Monday, October 25, 2004

حول "القاعديين" في العراق و ماهية المقاومة العراقية

حول "القاعديين" في العراق و ماهية المقاومة العراقية
التنظيمات السلفية لم تحسم مسألة إن كانت "حركة تحرر وطني" أم "مقاومة شاملة للكفار"




الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية

"و لكن الاسلام دين واقعي"
أبو أنس الشامي "مسؤول اللجنة الشرعية لجماعة التوحيد و الجهاد"
من التسجيل الصوتي "الرد على شبهات حول الجهاد في العراق"

-1-

في يوم الجمعة 18 سبتمبر 2004 استهدف صاروخ أمريكي سيارة تحمل ثلاث أشخاص ليقتلهم على الفور. كان من ضمن القتلى الأردني عمر يوسف جمعة المكنى بأبي أنس الشامي, "رئيس اللجنة الشرعية لجماعة التوحيد و الجهاد". و حسب رواية عائلته—التي سمعت و نقلت الخبر بعد أيام من الحادثة—فإن الصاروخ الأمريكي ضرب السيارة عندما كانت تعبر في جنح الليل طريقا زراعيا في محيط منطقة أبي غريب غرب بغداد. يجب أن أضيف أمرا اخر كانت قد نقلته وكالات الأنباء: نشرت عائلة عمر جمعة و التي تقطن ضاحية "الزهور" الفقيرة والقريبة من عمان نعيا في الصحف تحتفي فيه بابنها الذي "طلب الشهادة فنالها" مذكرة أنه قتل "دفاعا عن أرض الاسلام" و تدعو الى "التهنئة باستشهاده في منزل والده". من ناحية أخرى أكد بيان ل"جماعة التوحيد و الجهاد" النبأ مشيرا الى أن الاغتيال تم عندما كان القتلى يهيؤون لعملية في محيط سجن أبي غريب.

كانت هذه المرة الأولى التي أسمع فيها عن أبي أنس الشامي منظر "جماعة التوحيد و الجهاد" و التي توصف عادة بأنها "تابعة لأبي مصعب الزرقاوي". و في الواقع علي أن أعترف بأني لم أكن أعبأ كثيرا و ذلك حتى الأسابيع الأخيرة بجل ما يُقال عن أبي مصعب الزرقاوي. و يرجع ذلك الى عدة أسباب أهمها أن الالحاح الامريكي المنهجي الذي أصر فيما أصر عند تبرير قرار الحرب على العراق ثم احتلاله على "علاقة" النظام العراقي بتنظيم القاعدة لمجرد وجود شخص وُصف بأنه "يتبع القاعدة" في العراق و هو ما جعلني أتشكك منذ البداية في وجوده أصلا. و مما كرس هذه الشكوك الحملة الاعلامية المبتذلة التي شنتها بعض القنوات الامريكية أشهر قليلة قبل العرض الشهير لكولن باول في الامم المتحدة حين قدم قائمة التبريرات النهائية للادارة الامريكية لحربها القادمة على العراق. فقبل أن يعرض كولن باول "دليله" على "وجود الزرقاوي في العراق" –المتمثل في الواقع في لا أكثر من صورة للزرقاوي الى جانب خريطة العراق—عرضت بعض القنوات الامريكية برنامجا وثائقيا أنجزه بعض الاعلاميين البريطانيين في شمال العراق حيث قدموا مجموعة من "عملاء المخابرات العراقية الذين وقعوا اسرى في أيدي قوات الطالباني". و من دون الكشف عن وجوههم قدم هؤلاء شهادات مفادها أن أردنيا باسم أحمد الخلايلة يكنى بأبي مصعب الزرقاوي يقوم بتأمين الاتصال بين مجموعة "أنصار الاسلام" المتمركزة بين الاراضي الايرانية و منطقة نفوذ الطالباني و من ورائها تنظيم القاعدة من جهة و النظام العراقي من جهة أخرى. و كان من الواضح أن هؤلاء "الاسرى" كانوا مستعدين لقول أي شيء يمكن أن يُطلب منهم حيث ذكر بعضهم سيناريوهات مغرقة في السوريالية سيتهرب من ترديدها حتى ريتشارد بيرل أكثرالمحافظين الجدد جرأة على الكذب. و من هذه القصص على سبيل المثال أن أيمن الظواهري كان يتردد على بغداد كما يحلو له حيث كان يشرف بدعم من المخابرات العراقية على أحد معسكرات القاعدة هناك و كان برنامج التدريب يتمثل في كيفية استعمال اسلحة كيمياوية في هجوم قادم على امريكا (!!). على كل حال كانت تفوح من هذه الاشارات رائحة نتنة تجعل من أبي مصعب الزرقاوي وسيلة بروباغندا و ذلك قبل حتى أن يصبح له أي شأن عسكري و قبل أن تنشأ "جماعة التوحيد و الجهاد".

سبب اخر جعلني أتجاهل لمدة طويلة أخبار الزرقاوي هي قناعتي الدفينة و الغريزية تقريبا بأنه لن يستطيع أن يكون و جماعته و ما يقومون به من أعمال استعراضية متفرقة مثل ذبح المختطفين أو التفجير العشوائي سوى على هامش المشهد العسكري و الاستراتيجي العراقي. لكن و منذ بضع أسابيع و على وقع تزايد التفجيرات العشوائية و مسلسل الذبح الطويل بدأت تلك القناعة بالتزعزع. و ما قضي عليها تماما كان مشهد اثار المعركة المدوية التي دارت في شارع حيفا يوم 12 سبتمبر الجاري حيث ظهرت على الشاشات التلفزية رايات "جماعة التوحيد و الجهاد" يرفعها شبان يررددون الأهازيج بلهجة عراقية واضحة و هم يتقافزون على الهيكل المحترق لعربة عسكرية أمريكية. و كان مقتل المراسل الفلسطيني مازن الطميزي بعد ذلك بقليل بصاروخ أمريكي و من خلفه تلك الرايات عاملا اخر زاد في تكثيف درامية المشهد ككل. لقد أصبح من الواضح بالنسبة لي و منذ تلك اللحظة أن تنظيما مسلحا يتحرك في عمق بغداد الحضري و الشعبي بتلك الثقة لا يمكن أن يكون على هامش المشهد الاستراتيجي العراقي. و هكذا أصبح من الضروري الانتباه للزرقاوي و لو بعيدا عن خلفيات الاعلام الأمريكي الذي يملك أجندته الخاصة. إن مشاعر تجاهل هذا الطرف السياسي او ذاك لعدم الارتياح الى أطروحاته لن يؤثر بالتأكيد سلبا في صعود نجمه. و هنا لا أعبر عن سلوكي الشخصي فحسب بل أشير أيضا الى نخبة عريضة من المثقفين العرب الذين لم يتهيؤوا بعد لتقبل واقع الهيمنة المتزايدة لل"قاعديين" ليس في العراق فحسب بل على المستوى العربي عامة.

-2-

لا يُعرف الكثير عن أبي أنس الشامي و لكن يُعرف من خلال بعض كتاباته و تسجيلاته الصوتية ما يكفي لتقصي برنامج و رؤية "جماعة التوحيد و الجهاد". و قبل أن ينتقل الى العراق يبدو أن الشامي تلقى تكوينه الفقهي و المذهبي في المدينة المنورة و كان متأثرا على ما تشير اليه بعض كتاباته اللاحقة بمجموعة سلفية يقودها الشيخ محمد بن سرور زين العابدين حيث يلقب أتباعها ب"السروريين". و يشير الشامي الى أن أول ما دفعه للارتباط بهذه المجموعة تأثره الكبير خاصة خلال حرب الخليج الاولى بمحتويات النشرية التي كانت لسان حالهم و هي مجلة السنة التي تصدرعن مركز الدراسات الاسلامية ببرمنغهام في بريطانيا. و لكنه تملص من هذه المجموعة و هاجمها بشدة في الاشهر الأخيرة قبل وفاته لأسباب تتعلق اساسا بقراءتها للوضع العراقي و تحديدا لدعمها "هيئة علماء المسلمين". و من خلال قراءة الكتابات الأخيرة لمحمد بن سرور فإن هناك فعلا هوة شاسعة بين رؤى الشامي و شيخه السابق. و قبل إنضمامه الى "جماعة التوحيد و الجهاد" صحبة الزرقاوي تأثر الشامي بأردني اخر لعب دورا أساسيا في الحركة السلفية الجهادية بالأردن: أبو محمد المقدسي. و قد تميز الأخير خصوصا بكتاباته الفقهية التي تركز على تكفير الأنظمة و قد أثر بشكل خاص على الزرقاوي قبل انفصالهما و هو ما سنتعرض اليه فيما بعد.

و لأبي أنس الشامي أساسا مصدرين أساسيين تمكن من خلالهما الاطلالة على تفكير الجماعة و طموحاتها في علاقة بالوضع العراقي: أولهما "مذكرات مجاهد في الفلوجة" و هي متداولة عبر المواقع الالكترونية سواء بصوته مباشرة أو على شكل ورقة و يُرجح أنها ترجع لشهر أفريل الماضي. ثانيهما تسجيل صوتي بعنوان "الرد على شبهات حول الجهاد في العراق" و يُرجح أنه يرجع للفترة التي تسبق وفاته بقليل. و المصدر الأول مهم من نواحي مختلفة منها الجانب الإخباري حيث كان أحد الشهادات القليلة الصادرة من داخل الفلوجة عن المعارك التي حدثت خلال المحاولة الأمريكية الفاشلة لاقتحام المدينة. و فيها طبعا تم التركيز بشكل خاص على دور "جماعة التوحيد و الجهاد" في سير المعارك التي شارك فيها الشامي قتالا و تحريضا و في المقابل تم التقليل من دور الفصائل الأخرى من دون تسميتها بل و التهجم عليها من خلال التشكيك في عزيمتها على القتال و ثباتها خاصة تجاه الدعوات المتتالية لوقف القتال. و يذكر الشامي على سبيل المثال أنه عند انطلاق المفاوضات تفادى التقدم و التكلم باسم "المجاهدين" و قدم عوضا عنه قائد مجموعة يصفها بالمغمورة و قلة العدة و العتاد للتقليل من شأنها. و هنا يركز الشامي على تنظيم الاخوان من خلال الدور الذي لعبه "الحزب الاسلامي العراقي" في وقف القتال و يشير هنا الى محور اساسي في تفكير جماعته نجده في كتابات اخرى يقوم على النقدي الجذر للتجربة الاخوانية كونها "أثبتت فشلها" في تحقيق شعاراتها. و تصل هذه الاطروحات بالشامي الى حد تصنيف الاخوان ضمن "الاعداء" بل إنه يشمل بانتقاداته و تحرزه حتى حركة حماس بوصفها تمثل الحركة الاخوانية في فلسطين و يسترسل الشامي في نظريات المؤامرة حيث يعتقد أن اغتيال الشيخ أحمد ياسين كان يهدف اساسا الى صرف الأنظار عن معركة الفلوجة(!!). و يذكر الشامي في هذا الاطار تأثر فصيل المقاومة الاخر في الفلوجة بالشيخ ياسين و رموز حركة حماس و هو ما لا يستسيغه كثيرا.

و يصف الشامي في هذا الاطار تركيبة الجماعة حيث تكثر الاشارات الى أعضاء عرب و غير عراقيين في الجماعة و يقوم بذلك من خلال تصنيف طريف حيث ينعت العراقيين الاعضاء في الجماعة ب"الأنصار" (مثل "الحاج ثامر" الذي ينسب اليه تهيئة عملية اغتيال باقر الحكيم) و بقية المقاتلين العرب ب"المهاجرين" في استحضار واضح للتجربة الاسلامية المبكرة و هو ما يعكس نظرة الجماعة العامة للوضع العراقي حيث أن المعركة لا تتعلق بالأساس بعملية تحرير وطني للعراق بل بمعركة شاملة بين قوى "الكفر و الردة" من جهة و "المجاهدين" من جهة أخرى تخترق الحدود الاقليمية و ليس العراق الا أحد ساحاتها. و ما يكرس هذه النظرة التي لا تكترث كثيرا ببناء "جبهة وطنية" عراقية تجمع جميع طوائف العراق هو الموقف العدائي تجاه الشيعة أو كما يحرص الشامي على تسميتهم ب"الرافضة" حيث يتم تكفير أئمتهم و تفادي تكفير "عامتهم" و هو تقسيم معقد يمكن من خلاله تبرير القتل العشوائي للشيعة بسهولة بدعوى اتباعهم لأئمتهم (مثلما حدث في عملية اغتيال الحكيم). و لا يتعلق الأمر فقط بالقوى الشيعية المرتبطة بالاحتلال ("المجلس الأعلى" و "حزب الدعوة") بل يشمل ايضا التيار الصدري الذي لا يدخر الشامي جهدا في التشكيك في صدق نواياه حيال مقاومة الاحتلال و هو ما تعرض اليه في"الرد على شبهات حول الجهاد في العراق". و ينسجم ذلك مع الافكار المتقطعة لأبي مصعب الزرقاوي و التي كثيرا ما ترد بشكل مشوش. ففي الورقة المعنونة "من وصايا المجاهدين" يشن الزرقاوي هجوما قويا على الامام الشيعي جواد الخالصي و الذي يُعرف بمواقفه الوطنية حيث وصف محاولات هيئة علماء المسلمين "مد حبال الود بالرافضة" بما في ذلك بالشيخ الخالصي بالمذلة. فالحرب الامريكية في العراق تهدف من وجهة نظر الزرقاوي و الشامي و جماعتهما الى "استئصال أهل السنة و الجماعة" لا غير و هو ما يعني أن الشيعة عملاء بالضرورة للاحتلال. و في النهاية فإن الشعار الذي ترفعه الجماعة في علاقة بإنشاء "دولة اسلامية" قاعدتها العراق و هو ما يأتي على لسان الشامي و في أدبيات الجماعة لا يعني إقامة دولة دينية فحسب بل يعني أساسا إقامة دولة سنية سلفية و بالتالي دولة طائفية لا تعترف أساسا بالواقع الطائفي الخاص في العراق.

و في "الرد على شبهات حول الجهاد في العراق" يتعرض الشامي باسهاب الى الاتهامات الموجهة الى جماعته في علاقة بالتفجيرات العشوائية التي تقوم بها و التي غالبا ما تطال عراقيين أبرياء. و يعتمد في تبرير ذلك على الفتاوى الخاصة ب"التترس" و التي ازدهرت بشكل خاص خلال الحرب الأهلية الجزائرية فهي نفس الفتاوى التي اعتمدت عليها "الجماعة الاسلامية المسلحة" في تبريرها للمجازر التي ارتكبتها أواسط التسعينات حين جمعت في قائمة المستهدفين كل من له علاقة ب"الطاغوت" حتى من خلال جوار السكنى و هي النقطة التي يركز عليها الشامي. و حين يريد الأخير عقلنة تحليله للنصوص التي تتعرض لمسألة "التترس" فإنه يشير الى أهمية التركيز على الظروف الواقعية المفروضة على العمل العسكري و الضرورات المحيطة به و يشير هنا و بشكل مثير للانتباه الى أن "الاسلام دين واقعي" و هو تلميح واضح الى ضرورة الأخذ بالمستجدات و تفسير النصوص على أساسها. و عموما يبرهن الشامي على عزيمة نظرية خاصة لا تتوانى عن استعمال جميع الوسائل المنهجية حتى و لو كانت متباينة (الواقعية و النصية) لتبرير المنهج العسكري للجماعة. و في الواقع فإن "مذكرات مجاهد في الفلوجة" و خاصة أحد مقالات أبي محمد المقدسي بعنوان "الزرقاوي مناصحة و مناصرة" يرجع الى شهر جويلية الفارط يشيران الى معطيات مهمة في علاقة بالتركيبة التنظيمية لتنظيم "التوحيد و الجهاد" تفسر التركيز على عمليات التفجير العشوائي من خلال السيارات المفخخة. حيث يبدو أن العناصر المنضمة للتنظيم و خاصة منها العناصر الأردنية و التي تكونت نواتها الأولى قبل الحرب في ضيافة منظمة "أنصار الاسلام" قد كانت متدربة بشكل خاص على عمليات تفخيخ السيارات. و قد كانت تقارير منفصلة سربتها خلال المدة الفارطة المخابرات العراقية الناشطة في إطار الاحتلال الامريكي الى بعض الصحف العراقية تؤكد على هذه النقطة حيث تسمي بالاسم بعض خبراء المتفجرات في "جماعة التوحيد و الجهاد" و هو ما ينطبق مع المعطيات أعلاه بالرغم أن تلك التقارير كانت في الأصل جزءا من الحملة المعتادة للاحتلال الامريكي و أطرافه التي تعمل على تضخيم دور الزرقاوي و جماعته. و عموما من الضروري الاشارة الى ان المنهج العسكري للجماعة لا يقتصر على التفجيرات العشوائية و الاختطاف و لكن أصبح يشمل (على ما يبدو منذ معركة الفلوجة) الأعمال القتالية المميزة لحرب العصابات و التي تعتمد على المواجهة المسلحة المباشرة في معارك متفاوتة الاهمية مع قوات الاحتلال. و هو ما يجعلها من الناحية العسكرية الصرفة جزءا من التركيبة الاستراتيجية و التكتيكية للمقاومة العراقية. و هنا يأتي تساؤلنا الرئيسي: هل من الممكن أن نعتبر "جماعة التوحيد و الجهاد" طرفا في المعركة السياسية بين "مقاومة عراقية" تستهدف التحرير الوطني (وهي ليست المعركة التي تؤمن بها الجماعة) حتى و إن كانت طرفا أساسيا في المعركة العسكرية سواء في جوهرها الاستراتيجي أو في تجلياتها التكتيكية المختلفة؟ فما هي الأطراف المشاركة في المعركة العسكرية و كيف يمكن تصنيفها سياسيا ؟ و ماهي"المقاومة العراقية" بمعناها السياسي في خضم كل ذلك ؟

-3-

يشير أبي محمد المقدسي في معرض "مناصرته و مناصحته" لرفيقه السابق أبي مصعب الزرقاوي الى قلة خبرات الأخير خاصة في علاقة بالجانب التنظيمي و الأخطاء التي قام بها في علاقة بالتنظيم الأردني الذي شاركا في تأسيسه و هو ما أدى حسب المقدسي الى الاضرار بعدد من أعضائه و القائهم في السجون دون موجب. و كان مما تعرض اليه في هذا الاطار طبيعة العلاقة التي ربطت الزرقاوي بأسامة بن لادن. حيث يشير الى تبرم الزرقاوي من التحالف الذي قام بين بن لادن و حركة طالبان حين رجع أواخر التسعينات الى افغانستان و من ثمة رفضه القتال مع أي من الفصائل الافغانية وهو ما دفعه للاستقرار في باكستان حتى ارتحاله فيما بعد الى شمال العراق تحت حماية "أنصار الاسلام". و هكذا فرغم المرجعية "القاعدية" (فكرا و ممارسة) للزرقاوي و جماعته فانهم لم يمثلوا تنظيم القاعدة في العراق إلا مؤخرا و تم ذلك من طرف واحد وحيث لم يعلن بن لادن أو الظواهري بعن أي موقف رسمي حول هذه الأخبار. و يأتي هذا في إطار الوضع الجديد لتنظيم بن لادن خاصة بعد الضربة الامريكية و الذي أدى الى نشوء تنظيمات عديدة لا تأتمر بقيادة القاعدة و إن كانت تتخذ تجربتها و إشعاعها أداة لمعاركها الخاصة. و في الواقع فلا يمكن أن نحصر "القاعديين" في العراق في "جماعة التوحيد و الجهاد" فتنظيمات أخرى مثل "الجيش الاسلامي في العراق" و "الجيش السري الاسلامي" تتنافس في إظهار ولائها صراحة لرموز القاعدة و خاصة تجاه أسامة بن لادن و أيمن الظواهري هذا بالاضافة الى تخصصها تقريبا في أساليب "قاعدية" و خاصة التساهل و حتى التحمس في مسألة ذبح الرهائن.

لكن من الضروري التفريق في هذا الاطار بين الأطراف السلفية السنية المشاركة في المقاومة و التي لا تعبر بالضرورة عن تعلق خاص بالمدرسة الوهابية-السعودية و بين التنظيمات "القاعدية" في العراق و التي ترتبط فقهيا و و سياسيا بالحلقات الوهابية المتمركزة في السعودية أو التي يعبر عنها علماء دين سعوديون. و تُظهر الخلفية التاريخية لإحياء الحركة السنية السلفية في العراق تميزها منذ البداية عن توجهات أئمة الوهابية في السعودية. حيث حرص علماء السلفية في العراق و منذ القرن التاسع عشر (أبو الثناء الألوسي) ثم في القرن العشرين (محمد الصواف وهو أيضا مؤسس جماعة الاخوان في العراق) الى التميز عن الوهابيين و خاصة في علاقة بكيفية التعامل مع الاطراف الدينية الأخرى و خاصة منهم الشيعة و الصوفية. حيث حرص السلفيون العراقيون و بفعل التركيبة المعقدة للعراق الى تفادي تكفير المذاهب و الفرق الدينية الأخرى و العمل على مد جسور التواصل معهم و هو نفس التوجه الذي تمارسه "هيئة علماء المسلمين" الان (و التي تضم تيارا سلفيا قويا داخلها). و لا يلقى هذا التوجه عداء كل الأئمة الوهابيين حيث يبرز عدد من هؤلاء كمدافعين عن "هيئة العلماء" و التي تتعرض في المقابل الى اتهامات متواصلة بالتخاذل و الخيانة من قبل أطراف مثل الزرقاوي.

و يعبر عن هذا التيار السلفي المعتدل في صفوف المقاومة العراقية تنظيمات و شخصيات مختلفة. فعبد الله الجنابي رئيس "مجلس شورى مجاهدي الفلوجة" يُعتبر أحد رموز هذا التيار. و منظمة "المقاومة الاسلامية الوطنية-كتائب ثورة العشرين" هي أحد التنظيمات المعبرة عنه. و ليس من الغريب في هذا الاطار تعرض الأخيرة الى انتقادات قوية من قبل أبي أنس الشامي في "مذكرات مجاهد من الفلوجة" حيث هاجم ربطها بين صفتي "الاسلام" و "الوطنية" و اعتبرها امتدادا لجماعة الاخوان المسلمين في العراق. و يبدو أن الضغوطات الاعلامية و ضرورات تطوير أداء العمل العسكري و النضج الطبيعي للتيار السلفي المعتدل قد بدأ يثمر تطورا في التحالفات بين المنظمات المختلفة المعبرة عنه. حيث أن التحالف الذي أُعلن أواخر شهر سبتمبر الجاري بين جماعات اسلامية مختلفة خاصة في محيط مدينة الرمادي يأتي على ما يبدو في هذا الاطار.

و لكن أمر بعض الجماعات العراقية الاخرى يبقى محيرا مثلما هو الحال بالنسبة لمنظمة "جيش أنصار السنة". ففي حوار مع قائدها "أبي حسين محمد" نشر في الصيف الماضي على موقع البصرة.نت يبدو خطاب هذا التنظيم سلفيا معتدلا حيث يؤكد على مفهوم الوحدة الوطنية العراقية من خلال التركيز على ضرورة التحالف مع المقاومة الشيعية للاحتلال و تحديدا التيار الصدري و الذي أشاد به بشكل كبير كما كشف عن وجود تعاون عسكري بين "جيش المهدي" و "جيش أنصار السنة" و ذلك في خضم معركة النجف. و لكن في بيان بتاريخ 12 أكتوبر الجاري أعلنت "الهيئة العسكرية لجيش أنصار السنة" عن إعدام "عميل" عراقي كان واسطة حسب البيان بين التيار الصدري و المخابرات الامريكية و هو ما يؤكد "وجود علاقة خفية" بينهما و "أن المؤامرة هي في الحقيقة على أهل السنة فقط". و لا يُعرف إن كان التفاهم بين القوات الامريكية و مقتدى الصدر على تسليم سلاح عناصر "جيش المهدي" في بغداد سببا لهذا التغير المفاجئ. و لكن مؤشرات كثيرة تؤكد التوتر الفكري و السياسي للعديد من التنظيمات العراقية المسلحة و التي تتغير مواقفها أحيانا بسرعة قياسية بشكل يعكس قلة نضجها السياسي. و هو ما يعني أيضا أن الهوية السياسية للأطراف السلفية السنية لم تستقر بعد حيث مازال بعضها لم يحسم أمره في تحليل المعركة الحالية: معركة تحرير وطني بروح إسلامية أم معركة ضد "قوى الكفر و الردة" ساحتها العراق.

إن المقاومة السلفية السنية المتباينة مع التنظيمات ذات التوجهات "القاعدية" هي طرف أساسي في الصراع العسكري الجاري. فرغم تباينها السياسي مع "قاعديي" العراق فإنهم مشتبكون معا عسكريا في الساحة العراقية بأساليب قتال متشابهة من حيث الاعتماد على تكتيك حرب العصابات و استراتيجيا الحرب الشعبية و لو أنها غير متطابقة تماما من حيث أساليب قتالية أخرى تميز التنظيمات "القاعدية" و خاصة التفجير العشوائي و الاختطاف الفوضوي و الذبح الأعمى للرهائن. أما سياسيا فلكل منهما معركته و بالتأكيد فإن "قاعديي" العراق لا يرون أنفسهم كجزء من "مقاومة عراقية". و هم بالتالي لا يتصرفون ضمن الأهداف المنتظرة من قبل "مقاومة عراقية".

في الضفاف الأخرى للمشهد السياسي للمقاومة العراقية تقع التنظيمات التي تشتبك سياسيا و عسكريا مع المقاومة السلفية السنية غير "القاعدية" و الموزعة أساسا بين الفصائل المعبرة عن "حزب البعث" كما خرج في فترة ما بعد سقوط بغداد و المقاومة الشيعية ممثلة في التيار "السلفي الجهادي" في شكله الشيعي ("الحوزة الناطقة") أي التيار الصدري و الذي يتميز بارتباطه بتوازنات خاصة تحدد مسار المشهد الشيعي. و من المسائل التي تحتاج بعض التمعن هنا هي الطبيعة الجديدة للبعثيين بعد قدوم الاحتلال حيث أن "الصحوة السلفية" التي ميزت السنوات الأخيرة من حكم صدام حسين و ذلك بتشجيع مباشر منه و أخيرا الخطاب الديني الفائق المميز لبيانات "الجهاز الاعلام و النشر" و أخيرا "القيادة القطرية" للبعث خلال مرحلة الاحتلال يجعلنا نتساءل عن الحدود التي تفصل البعث عن المقاومة السنية السلفية المعتدلة. ففي حين يصرح "القاعديون" و خاصة "جماعة التوحيد و الجهاد" بتكفير صدام حسين و النظام البعثي السابق فإن الفصائل السلفية الأخرى تتجنب مهاجمة القيادة البعثية. لكن ذلك لا يعني بالضرورة التحالف بين الطرفين. فبيانات البعث التي تؤكد على قيادته للمقاومة تشير الى نوع من تشوش العلاقة بينهما: فرغم تجنب الفصائل السنية المعتدلة في المقاومة مهاجمة البعث و رموزه فإن ذلك لا يعني أنها جزء منه و أنها تأتمر بقيادته فهي تصر على أي حال على التميز من خلال عناوين سياسية خاصة بها. و يشير ذلك الى طول الطريق الذي على فصائل المقاومة العراقية أن تجتازه لكي تحقق جبهتها الوطنية: حيث أن الأخيرة غير ممكنة التحقيق في حالة اعتقاد أي طرف كان أنه يمثل القيادة الفعلية و الأساسية للمقاومة. في المقابل فإن "قاعديي" العراق و الذين يملكون مشروعا يتجاوز العراق غير معنيين بهذه الافاق. حيث أنهم سيكدسون الأعداء إذا ظلوا "قاعديين" في الفكر و الممارسة و بالتالي لن يقوموا الا باستنزاف أنفسهم و هو أمر محتوم خاصة إذا ما تحققت الوحدة السياسية للمقاومة العراقية.

تبقى أحد المفارقات المثيرة في هذا المشهد السياسي و العسكري المعقد الطبيعة القومية العربية أساسا التي تميز التركيبة التنظيمية ل"قاعديي" العراق أكثر من كل التنظيمات الناشطة هناك بما في ذلك "حزب البعث". و يمكن القول أن الشعار التقليدي للحركة القومية العربية و المتمثل في "قومية المعركة" بصدد التحقق بشكل غير مسبوق عبر "قاعديي" العراق و الذين يستفيدون من ارتباطهم بشبكة دولية واسعة تجعل من تجنيد مزيد من "المهاجرين" العرب عبر العالم أمرا متاحا. المعضلة أن التركيبة القومية لهذه التنظيمات تصطدم باهداف و ممارسات طائفية تجعل للأسف من الرابطة القومية العربية اطارا فضفاضا لمشروع سني سلفي حصرا محكوم بالفشل بفعل الاطار العراقي للمعركة. و إذا امن "قاعديو" العراق فعلا بأن "الاسلام دين واقعي" فعليهم انذاك أن يتخلوا عن مرجعيتهم "القاعدية" و من ثمة الانحراط السياسي في المقاومة إذا أرادوا فعلا الإسهام في صياغة مستقبل العراق.


صحيفة القدس العربي 25 أكتوبر 2004