جنبا الى جنب لينين. كل هذه الانتقادات صحيحة و تستحق الانتباه خاصة من ناحية تحذيرها من النزعة التبسيطية. غير أننا نعتقد أن هذه الانتقادات تسقط بدورها في الانتقائية و التبسيطية و ذلك من خلال حصرها النقاش في التروتسكية و تناسيها للاطار الفلسفي العام الأكبر بالضرورة من الانتماءات السياسية و الحزبية. و حالما ركزنا على الفكر النيومحافظ من خلال الرؤية الفلسفية و التي تتجاوز بالضرورة الاجتهاد التروتسكي و إذا وضعنا الماركسية و الاجتهادات النيوماركسية خلال السنين الأخيرة (مهما كانت أطرها الحزبية أو التنظيمية) كخلفية فلسفية للنقاش لأصبحت الأمور، حسبما نرى، أكثر قابلية للفهم. و هكذا فإن انتماء الكثير من منظري التيار النيومحافظ الى تنظيمات نيوماركسية في السابق لا يمكن أن لا يترك أثرا على اجتهاداتهم اللاحقة ، كما لايمكن تجاهله و النظر اليه كأنه مجرد صدفة لاغير. غير أننا نحتاج الى أكثر من ذلك لتبيان الأصل النيوماركسي للجينيولوجيا الايديولوجية للنيومحافظين. و هو ما سنحاول القيام به في هذه الحلقة الثانية و الأخيرة (لمقال نعتقد أنه يحتاج مجالا أوسع من هذا ليستوفي حظه).

"الديمقراطيين الاشتراكيين": حلقة ايديولوجية مهمشة

نشرت دورية Executive Intelligence Review (التابعة لتيار هامشي بقيادة الديمقراطي السابق ليندون لاروش و لكن أيضا التي تتميز خاصة في علاقة بموضوع النيومحافظين بمقالات ربما تكون الأفضل لولا نزعتها التآمرية المبالغ فيها أحيانا كثيرة) في عدد 18 يوليو/جويلية 2003 مقالا أثار في جزء منه موضوع حزب سياسي غير ملحوظ في الولايات المتحدة و هو تنظيم "الديمقراطيين الاشتراكيين-الولايات المتحدة" Social Democrats-USA و الذي يعتبر عضوا كاملا في "الاشتراكية الدولية" حتى هذه اللحظة. و أشار هذا المقال الى فترة غامضة في أحيان كثيرة و هي التي تبدأ مع وفاة ماكس شاختمان سنة 1972 و انقسام المجموعات التي كانت تعمل معه ضمن الحزب الديمقراطي، في إطار كتلة "الحزب الاشتراكي". و في الحقيقة فإن شاختمان قاد قبيل وفاته بأشهر تيارا أغلبيا ضمن هذه الكتلة يدعو للانسحاب من الحزب الديمقراطي و تكوين طرف سياسي جديد يتمتع بحرية أكبر للمناورة و لا يقتصر على التعاون مع الحزب الديقمراطي، و هو ما كان يعني فتح الأبواب للانضمام للحزب الجمهوري. انذاك كون شاختمان الى جانب أكثر مناصريه ولاءا و الذين رافقوه في جل أطوار حياته السياسية تنظيما جديدا سمي بـ"الديمقراطيين الاشتراكيين"، كانت تلك اخر مبادرة سياسية يقوم به شاختمان. يشير المقال أعلاه الى مجموعة من المعطيات التي تستحق الانتباه. خليفة شاختمان و زعيم التنظيم الى حد هذه اللحظة بان كامبل Penn Kemble بالاضافة الى مساعده الأول (الى حد الان أيضا) جوشوا مورافشيك Joshua Muravchik كانوا من العناصر الأساسية الى حد هذه اللحظة في برامج و مشاريع النيومحافظين منذ السبعينات. و علاوة على أن مورافشيك هو من أهم العناصر في مركز البحث النيومحافظ "معهد المؤسسة الأمريكية لبحث السياسات العامة" AEI منذ ذلك التاريخ الى الان، فإن كامبل كان يعمل بشكل وثيق مع أهم العناصر المقربة من ديك تشيني في وزارة الدفاع بداية الثمانينات وهو ما يشمل شخصيات محورية في الادراة الحالية مثل اليوت أبرامز Elliot Abrams عضو مجلس الأمن القومي و أبرام شولسكي Abram Shulsky مسؤول الخطط الخاصة في البنتاغون. و بالرغم أن كامبل لم ينضم البتة الى الحزب الجمهوري فإنه ساهم بشكل كبير مع نيومحافظين اخرين كانوا أيضا من المقربين سابقا لشاختمان (سواءا من الجيل الأول أو الثاني من النيومحافظين مثل إرفينغ كريستول و ريتشارد بيرل) في تأسيس مجموعة من المنظمات غير الحكومية منذ الثمانينات (لايزال عضوا فيها الى الان) و التي تركز حول مسائل نشر الديمقراطية في العالم، و كانت زمن الحرب الباردة كما أصبحت الان أيضا رأس حربة في السياسة الأمريكية. من هذه المنظمات نذكر فقط أكثرها شهرة: بيت الحرية Freedom House، المعهد من أجل الدين و الديمقراطية Institute for Religion and Democracy، لجنة العالم الحر Committee for the Free World، و المعهد القومي الديمقراطي للشؤون الدولية National Democratic Institute for International Affairs و الذي يعمل مباشرة مع المؤسسة الحكومية المعروفة الحساب القومي من أجل الديمقراطية National Endowment for Democracy. المثير أيضا أن المؤسسة الأخيرة يديرها كارل قيرشمان Carl Gershman و هو أيضا عضو في تنظيم "الديمقراطيين الاشتراكيين". تنسجم كل هذه المعطيات مع معطيات أخرى تؤكد الروابط بين الجيلين الأول و الثاني من النيومحافظين. فمثلا أحد الرعاة الرئيسيين لكل من وولفويتز و بيرل منذ لايزالان طالبين في العلوم السياسية و أستاذ الفلسفة السياسية البرت ووهلستتر Albert Wohlstetter كان عضوا في تنظيم شاختمان خلال الأربعينات و هو بالتأكيد ما يفسر إرسالهما بتوصية منه للالتحاق بمكتب السناتور الديمقراطي هنري سكوب جاكسون بداية السبعينات و الذي كان يسيطر عليها أنصار شاختمان و خاصة منهم مورافشيك. و من المرجح أن النبرة التعاطفية تجاه شاختمان التي استعملها ارفينغ كريستول في مذكراته المنشورة سنة 1983 كانت تتناغم مع العلاقة الوثيقة بين ما تبقى من الورثة المباشرين لشاختمان مثل كامبل و بقية الرفاق القدامى لشاختمان (مثل إرفينغ كريستول نفسه) و الذين اشتركوا في تأسيس المنظمات المذكورة أعلاه. و في الحقيقة دفعتنا هذه المعطيات لمحاولة التعرف بشكل أكبر على هذا التنظيم خاصة أنه يبين وجود إطار تنظيمي في الوقت الراهن يجسد تواصلا مباشرا لنفس الحلقات الحزبية من ثلاثيات القرن العشرين، و تحديدا لأولائك المثقفين الذين تخرجوا من التنظيمات المتلاحقة التي أسسها شاختمان. و الأكثر من ذلك أن لقيادة هذا التنظيم علاقة مباشرة و وثيقة بتيار النيومحافظين بالرغم أنهم ليسوا أعضاء في الحزب الجمهوري. و عند الدخول على الموقع الالكتروني للحزب وجدنا مجموعة هامة من الوثائق تبين ليس فقط العلاقة الشخصية الراهنة لأعضاء التنظيم بالتيار النيومحافظ بل أيضا دوره في صياغة الرؤى النظرية للنيومحافظين خاصة فيما يتعلق يالسياسة الخارجية، أو بشكل أكثر دقة بـ"الدور التاريخي" للولايات المتحدة. أحد هذه الوثائق رسالة مفتوحة "لا تلزم الحزب رسميا" موجهة للرئيس بوش بتاريخ فبراير/فيفري 2003 تحرضه على خوض الحرب و إسقاط النظام العراقي. المعطى الأول في الرسالة هو قائمة الممضين عليها: فإلى جانب القيادات الأساسية للتنظيم (مثل كامبل و مورافشيك و راشيل هوروفيتز Rachelle Horowitz و هي عضو بارز و نشيط في الحزب) نجد تقريبا كافة تشكيلة النيومحافظين العاملة في المؤسسات غير الحكومية التابعة لهم بما فيها تلك المذكورة أعلاه، كما تشمل أسماء رئيسية في التيار النيومحافظ: الصحفي و عضو AEI بان واتنبارغ و المنظر البارز روبرت كاغان و جيمس وولسي المدير السابق للمخابرات المركزية. و لكن المعطى الثاني الأكثر أهمية هو تركيز الرسالة على نقطة رئيسية دون غيرها كمبرر لشن الحرب: ففي حين أن جل المواقف بما فيها الموقف الرسمي الأمريكي كان يركزفي ذلك الوقت (أي قبل شن الحرب) على حجة براغماتية لشرعنة العمل العسكري (إدعاء أن النظام العراقي سيمرر أسلحة للدمار الشامل لتنظيم القاعدة) فإن الرسالة لم تتعرض بأي شكل من الأشكال لمثل هكذا حجج و ركزت على نقطة واحدة و هي شرعنة الحرب على أساس قيمي يقدم مسألة دمقرطة العراق كواجب للقوات العسكرية الأمريكية و كجزء من مهمة تاريخية يجب أن تشمل "العالم غير الحر"، بلغة تذكر بالخطاب الايديولوجي الأمريكي في المرحلة الريغينية الموجه ضد الاتحاد السوفياتي. من الضروري التذكير هنا أن هذا الخطاب لم يظهر بهذه الحدة لدى الادراة الأمريكية سوى بعد ناتهاء الحرب و التأكد من خلو العراق من أي أسلحة للدمار الشامل. أحد الوثائق الأخرى الهامة في الموقع الالكتروني للتنظيم هو محضر جلسة للقاء نظمه الحزب في أيار/ماي 2003 بعنوان "كل شيء تغير: ماذا الان بالنسبة للعمل، الليبرالية، و اليسار الدولي؟". أهم ما في المداخلات هو كلمة شخص يشارك لأول مرة في لقاءات التنظيم (كما أشار الى ذلك مورافشيك في كلمته) و هو الكاتب الشاب (مقارنة بالبقية) بول بيرمان Paul Berman. و الأخير هو حلقة مهمة قبل أي شيء لشخصه. فهو يمثل اخر الأجيال النيوماركسية و تحديدا التروتسكية التي تنضم الى النيومحافظين فحتى وقت قريب كان بيرمان يتهجم على الأخيرين. و قد تحدث عن هذا الجيل الأخير تروتسكي سابق اخر و هو ستيفان شفارتز في مقاله في الناشيونال رفيو في يونيو/جوان 2003 (أشرنا اليه في الحلقة السابقة من هذا المقال). و سمى شفارتز هذه المجموعة بشكل ساخر و التي تضمه هو نفسه بـ"الأممية الثالثة و النصف" داخل النيومحافظين. بالإضافة الى شفارتز تضم هذه المجموعة الكاتب كريس هيتشنس Chris Hitchens في حين يصف شفارتز بيرمان بالعضو "النصف" لأنه يشكك في "عمق" تجربته التروتسكية. العضو الثالث في هذه المجموعة هو السياسي العراقي سابقا (متحصل على الجنسية الأمريكية الان) كنعان مكية و الذي يقدمه شفارتز كـ"ناطق سابقا باسم الأنصار العرب للأممية الرابعة (التروتسكية)" و كأحد الأصدقاء المقربين منذ أيام “النضال التروتسكي"، و هو أمر لا يعرفه إلا القلائل حسبما يذكر شفارتز. و مكية بالمناسبة نموذج مثالي عن "الثوريين العرب سابقا" الذين يشكلون ما يسمى اليوم بـ"الليبراليين العرب الجدد" و لكن ذلك موضوع اخر ليس هنا مجاله. على كل حال المعطى الاخر المثير بالنسبة لبول بيرمان هو كلمته التي ألقاها في لقاء "الديمقراطيين الاشتراكيين"، و التي تستحق في بعض مقاطعها لترجمة كاملة لأهميتها بالنسبة لموضوعنا. يرى بيرمان في "قراءته لكارل ماركس" أنه كان من ضمن جيل المفكرين في بداية القرن التاسع عشر الذين امنوا أن هناك "سر للتقدم البشري" إذا تم تحديده أمكن حل مجمل المعضلات. و يتمثل هذا السر في المعتقدات الليبرالية الأساسية و التي تفترض العلوية المطلقة لمبدأ الحرية. و هذه النقطة بالذات يراها بيرمان محرك التاريخ البشري و الأهم من ذلك هي السر الذي توصل اليه النيومحافظون و هو جوهر فكرهم. غير أن بيرمان يشير الى انه بالرغم من انطلاق ماركس من هذه المبادء فإنه انتهى للدفاع عن رؤية مضادة للحرية في نهاية الأمر.

النيوهيجلية و ماركس الليبرالي

من الضروري التساؤل أولا ما الذي يمكن أن يجعل النيومحافظين المتأثرين بفكر يوصف بكونه واقع تحت تأثير مفكر مثل ليو شتراوس و الذي ينظر اليه البعض كمفكر "ما بعد حداثي" (أو "قبل حداثي" حسب وصف البعض الاخر) بفلسفة مثل الماركسية يُنظر اليها كأحد الأعمدة الأساسية لفلسفة الحداثة. في الواقع ليست الفلسفة الشتراوسية كلا منسجما بقدر ما هي موقف نقدي تعديلي تجاه فلسفة الحداثة. و على سبيل المثال فإن الموقف الشتراوسي تجاه مسألة رئيسية مثل "وجود الشيء في ذاته" (الحقيقة المطلقة) و القدرة على "إدراك الشيء في ذاته" (إدراك الحقيقة المطلقة) ينسجم تماما مع الموقف الحداثي و الذي يجيب في بعض مدارسه الأساسية (خاصة الهيجلية) بالايجاب على السؤالين (في حين تهاجم أكثر الفلسفات ما بعد الحداثية مثل التفكيكية بقوة هذه الرؤية "الاطلاقية" حسب رأيها). و بالنسبة للنيومحافظين ليس هناك جدال أن هناك "حقيقة مطلقة" كما أنه ليس هناك جدال أن "إدراكها" ممكن. غير أن البعد الفلسفي الحداثي لديهم أعمق من ذلك بكثير و يربطهم تحديدا بمدرسة رئيسية في فلسفات الحداثة و هي الهيجلية. فالحقيقة المطلقة كما يشير اليها قادة "الديمقراطيين الاشتراكيين" مثلما يشير اليها بقية النيومحافظين من كريستول الى بيرل مرورا بكراوثمر و فوكوياما هي "الحرية البشرية" و أن الشكل السياسي لهذه الحرية هي المؤسسات الديمقراطية و أن الحرية البشرية هي "هدف" في التاريخ البشري مقرر بشكل مسبق بفعل تطوره و بنيته الفكرية و هو بالتالي "حتمي". و أخيرا فإن "أفضل مرشح" للتحقق الكامل لهكذا تجربة و الأكثر من ذلك لنشرها هي تحديدا الولايات المتحدة الأمريكية. و في الواقع لا يمكن أن نجد نقاط تقاطع أكثر من تلك التي توجد بين الهيجلية و الفكر النيومحافظ. ليس فقط على مستوى المواقف الدقيقة و المحددة تاريخيا (و التي يتجنب هيجل النطق بها و موقفه المشهور من "الريادية التاريخية" للولايات المتحدة هو موقف نادر) بل الأهم من ذلك على مستوى الرؤية الفلسفية. طبعا اشتهر فوكوياما أكثر من أي منظر نيومحافظ اخر بأنه نيوهيجلي و لكن من المعروف الان أن كتاب "نهاية التاريخ و الانسان الأخير" لا يمثل وجهة نظره الفردية بقدر ما يمثل القراءة الفلسفية للتاريخ البشري من وجهة نظر النيومحافظين. اخر الدلائل المعلنة على هذا الاتفاق تم تضمينه كأساس للالتقاء في الجدال المستمر على صفحات الناشيونال انترست (منذ عدد صيف 2004 حتى العدد الأخير: ربيع 2005) بين أقطاب النيومحافظين و خاصة بين فوكوياما و كراوثامر. حيث تم الإقرار من الجانبين بنفس المبادئ المذكورة أعلاه كإطار للفكر النيومحافظ برغم أي خلافات حول تفاصيل تسيير السياسة الخارجية. و في الواقع فإن مفتاح مسألة الأصول النيوماركسية للفكر النيومحافظ تكمن تحديدا في نقاش أصوله النيوهيجلية و بالتالي يجب اعتبار هذه المسألة الفلسفية أكثر أهمية من أي ارتباطات تنظيمية و حزبية لبعض القيادات النيومحافظة. كما أنها الاطار الأنسب من الاطار الايديولوجي التروتسكي الأكثر محدودية. و هنا تأتي أهمية قراءة بيرمان المذكورة أعلاه حيث توفر لنا نموذجا عن صورة ماركس نفسه في الوعي النيومحافظ: حيث يصبح تراث ماركس من وجهة النظر النيومحافظة ليس في "يساريته" أو في تموقعه سياسيا ضد المنظومة الرأسمالية. يتم النظر بحنين أكبر الى ماركس عندما كان نيوهيجليا (أو "ماركس الشاب") حين كان يكتب و يشرف بين سنتي 1942 و 1943 على الدورية الليبرالية Rheinische Zeitung. حينها كانت القضية الماركسية الرئيسية (بوصفه "هيجليا يساريا") هي "حرية التعبير" في نظام سياسي استبدادي. و لكن حتى ماركس اللاحق يتمتع باحترام كبير مثلما تشير الى ذلك الفصول الاقتصادية في مذكرات إرفينغ كريستول، هنا ماركس هو نموذج رئيسي في المدارس الاقتصادية الكلاسيكية و التي أرست منهجا وصفيا دقيقا يؤكد قبل كل شيء ليس على رئيسية القيمة الأخلاقية (و التي لا طالما نظراليها ماركس كمعطى طوباوي يعرقل القدرة على التفكير في الاقتصادي السياسي كما وضح في نقده للـ"الاشتراكيين الطوباويين") بل على رئيسية "قوى الانتاج" (التجديد التكنولوجي) و علاقتها الموضوعية بعلاقات الانتاج. و من المثير أن إرفينغ كريستول قد لاحظ في مذكراته أن "اليسار الجديد لا يفهم ماركس" أو "ليس ماركسيا" في التحليل الاقتصادي لأنه يسقط في موقف طوباوي يجعل "الدفاع عن المقموعين اجتماعيا" أولويا بغض النظر عن حاجات قوى الانتاج. و هنا فإنه بغض النظر عن صورة ماركس في الوعي النيومحافظ فإن الماركسية تحضر بقوة في تنويعاتها النيوماركسية. و على سبيل المثال فإن ما يتم تغييره هو الشعار الماركسي و ليس الرؤية الفلسفية الماركسية: فالايمان بأن الثورة الديمقراطية حتمية تاريخية تحتاج الى دفعة من العنف لتتحقق إنما تتفق فلسفيا مع الأسس الفلسفية للشعارات الماركسية و خاصة حتمية الثورة البروليتارية و الحاجة الى دفعة من العنف لتحقيقها. إن ما يغيب عن الكثير من المجادلين (سلبا أو أيجابا) حول موضوع نيوماركسية النيومحافظين هو تركيزهم على المقارنة الشعاراتية و ليس الفلسفية-الايديولوجية. فشعارات "الثورة البروليتارية" و "حتمية انهيار الرأسمالية" و "حتمية المجتمع الشيوعي" هي نتائج لقراءة فلسفية سابقة نيوهيجلية بالأساس. و كما شرح انجلس في أواخر حياته أكثر من مرة و كما أوضح ماركس في رده على فيورباخ فإن الهيجلية (بالرغم أنها تمشي على رأسها) كانت أداة رئيسية للتحليل الماركسي. إن الاختلاف بين النيومحافظين و الماركسية لا يكمن في الرؤية الفلسفية أكثر من أنه يكمن في الشعارات و النتائج المستخلصة من أدوات التحليل الفلسفي. و اختلاف النتائج لا يعكس اختلافا في استعمال الوسائل بقدر ما يعكس تأكيدا على أولوية هذه الوسائل و الأدوات الفلسفية: فالحاكمية الرئيسية للهيجلية و الماركسية على السواء هي معطيات الواقع و تطوره، و هكذا فالايمان العميق بأولوية الحرية كهدف حتمي للتاريخ البشري تبقى رئيسية على مسألة "كيف و من هو الفاعل التاريخي الذي سيحقق ذلك؟". أثبتت الوقائع أن الاستخلاصات الاقتصادية لماركس المبنية على واقع رأسمالية القرن التاسع عشر لم تدرك ما للرأسمالية من قدرات على التأقلم وهو ما لم يتمظهر إلا فيما بعد بفضل تهديد الثورات العنيفة المهتدية بالماركسية في القرن العشرين. كما أن الحيوية التي غلفت "الأممية الاشتراكية" خلال القرن التاسع عشر و جعلت منها إطارا لكافة القوى الحرة لم تستمر بعد ثورة أكتوبر، حيث تضخمت "الدولة الاشتراكية" مركزة تجربة استبدادية في الوقت الذي كان فيه ماركس يحاجج على تماهي تحقق الحرية مع نهاية الدولة. ماذا يمكن أن يكون موقف ماركس تجاه تطورات واقعية مماثلة: التمسك بشعاراته أم بمنهجه الفلسفي؟ نعتقد أن الاحتمال الثاني أكثر واقعية. لقد كانت الماركسية أهم ايديولوجيات القرنين التاسع عشر و العشرين و عبرها استمرت الهيجلية. إن نيوماركسية النيومحافظين هي دليل على ظاهرة أساسية حتى هذه اللحظة: لا يمكن حتى بالنسبة لأقصى اليمين التجديد الفكري خارج الماركسية أو نيوهيجليتها في أقل الأحوال.

نشر في ميدل ايست أون لاين بتاريخ 21 ماي 2005
http://www.middle-east-online.com/opinion/?id=30960

نشر في القدس العربي على جزئين بتاريخ 24 و 25 ماي 2005
http://www.alquds.co.uk:8080/archives/pdf/2005/05May/24MayTue/Quds18.pdf
http://www.alquds.co.uk:8080/archives/pdf/2005/05May/25MayWed/Quds18.pdf

ملاحظة: قام محرر القدس بإدخال تحويرات على العنوان الأصلي مما أثر على المعنى الأصلي للمقال

">Link

Monday, May 09, 2005

'مملكة السماء' أو الحروب الصليبية من خلال عين معتدلة ولكن مسيحية أيضا

'مملكة السماء' أو الحروب الصليبية من خلال عين معتدلة ولكن مسيحية أيضا
درامية الواقع وتاريخية الدراما: هل الفيلم حقا موال لرواية أسامة بن لادن للحروب الصليبية؟
ميدل ايست اونلاين بقلم: الطاهر الأسود
لأن الدراما التاريخية غير ممكنة خارج واقع تاريخي محدد فهي دائما مخاطرة تشبه المشي في حقل ألغام. وعموما لا يُعسّر مهمة أي دراما تاريخية سوى واقعها الدرامي. يصبح الأمر أكثر تعقيدا عندما يتعلق الأمر بفيلم هوليودي عن الحروب الصليبية في ظرفية سياسية حساسة تشهد تورطا أمريكيا في دعم حكومة اسرائيلية متطرفة وفي احتلال عاصمة عربية مثل بغداد تملك رمزية تاريخية استثنائية والأكثر من ذلك بعد تصاعد الكراهية ضد المسلمين في الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. ربما يستغرب البعض (أو حتى تثيره الشكوك) حول نوايا القيام بمثل هذه المخاطرة في هذا الظرف بالذات. يمكن أن يصبح الأمر مفهوما عندما نعرف أن التخطيط للشريط كان سابقا لأحداث 9/11. والان وبعد بدء عرض شريط "مملكة السماء" (Kingdom of Heaven) في القاعات يمكن إبداء ملاحظات حوله شكلا ومضمونا بناء على المشاهدة المباشرة: فكيف يمكن تقييم الشريط في علاقة بالاعتراضات الاستباقية لمن راه "مواليا لرواية أسامة بن لادن للحروب الصليبية" (حسب رأي المؤرخ البريطاني في جامعة كامبردج جوناثان ريلي سميث Jonathan Riley-Smith المقرب من النيومحافظين في الولايات المتحدة) أو في علاقة بموقف من راه "متوازنا" (منظمة "كير" التي تعنى بالدفاع عن المسلمين في الولايات المتحدة)؟
الشريط
يركز المخرج البريطاني ريدلي سكوت (Ridley Scott) في شريطه "مملكة السماء" (البعض يعرب العنوان "جنة السماء" وهو ما لا يتلاءم مع المماهاة التي يقصدها المخرج بين "مملكة القدس" والجنة أو "مملكة السماء") على شخصية هامشية سواء في المصادر التاريخية أو في التناول الدرامي المعتاد للحروب الصليبية. يتعلق الأمر بأحد قادة الفرسان الصليبيين باليان حاكم نابلس (Balian d'Ibelin) الفرنسي الأصل والذي كان أحد معاوني ملك القدس بلدوين الرابع (و الذي توفي سنة 1185). في حين يركز من الناحية الزمنية على الفترة بين سنة 1184 (التحاق باليان بالصليبيين) وسنة 1187 (تحديدا اكتوبر 1187 تاريخ استرجاع صلاح الدين السيطرة على القدس بعد قيادة باليان للقوات الصليبية في مواجهة حصار الجيش الاسلامي). الشخصية الرئيسية الأخرى في الشريط هو صلاح الدين. الشخصيات الأخرى المحورية تتمثل في: تايبيرياس حاكم القدس وأحد القادة الرئيسيين للفرسان الصليبيين وحليف الملك بلدوين وباليان، سيبيلا أخت بلدوين والعشيقة المفترضة لباليان، غاي دو لوزينيان زوج سيبيلا وخليفة بلدوين في الملك وهو الذي انهزم في معركة حطين الحاسمة سنة 1187، رينو حاكم قلعة الكرك وحليف غاي.
بشكل عام كان الشريط متقنا فنيا خاصة من ناحية اختيار زوايا المشاهد الحربية وعلينا هنا أن نذكر أن المخرج ريدلي سكوت أصبح متخصصا في هذه النوعية من الأشرطة خاصة بعد نجاح شريطه السابق "المصارع" (Gladiator) والذي تحصل على اثره على عدد من الأوسكارات سنة 2000 بوصفه مخرجا ومنتجا منفذا. من المشاهد المثيرة كان منظر التحام فرقة الفرسان الصليبيين في مواجهة فرسان الجيش الاسلامي قبالة قلعة الكرك حيث برع المخرج في تصوير التقنيات العسكرية المستخدمة في حالة التواجه بين فرقتين من الخيالة ونجح في ذلك على وجه الخصوص من خلال اختياره التراوح بين زاويتي الواجهة (frontal view) و"رؤية الطير" (Bird's eye view). كان الاسترسال الدرامي مقبولا في الجملة باستثناء حالات قليلة من الانتقال الفجئي وغير المقنع مثل تحول باليان الى مقاتل ماهر أو تطور قصة حبه مع سيبيلا. اختيار الموسيقى المرافقة كانت صائبا حيث نجح المؤلف الموسيقي البريطاني هاري قريقسون-ويليامز في تأليف مقاطع مميزة ومتماهية مع النسق العسكري المتسارع للدراما المرئية. وفي المقابل تم الاستعانة بالمغنية العربية الأصل ناتاشا أطلس في إنشاد مقاطع بالعربية يغلب عليها الطابع الصوفي. أداء الممثلين كان متفاوتا: الممثل الشاب أورلاندو بلوم والذي جسد الشحصية المحورية (باليان) نجح في تجسيد المعنى الأساسي للشخصية؛ التقوى والايمان القوي بمثله العليا مع روح قتالية مندفعة. لكن يبدو لي أن الفنان السوري غسان مسعود سيكون الاكتشاف الحقيقي للجمهور الغربي وحتى العربي (والذي اعتاد على مشاهدته في أعمال تلفزيونية وليس سينمائية) حيث تميز بنجاحه الفائق في تصوير الكارزمية الهادئة لشخصية صلاح الدين. غير أن الممثلة الفرنسية الشابة ايفا غرين (جسدت شخصية سيبيلا) لم تكن موفقة تماما حيث لم تستطع عموما في تجسيد النقلة التي شهدتها شخصية سيبيلا من أميرة متنطعة الى أميرة منكسرة. بقية الممثلين كانوا في مستوى نجوميتهم خاصة الفنانين ليام نيسون (في دور أب باليان) وجيريمي ايرونس (في دور تايبيرياس).
شريط "موال لرواية أسامة بن لادن للحروب الصليبية"؟
لا يمكن التشكيك في القيمة التي يحظى بها المؤرخ البريطاني جوناثان ريلي سميث في الأوساط الأكاديمية كمؤرخ للمسيحية في العصور الوسطى وتحديدا كمؤرخ لظاهرة الحروب الصليبية. وعلى سبيل المثال فإن كتابه "الحروب الصليبية: تاريخ مختصر" هو مرجع لا يمكن الاستغناء عنه في التأريخ لهذه المرحلة التاريخية خاصة من ناحية التدقيق في كرونولوجية الأحداث كما يتفق حولها معظم الدارسون في الوقت الراهن. غير أن لكل مؤرخ رؤيته الايديولوجية والتي لا يمكن أن لا تترك أثرها على نهجه العلمي. وبالنسبة لهذه الحالة فإن مثل هذه الرؤية الايديولوجية خطيرة بالنسبة للاختصاص المهني: حيث يتعاطف السيد ريلي سميث مع التيار النيومحافظ في جناحه الانجيلي. وهو بشكل أو باخر في وضع مشابه للمختص في التاريخ العثماني والنيومحافظ برنارد لويس.
عندما وصف السيد ريلي سميث أخيرا شريط "مملكة السماء" بأنه "موال لرواية أسامة بن لادن للحروب الصليبية" (في حديث تناقلته العديد من وسائل الاعلام) فإنه كان يشرح موقفا متكاملا كان تعرض له في السابق. ففي مقال بعنوان "ماذا يعني أسامة بن لادن بـ الصليبية؟" وذلك في نشرية الناشيونال ريفيو (The National Review) والتي تتبع التيار النيومحافظ (عدد 5 يناير/كانون الثاني 2004) قام ريلي سميث بملاحظة استرجاع مصطلح "الحروب الصليبية" في الخطاب الاسلامي وهو ما يحدد بدايته في المرحلة المعاصرة في الصحافة العثمانية زمن الخليفة عبد الحميد الثاني. ويقتفي بعجالة أثر ذلك الاصطلاح وينتهي الى أن هناك "اعتقادا عاما" بين العرب في مختلف الأطياف السياسية (يذكر أمثلة من "الروائي اللبناني"(؟!) محمود درويش الى "الاسلامي الجهادي" أسامة بن لادن) في "قراءة خاطئة" للحروب الصليبية يقع توظيفها بشكل غير مناسب في تحليل الوضع العربي والاسلامي الراهن من خلال إسقاط مصطلح "الصليبية" على الصراع الراهن في المنطقة. ويشير الى أن هذه النظرة بصدد الانتشار و"لا شيء يحدث لمواجهتها". ولا يشرح ريلي سميث ما يعني بالتحديد عندما يتحدث عن هذه "القراءة الخاطئة" لتاريخ الحروب الصليبية التي يشترك فيها محمود درويش مع أسامة بن لادن(؟!)، لكنه يشرح ذلك في مواقع أخرى. شرحه مثلا أخيرا في تعليقه على "مملكة السماء" عندما عاود استعمال نفس الفكرة التي عبر عنها قبل أكثر من عام في مقال الناشيونال ريفيو: يعتبر ريلي سميث رواية المخرج ريدلي سكوت للحروب الصليبية مثل رواية بن لادن (ومحمود درويش علينا أن نضيف) لأن كلاهما يصور "المسلمين كمتحضرين والمسيحيين برابرة، وهذا غير صحيح". يمضي ريلي سميث ليقدم أمثلة: "غاي دي لوسينيان خسر معركة حطين لكنه لم يكن أفضل أو أسوأ من أي شخص اخر" كما أنه "لم توجد تعاونيات أخوية بين المسيحيين والمسلمين واليهود" كما حاول الشريط أن يلمح.
حسنا يبدو أن السيد ريلي سميث لم يشاهد الشريط. أو في أقل الأحوال لم يكن لديه الوقت الكافي للتركيز على ما جاء فيه. حيث أن طفلا في العاشرة يمكن له أن يرى أن ريدلي سكوت لم يصور "المسيحيين" (هكذا بشكل معمم) كبرابرة. ولا يبدو أن التعميم أمر غريب بالنسبة لريلي سميث خاصة عندما يضع في نفس السلة القراءة التاريخية لمحمود درويش وأسامة بن لادن. فشريط "مملكة السماء" قدم ما هو معروف في جميع المصادر التاريخية وهو انقسام الطرف المسيحي الى طرفين ومن ثمة انقسام الفرسان الصليبيين الى طرفين: طرف مثله الملك بلدوين وكل من باليان وتايبيرياس ويدافع عن مواصلة ابرام اتفاقيات سلام مع صلاح الدين بما في ذلك ضمان سير قوافل وحجاج المسلمين وفي مقابل ذلك كان هناك طرف اخر يمثله غاي دي لوسينيان ورينو حاكم الكرك ويمثلون ما يعرف تاريخيا بـ"فرسان المعبد" يرفض هذا التوجه ويريد خوض حرب مع صلاح الدين. وفي الواقع تمسك الشريط بالرغم من أنه عمل درامي يعتمد التخيل في الأساس بهذا المعطى التاريخي والذي لا يضع "كل المسيحيين" في سلة واحدة كما يحاول ريلي سميث أن يحاجج. غير أنه يبقى عمل درامي، وفي أي عمل درامي يجب أن يوجد "الشرير" و"الخيَر"، وبهذا المعنى كان باليان خيرا وكان غاي دي لوسينيان شريرا في "مملكة السماء". وفي هذه الحالة فإن انتقاد ريلي سميث لتصوير الشريط لغاي كشخصية شريرة هو بمثابة مطالبة الروائي التصرف كمؤرخ، وهذا أمر يمكن أن يكون مشروعا فقط عندما يطالب ريدلي سكوت ريلي سميث بالتحول الى مخرج.
لكن من جهة أخرى فإن الرؤية التاريخية لا تعني عدم الاقرار بأن غاي دي لوسينيان كان شخصا غير متطرف وأن قتله للحجاج المسلمين بأنه عمل غير بربري، إذ يبدو أن ريلي سميث يحاجج ضد القول بأن "كل المسلمين كانوا متحضرين" وهو ما يعني أنه يدافع عن أنهم في الواقع ليسوا كذلك. الواقع التاريخي أنه كان هناك طرف مسيحي متطرف يعتقد أنه بصدد "تحرير" القدس و"الأرض المقدسة" عندما يقع نحر المسلمين هناك وهؤلاء كانوا يعتقدون أن قتل "كافر" (مسلم) يحسن حظوظهم في بلوغ الجنة. هذه معطيات لا يعرفها ريلي سميث فحسب بل ساهم في توثيقها والتعريف بها. غير أن للسيد ريلي سميث خطيئة أساسية بصفته مؤرخا وهنا يحضر العامل الايديولوجي بشكل قوي حيث من المعروف أنه يدافع في مجمل كتاباته عن صدق "فرسان المعبد" وجدية ايمانهم بمهمة "التحرير" هذه. وهنا من الضروري الاقرار بأن أمرا مثل ذلك غير مستبعد بالنسبة لبعض الحالات، ولكن من الخطيئة العلمية تعميمه والدفاع عنه بشكل أعمى، كما لا يجوز الاطمئنان لرأي مضلل من نوع أن غاي دي لوسينيان مثلا "لم يكن أفضل أو أسوأ من أي شخص اخر". فالأخير كان "أسوأ" من الكثيرين غيره لأنه مارس أعمال بربرية. من جهة أخرى هناك تيارا أكاديميا كاملا (في الغرب "المسيحي" قبل أي مكان اخر) وشديد التأثير يحاجج بناء على معطيات توفرها المصادر المسيحية ذاتها أن غالبية "فرسان المعبد" كانوا يبحثون على الثروة لا عن "مملكة السماء". وهكذا عندما يهاجم ريلي سميث الشريط في نقطة التشكيك في صدق "فرسان المعبد" فإنه لا يهاجم مجرد عمل درامي "لا ينبني على الحقائق التاريخية" بل هو يتهجم على تيار كامل في أكاديميا التأريخ للحروب الصليبية. وفي واقع البحث الأكاديمي لا يعبر ريلي سميث سوى عن تيار أكاديمي محدد.
يبقى أمر "التعاونيات الزراعية بين المسيحيين واليهود والمسلمين". يشير ريلي سميث هنا الى مقطع روائي يصور نابلس "تعاونية زراعية" تنعم بالاخاء والسلم تحت حكم باليان. وفي الواقع كان المخرج قد أشار في تعليقات سابقة بأنه اختلق هذه الرؤية للدفاع عن فكرة "امكانية التعايش الأخوي بين الأديان الثلاثة" وبالتالي فهو لا يقدمها على أنها معطى تاريخي.
لكن هناك أمر يتجاهله ريلي سميث في هذا النقاش من وجهة النظر التاريخية: لم يكن الفرسان الصليبيون مجرد مسيحيين، لقد كانوا أيضا مسيحيين من أوروبا لم يعيشوا البتة على أرض فلسطين وبلاد الشام. كانوا ينتمون لمجال جغراسياسي واتني اخر. في المقابل لم يكن جيش صلاح الدين مجرد جيش من المسلمين بل كانوا أيضا ينتمون لمجال جغراسياسي "سامي" يتكلم لغات مشابهة ومعتقدات متقاربة منذ مراحل تاريخية تسبق المسيحية نفسها. بل إن المسيحية نشأت وطوردت في محيطهم كشكل من أشكال مواجهة اضطهاد سياسي وثقافي من قبل امبراطورية "أوروبية" أخرى، الامبراطورية الرومانية. في الواقع التاريخي لم يكن ذلك الصراع صراعا دينيا فحسب كما يريد أن يعتقد السيد ريلي سميث لأسباب ايديولوجية. وهذا المعطى وحده يؤثر بالضرورة في كيفية تناول الحروب الصليبية.
من المهم الاشارة الى أن تصوير التمايز داخل المعسكر المسيحي الصليبي هو موقف موجود في الذهنية العربية وهو "إعتقاد عام" سواء في المصادر أو في الواقع الراهن. وقد عبر عنه مثلا يوسف شاهين في شريطه "صلاح الدين"، كما سيدافع عنه بالضرورة محمود درويش لخلفيته الفكرية. ولكن من المؤكد أن أسامة بن لادن لا يقاسمهم هذه الرواية فهو لا يرغب في وجود مسيحيين مسالمين. إن وضع الجميع في سلة واحدة يعبر عن قلة النزاهة العلمية ورغبة في تشويه النقاش من قبل ريلي سميث من موقع فوقي، موقع "المؤرخ العارف والمحايد". وهذا في أقل الأحوال موقف تضليلي.
شريط "متوازن"؟
لمنظمة "كير" حسابات كثيرة. ولا يمكن أن لا يرى ملاحظ حجم الضغوط التي تتعرض لها كمنظمة تحظى بمصداقية متصاعدة في محيط يتراكم المتربصون فيه خاصة من نواحي اليمين الديني المتطرف أو اللوبي الاسرائيلي. كما لا يمكن أن يرى أي ملاحظ أن التنميط الهوليودي السلبي المعتاد لصورة المسلم تجعل من أي رؤية متغايرة بعض الشيء مناسبة لكير أو غيرها من المنظمات الاسلامية الأمريكية لتشجيعها. كل ذلك مفهوم ولكن يبقى من الضروري تقييم شريط "مملكة السماء" بعيدا عن هذه الحسابات. تقول كير أن الشريط "متوازن" وأنه يدفع لـ"تحسين الصورة النمطية للمسلم في المجتمع الغربي". فهل ذلك صحيح؟
لنبدأ بالشكل. اتبع المخرج البريطاني (مثلما فعل في شريطه السابق "المصارع") نزعة استشراقية واعية تستنسخ بشكل دقيقي الصورة الرومنطيقية للـ"الشرق" مثلما تصورها رومنطيقيو القرن التاسع عشر. الملابس تستنسخ ملابس الشخوص المركبة التي ألفها الرسامون الفرنسيون (خاصة دي لاكروا) في لوحاتهم الزيتية الشهيرة على أساس رحلاتهم الى شمال افريقيا ومصر بداية القرن التاسع عشر. انعكس ذلك سواء في الملابس الرجالية (صلاح الدين) أو النسائية (سيبيلا). انسجمت صورة الملابس هذه مع الطابع المعماري المعتمد حيث تم إسقاط الطابع الأندلسي-المغربي على الطابع المشرقي-السوري. ويرجع ذلك بالتأكيد لتصوير الشريط في اسبانيا والمغرب. ولكن يرجع أيضا (مرة أخرى) الى المعمار الذي وقع إبرازه والتأكيد عليه في اللوحات الرومنطيقية والاستشراقية للفنانين الفرنسيين والذين كانوا مبهورين بالـ"الطابع العاطفي" للمعمار الأندلسي الذي كان مهيمنا في شمال افريقيا. وعموما يبدو شكل "شرق" الحروب الصليبية كما صوره ريدلي سكوت غرائبيا (exotic) من الطينة النمطية المعتادة للسينما الغربية عند تصويرها للطرف العربي الاسلامي في الفترة الوسيطة.
يتم تعميق هذا الانطباع من خلال تجنب تصوير صلاح الدين ومرافقيه في إطار هندسي معماري والاقتصار على تصويرهم إما على ظهور الخيول في أطر طبيعية صحراوية قاحلة أو في خيام نُصبت بشكل مؤقت لغرض الحرب. وهو ما يستنسخ صورة العربي "البدوي" في المشهد الرومنطيقي الاستشراقي الفرنسي. وهكذا تفرض الصورة مقاربة مرئية تستبعد في مخيلة المشاهد الغربي صورة المسلم من مجال العادي واليومي وتجعله عصيا على الفهم، ينتمي الى عالم اخر بألوان وتشكيلات أخرى. وما يُعمق هذه الوضع المرئي الغرائبي المعطى الصوتي أو اللغوي. حيث فُرض على الشخصيات العربية التكلم بالانجليزية، وهو ما أفرز انجليزية مكسرة وصعبة الفهم (رغم محاولة الممثلين العرب التعبير بشكل مناسب). يأتي هذا في الوقت الذي كان يمكن فيه الالتجاء الى استعمال العربية الفصحى مع الاستعانة بترجمة فورية مكتوبة مثلما هو معمول به في كثير من الحالات، وقد برهن ميل جيبسون في شريطه "الام المسيح" عن نجاح وأهمية هذه التجربة في تأكيد حميمية المشهد الدرامي. وعموما فإن مشاهد الحوار بين الشخصيات العربية كانت محدودة وبالتالي لن يمثل ثقلا على المشاهد اعتماد الترجمة الفورية المكتوبة. في المقابل يأتي الاستعمال المتقطع والنمطي للعربية (ترداد الشخوص الغربية بشكل مكسر تعبير"هيا بنا" بمناسبة وبدونها) كتعويض زخرفي يعكس عدم الاكتراث بإدماج العربي كما هو. المعطى الصوتي الاخر الذي يعمق اغتراب المسلم هي تمييز مشهد "الشهيد المسيحي" بموسيقى انشادية دينية تعظيمية وهي تقنية لم تُستعمل في علاقة بنظيره المسلم.
يأتي الان دور المضمون. تجنب ريدلي سكوت أي مشاهد حربية تعكس انتصارا عسكريا للجيش الاسلامي. وبالرغم من أن أهم حدث عسكري خلال الفترة التي اختارها (1184-1185) هو معركة حطين (4 يوليو/تموز 1187) والتي لم يصور منها أي مشهد سوى مشهد إعدام رينو ورؤوس وجثث "فرسان المعبد" متناثرة على الأرض. وهنا لا يبدو صلاح الدين قائدا عسكريا متميزا بقدر ما يبدو قويا ومخيفا بجيشه ذي 200 ألف مقاتل. يتدعم هذا الانطباع في المشهد العسكري الرئيسي للشريط: حصار صلاح الدين للقدس (أكتوبر 1187). حيث ينجح باليان في ابتكار وسائل دفاعية تعبر عن عبقرية عسكرية نجحت في منع اقتحام قوات صلاح الدين الضخمة مدعمة بالمجانيق لأسوار القدس، وفي النهاية يفرض باليان شروطه على صلاح الدين. هنا تأتي النقطة الثانية: في خطاب توجه به باليان لقواته في القدس تهيئا للحصار بأنه "يدافع عن الشعب... والحرية". وفي إطار الجدال حول شروطه يقع افتراض نية صلاح الدين لسحق جميع المسيحيين "نساء وأطفالا" وأنه لم يقم بذلك إلا بعد تهديد باليان بتدمير المعالم الاسلامية ومسلمي المدينة. طبعا المعطيات التاريخية (كما الشريط) تؤكد على أن صلاح الدين تجنب هنا كما في وقائع أخرى إعدامات جماعية ونزع عموما الى دفعهم الى الخروج والرجوع الى أوروبا وهو ما يجعل كلمات باليان حول "دفاعه عن الحرية" خارج السياق. لكل هذه الأسباب من الأفضل الامتناع عن الوصف المسيس لهذا الشريط بأنه "متوازن".
بالرغم من ذلك حاول ريدلي سكوت تقديم صورة ايجابية لصلاح الدين وهي أقرب الى الرومانسية فعلا. في أحد اخر المشاهد وبعد دخوله القدس ينحني القائد المسلم ويلتقط صليبا من الأرض ليرجعه فوق أحد الموائد. هل كان صلاح الدين الحقيقي سيفعل ذلك؟ ربما إذا أردنا أن نراه بشكل تفاؤلي من القرن الواحد والعشرين. الواقع أن الشريط صُور بعين مسيحية، ولكنها معتدلة. إذا أردنا المقارنة بشيء من التعسف لقلنا أن شريط ريدلي سكوت شكلته عين مسيحية بقدر ما كان شريط يوسف شاهين مُصاغا بعين إسلامية. ولكن في الحالتين كان هناك مجال لمشاهدة الاخر ليس كعدو مطلق ولو كان ذلك بشروط محددة. ليس الموضوع في النهاية التأريخ للحروب الصليبية بل هو كيف يمكن للمخيال التاريخي أن يساهم في الحد من التطرف الراهن. وفي الوقت الحالي فإن الاعتداء الاستعماري العسكري الراهن على المنطقة العربية لا يختلف في المضمون عن إعتداءات "فرسان المعبد" وهو أحد الأشكال الرئيسية للتطرف. إن محاولة تبييض "فرسان المعبد" في أي فترة تاريخية ممكنة وتسويتهم بمن يدافعون عن أنفسهم هي محاولة فاشلة للتزوير. محاولة تسوية من يدافعون عن أنفسهم بمتطرفين مهووسين مسلمين من نوع أسامة بن لادن والتيارات القاعدية المرتبطة به هو أيضا محاولة أخرى فاشلة للتزوير. لهذا يستحق ريدلي سكوت الوقوف معه في وجه من يريدونه تبييض "فرسان المعبد" عنوة. ولكن ليس الى حد اعتبار عمله "متوازنا". للأسف، لم ينضج الوضع بعد لعمل "متوازن" من أي جهة كانت.
الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية

">Link
Link

'مملكة السماء' أو الحروب الصليبية من خلال عين معتدلة ولكن مسيحية أيضا

'مملكة السماء' أو الحروب الصليبية من خلال عين معتدلة ولكن مسيحية أيضا
درامية الواقع وتاريخية الدراما: هل الفيلم حقا موال لرواية أسامة بن لادن للحروب الصليبية؟
بقلم: الطاهر الأسود
لأن الدراما التاريخية غير ممكنة خارج واقع تاريخي محدد فهي دائما مخاطرة تشبه المشي في حقل ألغام. وعموما لا يُعسّر مهمة أي دراما تاريخية سوى واقعها الدرامي. يصبح الأمر أكثر تعقيدا عندما يتعلق الأمر بفيلم هوليودي عن الحروب الصليبية في ظرفية سياسية حساسة تشهد تورطا أمريكيا في دعم حكومة اسرائيلية متطرفة وفي احتلال عاصمة عربية مثل بغداد تملك رمزية تاريخية استثنائية والأكثر من ذلك بعد تصاعد الكراهية ضد المسلمين في الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. ربما يستغرب البعض (أو حتى تثيره الشكوك) حول نوايا القيام بمثل هذه المخاطرة في هذا الظرف بالذات. يمكن أن يصبح الأمر مفهوما عندما نعرف أن التخطيط للشريط كان سابقا لأحداث 9/11. والان وبعد بدء عرض شريط "مملكة السماء" (Kingdom of Heaven) في القاعات يمكن إبداء ملاحظات حوله شكلا ومضمونا بناء على المشاهدة المباشرة: فكيف يمكن تقييم الشريط في علاقة بالاعتراضات الاستباقية لمن راه "مواليا لرواية أسامة بن لادن للحروب الصليبية" (حسب رأي المؤرخ البريطاني في جامعة كامبردج جوناثان ريلي سميث Jonathan Riley-Smith المقرب من النيومحافظين في الولايات المتحدة) أو في علاقة بموقف من راه "متوازنا" (منظمة "كير" التي تعنى بالدفاع عن المسلمين في الولايات المتحدة)؟
الشريط
يركز المخرج البريطاني ريدلي سكوت (Ridley Scott) في شريطه "مملكة السماء" (البعض يعرب العنوان "جنة السماء" وهو ما لا يتلاءم مع المماهاة التي يقصدها المخرج بين "مملكة القدس" والجنة أو "مملكة السماء") على شخصية هامشية سواء في المصادر التاريخية أو في التناول الدرامي المعتاد للحروب الصليبية. يتعلق الأمر بأحد قادة الفرسان الصليبيين باليان حاكم نابلس (Balian d'Ibelin) الفرنسي الأصل والذي كان أحد معاوني ملك القدس بلدوين الرابع (و الذي توفي سنة 1185). في حين يركز من الناحية الزمنية على الفترة بين سنة 1184 (التحاق باليان بالصليبيين) وسنة 1187 (تحديدا اكتوبر 1187 تاريخ استرجاع صلاح الدين السيطرة على القدس بعد قيادة باليان للقوات الصليبية في مواجهة حصار الجيش الاسلامي). الشخصية الرئيسية الأخرى في الشريط هو صلاح الدين. الشخصيات الأخرى المحورية تتمثل في: تايبيرياس حاكم القدس وأحد القادة الرئيسيين للفرسان الصليبيين وحليف الملك بلدوين وباليان، سيبيلا أخت بلدوين والعشيقة المفترضة لباليان، غاي دو لوزينيان زوج سيبيلا وخليفة بلدوين في الملك وهو الذي انهزم في معركة حطين الحاسمة سنة 1187، رينو حاكم قلعة الكرك وحليف غاي.
بشكل عام كان الشريط متقنا فنيا خاصة من ناحية اختيار زوايا المشاهد الحربية وعلينا هنا أن نذكر أن المخرج ريدلي سكوت أصبح متخصصا في هذه النوعية من الأشرطة خاصة بعد نجاح شريطه السابق "المصارع" (Gladiator) والذي تحصل على اثره على عدد من الأوسكارات سنة 2000 بوصفه مخرجا ومنتجا منفذا. من المشاهد المثيرة كان منظر التحام فرقة الفرسان الصليبيين في مواجهة فرسان الجيش الاسلامي قبالة قلعة الكرك حيث برع المخرج في تصوير التقنيات العسكرية المستخدمة في حالة التواجه بين فرقتين من الخيالة ونجح في ذلك على وجه الخصوص من خلال اختياره التراوح بين زاويتي الواجهة (frontal view) و"رؤية الطير" (Bird's eye view). كان الاسترسال الدرامي مقبولا في الجملة باستثناء حالات قليلة من الانتقال الفجئي وغير المقنع مثل تحول باليان الى مقاتل ماهر أو تطور قصة حبه مع سيبيلا. اختيار الموسيقى المرافقة كانت صائبا حيث نجح المؤلف الموسيقي البريطاني هاري قريقسون-ويليامز في تأليف مقاطع مميزة ومتماهية مع النسق العسكري المتسارع للدراما المرئية. وفي المقابل تم الاستعانة بالمغنية العربية الأصل ناتاشا أطلس في إنشاد مقاطع بالعربية يغلب عليها الطابع الصوفي. أداء الممثلين كان متفاوتا: الممثل الشاب أورلاندو بلوم والذي جسد الشحصية المحورية (باليان) نجح في تجسيد المعنى الأساسي للشخصية؛ التقوى والايمان القوي بمثله العليا مع روح قتالية مندفعة. لكن يبدو لي أن الفنان السوري غسان مسعود سيكون الاكتشاف الحقيقي للجمهور الغربي وحتى العربي (والذي اعتاد على مشاهدته في أعمال تلفزيونية وليس سينمائية) حيث تميز بنجاحه الفائق في تصوير الكارزمية الهادئة لشخصية صلاح الدين. غير أن الممثلة الفرنسية الشابة ايفا غرين (جسدت شخصية سيبيلا) لم تكن موفقة تماما حيث لم تستطع عموما في تجسيد النقلة التي شهدتها شخصية سيبيلا من أميرة متنطعة الى أميرة منكسرة. بقية الممثلين كانوا في مستوى نجوميتهم خاصة الفنانين ليام نيسون (في دور أب باليان) وجيريمي ايرونس (في دور تايبيرياس).
شريط "موال لرواية أسامة بن لادن للحروب الصليبية"؟
لا يمكن التشكيك في القيمة التي يحظى بها المؤرخ البريطاني جوناثان ريلي سميث في الأوساط الأكاديمية كمؤرخ للمسيحية في العصور الوسطى وتحديدا كمؤرخ لظاهرة الحروب الصليبية. وعلى سبيل المثال فإن كتابه "الحروب الصليبية: تاريخ مختصر" هو مرجع لا يمكن الاستغناء عنه في التأريخ لهذه المرحلة التاريخية خاصة من ناحية التدقيق في كرونولوجية الأحداث كما يتفق حولها معظم الدارسون في الوقت الراهن. غير أن لكل مؤرخ رؤيته الايديولوجية والتي لا يمكن أن لا تترك أثرها على نهجه العلمي. وبالنسبة لهذه الحالة فإن مثل هذه الرؤية الايديولوجية خطيرة بالنسبة للاختصاص المهني: حيث يتعاطف السيد ريلي سميث مع التيار النيومحافظ في جناحه الانجيلي. وهو بشكل أو باخر في وضع مشابه للمختص في التاريخ العثماني والنيومحافظ برنارد لويس.
عندما وصف السيد ريلي سميث أخيرا شريط "مملكة السماء" بأنه "موال لرواية أسامة بن لادن للحروب الصليبية" (في حديث تناقلته العديد من وسائل الاعلام) فإنه كان يشرح موقفا متكاملا كان تعرض له في السابق. ففي مقال بعنوان "ماذا يعني أسامة بن لادن بـ الصليبية؟" وذلك في نشرية الناشيونال ريفيو (The National Review) والتي تتبع التيار النيومحافظ (عدد 5 يناير/كانون الثاني 2004) قام ريلي سميث بملاحظة استرجاع مصطلح "الحروب الصليبية" في الخطاب الاسلامي وهو ما يحدد بدايته في المرحلة المعاصرة في الصحافة العثمانية زمن الخليفة عبد الحميد الثاني. ويقتفي بعجالة أثر ذلك الاصطلاح وينتهي الى أن هناك "اعتقادا عاما" بين العرب في مختلف الأطياف السياسية (يذكر أمثلة من "الروائي اللبناني"(؟!) محمود درويش الى "الاسلامي الجهادي" أسامة بن لادن) في "قراءة خاطئة" للحروب الصليبية يقع توظيفها بشكل غير مناسب في تحليل الوضع العربي والاسلامي الراهن من خلال إسقاط مصطلح "الصليبية" على الصراع الراهن في المنطقة. ويشير الى أن هذه النظرة بصدد الانتشار و"لا شيء يحدث لمواجهتها". ولا يشرح ريلي سميث ما يعني بالتحديد عندما يتحدث عن هذه "القراءة الخاطئة" لتاريخ الحروب الصليبية التي يشترك فيها محمود درويش مع أسامة بن لادن(؟!)، لكنه يشرح ذلك في مواقع أخرى. شرحه مثلا أخيرا في تعليقه على "مملكة السماء" عندما عاود استعمال نفس الفكرة التي عبر عنها قبل أكثر من عام في مقال الناشيونال ريفيو: يعتبر ريلي سميث رواية المخرج ريدلي سكوت للحروب الصليبية مثل رواية بن لادن (ومحمود درويش علينا أن نضيف) لأن كلاهما يصور "المسلمين كمتحضرين والمسيحيين برابرة، وهذا غير صحيح". يمضي ريلي سميث ليقدم أمثلة: "غاي دي لوسينيان خسر معركة حطين لكنه لم يكن أفضل أو أسوأ من أي شخص اخر" كما أنه "لم توجد تعاونيات أخوية بين المسيحيين والمسلمين واليهود" كما حاول الشريط أن يلمح.
حسنا يبدو أن السيد ريلي سميث لم يشاهد الشريط. أو في أقل الأحوال لم يكن لديه الوقت الكافي للتركيز على ما جاء فيه. حيث أن طفلا في العاشرة يمكن له أن يرى أن ريدلي سكوت لم يصور "المسيحيين" (هكذا بشكل معمم) كبرابرة. ولا يبدو أن التعميم أمر غريب بالنسبة لريلي سميث خاصة عندما يضع في نفس السلة القراءة التاريخية لمحمود درويش وأسامة بن لادن. فشريط "مملكة السماء" قدم ما هو معروف في جميع المصادر التاريخية وهو انقسام الطرف المسيحي الى طرفين ومن ثمة انقسام الفرسان الصليبيين الى طرفين: طرف مثله الملك بلدوين وكل من باليان وتايبيرياس ويدافع عن مواصلة ابرام اتفاقيات سلام مع صلاح الدين بما في ذلك ضمان سير قوافل وحجاج المسلمين وفي مقابل ذلك كان هناك طرف اخر يمثله غاي دي لوسينيان ورينو حاكم الكرك ويمثلون ما يعرف تاريخيا بـ"فرسان المعبد" يرفض هذا التوجه ويريد خوض حرب مع صلاح الدين. وفي الواقع تمسك الشريط بالرغم من أنه عمل درامي يعتمد التخيل في الأساس بهذا المعطى التاريخي والذي لا يضع "كل المسيحيين" في سلة واحدة كما يحاول ريلي سميث أن يحاجج. غير أنه يبقى عمل درامي، وفي أي عمل درامي يجب أن يوجد "الشرير" و"الخيَر"، وبهذا المعنى كان باليان خيرا وكان غاي دي لوسينيان شريرا في "مملكة السماء". وفي هذه الحالة فإن انتقاد ريلي سميث لتصوير الشريط لغاي كشخصية شريرة هو بمثابة مطالبة الروائي التصرف كمؤرخ، وهذا أمر يمكن أن يكون مشروعا فقط عندما يطالب ريدلي سكوت ريلي سميث بالتحول الى مخرج.
لكن من جهة أخرى فإن الرؤية التاريخية لا تعني عدم الاقرار بأن غاي دي لوسينيان كان شخصا غير متطرف وأن قتله للحجاج المسلمين بأنه عمل غير بربري، إذ يبدو أن ريلي سميث يحاجج ضد القول بأن "كل المسلمين كانوا متحضرين" وهو ما يعني أنه يدافع عن أنهم في الواقع ليسوا كذلك. الواقع التاريخي أنه كان هناك طرف مسيحي متطرف يعتقد أنه بصدد "تحرير" القدس و"الأرض المقدسة" عندما يقع نحر المسلمين هناك وهؤلاء كانوا يعتقدون أن قتل "كافر" (مسلم) يحسن حظوظهم في بلوغ الجنة. هذه معطيات لا يعرفها ريلي سميث فحسب بل ساهم في توثيقها والتعريف بها. غير أن للسيد ريلي سميث خطيئة أساسية بصفته مؤرخا وهنا يحضر العامل الايديولوجي بشكل قوي حيث من المعروف أنه يدافع في مجمل كتاباته عن صدق "فرسان المعبد" وجدية ايمانهم بمهمة "التحرير" هذه. وهنا من الضروري الاقرار بأن أمرا مثل ذلك غير مستبعد بالنسبة لبعض الحالات، ولكن من الخطيئة العلمية تعميمه والدفاع عنه بشكل أعمى، كما لا يجوز الاطمئنان لرأي مضلل من نوع أن غاي دي لوسينيان مثلا "لم يكن أفضل أو أسوأ من أي شخص اخر". فالأخير كان "أسوأ" من الكثيرين غيره لأنه مارس أعمال بربرية. من جهة أخرى هناك تيارا أكاديميا كاملا (في الغرب "المسيحي" قبل أي مكان اخر) وشديد التأثير يحاجج بناء على معطيات توفرها المصادر المسيحية ذاتها أن غالبية "فرسان المعبد" كانوا يبحثون على الثروة لا عن "مملكة السماء". وهكذا عندما يهاجم ريلي سميث الشريط في نقطة التشكيك في صدق "فرسان المعبد" فإنه لا يهاجم مجرد عمل درامي "لا ينبني على الحقائق التاريخية" بل هو يتهجم على تيار كامل في أكاديميا التأريخ للحروب الصليبية. وفي واقع البحث الأكاديمي لا يعبر ريلي سميث سوى عن تيار أكاديمي محدد.
يبقى أمر "التعاونيات الزراعية بين المسيحيين واليهود والمسلمين". يشير ريلي سميث هنا الى مقطع روائي يصور نابلس "تعاونية زراعية" تنعم بالاخاء والسلم تحت حكم باليان. وفي الواقع كان المخرج قد أشار في تعليقات سابقة بأنه اختلق هذه الرؤية للدفاع عن فكرة "امكانية التعايش الأخوي بين الأديان الثلاثة" وبالتالي فهو لا يقدمها على أنها معطى تاريخي.
لكن هناك أمر يتجاهله ريلي سميث في هذا النقاش من وجهة النظر التاريخية: لم يكن الفرسان الصليبيون مجرد مسيحيين، لقد كانوا أيضا مسيحيين من أوروبا لم يعيشوا البتة على أرض فلسطين وبلاد الشام. كانوا ينتمون لمجال جغراسياسي واتني اخر. في المقابل لم يكن جيش صلاح الدين مجرد جيش من المسلمين بل كانوا أيضا ينتمون لمجال جغراسياسي "سامي" يتكلم لغات مشابهة ومعتقدات متقاربة منذ مراحل تاريخية تسبق المسيحية نفسها. بل إن المسيحية نشأت وطوردت في محيطهم كشكل من أشكال مواجهة اضطهاد سياسي وثقافي من قبل امبراطورية "أوروبية" أخرى، الامبراطورية الرومانية. في الواقع التاريخي لم يكن ذلك الصراع صراعا دينيا فحسب كما يريد أن يعتقد السيد ريلي سميث لأسباب ايديولوجية. وهذا المعطى وحده يؤثر بالضرورة في كيفية تناول الحروب الصليبية.
من المهم الاشارة الى أن تصوير التمايز داخل المعسكر المسيحي الصليبي هو موقف موجود في الذهنية العربية وهو "إعتقاد عام" سواء في المصادر أو في الواقع الراهن. وقد عبر عنه مثلا يوسف شاهين في شريطه "صلاح الدين"، كما سيدافع عنه بالضرورة محمود درويش لخلفيته الفكرية. ولكن من المؤكد أن أسامة بن لادن لا يقاسمهم هذه الرواية فهو لا يرغب في وجود مسيحيين مسالمين. إن وضع الجميع في سلة واحدة يعبر عن قلة النزاهة العلمية ورغبة في تشويه النقاش من قبل ريلي سميث من موقع فوقي، موقع "المؤرخ العارف والمحايد". وهذا في أقل الأحوال موقف تضليلي.
شريط "متوازن"؟
لمنظمة "كير" حسابات كثيرة. ولا يمكن أن لا يرى ملاحظ حجم الضغوط التي تتعرض لها كمنظمة تحظى بمصداقية متصاعدة في محيط يتراكم المتربصون فيه خاصة من نواحي اليمين الديني المتطرف أو اللوبي الاسرائيلي. كما لا يمكن أن يرى أي ملاحظ أن التنميط الهوليودي السلبي المعتاد لصورة المسلم تجعل من أي رؤية متغايرة بعض الشيء مناسبة لكير أو غيرها من المنظمات الاسلامية الأمريكية لتشجيعها. كل ذلك مفهوم ولكن يبقى من الضروري تقييم شريط "مملكة السماء" بعيدا عن هذه الحسابات. تقول كير أن الشريط "متوازن" وأنه يدفع لـ"تحسين الصورة النمطية للمسلم في المجتمع الغربي". فهل ذلك صحيح؟
لنبدأ بالشكل. اتبع المخرج البريطاني (مثلما فعل في شريطه السابق "المصارع") نزعة استشراقية واعية تستنسخ بشكل دقيقي الصورة الرومنطيقية للـ"الشرق" مثلما تصورها رومنطيقيو القرن التاسع عشر. الملابس تستنسخ ملابس الشخوص المركبة التي ألفها الرسامون الفرنسيون (خاصة دي لاكروا) في لوحاتهم الزيتية الشهيرة على أساس رحلاتهم الى شمال افريقيا ومصر بداية القرن التاسع عشر. انعكس ذلك سواء في الملابس الرجالية (صلاح الدين) أو النسائية (سيبيلا). انسجمت صورة الملابس هذه مع الطابع المعماري المعتمد حيث تم إسقاط الطابع الأندلسي-المغربي على الطابع المشرقي-السوري. ويرجع ذلك بالتأكيد لتصوير الشريط في اسبانيا والمغرب. ولكن يرجع أيضا (مرة أخرى) الى المعمار الذي وقع إبرازه والتأكيد عليه في اللوحات الرومنطيقية والاستشراقية للفنانين الفرنسيين والذين كانوا مبهورين بالـ"الطابع العاطفي" للمعمار الأندلسي الذي كان مهيمنا في شمال افريقيا. وعموما يبدو شكل "شرق" الحروب الصليبية كما صوره ريدلي سكوت غرائبيا (exotic) من الطينة النمطية المعتادة للسينما الغربية عند تصويرها للطرف العربي الاسلامي في الفترة الوسيطة.
يتم تعميق هذا الانطباع من خلال تجنب تصوير صلاح الدين ومرافقيه في إطار هندسي معماري والاقتصار على تصويرهم إما على ظهور الخيول في أطر طبيعية صحراوية قاحلة أو في خيام نُصبت بشكل مؤقت لغرض الحرب. وهو ما يستنسخ صورة العربي "البدوي" في المشهد الرومنطيقي الاستشراقي الفرنسي. وهكذا تفرض الصورة مقاربة مرئية تستبعد في مخيلة المشاهد الغربي صورة المسلم من مجال العادي واليومي وتجعله عصيا على الفهم، ينتمي الى عالم اخر بألوان وتشكيلات أخرى. وما يُعمق هذه الوضع المرئي الغرائبي المعطى الصوتي أو اللغوي. حيث فُرض على الشخصيات العربية التكلم بالانجليزية، وهو ما أفرز انجليزية مكسرة وصعبة الفهم (رغم محاولة الممثلين العرب التعبير بشكل مناسب). يأتي هذا في الوقت الذي كان يمكن فيه الالتجاء الى استعمال العربية الفصحى مع الاستعانة بترجمة فورية مكتوبة مثلما هو معمول به في كثير من الحالات، وقد برهن ميل جيبسون في شريطه "الام المسيح" عن نجاح وأهمية هذه التجربة في تأكيد حميمية المشهد الدرامي. وعموما فإن مشاهد الحوار بين الشخصيات العربية كانت محدودة وبالتالي لن يمثل ثقلا على المشاهد اعتماد الترجمة الفورية المكتوبة. في المقابل يأتي الاستعمال المتقطع والنمطي للعربية (ترداد الشخوص الغربية بشكل مكسر تعبير"هيا بنا" بمناسبة وبدونها) كتعويض زخرفي يعكس عدم الاكتراث بإدماج العربي كما هو. المعطى الصوتي الاخر الذي يعمق اغتراب المسلم هي تمييز مشهد "الشهيد المسيحي" بموسيقى انشادية دينية تعظيمية وهي تقنية لم تُستعمل في علاقة بنظيره المسلم.
يأتي الان دور المضمون. تجنب ريدلي سكوت أي مشاهد حربية تعكس انتصارا عسكريا للجيش الاسلامي. وبالرغم من أن أهم حدث عسكري خلال الفترة التي اختارها (1184-1185) هو معركة حطين (4 يوليو/تموز 1187) والتي لم يصور منها أي مشهد سوى مشهد إعدام رينو ورؤوس وجثث "فرسان المعبد" متناثرة على الأرض. وهنا لا يبدو صلاح الدين قائدا عسكريا متميزا بقدر ما يبدو قويا ومخيفا بجيشه ذي 200 ألف مقاتل. يتدعم هذا الانطباع في المشهد العسكري الرئيسي للشريط: حصار صلاح الدين للقدس (أكتوبر 1187). حيث ينجح باليان في ابتكار وسائل دفاعية تعبر عن عبقرية عسكرية نجحت في منع اقتحام قوات صلاح الدين الضخمة مدعمة بالمجانيق لأسوار القدس، وفي النهاية يفرض باليان شروطه على صلاح الدين. هنا تأتي النقطة الثانية: في خطاب توجه به باليان لقواته في القدس تهيئا للحصار بأنه "يدافع عن الشعب... والحرية". وفي إطار الجدال حول شروطه يقع افتراض نية صلاح الدين لسحق جميع المسيحيين "نساء وأطفالا" وأنه لم يقم بذلك إلا بعد تهديد باليان بتدمير المعالم الاسلامية ومسلمي المدينة. طبعا المعطيات التاريخية (كما الشريط) تؤكد على أن صلاح الدين تجنب هنا كما في وقائع أخرى إعدامات جماعية ونزع عموما الى دفعهم الى الخروج والرجوع الى أوروبا وهو ما يجعل كلمات باليان حول "دفاعه عن الحرية" خارج السياق. لكل هذه الأسباب من الأفضل الامتناع عن الوصف المسيس لهذا الشريط بأنه "متوازن".
بالرغم من ذلك حاول ريدلي سكوت تقديم صورة ايجابية لصلاح الدين وهي أقرب الى الرومانسية فعلا. في أحد اخر المشاهد وبعد دخوله القدس ينحني القائد المسلم ويلتقط صليبا من الأرض ليرجعه فوق أحد الموائد. هل كان صلاح الدين الحقيقي سيفعل ذلك؟ ربما إذا أردنا أن نراه بشكل تفاؤلي من القرن الواحد والعشرين. الواقع أن الشريط صُور بعين مسيحية، ولكنها معتدلة. إذا أردنا المقارنة بشيء من التعسف لقلنا أن شريط ريدلي سكوت شكلته عين مسيحية بقدر ما كان شريط يوسف شاهين مُصاغا بعين إسلامية. ولكن في الحالتين كان هناك مجال لمشاهدة الاخر ليس كعدو مطلق ولو كان ذلك بشروط محددة. ليس الموضوع في النهاية التأريخ للحروب الصليبية بل هو كيف يمكن للمخيال التاريخي أن يساهم في الحد من التطرف الراهن. وفي الوقت الحالي فإن الاعتداء الاستعماري العسكري الراهن على المنطقة العربية لا يختلف في المضمون عن إعتداءات "فرسان المعبد" وهو أحد الأشكال الرئيسية للتطرف. إن محاولة تبييض "فرسان المعبد" في أي فترة تاريخية ممكنة وتسويتهم بمن يدافعون عن أنفسهم هي محاولة فاشلة للتزوير. محاولة تسوية من يدافعون عن أنفسهم بمتطرفين مهووسين مسلمين من نوع أسامة بن لادن والتيارات القاعدية المرتبطة به هو أيضا محاولة أخرى فاشلة للتزوير. لهذا يستحق ريدلي سكوت الوقوف معه في وجه من يريدونه تبييض "فرسان المعبد" عنوة. ولكن ليس الى حد اعتبار عمله "متوازنا". للأسف، لم ينضج الوضع بعد لعمل "متوازن" من أي جهة كانت.
الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية

">Link
Link