Friday, December 31, 2004

في التفكير العسكري الأمريكي و مسائل الانتصار و الهزيمة

في التفكير العسكري الأمريكي و مسائل الانتصار و الهزيمة

عندما تُطرح مسألة عوامل حسم الصراع العسكري ينبعث دائما نفس السؤال المرجعي: أيهما العامل الرئيسي التكنولوجيا أم البشر؟

الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية

"لا يمكن أن توجد أسس قوية في الحسابات العسكرية للعوامل المطلقة أو تلك المسماة بالرياضية... يتعلق فن
الحرب بكائنات حية لديها قوى معنوية... و عموما هناك طرف مندفع أكثر من الاخر و هو ما ينعكس على سلوكه: فالعامل الهجومي يهيمن و هو ما يؤدي في العادة الى ضمان استمرارية نشاط ذلك الطرف المندفع"
كلاوسفيتز (Clausewitz)

"من الأفضل أن يكون لديك خطة بديلة في جيبك الخلفي، لأنك عندما تهاجم أناسا... في وطنهم فإنهم سيحاربون بشكل يختلف عن قتالهم، دعنا نقول، في الكويت. الدفاع عن الوطن مسألة جدية لأنهم ليس لديهم أي مكان يذهبون إليه بعد ذلك."
الجنرال الأمريكي جيمس جونس (James Jones)


زحفت مع أوائل صيف 1812 قوات نابوليون بونابارت بأعداد هائلة (500 الف جندي) و بسرعة غير مسبوقة نحو حدود الامبراطورية الروسية الشمالية الغربية, عند نهر نيمن (Niemen). لم تكن اي من الملكيات الاوروبية المخلخلة تتوقع انذاك اي معركة جدية بين الكسندر الاول قيصر روسيا و الذي لم يكن يحضى بمواهب تذكر و الامبراطور الكورسيكي الشاب الذي اصبح في تلك المرحلة بمثابة الكسندر جديد—ذلك النموذج الغربي للامبراطور الكلاسيكي—ألف عنه و لاجله بيتهوفن سمفونيته الثالثة. لم يكن يبدو هناك اي مجال لتوقع اي نتيجة بخلاف سقوط موسكو. وفعلا مع شهر سبتمبر و اثر معارك محدودة و فتوحات فرنسية لمدن خالية دخلت القوات الفرنسية بدون تهليل السكان—غير الموجودين اساسا— الى موسكو فارغة سيُحرق ثلاث ارباعها, امام ذهول بونابرت, اياما قليلة اثر ذلك. لم يمكث الجيش الفرنسي في مدينة الاشباح تلك اكثر من ثلاث اسابيع. و بحلول شتاء مبكر بدأ الجنود الفرنسيون و حلفائهم احد افظع و اشهر الانسحابات العسكرية في التاريخ: تحت ضربات "الجنرال برد" و الهجومات المفاجئة و السريعة للقوات القوقازية من الحرس الملكي الروسي لم يصل الى نهر نيمن بحلول شهر ديسمبر من سنة 1812 الا 20 ألف جندي من اصل النصف مليون الذين بدؤوا الحملة. كانت تلك هزيمة مدوية بدأت مسلسل اندحار الاستراتيجيا الامبراطورية لبونابرت و التي سقطت نهائيا مع هزيمته في معركة واترلو. يمثل الانسحاب الفرنسي من موسكو درسا اساسيا في التاريخ العسكري الغربي. درس اخر من الانسحابات البونابارتية لا يُذكر بكثرة هو الانسحاب من مصر. لم يحرق المصريون القاهرة غير انهم جعلوها مخيفة و مقلقة الى حد كافي لكي يبحر الفرنسيون متقهقرين الى مارسيليا.

في المعايير العسكرية لم يكن الانسحاب من روسيا مهما في ذاته بقدر ما كانت اسبابه و الظروف التي احاطت به داعية للاهتمام. كلاوسفيتز, احد مؤسسي العلم العسكري الحديث مع بداية القرن التاسع عشر, أولى اهتماما خاصا بالحملة الروسية. كان الدرس الاساسي بالنسبة له انه لا يمكن ان توجد اي قوة عسكرية قادرة على الانتصار في اراضي غريبة دون دعم سياسي محلي. و سواء كانت المدن و المجالات المسيطر عليها عامرة ام غير اهلة بالسكان فانها ستبقى في جميع الحالات في حكم الخالية من الناحية السياسية اذا كانت مناوئة في موقفها السياسي العام للحاكم العسكري الجديد. ان فكرة الدور الرئيسي للعامل السياسي في المسائل العسكرية هي الاضافة الاساسية التي قام بها كلاوسفيتز, و التي جعلته احد المصادر العسكرية الاساسية في الاكاديميات العسكرية الغربية. غير انه لا يوجد مثال واحد يشير الى تعلم الجيوش الاستعمارية الغربية افكار كلاوسفيتز من الاكاديميات التي تخرجوا منها: فقد كان على هذه الجيوش على مدى القرنين الماضيين ان تتعلم حكمة كلاوسفيتز من حركات المقاومة الوطنية المسلحة. و أخيرا كان عليها, بعد فشل كل مشروع استعماري, ان تجرب انسحابا بونابارتيا مكررا بامجاد ضئيلة و بخسائر متفاوتة.

ليس العراق روسيا القرن التاسع عشر, و لا يملك العراقيون "الجنرال برد" و لم يهجروا مدنهم, كما لا يجرؤ احد على الادعاء بانه يشاهد ملامح الرئيس الامريكي في الصورة البونابارتية الساحرة, مثلما لا يمكن مقارنة "سرعة" هجوم نصف المليون جندي مشاة من الجيش الفرنسي بالسرعة الالكترونية لفرق الجيش الامريكي. غير انه هناك نقطة أساسية تشترك فيها الحملة الروسية مع الحملة العراقية: مادامت القوى المحتلة مهزومة سياسيا فان هزيمتها العسكرية ليست مستحيلة.

على ضوء الحرب الأمريكية المستمرة في العراق سنتعرض في هذا المقال الى المسألة التالية: إن مسألة حسم الهزيمة أو الانتصار في الصراع العسكري لا تتعلق بحساب الخسائر البشرية أو المادية؛ كما لا تتعلق بالتوازن التكنولوجي. تتحقق هزيمة عسكرية ما متى أصبح أحد الطرفين غير متأكد من الانتصار. سنوضح في هذا المقال أن داخل الطرف الأمريكي هناك أوساطا (عسكرية) مؤثرة مستعدة للاقتناع بحتمية الهزيمة. و يأتي هذا الاستعداد في إطار صراع فكري حول الاستراتيجيا العسكرية الضرورية يشق منذ مدة مختلف المؤسسات الحربية الأمريكية.



1
"دروس العراق" (The Iraq lessons)
في مقابل النقاش الهزيل الذي ميز الأوساط السياسية و البحثية و الإعلامية الأمريكية قبل الإعلان عن الهجوم على العراق و الذي تجاهل خلاله العديد من "الخبراء" و "المختصين" أبسط الإشارات عن مميزات الصراع العسكري القادم وهو ما جعلهم آنذاك ضمنيا موافقين على التوصيف السياسي للعمل العسكري ضد العراق كما بلوره النيومحافظون (سنتخلى عن المصطلح المعرب الرائج لـ "المحافظين الجدد" و الذي نعتقد أنه يشوش المعنى الدقيق لهذا التيار وهو ما سنتعرض إليه في مناسبات قادمة) و الذي يصور الحملة العسكرية على العراق على أنها حملة تحريرية تماثل المعركة ضد النازية خلال الحرب العالمية الثانية؛ إذا في مقابل هذا النقاش الهزيل السابق للحرب بدأت في السنة الأخيرة الأوساط البحثية و الإعلامية و لكن الأهم من ذلك الرسمية الأمريكية بالإفصاح أكثر عن رغبتها في الاستفادة مما تسميه "دروس العراق". و بالرغم من أنها غير متباينة تماما فإن هذه الدروس تعبر بالتحديد عن الصراع الفكري الجاري في أروقة وزارة الدفاع الامريكية و الذي يتصاعد بتصاعد الاخفاقات العسكرية الأمريكية. و في خضم معركة الفلوجة نقل عدد يوم السبت 13 نوفمبر 2004 لصحيفة النيويورك تايمز خبرين منفصلين يعكسان التباين بين المشرفين على المجهود العسكري الأمريكي من خلال نوع "الدروس العراقية" التي توصلوا اليها: من جهة أولى دروس تتلخص في ضرورة التركيز أكثر على التقنية العسكرية لمواجهة حروب لم يقع تعريفها إلا كحروب "ضد الارهاب" و من جهة أخرى دروس تركز على أهمية العوامل السياسية في حرب يقع تعريفها أكثر فأكثر على أنها حرب شعبية طويلة الأمد. الرؤية الأولى تتصرف على أنها رؤية "تجديدية" واعية بوجود رؤية معاكسة تصفها بـ"التقليدية" و الرؤية الثانية تؤمن بأن هناك مفاهيم كلاسيكية ثابتة في الاستراتيجيات العسكرية بالرغم من التطور التكنولوجي الفائق خلال القرن الفائت و هي واعية بوجود رؤية مخالفة تصفها بأنها "غير واقعية".

مشروع "عين الرب" (God’s eye)
يقول خبر النيويورك تايمز (نُشر على الصفحة الأولى) أن بيتر تيتس و ستيفن كامبون و الذين يشغلان على التوالي خطتي نائب وزير الدفاع الأمريكي لسلاح الجو و لشؤون المخابرات قد عرضا على الكونغرس مشروعا سمياه "عين الرب" يتيح منح المقاتل الميداني صورة آنية و دقيقة عن مختلف "الحقائق" على الأرض بسرعة قياسية و هو ما "يتيح له التغلب" على المصاعب التي تفرضها خصوصية "الحرب على الارهاب" و التي تتطلب ردود فعل سريعة. و يتمثل المشروع عمليا في إطلاق أقمار صناعية و صناعة طائرات (ف-35) جديدة تتميز بالتناسق البرامجي متخصصة في جمع المعلومات و نقلها الى ساحات المعارك و ذلك عبر شبكة انترنت دولية جديدة خاصة بالبنتاغون و هو ما يذكر بالدور الخاص الذي لعبته وزارة الدفاع الأمريكية في إنشاء شبكة النت العالمية المستعملة الان. بالاضافة الى ذلك سيتم تصنيع أجهزة أرضية متنوعة تتميز بقدرتها على التنزيل السريع للمعلومات المُرسلة من الانترنت و توفيرها بشكل صوتي و ذلك من خلال التطوير في قدرات تنزيل الذبذبات الصوتية. و تتمثل تكلفة المشروع بحوالي 200 مليار دولار و من المفروض أن يتم منحه للشركة العملاقة لوكهيد مارتن (Lockheed Martin) و التي تمثل أحد أهم أقطاب اللوبي الصناعي العسكري الذي يحتكر الصناعة العسكرية الأمريكية و الذي يدعم بشكل عام الحزب الجمهوري و بالتالي التيار النيومحافظ الذي يسيطر على الادارة الامريكية. و في الواقع يأتي هذا المشروع إطار برنامج كامل يهدف للاستفادة القصوى من التكنولوجيا المعلوماتية لأهداف عسكرية و يشرف على هذا البرنامج مجموعة من شركات التكنولوجيا العالية الأمريكية الرئيسية مثل هيفلت باكارد (Hewlett-Packard) و إي بي أم (IBM) و مايكروسوفت (Microsoft) و لكن أيضا شركات أخرى من الأقطاب التقليدية للوبي الصناعي العسكري الأمريكي مثل لوكهيد و بووينغ.
و مما لا شك فيه أن هذه البرامج تعكس جزئيا النزعة المعتادة في البنتاغون و التي تخدم اللوبيات الصناعية من خلال الانفاق الكبير على مشاريع عسكرية غير ضرورية في أحيان كثيرة. غير أن هذا التشابك القوي بين المؤسسة العسكرية-السياسية و النخبة المالية-الصناعية و الذي يمثل خاصية ثابتة في البنية الأمريكية يلتقي هنا مع عامل اخر جديد و هو هيمنة النيومحافظين على الادارة الامريكية و الذين يتميزون برؤية خاصة لمسائل الاستراتيجيا العسكرية؛ فللدفاع عن هذا المشروع المكلف يقول أحد مساعدي رامسفيلد "إن ما نتحدث عنه هنا هو نظرية جديدة للحرب" في حين يشير اخر الى أن "الثقافة (العسكرية السائدة) هي أكبر عقبة" أمام مشاريع هذه النظرية "الجديدة". و تأتي هذه الاشارات في إطار الصراع المستعر بين خبراء و باحثين مختلفين حول الجدوى من هذه المشاريع. فحسب النيويورك تايمز فإن فينت سيرف (Vint Cerf) و هو أحد العاملين السابقين في البنتاغون و أحد الذين اخترعوا و أسسوا شبكة الانترنت اعتبر مشروع "عين الرب" مجرد "أحلام" لا تستند الى أسس واقعية لتحقيقها. لكن جانب آخر من المنتقدين الموصوفين بأنهم "تقليديين" وجه شكوكه الى الأساس النظري الذي يقف وراء مثل هذه المشاريع حيث اعتبروا أن قتال الشوارع الدائر في مدن مثل الفلوجة يثبت أن الحرب هي أمر أكثر تعقيدا من التكنولوجيا الخلوية.

"دليل عملي" (field manual) لـ"الحرب المضادة للمقاومة" (counterinsurgency war)
في صفحة داخلية من نفس عدد النيويورك تايمز يرد خبر عن مشروع آخر للبنتاغون لا يقل أهمية عن "عين الرب" كما أنه يرجع بدوره الى "الدروس العراقية" التي توصل اليها الأوساط العسكرية الأمريكية أو جزء منها: فقد بدأ الجيش الأمريكي و قوات المارينز (من الضروري الإشارة هنا أن هناك فرقا تنظيميا بين الطرفين) في شهر أكتوبر الماضي بتوزيع كتيب على الجنود الأمريكيين في العراق يشرح طبيعة حرب العصابات و الوسائل التي يجب اتباعها لـ"مكافحتها". و يشير "الدليل العملي" الى أن فكرة كتابته أتت في إطار ما جرى من "عدم استقرار" على إثر سقوط بغداد حيث أنه وجد وع متزايد بأن طبيعة الحرب التي تلت ذلك لا تتصف بصفات الحروب النظامية المعتادة و هو ما "لم يقع التحضر له". كما يشير كاتبو الدليل الى أنه تمت الاستعانة في تحريره بتجارب تاريخية سابقة لحروب "مضادة للمقاومة" و الى شهادات جنود و ضباط أمريكيين شاركوا في الحرب. و من ضمن الاستنتاجات الواردة في هذا الكتيب (و الذي تم توزيعه بشكل محدود غير أنه متوفر على الانترنت) التحذير من أن "دورا أمريكيا طويل المدى في الأعمال القتالية يمكن أن يؤدي الى الإضرار بشرعية حكومة الدولة المضيفة" و هو ما يؤدي أيضا الى مزيد استعداء "ثقافات (!) هي أصلا معادية للولايات المتحدة". و في الواقع فإن أهمية هذا الكتيب تكمن في أنه مشروع يعبر عن أوساط قيادية عسكرية صرفة لا تعبر ضرورة عن الأوساط المدنية المرتبطة برامسفيلد و التي تشرف على عملية "تغيير الثقافة السائدة" و التي من ضمنها طبعا القيام بمشاريع مثل "عين الرب". و من المهم أن نعرف هنا أن المسؤول العسكري المشرف على إعداد الكتيب المذكور هو الجنرال ويليام والاس (William Wallace) و الذي تم استدعاؤه من العراق بعد الانتقادات العلنية التي وجهها في الأسابيع الأولى من بداية الحرب الأمريكية على العراق في مارس 2003 الى دائرة التخطيط العسكري في البنتاغون (و التي يشرف عليها بول وولفويتز) و ذلك أثناء تزايد الهجمات المتفرقة و التي كانت مؤشرا على نوايا النظام العراقي المبكرة في اعتماد استراتيجيا حرب العصابات في مواجهة الهجوم الأمريكي. و تركزت انتقادات الجنرال الأمريكي آنذاك في أن البنتاغون لم يعد الجيش الأمريكي لمواجهة أسلوب حرب العصابات. و مما يستدعي اهتماما متزايدا بمواقف الأخير التصريحات التي أدلى بها إلى النيويورك تايمز في علاقة بالخبر أعلاه حيث أشار الى أن الكتيب المذكور يعمل على التذكير بأن مواجهة حرب العصابات غير ضرورية في حال تجاهل العوامل السياسية المحيطة بها. و في الواقع هذه إشارة الى وجود تباين داخل الأوساط العسكرية الأمريكية حول مسائل الاستراتيجيا العسكرية و كيفية التعامل مع الوضع في العراق, و هو ما يؤكد مؤشرات أخرى تسبق التطورات الأخيرة تدفع كلها الى الاعتقاد بأن هناك صراعا فكريا بين طرفين أساسيين: كتلة المدنيين المسيطرين على وزارة الدفاع تستعين ببعض الجنرالات من جهة و أوساط عسكرية ميدانية تلقى الدعم من قبل باحثين مقربين من الأجهزة الميدانية من جهة أخرى.

2

مسألة الحرب بقوات قليلة العدد و الصراع بين المدنيين و العسكريين
إن القوات الامريكية بصدد التركيز على الوسائل العسكرية التي تستبعد اي احتكاك مباشر بين عناصرها و عناصر المقاومة. لا يمثل ذلك في ذاته تغييرا في عقائد الجيش الامريكي, بل تأكيدا لها, فقد أصبح كما هو معروف التقليل الى الحد الاقصى في الخسائر البشرية الامريكية ضرورة اساسية في ذهنية القادة العسكريين الامريكيين منذ زمن ليس بالقريب و خاصة اثر خسائرهم الهائلة في حربي كوريا و الفيتنام. و عموما يمكن رد جذور هذه الذهنية بشكل أشمل الى تزامن تعاضم القوة العسكرية الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية و بعدها مع تراجع حل المشاكل الدولية من خلال الهيمنة العسكرية و هو ما تجسد بشكل خاص مع انهيار قوى الاحتلال العسكري المباشر اثر الحرب. و منذ ذلك الحين حتى وقت قريب اعتمدت مراكز القرار الامريكية على استراتيجية ترى في تفوقها العسكري عاملا ردعيا و ليس وسيلة لمباشرة الهيمنة بشكل فرضي. فحتى الحرب على كوريا ثم الفيتنام لم ترق الى رؤية استراتيجية شاملة كما هي الحال مع الحرب على العراق, و التي تمت ضمن رؤية نيومحافظة معلنة تتبنى رؤية استراتيجية جديدة تعتمد أسلوب "الحرب الاستباقية".

كما تضافرت عوامل أخرى لجعل الحملة على العراق بشكل خاص مقيدة بضغوط أكبر للتقليل من الخسائر البشرية الامريكية, لكن بضغط من القادة المدنيين بشكل خاص هذه المرة. حيث تركزت الخطة العسكرية الامريكية ضد العراق على اساس العقيدة الجديدة التي يحاول وزير الدفاع الامريكي رامسفيلد و نائبيه و المستشارين النيومحافظين المقربين منه فرضها على القادة العسكريين منذ وصوله في جانفي 2001 الى البنتاغون. و تتمثل هذه العقيدة الجديدة أساسا في الهجوم و الانتصار من خلال الاعتماد من الناحية الكمية على الحد الادنى من العنصر البشري فوق ميدان المنازلة. و تدفع هذه الرؤية التي صاغها أساسا احد المستشارين الاساسيين لرامسفيلد اندرو كريبينفيتش (Andrew Krepinivich) بالتركيز على الهجمات الصاروخية المختلفة. و النتيجة الاساسية لهذه الرؤية هي الهجوم و الاحتلال العسكري بقوات قليلة العدد, و فعلا لا تتجاوز القوات الامريكية في العراق 150 الف جندي. كما اعتمدت الخطة الامريكية للهجوم على العراق بشكل مكشوف على خيار استسلام القوات العراقية و لهذا فقد تجنبت المواجهة المباشرة و عملت على تأخيرها من خلال تجنب الطرق المؤدية للقوات العراقية و عدم الدخول في اشتباكات برية حتى ضمان استسلام القوات العراقية أو تدميرها باستخداة القوة الجوية.
و قد شكلت هذه النقطة محورا اساسيا لصراع الاراء داخل الاوساط العسكرية الامريكية قبل الحرب الى الان. و ترجع هذه المسألة لتطفو على السطح الاعلامي كلما تصاعدت المقاومة العراقية, و هو ما يعكس شدة المعارضة التي يلقاها القادة المدنيون للبنتاغون من قبل العديد من القيادات العسكرية المخضرمة و التي ترى نفسها بصدد تكرار التجربة الفيتنامية متى كان القادة العسكريون على الميدان يتلقون اوامرهم مباشرة من واشنطن. علينا هنا ان نلا حظ ان هذا الصراع لا يتعلق بالحرب على العراق فحسب بل هو سابق لها, كما يتميز بمواجهة صامتة و لكن عنيفة ا تهم فيها في السنوات الاخيرة رامسفيلد و خاصة كريبينيفتش القادة العسكريين ب"التخلف الثقافي" (في حوار قبل وصول الرئيس بوش الى سدة الرئاسة مع قناة بي بي اس PBS بداية سنة 2000 ), كما ان التوتر بين الأخير و النخبة العسكرية الامريكية يرجع الى بداية التسعينات حينما قوبلت اراؤه بتحميل القادة العسكريين في الفيتنام مسؤولية الهزيمة بردود رافضة (دورية قلوبال سكوريتي سنة 1990) في شكل دراسات اكاديمية من قبل بعض القيادات عسكرية. و قد تم الضغط بشكل واسع اثناء الحملة على افغانستان و بداية التحضير لضرب العراق من اجل ترويض القيادات العسكرية خاصة في ظل اراء ترى تقاربا بين مجموعة من القادة العسكريين المخضرمين بدفع من قادة عسكريين خارج الخدمة بما في ذلك وزير الخارجية كولن باول. و هدف هذا الضغط بشكل واضح لرضوخ هذه القيادات العسكرية للقيادات المدنية الجديدة و ذلك بالدفع في اتجاه حملة فكرية و إعلامية تحت شعار "أولية قرار القيادات السياسية على القيادات العسكرية", و هو ما روج له بشكل خاص المحلل العسكري النافذ و المقرب من مجموعة النيومحافظين ايليوت كوهين (Eliot Cohen) بداية سنة 2002 حين نشر كتابه "القيادة العليا" الذي يدافع فيه بشكل قوي عن الأهمية القصوى للدور القيادي للقادة الميدانيين على حساب القادة العسكريين. و بلغت الحملة ذروتها بالترويج الإعلامي مباشرة اثر ذلك بأن الرئيس الأمريكي متأثر بشدة بالآراء الواردة في مؤلف كوهين (حول تفاصيل هذا النقاش أنظر مقال لورنس فريدمان بنشرية "فورن افيرز" Foreign Affairs عدد سبتمبر/اكتوبر 2002). في المقابل يقوم عسكريون متقاعدون بالتبليغ عن صوت الأوساط العسكرية المخضرمة. و اخر الأمثلة على ذلك ما ورد في العدد الأخير (25 نوفمبر 2004) من المجلة الشعبية رولينغ ستون (Rolling Stone) حيث عبر سبع مسؤولين عسكريين سابقين رفيعي المستوى (من بينهم أنتوني زيني قائد القيادة المركزية للجيش الأمريكي بين سنتي 1997 و 2000 و توني بيك القائد العام لسلاح الجو بين سنتي 1990 و 1994) عن قناعتهم بأن الجيش الأمريكي سينتهي الى هزيمة محققة في العراق و أنه كلما كان الانسحاب مبكرا كلما كانت الخسائر أقل.

"الصدمة و الترويع" و النموذج النازي للحرب
قبيل شن الحرب على العراق في مارس 2003 تضمنت الحملة الدعائية المهيئة للحملة العسكرية تهديدات علنية بالطابع التدميري الهائل الذي سيميز الهجوم الأمريكي؛ كان العنوان الرئيسي لهذه التهديدات كلمتين: "الصدمة و الترويع" (shock and awe). و بالرغم من الانتشار الواسع لهكذا العنوان لم يتم التعرض لخلفياته بالشكل المطلوب خاصة و أن الحرب النظامية لم تستمر طويلا. و في الواقع فإن "الصدمة و الترويع" هي قبل كل شيء عنوان دراسة أعدها مجموعة من العسكريين الأمريكيين و تحديدا من سلاح الجو و ذلك بطلب من "معهد دراسات الاستراتيجيا الوطنية" المقرب من البنتاغون. و قد تفادى الناشر توزيع الكتاب بشكل واسع حيث لم يكن من الممكن من السهولة بالنسبة للقارئ العادي التحصل عليه خاصة في الفترة التي سبقت الحرب. و تتمثل الأطروحة الأساسية لمؤلفي الكتاب في الأهمية التاريخية للاستراتيجيا العسكرية الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية و التي اعتمدت على التوظيف الأقصى للفرق الالية (و التي اعتمدت بشكل كامل و غير مسبوق على سلاح الدبابات) و سلاح الطيران في توجيه ضربات شديدة و متوالية وهو النموذج الذي طبقه القادة الألمان بالخصوص خلال هجمتهم المفاجئة على الجبهة الروسية. و ليست هذه الاستراتيجيا مجرد وصفة عسكرية صرفة و إنما تحمل، مثلما هو الحال مع أي استراتيجيا عسكرية، رؤية فكرية أشمل للعالم و العوامل الحاسمة للصراعات البشرية. فهي تتضمن ثقة هائلة في قدرة التكنولوجيا العسكرية على حسم الصراع العسكري كما أنها لا تتحمل الصراعات العسكرية الطويلة المدى حيث تدفع لأسلوب الهجمات السريعة و الخاطفة. و أخيرا و الأم من كل ذلك فهي رؤية تتجاهل الظروف السياسية للحرب حيث تتوقع التأثير البسيكولوجي للقوة المادية الضاربة بمعزل عن العوامل السياسية و بالتحديد الشعور الوطني. و عموما تلتقي هذه الرؤية بشكل واضح مع "التجديد" الذي أزمع رامسفيلد و فريق النيومحافظين على إدخاله منذ وصولهم الى الادارة الامريكية و خاصة ما يتعلق بالاعتماد على التكنولوجيا العسكرية عوض القوة البشرية مما يفسر اعتماد هذه الخطة رسميا من قبل البنتاغون في الحرب على العراق.
و لكن لم تكن الرؤية النيومحافظة مجرد إسقاط من قبل فريق المدنيين في البنتاغون على القادة العسكريين, حيث كان لعدد كبير من القادة العسكريين (و لأسباب عديدة) الاستعداد للدفاع عن رؤية تختصر الصراع العسكري في موازين التفوق الآلي. غير أن عددا هاما من القادة العسكريين الكبار كانوا قد عبروا عن رفضهم لخطة "الصدمة و الترويع" و الاعتماد رئيسيا على التكنولوجيا العسكرية في حسم الحرب في العراق. و يكشف جيفري ريكورد (Jeffrey Record) الخبير العسكري المقرب من الأوساط العسكرية للبحرية الأمريكية في كتابه "الانتصار المظلم" (Dark Victory) الصادر سنة 2004 عن مختلف الاعتراضات التي قام بها عسكريون أمريكيون على خطة رامسفيلد (و حليفه المقرب من الرئيس بوش الجنرال فرانكس) للحرب. حيث يشير أولا الى رفض قادة كبار لقوات الجيش و المارينز بدء الحرب بقوات لا تتجاوز 250 ألف جندي و هو ما دعاهم لطلب تأجيل العملية. كما يشير الى أن قادة الجيش كانوا رافضين بشكل خاص للدور الرئيسي للقوة الجوية و الذي رأوا فيه تصورا غير واقعي يتناسى الأهمية الحاسمة للقوات البرية. و قبل هذا و ذاك فقد عبر هؤلاء القادة عن تشاؤم كبير حيال الحرب على العراق و خاصة في علاقة بالظروف السياسية المحيطة بها مما جعلهم يصفونها بالمغامرة. و بلغت هذه الانتقادات أوجها مع التصريحات العلنية للجنرال جيمس جونس (أحد القادة الرئيسيين لقوات المارينز) لصحيفة الواشنطن بوست و ذلك في شهر أوت 2002 و التي عبر فيه عن رفضه للتحليلات التي توقعت استقبالا بالزهور للقوات الأمريكية، كما رفض مقارنة الحرب على العراق بما جرى في حرب الخليج الأولى: "من الأفضل أن يكون لديك خطة بديلة في جيبك الخلفي, لأنك عندما تهاجم أناسا... في وطنهم فإنهم سيحاربون بشكل يختلف عن قتالهم، دعنا نقول, في الكويت. الدفاع عن الوطن مسألة صعبة لأنهم ليس لديهم أي مكان يذهبون إليه بعد ذلك." و يشير ريكورد أن التوافق لم يكن ممكنا بدون وعد الجنرال فرانكس للقادة المعترضين بتلقي إمدادات بشرية إضافية مع بدئ القتال و خلاله و هو الأمر الذي لم يتحقق. و هكذا فبالرغم من التفوق الأمريكي السريع في الحرب النظامية و سقوط جل المدن العراقية في القبضة الأمريكية فإنه لم تكن هناك قوات كافية لبسط سيطرة برية فعلية و هو ما أتاح و منذ وقت مبكر المجال للمقاومة العراقية على التنظم و رد الفعل بشكل جعلها تملك المبادرة حتى هذه اللحظة. في المقابل فإن استراتيجيا "الصدمة الترويع" مازالت الوسيلة الاساسية التي تواجه بها القوات الأمريكية حرب العصابات: : فحتى في معركة الفلوجة الأخيرة و التي تتطلب بشكل واضح إعتماد أسلوب قتال الشوارع فإن الاسلوب الأمريكي بقي يتفادى المواجهة المباشرة و يعمد في المقابل للاعتماد الكامل على الأسلحة الثقيلة و خاصة الفرق الالية (سلاح الدبابات) و سلاح الطيران. إن هذا التردد الأمريكي لخوض قتال مباشر هو نقطة الضعف الرئيسية لقوات الاحتلال و هو الأمر الذي يمنح ثقة متعاظمة لدى المقاتلين العراقيين. و ذلك الذي سيؤدي في النهاية الى توصل القادة الميدانيين العسكريين الى القناعة بحتمية عجزهم عن تحطيم المقاومة الشعبية و هو شرط الهزيمة الأمريكية في الحالة العراقية.

حول "الحرب المضادة للمقاومة" و العقيدة العسكرية الأمريكية
ليست حرب العصابات غريبة عن القيادات العسكرية الأمريكية فقد جربوا في الفيتنام أحد أطول الحروب الشعبية و أكثرها شراسة في هذا القرن. و بالرغم من أن قوات المارينز التي ذهبت الى العراق في الحرب الأخيرة لم يقع تزويدها سوى بدليل حروب يركز أساسا على مبادئ الحرب النظامية و هو بالمناسبة نفس الدليل الذي تم توزيعه على الجنود الأمريكيين الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية فإن القيادات العسكرية الأمريكية كانت و لاتزال مهتمة على المستوى النظري بمسائل الحرب الشعبية. غير أنه هناك نظرتان لها فمن جهة يعتقد البعض أن "الحرب على الارهاب" ليست سوى حرب عصابات جديدة يمكن هزمها بفضل التفوق التكنولوجي، في حين يرى اخرون أن حربا مثل الحرب على العراق مستحيلة الحسم خاصة في ظل غياب وصفة سياسية مناسبة تعالج أسس المشكل.

و ترجع أهم التحاليل الأمريكية حول مسائل كيفية مواجهة حرب العصابات الى السنوات الستين. ففي شهر ماي من سنة 1960 أي بعد الاخفاق الكبير للجيش الأمريكي في الحرب الكورية و بداية الانغماس في المستنقع الفيتنامي نشر الجنرال دونالد راتان (Donald Rattan) في المجلة الفكرية المعبرة عن البنتاغون Military Review مقالة هامة ضمتها وزارة الدفاع فيما بعد الى قائمتها من الوثائق الاستراتيجية الأهم. و كان منطق الجنرال الأمريكي تبسيطيا الى حد كبير يعكس طبيعة المرحلة و تجاهل القيادات العسكرية الأمريكية للعامل الحيوي لحروب العصابات في العصر الحديث. حيث قارن الصراع المتصاعد في الفيتنام بالحروب الأمريكية ضد قبائل الهنود الحمر من الأباشي خلال السنوات السبعين من القرن التاسع عشر و التي تميزت بالقسوة الفائقة و عمليا بالابادة المنظمة للطرف المقابل. من المثير للانتباه هنا أن هذا الأسلوب كان يدرس للضباط الأمريكيين في معهد القيادة و هيئة الأركان (حيث كان يدرس راتان) كأحد الأشكال الرئيسية لمواجهة حرب العصابات الحديثة.

الدراسة الثانية و هي الأهم في الحقيقة بسبب استمرارية تأثيرها الى اليوم أنجزها أحد القادة العسكريين الأمريكيين الرئسيين خلال الستينات: الجنرال ماكغار (Mc. Garr) و الذي تقلد مناصب عسكرية مختلفة تتعلق عموما بالاشراف على أقسام التدريس العسكري و كذلك الدراسات و التخطيط العسكريين و لعل أهمها إشرافه أواسط الستينات على فريق الاستشارة و المساعدة العسكرية في الفيتنام و الذين كان يشرف فعليا على رسم الاستراتيجيا العسكرية الأمريكية في علاقة بالحرب في الفيتنام. و قد نشر ماكغار أفكاره الأولية سنة 1959 في مجلة Military Review و لكنه طورها لاحقا (قبيل سنة 1964) في دراسة طويلة عنوانها "تكتيكات و تقنيات الحرب المضادة للمقاومة" تزيد عن الـ200 صفحة و بقيت حتى سنة 1983 رهن السرية. و يرتكز موقف الجنرال ماكغار (الذي تمت صياغته في ظل التصاعد الكبير للثورة الفيتنامية) في دراسته على نقطتين: أولا, أن هناك تجربة تم فيها هزم حرب العصابات و يتعلق ذلك بالحرب البريطانية في المالاي بين سنتي 1946 و 1958؛ ثانيا, أن مواجهة حرب العصابات يكمن في التركيز على التفوق التكنولوجي. و من الواضح أن أطروحة الجنرال لاتزال مؤثرة بين عدد من العسكريين الأمريكيين و خاصة في علاقة بمجموعة النيومحافظين و الذين استرجعوا تحاليله في مقالات مختلفة بما في ذلك المثال الماليزي و الذي يراه بعضهم "مطابقا" للمثال العراقي.

و لكن في مقابل هذا الارث الرافض للاعتراف بالمعطيات العسكرية الساطعة و المتشبث بأحلامه الخاصة يبرز مختصون اخرون بما في ذلك داخل الأوساط الأكاديمية العسكرية الأمريكية يركزون على ضرورة التعلم من تجارب عجز وسائل التفوق التكنولوجي المختلفة أمام الحروب الشعبية و الدور الحاسم لهذا النوع من الحروب في العصر الحديث. كما يربط هؤلاء بين فاعلية الحرب الشعبية و الدروس الكلاسيكية للمنظرين العسكريين الأوائل بما في ذلك الحكيم الصيني سن تزو. و لعل أهم الأمثلة على هؤلاء الأكاديميين العسكريين الأمريكيين مايكل هاندل (Michael Handel) أستاذ الاستراتيجيا بأحد أعرق الاكاديميات العسكرية الأمريكية "المعهد الحربي للبحرية الأمريكية". و قد أصدر هاندل مؤلفا مهما مع بداية التسعينات عنوانه "سادة الحرب" The Masters of War. و يكشف هاندل في تقديمه للطبعة الثالثة من كتابه (2001) عن انتقادات واسعة لانتعاش التنظيرات التي تتجاهل تواصل أهمية الحروب الشعبية مقابل على التركيز الدور الحاسم للعامل التكنولوجي بفعل ثورة الاتصالات و هو ما يبدو كأنه إشارة للحملة التي خاضها النيومحافظون خلال الحملة الانتخابية للرئيس بوش خلال سنى 2000 (أنظر مثلا الحوار مع كريبينفتش أعلاه). و يرد على ذلك من خلال التذكير بالمبادئ الرئيسية للمفكر العسكري الألماني الكبير كلاوسفيتز و التي يركز فيها على رئيسية العامل السياسي في حسم الصراع العسكري و هو ما أشار إليه أول منظر عسكري في التاريخ و صاحب كتاب "فن الحرب" الصيني سن تزو و الذي يتمتع بالمناسبة بشعبية خاصة في الأوساط العسكرية الأمريكية. و يعبر هاندل عن أهمية الحروب الشعبية من خلال التركيز على الزعيم الصيني ماو تسي تونغ كمصدر ثالث للتفكير الاستراتيجي العسكري إلى جانب المفكرين الأولين, كما أضاف الى ملحق طبعته الثالثة نصوصا من الكتابات العسكرية المختارة للزعيم الصيني.

3

حول خصوصية التجربة العراقية: "فيتنام حضرية"
كالعادة لا تبدو الأخبار القادمة من العراق جيدة بالنسبة لتوقعات البنتاغون. فالمعركة في الفلوجة لن تنتهي قريبا كما أنه هناك (و حتى عطلة نهاية الأسبوع الفارط) مدنا أوسع و أهم استراتيجيا من الفلوجة إما سقطت تماما في أيدي المقاومة (الموصل) أو سقطت منها أحياء واسعة (بغداد و الرمادي) عدى أن المجال القروي و الريفي المحيط بعدد من المدن العراقية قد أصبح أكثر من أي وقت مضى خارج سيطرة القوات الأمريكية التي تعاني أصلا قلة العدد في المجالات الحضرية. و أهم تعبير على هذا الحصار الريفي و القروي للقوات الأمريكية هي الضربات الخلفية التي تلقتها من جهة القرى المحيطة بالفلوجة. و عموما فقد تراوحت التقارير الأمريكية عن معركة الفلوجة بين ثقة رسمية مفرطة (كثيرا ما تتسم بخطاب متوتر يعسر المراجعة و التقييم) تفضح الطابع الدعائي لإعلام ذي نزعة عسكرتارية و شكوك قوية في جدوى العملية العسكرية تسربت عبر الانبهار الذي أبداه العديد من القادة الميدانيين و الجنود الأمريكيين بالروح القتالية للمقاومين العراقيين و عبر الأخبار الواردة عن إعادة الانتشار المستمر للأخيرين داخل المدينة و هو ما كذب الادعاءات الرسمية بحصر "جيوب" المقاومة في بعض الأحياء الجنوبية. و بالرغم من هذا التباين فقد أصبح من الواضح (و حتى في ثنايا الخطاب الرسمي) أن السيطرة على الفلوجة إذا تحققت فإنها ستكلف القوات الأمريكية خسائر كبيرة و لكن الأهم من ذلك أنها لن توقف المقاومة بل على الأرجح ستدفعها أكثر للتوسع و النمو نحو توحيد قواها و تحقيق أحد أهم أهدافها (و في الآن نفسه أحد الكوابيس الأمريكية الرئيسية) أي وحدتها السياسية و التنظيمية.

ان اسلوب المقاومة العرقية هو بلا شك اسلوب حرب عصابات يرتكز كتجارب تاريخية سابقة أساسا على اسلوبين. أولا, هجمات متفرقة بالاسلحة الخفيفة أو القنابل الموجهة عن بعد على العربات الامريكية المتنقلة. ثانيا, قصف و تفجير مواقع عسكرية ثابتة من خلال سيارات و عربات مفخخة و أخيرا من خلال صواريخ يتم دفعها من على منصات غير ثابتة. غير ان الواقع الطوبغرافي العراقي المتميز بشكل عام بالانبساط يدفع في اتجاه تركيز هذه العمليات داخل المدن. بالاضافة الى ذلك فإن التحولات الكبيرة على مستوى الجغرافية السكانية (ليس في العراق فحسب) و الذي جعل الاغلبية السكانية تتركز في المجالات الحضرية تدفع في نفس الاتجاه. و اذا اخذنا بعين الاعتبار تجارب المنطقة العربية و التي تتوفر الان على تجارب غنية في هذ المجال فان المقاومة العراقية تتجه نحو نموذج أقرب الى التجربة الصومالية منه لتجربة المقاومة الاسلامية في جنوب لبنان في حقبة التسعينات. كما انها تتجه ببطء و لكن بثبات لتكون قريبة من التجربة اللبنانية خلال الثمانينات و خاصة حرب الشوارع ضد قوات الاحتلال الاسرائيلية وحلفائها في بيروت. و في كلمة نحن بصدد مواجهة عسكرية تتصاعد في اتجاه نموذج الحرب الفيتنامية لكن في مجال حضري: "فيتنام حضرية".

من جهة أخرى تعيش هذه الحرب الشعبية مرحلة انتقالية حيث أن نجاحها في تشتيت جهود القوى الأمريكية و السيطرة السريعة على مدن ضخمة (مثل الموصل الان و النجف قبل ذلك) مع القدرة على الفر بدون تكبد خسائر تُذكر يعني أنها تملك المبادرة العسكرية. لكن من جهة أخرى ستكون مضطرة على تعلم التسيير المنظم و المنضبط للمدن و المجالات التي تسيطر عليها فهذه مدرستها الأولية في بناء الدولة الوطنية. و هو ما يعني بالضرورة الإلحاح على الحاجة الحيوية في الوضع الراهن لمسألة التوحيد التنظيمي و البرامجي للمقاومة على قاعدة من الحد الوطني الأدنى. فالانتظار حتى قيام القوات الامريكية بتركيز جهودها على أحد الأطراف حتى تستنفر مختلف القوى جهودها بشكل موحد هو أسلوب يخضع لرد الفعل و لاي يمكن أن ينتزع تماما المبادرة السياسية. في المقابل فإن طول المواجهات سيؤدي في النهاية الى توصل القادة الميدانيين العسكريين الى القناعة بحتمية عجزهم عن تحطيم المقاومة الشعبية و هو شرط الهزيمة الأمريكية في الحالة العراقية.
.

صحيفة القدس العربي 31 ديسمبر (كانون الأول) 2004

Wednesday, December 22, 2004

في العلاقة بين "النيوليبراليين" و "النيومحافظين"

في العلاقة بين "النيوليبراليين" و "النيومحافظين"
الرؤية الاقتصادية للتيار "النيوليبرالي" هي المصدر الأساسي للبرنامج الإقتصادي للتيار "النيومحافظ"

الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية

إن أهم خصائص الطبيعة الإيديولوجية للأطراف الحاكمة في الولايات المتحدة و بريطانيا هي عدم إستقرارها التام وصعوبة تحديدها بشكل مطلق و يرجع ذلك جزئيا الى علاقتها السببية بالواقع الدولي و المحلي المتحرك. غير أن ذلك لا يمنع وجود خصائص عامة تتسم بالثبات و هو ما يتجسد خاصة من خلال ملاحظة مسار تشكلها. و من ضمن المساهمات العربية المنشورة أخيرا و المتعلقة بتشخيص هذه الطبيعة الإيديولوجية المقال الأخير للباحث الفلسطيني الدكتور بشير موسى نافع "المحافظون و الليبراليون الجدد بصدد محاولة بناء إجماع غربي جديد" (القدس العربي 16 كانون الأول (ديسمبر) 2004) و الذي قدم فيه قراءة لمسألة العلاقة بين "التيار النيوليبرالي الذي يحكم بريطانيا" بالتيار النيومحافظ الذي يحكم الولايات المتحدة. و بالرغم من إتفاقي مع الكاتب حول عدد من المعطيات و الأفكار التي قدمها فإني أود أن أقدم مجموعة من الملاحظات حول بعض النقاط التي بنى عليها قراءته و التي أعتقد أنها تستحق المراجعة. و ستتركز ملاحظاتي هنا حول نقطتين أساسييتين: (أولا) مقابل إشارة السيد نافع الى أن تشكل التيار النيومحافظ يرجع الى سبعينات القرن الماضي فإنه يتحدث عن التيار النيوليبرالي بشكل محدد في علاقة بحكومة توني بلير و هو ما يترك الإنطباع بأنه تيار جديد و بريطاني بالأساس. (ثانيا) يلاحظ السيد نافع أن كلى الطرفين "ليس لهم من كبير اكتراث بالمسألة الاجتماعية أو الضرائبية، مثلاً (بعكس خصومهم الألداء المحافظين الأصليين في أمريكا أو العماليين التقليديين في بريطانيا)" مقابل تركيزهم على مسائل السياسة الخارجية و خاصة في علاقة بالسياسة الاستعمارية الجديدة في المنطقة العربية (خاصة بتأثير اللوبي الصهيوني بالنسبة للتيار النيومحافظ). و من ثمة يقترح السيد نافع أن تحالف الطرفين هو جديد و هو قائم تحديدا حول إلتقائهما في تقييمهما لموضوع السياسة الخارجية فحسب. و في الواقع فإن النقطة الأخيرة تؤكد الإنطباع المذكور في النقطة الأولى حيث يتم عرض التيار النيوليبرالي بشكل حصري في علاقة بحكومة السيد بلير.

سأقوم بمراجعة هاتين النقطتين من خلال (أولا) عرض تاريخي مختصر للتيار النيوليبرالي و الذي سيوضح أصوله النظرية و السياسية الأمريكية و أن هيمنته اللاحقة في بريطانيا كانت أساسا من خلال حزب المحافظين و ليس حزب العمال. (ثانيا) إرتباط التيار النيوليبرالي القوي (نظريا و سياسيا) بالتيار النيومحافظ منذ وعيه بذاته في سبعينات القرن الماضي و الإندماج التدريجي و حدوده بينهما. و في إطار عرض هاتين الفكرتين سنلاحظ كيف أن المسائل "الإجتماعية و الضريبية" هي مسائل رئيسية بالنسبة للتيارين و ليست مسائل مهمشة مقارنة بمواقف "المحافظين الأصليين" أو "العمال التقليديين".

1
بالرغم من أن النيوليبرالية (Neoliberalism) تعبر عن وجهة نظر لا تتعلق بمسائل الإقتصاد السياسي فحسب بل أيضا بمسائل الفلسفة السياسية فإنها قد ارتبطت في بداية تشكلها أساسا بالنقاش الذي دار إثر الحرب العالمية الثانية حول مسائل العولمة الإقتصادية و دور إقتصاد السوق في حل مشكل التنمية. و مقابل المدرسة الكينيزية (Keynesian School) التي رعتها الإدارة الأمريكية إثر أزمة 1929 و التيار النيوكينيزي (Neokeynesian) الذي ساهم في تسطير السياسة الإقتصادية للولايات المتحدة (محليا و دوليا) إثر الحرب العالمية الثانية (و حتى سبعينات القرن الماضي) تشكلت مدرسة مضادة اتجهت نحو إعادة تعريف أفكار المدرسة الكلاسيكية الليبرالية في الإقتصاد السياسي (المتمحورة حول كتابات ادم سميث و ريكاردو). و قد تشكل العصب الرئيسي للتيار النيوليبرالي في الأوساط الأكاديمية الأمريكية و تحديدا من قبل "فتيان شيكاغو" (Chicago Boys) أو "مدرسة شيكاغو" (Chicago School) و هم مجموعة من الجامعيين الذين تركزوا بين خمسينات و سبعينات القرن الماضي في كلية الإقتصاد بجامعة شيكاغو و كان المنظر الأمريكي الرئيسي بينهم ميلتون فريدمان (Milton Friedman) و الذي درس هناك بين سنتي 1946 و 1976 و كان قد تحصل على جائزة نوبل في الإقتصاد سنة 1976. غير أن فريدمان كان على علاقة قوية بمجموعة من أساتذة الإقتصاد النمساويين الذين كانوا من السباقين في نقد أطروحات كينز (منذ كانوا زملاء له في الجامعات البريطانية خلال الثلاثينات) قبل إلتحاقهم بجامع شيكاغو. و يتعلق الأمر بالخصوص بفريديريش هايك (Friedrich Hayek) و الذي كان هاجر الى الولايات المتحدة مع مجموعة من الإقتصاديين النمساويين حيث إنضم الى مؤسسة بحثية تابعة لجامعة شيكاغو سنة 1950. و قد أسس هايك في ربيع سنة 1947 "جمعية مونت بيلرين" (Mont Pelerin Society) (باسم موقع منتجع سويسري أصبح مقرا لاجتماعات الجمعية) و التي مثلت الإطار الدولي الجنيني لمجموعة من الأكاديميين الإقتصاديين الذين إنضم إليهم بعض الفلاسفة و الذين كان من أهمهم الفيلسوف و عالم الكيمياء المجري مايكل بولانيي (Michael Polanyi) و الذي سيصبح أستاذا زائرا في جامعة شيكاغو. غير أن هناك وجوه معروفة أخرى و من خارج إطار جامعة شيكاغو ساهمت في نشأة و تشكيل ملامح التيار النيوليبرالي في الولايات المتحدة و من أهمهم أستاذ الإقتصاد بجامعة كولومبيا (نيويورك) روبرت ماندل (Robert Mundell) و الذي شغل مناصب عالية في صندوق النقد الدولي و اشتهر بمجموعة من الكتابات حول إقتصاد السوق في بداية الستينات. و قد تحصل ماندل على جائزة نوبل في الإقتصاد سنة 1999.

و قد بدى تأثير هذه المدرسة في أوساط النخبة الحاكمة الأمريكية منذ بداية الأربعينات و تحديدا في صيف سنة 1944 في إطار "إتفاقية بريتون وودس" (Bretton Woods Agreements) حيث إتفقت الدول الأربع و الأربعين الحليفة على الصيغ التي من خلالها تتفادى أزمات التضخم المالي التي ترافقت مع أزمة 1929 و كل ما من شأنه أن يخلق عدم مساواة إقتصادية: حيث دافع الجانب الأمريكي بالخصوص على أن السبب الرئيسي من وراء الحروب الدولية الفوضى التي تسود القطاعين المالي و التجاري الدوليين و ما يمكن أن ينجر عن ذلك من إلتجاء للقوة لحل هذه المشاكل. ففي إطار تلك المحادثات تراجعت الحكومة الأمريكية عن دعم رؤى جون كينز و الذي دافع عن مقترح إنشاء بنك مركزي يشرف على إحتياطي حكومي للعملة يقدم قروض مالية ذات ريع ضئيل لمساعدة التنمية في الدول و المناطق الضعيفة. في المقابل دافعت الحكومة الأمريكية عن مقترح الإقتصادي الأمريكي هاري ديكستر وايت (Harry Dexter White) و الذي ركز على مواجهة مشكل التضخم المالي على حساب مشكل التنمية و هو ما أدى الى إنشاء مؤسسة صندوق النقد الدولي و التي كان دورها الرئيسي وضع الاليات لمراقبة علاقة ثابتة بين العملات الدولية من جهة و الدولار و الذهب من جهة أخرى. و قد عبر هذا الموقف عن نزعة قوية تتفادى تدخل الدولة في الشؤون الإقتصادية و من ثمة تعادي بشكل متزايد الإقتصاد المخطط (تم تراجع مرحلي و مؤقت في علاقة بالوضع في أوروبا من خلال مشروع مارشال و الذي إعتمد بالأساس على مساعدة أمريكية حكومية مباشرة لإعادة بناء الإقتصاديات الأوروبية إثر الحرب و ذلك تخوفا من تقدم الحركة الشيوعية في أوروبا الغربية و افتكاكها للسلطة).

غير أن تأثير النيوليبراليين لم يصبح ملحوظا إلا بعد التشكل النظري لهذا التيار و إلتقائهم مع اللوبيات المالية الكبرى التي تركزت سياسيا في الحزب الجمهوري حيث أصبح إقتصاديو "مدرسة شيكاغو" و خاصة ميلتون فريدمان مستشارين غير رسميين في إدارة نيكسون (1969-1974) حيث لعب هؤلاء دورا سياسيا قويا على السياسة الإقتصادية الخارجية عندما عملوا على دعم إنقلاب الجنرال بينوشيه في الشيلي كرد على ما رأوه سياسة إقتصادية موالية للنموذج السوفياتي من قبل الرئيس المنتخب أليندي. و منذ تلك الحادثة ارتبط مفهوم النيوليبرالية بظرفية سياسية سلبية في الذهنية العامة في أمريكا اللاتينية خاصة و أن الجنرال بينوشيه قد إعتمد سياسة إنفتاح إقتصادي غير مسبوقة بدفع من منظري "مدرسة شيكاغو". كما لعب هؤلاء دورا رياديا في إدارة ريغن (1981-1989) كمستشارين رسميين أثروا لأول مرة في السياسة الإقتصادية الداخلية من خلال مواجهة نفوذ النقابات الأمريكية و الدفع الى تقليص المساعدات الحكومية للفئات الضعيفة إجتماعيا. كما كانوا وراء "توافق واشنطن" سنة 1989 تحت رعاية الإدارة الجمهورية و هي مجموعة من السياسات التي دفعت باتجاه تحرير عملات دول أمريكا اللاتينية و هو ما أدى الى الأزمة المالية الكبيرة في نهاية القرن الماضي في دول مثل الأرجنتين و البرازيل. و على الضفة الشرقية من المحيط الأطلسي كانت حكومة مارغريت ثاتشر (1979-1990) أول حكومة أوروبية تتبنى الرؤية النيوليبرالية حيث دافعت بحماس عن التخلي عن نظام التغطية الإجتماعية حتى أن الكثيرين يساوون بين مصطلحي "النيوليبرالية" و "الثاتشرية". و هكذا، و بخلاف المعطيات التي يقدمها السيد نافع، فإن الصيغة البريطانية الأساسية للتيار النيوليبرالي لم تتبنى مدرسة أمريكية للتفكير الإقتصادي فحسب بل هي أيضا متعلقة بتجربة حزب المحافظين البريطاني (متأثرا بتجربة الحزب الجمهوري) في مواجهة حزب العمال خلال الثمانينيات. و الان أنتقل الى النقطة التالية: لماذا لا يمكن إعتبار الإلتقاء البريطاني الأمريكي الراهن في السياسة الخارجية إلتقاءا بين النيوليبراليين و النيومحافظين؟ و من ثم كيف أن العلاقة بين هذين التيارين هي فعلا موجودة و قوية و لكن في الإطار الأمريكي و ذلك منذ نشأتهما.

2
إن ما لاحظه الدكتور بشير موسى نافع من إرتباط بين النيوليبرالية و حزب العمال البريطاني بقيادة توني بلير من جهة و الأفكار الجديدة التي أتى بها هذا التيار في الإطار البريطاني في علاقة بالسياسة الخارجية من جهة أخرى لا يأتي من فراغ. و لكنه يحتاج قطعا الى بعض التوضيحات الإضافية. فقد كان إنهيار الإتحاد السوفياتي و معه الثقل المعنوي للإقتصاد المخطط و بفعل تفاقم الأزمة الاقتصادية في أوروبا الغربية و الولايات المتحدة بدأت الأحزاب التي دافعت عن أجندة الإقتصاد المسير من الدولة و الحماية الإجتماعية (أي الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا بما فيها حزب العمال و الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة) بالاضافة الى التيارات اليمينية التي دافعت عن سياسات حمائية في علاقة بالتجارة الدولية (و هذا يعني خصوصا التيار المحافظ التقليدي داخل الحزب الجمهوري إضافة الى الحزب الديمقراطي) بالانهيار. و تجسم ذلك منذ أواسط الثمانينات في الولايات المتحدة من خلال إختراق أفكار التيار النيوليبرالي للحزب الديمقراطي الأمريكي من خلال تأسيس "مجلس القيادة الديمقراطية" سنة 1984 و الذي شكل الإطار الذي سيجمع التيار "الديمقراطي الجديد" و هو التيار الذي أوصل الرئيس بيل كلينتون الى الهيمنة على الحزب الديمقراطي و من ثمة ترشحه للرئاسة سنة 1992 من خلال رفع شعار "الإقتصاد الجديد" و الذي كان الصيغة التي قام من خلالها الديمقراطيون بحقن برنامجهم الإقتصادي بالاراء النيوليبرالية. و قد امتدت هذه التحولات الى الأحزاب الإشتراكية الديمقراطية في أوروبا الغربية بما في ذلك حزب العمال البريطاني الذي وصل الى السلطة بقيادة التيار الجديد و على رأسه توني بلير. و في إطار هذه الموجة العالمية تم تأسيس منظمة التجارة العالمية و من ثمة التسريع في العولمة الاقتصادية. و في شهر أفريل 1999 و في اجتماع جمع مجموعة من أهم القيادات الغربية انذاك (كلينتون و بلير و شرودر و داليما) تم الإعلان عما سمي بـ"الطريق الثالث" (The Third Way) و الذي قدم الأفكار النيوليبرالية في إطار "روح إجتماعية". و قد كان هناك تأكيدا واضحا من قبل هذا التيار على أن "الطريق الثالث" يعني فيما يعني أنه لا يوافق على الصيغة النيوليبرالية بشكل كامل و بتأثير من الأزمات المالية التي حدثت أواخر التسعينات أكد المجتمعون على ضرورة تجنب صيغة نيوليبرالية لا تهتم بالجوانب الإجتماعية و هو ما عُد انذاك تباينا مع النيوليبراليين. و في الواقع في إطار هذه الرؤية و في ذلك الإجتماع بالذات دافع رئيس الوزراء توني بلير و بدعم من الرئيس كلينتون عن فكرة "الحرب لأهداف إنسانية" (War for humanitarian reasons) و ذلك في علاقة بالحرب التي كان يتم إعدادها ضد الصرب و ما عُرف بأزمة كوسوفو. و هنا يمكن موافقة السيد نافع بأنه على أساس هذه الرؤية التي تبلورت في إطار أزمة كوسوفو يمكن فهم التحالف البريطاني الأمريكي اللاحق في الحرب على العراق. و لكن و كما أشرنا أعلاه فإن هذا الالتقاء ليس إلتقاءا بين التيار النيوليبرالي و النيومحافظ و ذلك لأن تيار "الطريق الثالث" (أي مجموعة بلير المسيطرة عل حزب العمال) لا يعبر بشكل دقيق عن التيار النيوليبرالي. في المقابل فإن العلاقة بين التيارين النيوليبرالي و النيومحافظ هي موجودة فعلا و قوية و لكنها سابقة بكثير عن التحولات التي قادها بلير في حزب العمال بل ليس لها علاقة بالإطار البريطاني.

في البداية يمكن الإشارة الى أن إدراة ريغن التي تبنت بوضوح الرؤى النيوليبرالية من خلال إدماج أقطابها في السلطة هي ذاتها التي إستوعبت أقطاب التيار النيومحافظ. فقد مثل وصول ريغن للسلطة الجسر الذي من خلاله وصل كل من التيارين الى السلطة و ذلك لأول مرة في تاريخهما (بقي ظهورهما في عهد الرئيس نيكسون محتشما خاصة بالنسبة للتيار النيومحافظ و الذي كان متركزا في الحزب الديمقراطي). و في الواقع فإن ذلك لم يكن مجرد صدفة حيث أن العلاقة بين التيارين كانت قوية الى درجة أن التيار النيومحافظ كان يعرف سياسته الإقتصادية و الإجتماعية على أساس الرؤى النيوليبرالية. و هنا من الضروري توضيح مشكل إصطلاحي كثيرا ما يؤدي الى الالتباس خاصة عند الانتقال من الظرفية الأمريكية الى الظرفية الأوروبية أو العكس: فمصطلح الليبرالية كما تم إستعماله في الولايات المتحدة إثر الحرب العالمية الثانية ليس له علاقة بالمفاهيم الليبرالية الإقتصادية الكلاسيكية و التي تؤطر عادة مفهوم الليبرالية في الإطار الأوروبي. ففي الولايات المتحدة حور الحزب الديمقراطي خاصة منذ إدارة جون كينيدي مفهوم الليبرالية الى الحد الذي أصبح فيه متناقضا مع المفهوم الكلاسيكي للليبرالية (و بالتالي مفهومها الشائع في الإطار الأوروبي) حيث أصبح يعني سياسة إقتصادية تعتمد بالخصوص على تدخل الدولة في الشأن الإقتصادي. و هكذا فإن عمل التيار النيوليبرالي في الولايات المتحدة على إعادة التعريف الكلاسيكي لليبرالية جعله يقترب تدريجيا من الحزب الجمهوري أي من المحافظين و لهذا فإن العلاقة بين التيارين النيومحافظ و النيوليبرالي كانت منطقية. و يلاحظ عراب التيار النيومحافظ إرفينغ كريستول (Irving Kristol) في مقدمة سيرته الذاتية الأولى "تأملات نيومحافظ" (Reflections of a Neoconservative) التي كتبها في سنة 1983 أي في خضم التجربة الريغينية و التي كانت بمثابة السيرة الذاتية للتيار النيومحافظ—يلاحظ منذ المقدمة أن "المحتوى الفكري للتيار النيومحافظ يأتي من اتجاهات محافظة. فقد تعلم التيار النيومحافظ من ميلتون فريدمان استحسان فضائل إقتصاد السوق كمحرك للنمو الإقتصادي. و تعلم من فريدريش هايك استحسان الحقيقة الهامة المتمثلة في أن المؤسسات الاجتماعية هي نتيجة للفعل (العفوي) البشري و فقط في حالات نادرة تكون نتيجة للتنظيم البشري". و يضيف كريستول الى ذلك أهمية أستاذ اخر من جامعة شيكاغو أي الفيلسوف ما بعد الحداثي ليو شتراوس كمصدر أساسي لفهم التيار النيومحافظ "أهمية الأخلاق ما قبل الرأسمالية". و في إطار تقديمه للرؤية الإقتصادية للتيار النيومحافظ يرجع كريستول مرة أخرى الى مؤسسي التيار النيوليبرالي (فريدمان و هايك) حيث يشير الى أن التعريف الجديد للـ"العقلانية الإقتصادية" (أي المصادر الكلاسيكية للليبرالية الاقتصادية كادم سميث و ريكاردو) الذي قاما به كان الرد الأكثر إقناعا على الرؤية الماركسية. و أشير هنا الى أن كريستول بوصفه تروتسكي سابق (مثل الكثيرين من التيار النيومحافظ) كان يولي أهمية خاصة للمسائل الإقتصادية لإعادة صياغة رؤيته الفكرية. و قد حاجج في هذا الكتاب أن "اليسار الجديد" غير ماركسي لأنه يتعامل بشكل مثالي و تجريدي مع المسألة الإقتصادية، و هو ما يعكس خسارة الماركسية للمعركة الإيديولوجية بفعل أن الحجة الإقتصادية (الإنهيار الحتمي للمنظومة الرأسمالية) هي أساس المساهمة الماركسية. و في هذا الإطار فإنه يرى أن كل من فريدمان و هايك لعبا دورا رئيسيا في كسب المعركة النظرية في هذا المجال. و بالاضافة الى هذه العلاقة النظرية فإن نشأة التيار النيومحافظ و اقتحامه المعركة السياسية تقاطع بشكل واضح مع الإطار العملي الذي احتضن التيار النيوليبرالي. و كان المجال الرئيسي لهذا التقاطع و الى حد هذه اللحظة "معهد المؤسسة الأمريكية لبحث السياسة العامة" (AEI) و الذي كان و لايزال مركز البحث الرئيسي الذي يتركز فيه النيومحافظون منذ توجههم له (بدفع من إرفينغ كريستول) أواسط السبعينات. و من المعروف أن الممول الرئيسي لهذا المركز جون ميريل اولين (John Merril Olin) هو من أكثر المشجعين و الممولين لبحوث "مدرسة شيكاغو" و هو ما يفسر وجود أتباع هذه المدرسة مثل روبرت بورك (Robert Bork) كمشرفين على البحوث الخاصة بمسائل التشريع الإقتصادي داخل (AEI).

غير أن هذا لا يعني أن هناك إتفاقا دائما بين الطرفين و هو ما ينعكس في الجفاء الذي حصل بينهما أواسط التسعينات في إطار تبني بيل كلينتون لسياسة "الاقتصاد الجديد" هو ما عكس تقاربا محدودا بين المنظرين النيوليبراليين و الإدارة الديمقراطية. ففي السيرة الذاتية الثانية (لنفسه و للتيار النيومحافظ) التي كتبها إرفنغ كريستول في سنة 1995 "التيار النيومحافظ: سيرة ذاتية لفكرة" (Neoconservatism a Biography of an Idea) أشار كريستول الى "الفراغ الروحي" للـ"عقلانية الإقتصادية" كما يقدمها التيار النيوليبرالي و هو الأمر الذي يجعل من ليو شتراوس مصدرا أساسيا في الفلسفة السايسية للنيومحافظين بوصفه يركز على الأخلاق ماقبل الرأسمالية و بالتالي تلك المبادئ الفكرية التي تتعرض لانتقاد المصادر الكلاسيكية للليبرالية. إن عدم الإستقرار العلاقة بين الطرفين يتجسد أيضا في نموذج المفكر النيوليبرالي فرانسيس فوكوياما و الذي دخل في صراع أخيرا مع بقية عناصر التيار النيومحافظ في إطار تقييم الحرب على العراق في نفس الوقت الذي يؤكد فيه على استمرار تعلقه بالمبادئ العامة للتيار النيومحافظ (أنظر مقالي في هذا الموضوع في القدس العربي بتاريخ 11/12 كانون الأول (ديسمبر) 2004). و من المعروف أن فوكوياما عضو في هيئة تحرير النشرية الرئيسية للتيار النيومحافظ في موضوع السياسة الخارجية الناشيونال انترست.

و هكذا رأينا أن تحليل العلاقة بين التيارين النيوليبرالي و النيومحافظ تتجاوز بكثير موضوع العلاقة بين حكومة بلير و إدراة الرئيس بوش. بل أن العلاقة بين الأخيرين ليست لها علاقة بالمسألة الأولى لأن تيار السيد بلير ليس له علاقة جدية بالتيار النيوليبرالي حيث يتنمي الى تيار خاص أي "الطريق الثالث". كما لاحظنا أن المسائل الاقتصادية و الاجتماعية هي مسائل شديدة الأهمية بالنسبة للتيارين، و يمكن القول (على أساس تحليل كريستول) بأن مصدر البرنامج الإقتصادي و الاجتماعي للتيار النيومحافظ هو تحديدا الرؤية النيوليبرالية للإقتصاد السياسي. و تتجسد هذه العلاقة النظرية في البرنامج الإقتصادي للرئيس بوش الإبن و الذي إعتمد رئيسيا على موضوعة "التقليص الضريبي" في سياسته الإقتصادية المحلية (وهي سياسة تم تحضيرها في إطار بحوث قام بها "معهد المؤسسة الأمريكية لبحث السياسة العامة" النيومحافظ) و لو أن ذلك ترافق مع إنفاق حكومي كبير (خاصة على البرامج العسكرية) و هو ما جعل الكثير من المحافظين التقليديين غير مرتاحين تماما مع سياساته. و من المؤشرات الأخيرة على الجدية التي يوليها النيومحافظون للمسائل الاقتصادية و على رؤيتهم النيوليبرالية في هذا المجال ما يتم التحضير له الان بقوة في علاقة بخصخصة صناديق التأمين الإجتماعي (تم التهيئة لهذا المشروع أيضا في إطار "معهد المؤسسة الأمريكية لبحث السياسة العامة" النيومحافظ). و امتدت الرؤية النيوليبرالية لإدارة بوش الابن الى العراق حيث لم يكن المقصود إحتلاله (في إطار مشروع إستراتيجي إقليمي) أو "إقامة إنتخابات" (كنموذج سياسي أمريكي في الشرق الأوسط) فحسب بل امتد المشروع الأمريكي هناك الى خطط نيوليبرالية راديكالية أدت الى خصخصة عديد القطاعات و منحها للرأسمال الأجنبي (خاصة الأمريكي) و هو ما أدى الى تفاقم الأزمة الإجتماعية في العراق. و طبعا تأتي السياسة الاقتصادية الأمريكية في العراق في إطار رؤية نيوليبرالية عامة تدفع لدعم توسع الرأسمال الأمريكي دوليا و هو الأمر الذي أثار مشكلة كبيرة في الاتخابات الفارطة بفعل خسارة مواقع العمل داخل الولايات المتحدة في حال تخفيض ضرائب الرأسمال المهاجر، و هي السياسة المعتمدة من قبل الادارة الحالية.

صحيفة القدس العربي 22 ديسمبر (كانون الأول) 2004

Saturday, December 11, 2004

النزاع بين النيومحافظين حول طبيعة "الديمقراطية الاسلامية"

النزاع بين النيومحافظين حول طبيعة "الديمقراطية الاسلامية"

تيار "كوني ديمقراطي" مدفوع بجيل جديد من المستعربين ينزع باتجاه إشراك الاسلاميين في السلطة ؟

الطاهر الأسود—باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية

يخضع النقاش الأمريكي في علاقة بـ"بناء الديمقراطية في المنطقة العربية" بتأثير الواقع الأمريكي في العراق المثقل بفشل سياسي و عسكري واضح. و لهذا فإن النقاش ليس نظريا بالتأكيد. و لكنه أيضا ليس نقاشا بين أوساط بيروقراطية أو تكنوقراطية: فقد جلب النيومحافظون معهم و بدرجة غير مسبوقة نزعة نخبوية مثقفة الى أوساط الادارة السياسية تجعل الموقف العملي-السياسي يولد من رحم النزاع الايديولوجي الفكري. و ليست هذه النقطة فحسب التي لم يقع رصدها عربيا بالشكل المناسب، فوقائع هذا النقاش العلني و الذي يمارس على صفحات المجلات و الصحف و الشاشات الأمريكية لا يلقى الاهتمام الذي يستحقه من النخب العربية، حيث يقع التعامل معه بشكل تعميمي/ سطحي/شعبوي عوض النظر اليه كما هو أي كنقاش نظري/تاريخي/فكري من الدرجة الأولى. و سنحاول في هذا المقال أن نرصد اخر بوادر النزاع في الأوساط النيومحافظة حول طبيعة "الديمقراطية الاسلامية" المزمع تحقيقها أمريكيا سواء (أولا) في مستوى النقاش النظري العام (كراوثمر ضد فوكوياما) أو (ثانيا) النقاش المختص بالمنطقة العربية (برنارد لويس ضد الجيل الشاب من المستعربين-النيومحافظين).
1

في الظاهر لم تتغير أشياء كثيرة بين بداية سنة 2004 و نهايتها في الولايات المتحدة. و أكثر الثوابت المرئية هي إستمرار سيطرة التيار النيومحافظ على البيت الأبيض و التي ترسخت مباشرة بعد منح الرئيس بوش ولاية ثانية—حيث لم يعد هناك حاجة لتغطية إحتكار هذا التيار الايديولوجي لسلطة القرار فتم إزاحة كولن باول الذي لم يكن وزيرا للخارجية بقدر ما كان "ما يبدو أنه وزير الخارجية". غير أن الواقع مختلف بعض الشيء عما يتراءى للمشاهد البعيد. أول الأوهام كثيرة الانتشار دوليا و التي بدأت تتبدد للملاحظين (منذ بداية هذا العام و بعد الانغماس المتسارع للنيومحافظين في مستنقع العراق "المحرر") تلك المتصلة بوجود تيار نيومحافظ موحد و منسجم سياسيا و نظريا.

يوم 10 فيفري 2004 كان مناسبة لحدث نيومحافظ بامتياز و لو أن القليلين لاحظوا ذلك: في مركز الدراسات الرئيسي و الأقدم بالنسبة للتيار النيومحافظ "معهد المؤسسة الأمريكية للسياسة العامة" (AEI) و في لقاء شبه سري (لم تتم تغطيته إعلاميا بشكل واسع رغم أهمية الحضور) ألقى تشارلز كراوثمر (Charles Krauthammer) الدكتور في علم النفس الاكلينيكي و العلوم السياسية "محاضرة إرفنغ كريستول" (باسم عراب التيار النيومحافظ) و التي عنونها "الواقعية الديمقراطية (Democratic Realism)". لا يوجد في أوساط النيومحافظين مفكرون كارزميون. فشخص مؤثر من الناحية الفكرية مثل ويليام كريستول ممل و قليل البديهة على الركح الاعلامي و من ثمة السياسي. و في المقابل فإن دونالد رامسفيلد و الذي لا توجد له أبحاث تذكر حيث ترعرع في الاوساط البيروقراطية في واشنطن يملك التأثير الاعلامي الأكبر و هو الشخصية الكارزمية الرئيسية للتيار. غير أن هناك شخصية مميزة في هذا الخليط: تشارلز كراوثمر و الذين كان أول المنظرين الفعليين للبرنامج السياسي الراهن للنيومحافظين و ذلك في محاضرة القاها لاول مرة يوم 8 سبتمبر 1990 اي اشهر قليلة قبل الحرب الامريكية الاولى على العراق، حيث تم الترويج بشكل واسع و لاول مرة لتشخيص استراتيجي سيصبح أحد مبررات الاستراتيجيا الأمريكية الراهنة: "لحظة القطبية الأحادية (The Unipolar Moment)".

بشكل يذكر بالطقوس التي تحيط ولادة فكرة عظيمة قدم كراوثمر في يوم 10 فيفري الماضي "واقعيته الديمقراطية" و التي أصبحت عنوانا للنزاع الرئيسي الذي يشق صفوف التيار النيومحافظ في الوقت الراهن حول مسألة عملية (بناء الديمقراطية في العراق كنموذج عربي) تتعلق بمسألة نظرية أكثر شمولا (بناء الديمقراطية في بلد ذي ثقافة إسلامية). فمنذ تلك اللحظة تبدد الستار ليكشف عن ثلاث فرق داخل مجموعة الدهاقنة هذه: أولا، ميز كراوثمر في محاضرته تلك و بشكل صارم بين ما يراه رؤية "كونية ديمقراطية (Democratic Globalism)" تعبر عنها الادارة الأمريكية الراهنة بالاضافة الى وجوه أساسية من فريق المنظرين (ويليام كريستول أساسا) تتبنى الدفاع عن "بناء الديمقراطية" على مستوى "كوني" يفتح مواجهة عامة تشمل كل الأقطار الاسلامية. ثانيا، و في مقابل ذلك يوضح كراوثمر أن هذه الرؤية "مثالية" و لا تحاول أن تختار معاركها بشكل يحسب القدرات الواقعية؛ و يؤكد في المقابل على ضرورة إتباع أي سياسة واقعية لـ"رؤية" شاملة تحتوي مبادئ سامية تتمثل في هذه الحالة في "بناء الديمقراطية" وهو تعريفه للرؤية "الديمقراطية الواقعية" التي يتبناها و التي تختلف عن الرؤية "الواقعية" التي بصمت لفترة طويلة السياسة الخارجية الأمريكية و التي "تفادت التدخل في الشأن الداخلي العربي" بمعنى دعمها المستمر للدكتاتوريات العربية و تقاعسها في الدفاع عن قضية البناء الديمقراطي، في حين أنها حسب كراوثمر مهمة حتمة من زاوية المصلحة الأمريكية في الوقت الراهن.

ثالثا، و هنا أصبح هذا النزاع الداخلي أكثر تشويقا، برز على السطح أن منظرا اساسيا في التيار النيومحافظ بحجم فرانسيس فوكوياما فقد صبره من إستمرار التهويمات المثالية لرفاقه خاصة في ظل تفاقم المأزق "الواقعي" العراقي و لم يشمل بتذمره "الكونيين الديمقراطيين" فحسب بل أيضا "صديقه" كراوثمر "الواقعي الديمقارطي". ففي عدد الصيف الأخير (صيف 2004) من الناشيونال انترست (The National Interest) وهي النشرية الرئيسية التي تعبر عن وجهة النظر النيومحافظة في السياسة الخارجية كتب فوكوياما مقالا مدويا ضد محاضرة كراوثمر حول "الواقعية الديمقراطية" لم يلق الاهتمام المناسب بفعل حمى الحملة الانتخابية الدائرة انذاك عنونه (غامزا من قناة محاضرة كراوثمر في سنة التسعين) "اللحظة النيومحافظة (The Neoconservative Moment)".و فيه أكد فوكوياما أولا على تمسكه بـ"المبادئ" الأساسية التي يجتمع حولها النيومحافظون و التي تشمل حتمية قيام السياسة الخارجية الأمريكية على "نشر الديمقراطية" (و هي النقطة الأساسية التي تقوم عليها أطروحته المشهورة حول "نهاية التاريخ"). و في المقابل وجه نقده لأطروحة كراوثمر وبقية النيومحافظين كما يلي: أولا، إذا كان على النيومحافظين إعتماد سياسة "واقعية" تتحسب جيدا في اختيار أهدافها كما ينادي بذلك كراوثمر فإن ذلك لم يحدث في الحالة العراقية حيث يلاحظ تصاعد المقاومة العراقية مقابل تراجع السيطرة الأمريكية: و هنا يعلن فوكوياما أنه كانت له منذ البداية "شكوكه" في علاقة بقرار الحرب على العراق بالرغم من مساندته العلنية له حيث رأى أنه ليس هناك فائدة من المعارضة في ظل تصميم البيت الأبيض على شن الحرب (؟!)؛ ثانيا، و هنا يحتاج القارئ للتركيز، يلاحظ فوكوياما أن التسرع في اتخاذ قرار الحرب على العراق لم يكن مبنيا على أساس المصالح العليا للولايات المتحدة بقدر ما كان مبنيا على تعلق غالبية المجموعة النيومحافظة بالمصالح الاسرائيلية، حيث خلطوا بين أعداء الولايات المتحدة (و هي منظمة القاعدة فقط بالنسبة له) و بين أعداء إسرائيل (منظمتي حماس و الجهاد أساسا) و هو ما جعلهم يتحدثون في العموم عن عدو هلامي يتمثل في التيار "الراديكالي الاسلامي" بدون تمييز و هو ما يهدد الدور المحايد الذي يمكن أن تلعبه في العملية السلمية و يُعقد المصالح الأمريكية في المنطقة؛ ثالثا، لا يرى فوكوياما، بعكس كراوثمر، أن معركة الولايات المتحدة ضد "الراديكالية الاسلامية" (مجسدة في منظمة القاعدة أو غيرها) هي معركة وجودية حيث لا يملك هؤلاء التأثير على وجود الولايات المتحدة مثلما كان الحال في علاقة بالاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، و هي ما يؤدي في النهاية الى تصخيم غير مبرر لهذا العدو يدفع باتجاهه مزيدا من المتعاطفين عوض محاصرته و عزله؛ رابعا، يُلاحظ أن إستبعاد الغطاء الدولي عن الحرب الأمريكية على العراق كان سياسة خاطئة تُبرز عدم واقعية صانعيها؛ خامسا، يُبدي فوكوياما الذي لاطالما أكد على كونية الاتجاه الديمقراطي في العالم أن بناء الديمقراطية في العراق هي مهمة "تقريبا لا يمكن تصورها" بفعل مجموعة من العناصر، و بالتالي فإن اخر مبررات الوجود العسكري الامريكي هناك لم تعد صالحة في رأيه.

كراوثمر رد بشكل فوري (و بعد حملة إعلامية تمهيدية في الصحف الأمريكية) على مقال فوكوياما و ذلك في العدد الأخير من الناشيونال انترست (خريف 2004) "دفاعا عن الواقعية الديمقراطية". و عموما أعاد تقديم أطروحته متهما فوكوياما بسوء فهمها حينا و بتأثره بـ"الخطاب المعادي للسامية" حينا اخر لأنه ينزع لـ"تهويد التيار النيومحافظ" و هي نزعة يراها تتزايد في الاونة الاخيرة. أخيرا يشير كراوثمر الى أن موقف فوكوياما في علاقة بمسألة "بناء الديمقراطية في العراق" يعكس نزعة عنصرية تجاه العرب، و هو ما حاول فوكوياما نفيه بشكل استباقي في مقاله أعلاه حيث وصف اراء كراوثمر حول "بناء الديمقراطية في العراق" بأنها متأثرة بمواقف أستاذ التاريخ الاسلامي برنارد لويس (Bernard Lewis) النيومحافظ المختص في المنطقة العربية و التي تتهم المشككين في دمقرطة العرب بأنهم يعكسون "شعورا عنصريا".

و هكذا في خضم النقاش الكراوثمري-الفوكويامي يظهر أخيرا الدكتور لويس كمدافع محب عن بناء الديمقراطية ليس في العراق فحسب بل أيضا في المنطقة العربية. إن هذا يحملنا الى النقطة الرئيسية الثانية و هي النقاش الخصوصي (أو نقاش المختصين؟) في الولايات المتحدة سواء الأوساط النيومحافظة أو غيرها من الأوساط المؤثرة في علاقة بمسألة "الديمقراطية الاسلامية": فكيف يرى "المختصون" مسألة العلاقة بين الثقافة الاسلامية المهيمنة في الأقطار العربية و مهام بناء الديمقراطية فيها؟ و هل أن دفاع "النيومحافظين" عن "ديمقراطية إسلامية" يعني الشيء نفسه بالنسبة لهم جميعا؟

2

بغض النظر عن كل ما ما يمكن أن يُقال حول المواقف السياسية للبروفيسور في "التاريخ الاسلامي" في جامعة برنستون برنارد لويس فإنه يوجد القليل من الشك حول حقيقة أنه ترك بصمات جدية في حقل الدراسات الأكاديمية الاسلامية و خاصة في علاقة بالدراسات العثمانية. أما ما إذا كان يستحق تسمية المعجبين به كـ"عميد دراسات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة" فذلك أمر لا يبدو أن هناك إجماعا حوله على الأقل من قبل المختصين الأكاديميين. و ترجع العلاقة بين لويس و النيومحافظين الى الفترة التأسيسية حيث كان المثقف الرئيسي الملازم لأول ناطق سياسي باسم هذا التيار و ذلك منذ بداية سبعينات القرن الماضي: هنري (سكوب) جاكسون. و كان الأساس الرئيسي لهذه العلاقة يقوم على الدفاع الحماسي من قبلهما على المصالح الاسرائيلية حيث ساهما في تأسيس اللوبي الاسرائيلي في الولايات المتحدة بمؤسساته القوية المعروفة اليوم. و من الواضح أن لويس قد تحول منذ فترة الى شخصية عامة بشكل غير مسبوق حيث استثمر رأسماله الأكاديمي في مشروع سياسي محدد و هو المشروع النيومحافظ ليس من ناحية المحتوى فحسب بل من خلال الشكل أيضا: فالحلم الشتراوسي الذي لاطالما ردده ارفنغ كريستول و المتمثل في صناعة المثقف الميكيافيلي الذي يُسير الأمير يجد أحد أبرز تجسيداته في المشهد الراهن في شخص برنارد لويس. و كانت صحف أمريكية عديدة قد أشارت بُعيد أحداث 11 سبتمبر الى قيام لويس بمحاضرات غير رسمية في شكل حفلات عشاء بحضور المسؤولين الأمريكيين الكبار بما في ذلك الرئيس بوش و ديك تشيني و بول وولفويتز ركز فيها على مقولة أساسية يواصل الأخير ترديدها: فرصة بناء دولة ديمقراطية على الشاكلة التركية-الكمالية في العراق. و قد أكد لويس هذا الموقف من خلال سلسلة من المقالات و الكتب نشرها منذ 11 سبتمبر الى الان. و تتمثل نظرته بشكل عام في أن المؤسسة الدينية في ذاتها لم تلعب دورا سياسيا مباشرا خلال التاريخ الاسلامي غير أن البناء الديمقراطي في العالم الاسلامي يحتاج الى اتباع النموذج الغربي القاضي بالفصل الحاسم بين الدين و السياسة. و في الواقع تقوم هذه الرؤية على مسلمات أساسية أهمها أن التاريخ تطوري يسير في اتجاه واحد: فالمسيرة الديمقراطية للـ"الغرب" (و بالمناسبة "الغرب" بالنسبة للويس يبدو كتلة واحدة) هي مسيرة تهم البشرية و لذلك يعتبر لويس أن المسلمين الان يقفون على أعتاب القرن السادس عشر حيث بدأ مسار التفاوت الكبير بينهم و بين الغرب ز هو ما يعني أنهم متأخرين بـ"خمسة قرون" ليس عن الغرب فحسب بل أيضا عن شعوب لاطالما تجاهلها المسلمون (اسيا)؛ و لهذا يرى أن عليهم القيام بحركة مماثل لحركة "الاصلاح البروتستاني" التي تمت في القرن السادس عشر حت يمكن لهم المرور الى مرحلة أكثر تقدما. و في هذا الاطار يقدم لويس شرحه لظاهرة الاسلام السياسي و "الارهاب الاسلامي" و التي يراها استمرارا لظاهرة النظرة التكفيرية من قبل المسلمين للغرب المسيحي و للنوايا التوسعية القائمة على فكرة "الفتح"؛ حيث ينتهي الى أن السبب الرئيسي من وراء ظاهرة "التشنج الاسلامي" هي الهزيمة الحضارية تجاه غرب يعرف المسلمون أنه متفوق عليهم ماديا و لهذا فإن "الصدام الحضاري" مسألة حتمية. و علينا أن نشير هنا أن هذه المواقف و بهذا الوضوح ترجع في أقل الأحوال الى سلسلة مقالات كتبها لويس في بداية التسعينات حيث كان أول من استعمل مصطلح "صدام الحضارات" و كان صاموئيل هنتينغتون قد اعترف بتأثره الكبير برؤى لويس عند صياغة نظرية الشهيرة و التي أطلق عليها نفس التسمية. و بالاضافة الى ذلك لدى لويس تلاميذ مباشرين متفاوتي الأهمية يعبرون عن ارائه في الوقت الراهن: المؤرخ البارز مارتن كرامر و "الباحث" (المتواضع حقا رغم ضوضائيته) دانيال بايبس و "المستعرب" العراقي فؤاد عجمي و الذي يبدو أنه بدأ التخلي عن اراء لويس.

و لكن الأشهر الأخيرة شهدت تركيزا متزايدا على مواقف لويس و تصاعد دوره كشخصة عامة تتعرض الى النقد السياسي في ظل تصاعد الاحتمالات بأن الحالة الوحيدة التي يمكن أن تقام فيها انتخابات في بعض أجزاء العراق في ظل الاحتلال الراهن هي تلك التي تقوم بالتعاون مع المؤسسة الشيعية الدينية في النجف و تحديدا مرجعية اية الله السيستاني و هو ما يعني فرضية قيام "ديمقراطية" بحماية المؤسسة الثيوقراطية. و طبعا يُعتبر ذلك على النقيض من المواقف التي درسها لويس لتلاميذه النيومحافظين في علاقة بـ"الشرق الأوسط" و التي تركز على ضرورة بناء فصل كلاسيكي بين الدولة و الدين لنجاح النموذج الديمقراطي. ففي مقال مطول لصحفي النيوزويك مايكل هيرش في نشرية واشنطن مونثلي (The Washington Monthly) في العدد الأخير (نوفمبر 2004) يتبين أن لويس مازال مصرا على موقفه من إمكانية تأسيس دولة علمانية على الشاكلة الأتاتوركية في العراق و هو الأمر الذي يسخر منه هيرش و يعرض في المقابل اراء باحثين مرموقين من المختصين الأمريكيين في تاريخ المنطقة العربية الاسلامية (ريتشارد بولليات من جامعة كولومبيا و جون وودس من جامعة شيكاغو) و الذين يركزو ن على تركيز لويس على النموذج العثماني-التركي و تجاهله خصوصيات المنطقة العربية و التي لعبت فيها المؤسسة الدينية في أحيان كثيرة دورا حمائيا لصالح المجتمعات المحلية تجاه استبداد السلطة السياسية و هو ما يؤهلها للعب دور إيجابي في إطار البناء المؤسساتي. كما يشير هؤلاء الى قفز لويس على واقع الاستعمار الغربي في تحليله لظاهرة "التسنج الاسلامي" و ينتهي هؤلاء الى أن التيار الاسلامي يمكن أن يكون أداة أساسية لتحقيق المؤسسات الديمقراطية حيث أنه وحده يتمتع بشرعية شعبية في الواقع العربي الراهن. و بالرغم من اعتراف هؤلاء بأن هذه التيارات تتميز بعدائها المتفاوت للغرب فإنهم يرون مرحلة حكم إسلامي ضرورية من الناحية التاريخية حيث يحتاج العرب الى تفريغ الشحنة الرومنسية للاسلام حتى يتم الانتقال الى رؤية أكثر واقعية تتفهم محدودية الحل الديني و استشهدوا في هذا الاطار بالمثال الأيراني حيث بقدر ما كانت الثورة الاسلامية مشروعة من النواحي السياسية و الشعبية فقد فشلت في الحفاظ على الثقة الشعبية و هو ما أدى الى بروز وجوه إصلاحية قوية من داخل الاسلام الثوري. و قد عبر الباحث البريطاني-الهولندي ايان بوروما عن نقد مماثل للويس في مقالاته الأخيرة (النيويوركر في عدد 14-21 جوان 2004 و النيويورك تايمز ماغازين في عدد 4 ديسمبر 2004) و التي أكد فيها الاراء السابقة (بالرغم من أنه يحمل نفس الرؤية التعميمية للغرب كما يبدو في كتابه الصادر هذا العام و المعنون "الاستغراب: الغرب في عيون أعدائه").

و في الواقع لا ينتمي هؤلاء الباحثين الى التيار النيومحافظ. و لكن المثير أن هناك تقاطعا بين الأطروحة الرئيسية في مجموع أفكارهم و إعتقاد متصاعد لدى مختصين اخرين و من جيل جديد تماما من داخل التيار النيومحافظ و التي تتمثل في أن "الديمقراطية الاسلامية" لا يمكن أن تُبنى على الأرجح دون المشاركة القوية للتيار الذي يحظى بالشعبية في الشارع العربي أي التيار الاسلامي. و من الشخصيات المحورية المقربة من أوساط القرار التابعة للتيار النيومحافظ و خاصة البنتاغون (حيث تم تعيينه ضمن إدارة الاحتلال في فترة بول بريمر للمشاركة في تحرير دستور عراقي جديد) هو أستاذ القانون الدستوري في جامعة نيويورك نوح فلدمان (Noah Feldman) و الذي يدافع بوضوح و من دون مواربة، سواء في مؤلفيه الأخيرين "ما بعد الجهاد" (و هو في الاصل جزء من أطروحة دكتوراة في القانون الدستوري الاسلامي) و أخيرا "ماذا ندين للعراق" او في مقالاته و لقاءاته التلفزيونية عن ضرورة إقحام الاسلاميين المعتدلين في العملية السياسية و من ثمة العمل على بناء ديمقراطيات عربية ذات مصداقية. و قد تعرض فلدمان في مقابل ذلك الى انتقادات عنيفة من قبل المقربين من برنارد لويس (خاصة من قبل مارتن كرامر). و بالاضافة الى فلدمان فإن الباحثة في الشؤون الاسلامية شيريل بينارد (Cheryl Benard) و هي زوجة أحد أقطاب سياسيي التيار النيومحافظ زلماي خليلزاده قد أصدرت في إطار بحوث مركز الراند المقرب من وزارة الدفاع الأمريكية دراسة في بداية السنة الماضية تحدد فيها مجموعة من النقاط تصب في أهمية إيجاد حلفاء من التيار الاسلامي لبناء الديمقراطية في العالم الاسلام و من أهم ما تعرضت إليه: محدودية التيار العلماني العربي بفعل السيطرة الاسلامية على الشارع العربي و هو ما يعني عدم جدوى التعويل عليه في بناء المؤسسات الديمقراطية؛ تنوع التيارات الاسلامية و أهمية العمل مع بعض المعتدلين فيها ضد البعض الاخر (خاصة ما تسميه "السلفية الجهادية") كسبيل لتحقيق مجتمع مدني ينبني على قوى حيوية. و اخر من انضم الى أنصار هذه الرؤية من داخل التيار النيومحافظ هو المحلل السابق في المخابرات المركزية الأمريكية (1985-1994) و المتحصل على شهادة عليا في التاريخ الاسلامي من جامعة برنستون رويل مارك قيريشت (Reuel Marc Gerecht) و الذي يُعتبر من أكثر الوجوه النشيطة في مركز الدراسات النيومحافظ "معهد المؤسسة الأمريكية للسياسة العامة" (AEI). و بعد سلسلة من المقالات بدأ نشرها منذ بداية العام الماضي أصدر أخيرا (نوفمبر 2004) تقريرا هاما كتبه على ما يبدو في إطار زيارات تقصي إستخبارية قام بها الى العراق (يشير الى لقاءات مباشرة قام بها مع عدد من الشيوخ الشيعة و السنة) نشره المعهد أعلاه بعنوان "المفارقة الاسلامية" و الذي انتقد فيه الادارة الأمريكية لتجاهلها خصوصيات المنطقة العربية و العراق حيث يرى أنها لم تسارع بالتعاون مع اية الله السيستاني بفعل وجود تيار قوي داخل الادارة الأمريكية يفضل حكومة علمانية (و هو ما أدى الى اختيار إياد علاوي و الذي يعتبره خيارا خاطئا). و عموما يدافع قيريشت عن التيارات الدينية الشيعية كالحليف الوحيد الذي يمكن التعويل عليه لـ"بناء الديمقراطية في العراق". كما أنه يرى في الاسلاميين غير القاعديين في مجمل الأقطار العربية (الاخوان المسلمين في مصر و جبهة الانقاذ في الجزائر خاصة) القوة الرئيسية التي يمكن ان تساهم في تحقيق تغيير ديمقراطي واقعي. حيث يكرر رؤى بولليات المذكورة أعلاه و التي تتحدث عن ضرورة إفراغ الاسلاميين من الشحنة العاطفية التي يمسكون عبرها بالشارع من خلال وضعهم على محك الواقع مثلما هو الحال في إيران. يُضاف الى هذه الاراء العلاقة القوية بين الادارة الأمريكية الحالية و مراكز دراسات (مثل سابان و الناشيونال ايندومانت) أشرفت خلال السنة الماضية على ندوات (القاهرة و الدوحة) أشركت تيارات إسلامية و دافعت عن ضرورة مشاركتهم في العملية الديمقراطية في بلدانهم.

و هكذا فإن النزاع داخل التيار النيومحافظ يتزايد بتعمق مأزق الاحتلال في العراق. و لكنه أيضا يكشف عن المخاطر الكبيرة على النظام العربي الرسمي الضعيف أصلا التي يمكن أن تنتج عن الانخراط الأمريكي الفعلي في تسيير الشأن الداخلي العربي و الذي وضع الولايات المتحدة في احتكاك مباشر مع حقائق لاطالما حاولت تجاهلها: و هي المفارقة المتمثلة في ضرورة حل المشكل الديمقراطي مقابل تفادي إعتلاء أعدائها السلطة. و عموما يبدو أن التيار "الكوني الديمقراطي" (و بدرجة ثانية "الواقعي الديمقراطي") بصدد الاستجابة على الأقل في الحالة العراقية الى اراء جيل جديد من المستعربين يؤمنون بأهمية التعويل على القوى الاسلامية في مسألة "البناء الديمقراطي" بعكس المدرسة التقليدية لبرنارد لويس و التي لاتزال تؤمن بحل من زمان اخر يتمثل في خيار علماني عربي على مثال نموذج تركيا الكمالية خلال بداية القرن الماضي. غير أن المثال العراقي هو بالتأكيد نموذج عبثي بالنسبة للأسلوب المخبري الذي يعتمده أقطاب النيومحافظين، حيث لا يمكن للديمقراطية أن تُقام إلا على أساس قوى نظيفة تستمد شعبيتها ليس من مشاعر دينية مجردة بل من الحيوية النضالية للدين؛ و بالنسبة للحالة العراقية فإن الحيوية النضالية لا تتحقق إلا على أساس مبدأ مقاومة الاحتلال. في المقابل فإن التشخيص النيومحافظ المتزايد للواقع العربي عامة على أنه يعاني من حالة استبدادية و أن التخلص من ذلك الاستبداد غير ممكن من دون مشاركة قوى شعبية مثل منظمات الاسلام السياسي المعتدلة هو في المجمل تشخيص صحيح. المفارقة كما يجب أن يعرف الأمريكيون أن شعبية هؤلاء مستمدة جزئيا من تعبيرها عن العداء الشعبي لما يُنظر له على أنه "المشروع السياسي" للولايات المتحدة. نحتاج في النهاية الى إبداء ملاحظة أخيرة في علاقة بما يسمى بـ"الليبراليين العرب" و الذين يُقدمون أنفسهم—بشكل هستيري—على أنهم التيار العلماني العربي الذي يتطوع لتبنى المشروع الأمريكي في المنطقة. و في الواقع فإن الحالة المأساوية لهؤلاء (و هم غالبا ناشطين يساريين في السابق أعادو تعريف أنفسهم بشكل حصري على قاعدة "النضال ضد الظلامية الدينية") كطرف هامشي في المعادلة السياسية الواقعية يجعل "مشروعهم" الأمريكي بالذات غير قادر على إستيعابهم. و طبعا لا يمكن لأي كان أن يتمنى لأي طرف سياسي مصيرا كاريكاتوريا بهذه الدرجة.

صحيفة القدس العربي 11/12 ديسمبر (كانون الأول) 2004