Monday, February 28, 2005

في التطبيع و ميكيافيلية الدولة الوطنية في المغرب العربي


عرض لكتاب "إسرائيل و بلاد المغرب": في التطبيع و ميكيافيلية الدولة الوطنية في المغرب العربي

الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية

المشكل

بالرغم من استمرار الصراع العربي الاسرائيلي فإن طوله الكرونولوجي قد سمح ليس فقط بتجمع كم أرشيفي هائل بل أيضا بمرور الزمن الكافي لرفع السرية عن عدد هام من الوثائق التي لم تكن معروفة. و باستثناء الأرشيف الحكومي العربي (و هو لا يحوي على كل حال على تسجيل لكل الوقائع) و الذي لا يتضمن تراتيب واضحة تضبط المدة اللازمة لرفع السرية عن الوثائق الحساسة فإن باقي مراكز الأرشيف الدولية قد بدأت منذ حقبة الثمانينات و خاصة التسعينات برفع الحجر عن مصادر هامة تساعد على الـتأريخ أو في أقل الأحوال توفير حد أدنى من المعطيات التي لم يكن ممكنا في السابق الاطلاع عليها و هو ما يتعلق خاصة بالفترة الأكثر التصاقا الى الراهن السياسي العربي أي مرحلة النصف قرن الماضي من حياة الدول القطرية/الوطنية العربية. و إذا كان الموضوع لا يزال في حاجة الى تحيين ضروري على المستوى العربي عامة فإن منطقة المغرب العربي بفعل بعدها الظاهري عن المجال الجغرافي الأكثر سخونة للصراع العربي الاسرائيلي قد بقيت متوارية في تلك الصورة، تقبع خلف "اللاعبين الاقليميين الرئيسيين" و هو ما يجعلها تحتاج بالتأكيد الى إهتمام أكبر. فهل كانت هذه المنطقة فعلا متوارية سياسيا و استراتيجيا بتناسب مع تواريها الجغرافي؟

يجيب الكتاب الذي يشكل محور عرضي النقدي هذا، و لو جزئيا، على هذا السؤال. و بالرغم من كل ما يمكن أن يمثله إنتماء مؤلفه الإسرائيلي و رؤيته الصهيونية في الأساس من حدود بديهية تقلل من الشروط الموضوعية للبحث الأكاديمي التاريخي فإننا سنتعامل معه من زاوية ما يمكن أن يوفره من معطيات إخبارية يمكن أن تلقي ضوءا مختلفا على بعض الأحداث المعروفة أو ضوءا جديدا يكشف عن أحداث لم تكن معروفة. و في هذا الاطار يتوفر الكتاب على معطيات كافية تساعد على التوصل الى ثلاث أفكار أساسية. أولا يدفع الى الكف عن النظر الى الأقطار المغاربية على أنها مستنكفة عن الخوض في موضوع الصراع العربي الاسرائيلي، مستغرقة في محيطها الاقليمي أو غير مبالية بما يحدث في "قلب الصراع". ثانيا يحث على التوقف عن النظر الى الأنظمة الحاكمة من زوايا قيمية و إطلاقية من نوع إما أبيض و إما أسود: إما "وطنية" و "وفية" (فيما يتعلق بالنظامين الجزائري و الليبي) و إما "عميلة" و "خائنة" (و هي التهم التي ما تُثار عادة في علاقة بالنظامين المغربي و التونسي). حيث تقدم الوثائق الأرشيفية الجديدة الخام (الوصفية في الأغلب) صورة أكثر واقعية تقرب الهوة بين هذه الأنظمة و توضح طبيعتها الميكيافيلية و التي تمثل نقطتها المشتركة البديهية. ثالثا، و فيي المقابل، توضح الكثير من المعطيات أن عددا من الشعارات القومية و الوطنية كانت بالتأكيد (و لا تزال) صحيحة و لا تعبر عن أوهام أو تحليلات تامرية، و خاصة تلك المتعلقة بتقييم السياسة الاسرائيلية التي تعتمد التطبيع لـ"تخريب"، كما جاء بشكل صريح في أحد الوثائق الاسرائيلية، "جهود الوحدة العربية".

الكتاب

تخصص المؤرخ و أستاذ جامعة بار إيلان الاسرائيلي (المتحدر من عائلة يهودية مغربية) مايكل لاسكيار (Michael Laskier) منذ بداية الثمانينات في كتابة البحوث حول موضوع محدد: العلاقات بين "بلاد المغرب" (بالتعريف الفرنسي المحدد فقط في أقطار تونس و الجزائر و المغرب) و إسرائيل. و من الممكن إعتبار باكورة بحوثه كتابه الذي صدر أخيرا في سنة 2004 عن دار النشر التابعة لجامعة ولاية فلوريدا و المعنون "إسرائيل و بلاد المغرب: من إقامة الدولة الى أوسلو" (Israel and the Maghreb: From Statehood to Oslo). و من المؤكد أن هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها التعرض الى هذا الموضوع. فبخلاف التقارير الصحفية التي تظهر في بعض المنعطفات السياسية توجد بحوث ذات طابع أكاديمي مماثل لمقالات لاسكيار و يتعلق الأمر على سبيل المثال بمؤرخ اسرائيلي اخر يدرس الان في كلية سلاح الجو الأمريكي يعقوب أبادي (Jacob Abadi) و الذي نشر في أواسط التسعينات مقالات مهمة عن علاقة الأقطار المغاربية بإسرائيل.

و لكن تتميز أعمال لاسكيار بتفردها من حيث الاعتماد على وثائق من الأرشيف السري الاسرائيلي تم رفع السرية عنها تدريجيا و ذلك منذ بداية التسعينات عندما بدأ في تأليف كتابه و الذي نشره في الواقع بشكل متقطع في مؤلفاته السابقة و في عدد من الدوريات الدولية و خاصة في الولايات المتحدة و أشير هنا مثلا الى مقال كان قد نشره سنة 2000 في نشرية ميدل ايست ريفيو اوف انترناشيونال أفيرز، الدورية الأمريكية المتخصصة في الشأن السياسي العربي الاسلامي و التي يشرف عليها اللوبي الاسرائيلي في الولايات المتحدة، و هو بالمناسبة متوفر على الموقع الالكتروني لهذه الدورية لمن يتعذر عليه قراءة الكتاب و يرغب في قراءة تلخيص عام لما جاء فيه. و بالاضافة الى وثائق سرية سابقا محفوظة في الولايات المتحدة و فرنسا تتمثل أهم مصادر لاسكيار في مجموعة من الوثائق السرية المحفوظة إما في مراكز الأرشيف الرسمية الاسرائيلية مثل أرشيف وزارة الخارجية أو في مراكز أرشيفية تتبع أساسا لمنظمات غير حكومية مثل "الارشيف المركزي الصهيوني" في القدس المحتلة و هي تتعلق أساسا بوثائق ترجع للفترة القائمة بين خمسينات و بداية سبعينات القرن الماضي و صادرة إما عن مؤسسات اسرائيلية رسمية مثل وزارة الخارجية الاسرائيلية او مؤسسات مرتبطة باسرائيل مثل "المؤتمر اليهودي العالمي". كما اعتمد الكاتب ضمن مصادره تقارير لشخصيات رئيسية شاركت في أحداث تتعلق بالفترة الزمنية الخاصة بالوثائق سابقة الذكر، و يتعلق الأمر مثلا بتقارير كتبها ألكس ايسترمن (Alex Easterman) مدير المكتب السياسي لـ "الموتمر اليهودي العالمي" المتركز في لندن عن حوارات و مقابلات أجراها مع مسؤولين مغاربة (الوزير الأول مبارك البكاي سنة 1956 في باريس) و تونسيين (الرئيس بورقيبة و وزير الخارجية بورقيبة الابن سنة 1966 في تونس) و التي نشرها كاملة ضمن ملحق خاص.

و في الوقت الذي قسم فيه المؤلف كتابه الى سبعة فصول فإنه يعالج فيه أربعة محاور أساسية أشار اليها في المقدمة، و تتمثل في : أولا، مختلف الانعكاسات السياسية الناتجة عن وقائع أساسية مثل هجرة اليهود المغاربيين الى إسرائيل و الصراع العربي الاسرائيلي. ثانيا، الانخراط الاسرائيلي في الأوضاع الداخلية لبلاد المغرب. ثالثا، "الدور الريادي" الذي قام بها قادة مغاربيون لإيجاد حل سلمي للصراع العربي الاسرائيلي. رابعا، أهمية دور الأقلية اليهودية المغاربية (و خاصة في المغرب الأقصى) في توفير قنوات اتصال سرية بين إسرائيل و أقطار المغرب.

مفارقات التقارب و الصراع

في سنة 1965 صرح وزير الخارجية الاسرائيلي ليفي أشكول في خطاب بالكنيست "احفضوا نصيحتي: لا تعلقوا أهمية زائدة على ما يسمى بالقادة العرب المعتدلين". كانت الشكوك الاسرائيلية تجاه ما يُقدم الان على أنهم قادة "معتدلين" أو "متعاونين" مع اسرائيل قوية، و يشمل ذلك بالنسبة لبلاد المغرب الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة و العاهل المغربي الحسن الثاني. و من أهم أسباب التشاؤم الاسرائيلي تجاه هؤلاء حرصهم الكبير على عدم التورط العلني في أي علاقة بإسرائيل بالرغم من استعدادهم لعقد لقاءات على أعلى مستوى بالمسؤولين الاسرائيليين. و هكذا فأمام المطلب الاسرائيلي المستمر بالكشف عن هذه العلاقات الخلفية فإن تونس و المغرب حرصتا بشكل فائق و بإلحاح على الطابع السري لأي علاقة بالدولة العبرية. لقد كان هناك توافق تونسي مغربي (بشكل عفوي أم واعي؟) على هذه السياسة و التي ميزت التطورات اللاحقة و الراهنة حيث يحرص كل منهما على اتباع نفس التوجه و القاضي بالامتناع عن اتخاذ أية خطوات تبدو مخالفة للـ"إجماع العربي" الرسمي، و لا يتوقف ذلك على مرحلة المد القومي بل يتعداه للمرحلة الراهنة. و ضمن هذا الاطار يجب فهم ملاحظة أشكول أعلاه: ففي حين أن أهم الفوائد السياسية لتلك اللقاءات من وجهة النظر الاسرائيلية تكمن تحديدا في "كسر حصار" دول الطوق فان تلك الفائدة لم تتحقق عمليا لأنها ببساطة غير مرئية. حيث أن ما يكفل حقا كسر الطوق الأثر الإعلامي بالذات لمثل تلك اللقاءات و ليس حدوثها فحسب.

و هكذا حتى في مراحل التقارب و الحوار المباشر حرص، على سبيل المثال، المسؤولين المغاربة على إبقاء أي محادثات مع الاسرائيليين طي الكتمان. و علي سبيل المثال أكد الوزير الأول لمغربي البكاي في لقائه مع ايسترمن سنة 1956 (و الذي خصص لترتيب لقاء بين الملك محمد الخامس و السفير الاسرائيلي في فرنسا) على السرية المطلقة لأية محادثات تجري بين الطرفين. و هو ما حدث كذلك في أول لقاء للحسن الثاني عندما كان وليا للعهد في سنة 1960 (حيث التقى في الرباط بوفد إسرائيلي لمناقشة مسألة تهجير اليهود المغاربة الى إسرائيل) عندما افتتح اللقاء بتحذير شديد من أن أي تسريب لخبر اللقاء سيدفعه لـ"اتخاذ قرار بالامتناع الكلي عن أي لقاء في المستقبل". كما اضطر ايسترمن للبقاء حبيس غرفته في أحد فنادق العاصمة التونسية في زيارة سنة 1966 دعاه إليها الرئيس بورقيبة حيث ماطله الرئيس قبل لقائه في سرية مطلقة حيث تم تكرار رغبة الرئيس التونسي في الحفاظ على المحادثات في إطار من السرية الكاملة و هو ما اضطر ايسترمن لتقديم ضمانات واضحة في هذا الشأن. و هكذا كان حال التقارب المخفي بين الطرفين منذ بدايته أي منذ بداية الخمسينات. و بشكل عام كان ذلك التقارب شديد الخفاء حتى يفعل أثره.

من جهة أخرى تخللت حالات التقارب تلك حالات من الصراع الصريح. تجسم ذلك مثلا في الحالة المغربية في إطار تأثيرات النشاط الصهيوني في المغرب الأقصى من أجل تهجير اليهود المغاربة الى إسرائيل و هو ما ميز خاصة المرحلة الفاصلة بين سنتي 1956 و 1961. حيث عارض المخزن بما في ذلك الحكومة الجديدة بكل تنوعاتها السياسية بكل قوة سياسة التهجير الاسرائيلية و ذلك لعدة أسباب منها عدم الظهور بمظهر الخارج عن الاجماع العربي المعارض لهجرة اليهود العرب الى إسرائيل و لكن أيضا الحرص على الابقاء على رؤوس الأموال اليهودية ضمن الدورة الاقتصادية المغربية خاصة في تلك المرحلة المبكرة من الاستقلال. و فشلت في هذا الاطار المحادثات التي وقعت بين عبد الرحمان بوعبيد نائب الوزير الأول المغربي و ايسترمن في المغرب سنة 1959 عندما حاول "المؤتمر اليهودي العالمي" التحكم في عملية التهجير و الضغط على الحكومة المغربية لمنح جوازات سفر لليهود المغاربة للذهاب الى إسرائيل. و قد التقت مختلف الحساسيات السياسية ضمن حزب الاستقلال (أي رئيسيا تياري المهدي بن بركة و علالة الفاسي) و ذلك بدعم من مؤسسة المخزن في رفض “التدخل الاسرائيلي السافر” و اتخاذ إجراءات مشددة لمحاصرة محاولات الحركة الصهيونية للقيام بعمليات تهجير غير مشروعة. و هكذا كان الموقف شديد الغموض يتراوح بين الاستعداد للتحادث و اللقاء (و بالتالي عدم استعداء الطرف الاسرائيلي بشكل مطلق) مقابل الامتناع عن قبول المطالب الاسرائيلية و ذلك استجابة للموقف العربي الرسمي المشترك و لكن أيضا لأسباب داخلية خاصة بمصالح الدولة القطرية/الوطنية أساسا.

في المقابل كانت الثورة الجزائرية و دولة الاستقلال الناشئة عنها في حالة تعارض كبير مع إسرائيل خارجة في الأغلب عن الخيار الجزائري. حيث دخل الاسرائيليون في تحالف استراتيجي مع فرنسا (في إطار ظروف و استتباعات العدوان الثلاثي) جعلهم ليس في موقع دعم سياسي فحسب للجهود الفرنسية لقمع الحرب الشعبية المتصاعدة بل أيضا في موقع التورط العسكري المباشر حيث تشير الوثائق الى اتفاق فرنسي اسرائيلي يتعهد وفقه الاسرائيليون بالانخراط في الجهود الاستخبارية في أوروبا لاعتراض عمليات تهريب السلاح للثوار الجزائريين مقابل توزيد الفرنسيين للدولة العبرية بأحدث الدبابات و الطائرات الفرنسية. و تعمقت أسباب الصراع الجزائري الاسرائيلي عندما اكتشف الجزائريون أنه خلال الأشهر القليلة التي سبقت تسلمهم السلطة (أي قبيل يوليو (جويلية) 1962) قام الفرنسيون و بمشاركة إسرائيلية مباشرة بعملية تهجير واسعة ليهود مدينة غرداية و هو ما انضاف على الدلائل السابقة للتنسيق المباشر بين الفرنسيين و الاسرائيليين في سياسة التهجير هذه حيث سبق لجبهة التحرير أن اعتقلت و أعدمت مبعوثين اسرائيليين مشرفين على عمليات التهجير سنة 1958. و لكن حتى في الحالة الجزائرية لم يكن هذا الصراع غياب أية قنوات اتصال بين الطرفين. فحتى خلال الثورة كان يوجد جناح مستعد للتوافق مع الاسرائيليين و هو ما عبر عنه قيادي جبهة التحرير فرحات عباس في خطابه في الأمم المتحدة سنة 1957 عندما رحب بهجرة اليهود الجزائريين الى إسرائيل. غير أن أحد أهم الشخصيات المثيرة للجدل في علاقة بقنوات مبكرة بين الاسرائيليين و قيادات جبهة التحرير كانت من خلال عبد الرزاق عبد القادر أحد حفداء الأمير عبد القادر و أحد ممثلي التيار اليساري في صفوف الجبهة، و الذي التحق بصفوف الجبهة سنة 1954 بعد ان تزوج اسرائيلية (من أصل بولوني) من "اليسار الاسرائيلي" و أقام معها في أحد المستوطنات الاسرائيلية. و قد شغل في فترة أولى ممثل الجبهة في ألمانيا الغربية و سويسرا و هي الفترة التي نشر فيها مؤلفا دعى فيه بوضوح لتركيز الجبهة على دعم العلاقة مع إسرائيل عوض التعويل على البعد العربي للثورة. و قد أرسى عبد القادر أولى الاتصالات المباشرة بين بعض قيادات الجبهة و المسؤولين الاسرائيليين و ذلك في ربيع سنة 1962. و لكن كان من الواضح أن هذا التيار كان ضعيفا حيث تعرض عبد القادر الى السجن سنة 1963 ثم النفي سنة 1964 (المثير أن عبد القادر توفي في التسعينات في إسرائيل بعد أن أصبحت له هوية و اسم إسرائيليين).

التطبيع و مصالح الدولة الوطنية

كانت مرحلة التأسيس للدولة القطرية/الوطنية المدخل الرئيسي للطرف الاسرائيلي الى منطقة المغرب. حيث كان هناك استعداد متبادل للتوافق على دعم اسرائيلي لمطلب الاستقلال الوطني مقابل التعهد بالمساهمة في الدفع عربيا نحو الاعتراف باسرائيل و تسهيل الهجرة اليهودية. و كما أشرت أعلاه فقد برزت هذه الرؤية حتى ضمن صفوف الثورة الجزائرية بالرغم من كل أسباب الصراع. فقد لعبت لجنة من "اليسار الاسرائيلي" لدعم "جزائر حرة" دورا مهما في خلق قنوات مبكرة مع بعض الناشطين الجزائريين في أوروبا. و قد تدعمت هذه الاتصالات مع "اليسار الاسرائيلي" من خلال اللقاءات التي قامت بها "الحكومة الجزائرية المؤقتة" (ممثلة في أشخاص الوزراء بلقاسم كريم و محمد يزيد) و المتمركزة في تونس مع بعض وجوه هذا التيار و المتمحورة حول المطالب الجزائرية من إسرائيل للتخلي عن دعم الموقف الفرنسي. و تجلى الدخول الاسرائيلي الى الجزائر خلال دولة الاستقلال من خلال المعارضة في ظل دعم حكومتي بن بلا و بومدين للمقاومة الفلسطينية. حيث تكشف الوثائق في هذا الاطار تورط بلقاسم كريم عندما كان يقود تنظيما معارضا من المغرب في السنوات الستين علاقات مع الأجهزة الاستخبارية الاسرائيلية. و من المرجح أن للرئيس الحبيب بورقيبة دورا هاما في هذه المبادرات حيث تذكر بالاتصالات التونسية الاسرائيلية الاولى في نيويورك بداية الخمسينات و ذلك في اتجاه كسب دعم اسرائيلي لمطلب الاستقلال.

قد بدأت هذه الاتصالات تحديدا منذ 25 يونيو (جوان) 1952 من خلال لقاء أحد ممثلي الحزب الحر الدستوري الجديد الباهي الادغم في نيويورك بممثل اسرائيل في الامم المتحدة انذاك و التي قام خلالها المبعوث التونسي بـ"طلب الدعم الاسرائيلي" لمطلب الاستقلال التونسي، كما اكد الباهي الادغم في نفس اللقاء ان حزب الدستور لم يكن وراء الهجمات "المعادية لليهود" في تونس انذاك. و بشكل متزامن دعى بورقيبة في حوار مع صحيفة لوموند الفرنسية في جوان 1952 الى ضرورة قيام الاطراف العربية بتسوية سياسية مع اسرائيل. و اكد نفس الرؤية حين وجوده بالمنفي ضمن المجال الفرنسي سنة 1954 في لقاء مع ايسترمن. و من المثير ان الطرف الاسرائيلي –اكثر ربما من الطرف التونسي— كان مترددا في إعلان هذه العلاقات لتجنب إغضاب سلطات الاحتلال الفرنسي. و تأتي في هذا الاطار اللقاءات بين أحمد بن صالح زعيم المنظمة النقابية التونسية و أحد قادة حزب الدستور مع زعيم الهستدروت الاسرائيلي كوهين-حضرية في إطار اجتماعات المنظمة النقابية الدولية السيزل حيث طلب المسؤول التونسي دعم المنظمة النقابية الاسرائيلية المطلب التونسي بتنظيم مؤتمر السيزل لسنة 1957 في تونس مقابل السماح بمشاركة وفد اسرائيلي في المؤتمر.

المثير في الأمر أنه في الوقت الذي كان فيه بعض الوطنيين التونسيين مستعدين لتجاهل الظرف القومي المميز بالصراع مع إسرائيل أملا في دعم إسرائيلي للاستقلال القطري/الوطني كان الاسرائيليون يحظون بعلاقة مميزة مع الفرنسيين جعلتهم يتمتعون بتسهيلات كبيرة داخل تونس يصعب التفكير أنهم كانوا على استعداد للمساعدة على تعريضها لمخاطرة انتقال السلطة في تونس لتيار وطني يعبر عن السكان العرب للبلاد. و من أهم ما تكشفه الوثائق الاسرائيلية الشبكة الواسعة داخل تونس لفرع التهجير التابع للموساد الاسرائيلي و التي كانت تنشط (بعلم السلطات الاستعمارية الفرنسية) على شكل واسع خاصة في الفترة الممتدة بين 1949 و 1956. و قد قام فرع الموساد هذا بتنظيم عملية تهجير حوالي 6200 يهودي الى إسرائيل خلال تلك الفترة. و لكن إضافة الى ذلك تجاوزت مهمات الاستخبارات الاسرائيلية في تونس مسألة التهجير حيث بادرت الى تنظيم خلايا مسلحة للـ "الدفاع الذاتي" (تخوفا من "العنف المتأتي من تصاعد الحركة الوطنية") في الأحياء اليهودية خاصة في مدينة تونس و جزيرة جربة و لكن أيضا في بقية المدن التونسية مثل قابس و صفاقس. و تواصل وجود هذه الخلايا حتى بعد الاستقلال سنة 1956 و كانت تحت إشراف ضباط من الموساد تم إرسالهم خصيصا من إسرائيل. و بعد سنة 1955 توسعت هذه الشبكة لتشمل بقية أقطار المغرب و خاصة المغرب الأقصى و أصبح ضابط الموساد المشرف عليها يقود أنشطتها من باريس.

و قد شهدت العلاقات الإسرائيلية المغربية قبل الاستقلال وضعا مختلفا بعض الشيئ عما حدث في الجانب التونسي. حيث لم يسع الوطنيون المغاربة الى إقامة أي شكل من الاتصالات قبل ضمان الاستقلال. في المقابل كان الاسرئيليون يتمتعون بتغطية فرنسية لعملية التهجير الواسعة ليهود المغرب و الذين كانوا أكثر عدد من يهود تونس. و حسب الوثائق الاسرائيلية فقد قام الموساد بتنظيم هجرة حوالي 90 ألف يهودي الى إسرائيل عبر فرنسا بين سنتي 1949 و 1956. و قد انعكست العلاقة القوية بين الاستعمار الفرنسي في المغرب و الاسرائيليين من خلال تصريحات ممثل اسرائيل في الولايات المتحدة و التي كانت تدعو لعدم تدخل الامم المتحدة في الشأن المغربي لأنه "شأن فرنسي داخلي" و ذلك في ظرفية حاولت فيها الحركة الوطنية المغربية اختراق المسرح الدولي للضغط على الفرنسيين.

و لكن بعد سنة 1956 سيصبح منطق العلاقة مع إسرائيل قائما على رؤية قيادات الاستقلال الجديدة في تونس و المغرب لأهمية الدور الاسرائيلي في خدمة بناء الدولة القطرية/الوطنية الناشئة بالخصوص مسألة البناء الاقتصادي من خلال البحث عن دعم المؤسسات المالية الدولية، و هو ما تزامن مع رؤية اختارت الابتعاد عن "التجربة الاشتراكية" التي عمت عددا من الأقطار العربية (شهدت تونس مسارا معقدا فشل فيه أنصار التجربة التعاضدية شبه الاشتراكية حسم الصراع السياسي لصالحهم داخل حزب الدستور وهي نفس الوضعية التي شهدها المغرب و لو في فترة مبكرة جدا من عمر الدولة الجديدة). و يبالنسبة لتونس يأتي في هذا الاطار لقاء مهم جدا بالنسبة لصياغة رؤية بورقيبة للسياسة الخارجية التي يجب ان تلعبها تونس في المستقبل و هي على ابواب إنهاء الاحتلال العسكري الفرنسي. ففي شهر فيفري 1956 و خلال المفاوضات الدائرة في فرنسا حول الاستقلال التقى بورقيبة بالسفير الاسرائيلي بباريس ياكوف تسور (Yaakuf Tsur) و بعد سماعه ملاحظات عديدة لبورقيبة تتلخص في "كرهه" لعبد الناصر و سياسته في المنطقة, نصح السفير الاسرائيلي بورقيبة النصيحة التالية: ان عليه "ضمان دعم اليهود الامريكيين للحصول على دعم اقتصادي امريكي".

و بالاضافة الى التعاون الاقتصادي المباشر بين الحكومتين و الذي انطلق بشكل فعلي مع لقاء السفير الاسرائيلي تسور في 3 اكتوبر 1956 مع وزير المالية التونسي، فإن اهم ثمار هذه العلاقة خاصة بالنسبة لتطوير العلاقات التونسية الامريكية كان مع اواسط الستينات. ففي ماي 1965، أي بعد اقل من شهرين من خطاب اريحا الشهير و جولة بورقيبة المثيرة في المشرق العربي في مارس 1965، سافر بورقيبة الابن و الذي كان وزير الخارجية التونسي و حامل اسرار ابيه انذاك الى واشنطن في زيارة هدفها طلب الدعم المالي الامريكي. و استجابة لطلبه فقد طلبت وزارة الخارجية الامريكية من اسرائيل التوسط للجانب التونسي مع حكومتي فرنسا و المانيا الغربية للحصول على دعم مالي يقدر ب20 مليون دولار، كما طلب الامريكيون في نفس الاطار من اسرائيل شراء الخمور التونسية. و تلاحظ الوثائق الاسرائيلية في هذا الاطار ان موافقتها على الاستجابة للمطالب الامريكية كان في اطار املها ان تساهم الحكومة التونسية في تشجيع حكومات عربية "معتدلة" اخرى من اجل "إفشال أو تخريب الجهود المصرية و السورية للوحدة العربية". و خلال نفس الفترة أقام الطرفان خلية اتصال دائمة من خلال سفيريهما في باريس: السفير التونسي محمد المصمودي و السفير الاسرائيلي والتر ايتان (Walter Eytan) و ذلك بحضور الموساد الاسرائيلي. كما التقى المصمودي مرة على الاقل بوزير الخارجية الاسرائيلي انذاك ابا ايبان (Abba Eban) و ذلك بمنزل البارون دي روتشيلد. بالاضافة الى وجود قناة اتصال اخرى من خلال ايسترمن و الذي كانت له علاقة قديمة ببورقيبة كما اشرنا الى ذلك سابقا. و من اهم النقاط التي يمكن التأكيد عليها في علاقة بالنقاشات التي تمت عبر قنوات الاتصال هذه هي الطلب التونسي من خلال محمد المصمودي (مثلا في لقاء يوم 4 اكتوبر 1966 بين الاخير و ايسترمن) لدعم اليهود في الغرب لتونس ماليا و اقتصاديا عموما، و ذلك لتجنب علاقة مباشرة و مكشوفة بين الطرفين و هو الامر الممكن في حالة الاعتماد على يهود يحملون جنسيات اخرى غير الاسرائيلية.

و بالنسبة للحالة المغربية فقد اتخذت العلاقة بعدا أكبر بكثير بعد الاستقلال تجاوز التنسيق الدولي ليصبح فيه الدور الاسرائيلي في المعادلة السياسية الداخلية للمغرب أكبر من أي قطر مغربي اخر. و تجسم قضية الدور الاسرائيلي في اغتيال المهدي بن بركة هذه العلاقة الخاصة و التي جعلت من الاسرائيليين منخرطين مباشرة في مسألة الصراع على السلطة في المغرب من خلال محاولة دعم المعرضة المغربية في مرحلة أولى ثم العمل على التخلص منها في مرحلة لاحقة. و لعل من أهم المساهمات الوثائقية لكتاب لاسكيار هي ما كشف عنه في علاقة بهذا الموضوع و الذي تثبت بلا مجال فيه للشك الدور الكبير الذي لعبه الموساد الاسرائيلي ليس في اغتيال بن بركة فحسب بل أيضا في إقامة شبكة مشتركة مع الاجهزة الامنية المغربية لمراقبة أنشطة المعارضة المغربية على امتداد القارة الأوروبية. و تشير هذه الوثائق الى مرور علاقة الاسرائيليين ببن بركة منذ تمركزه في منفاه الباريسي بمرحلتين. المرحلة أولى اتسمت باستعداد للقاء و التحاور و هو ما تجسم في لقاء بن بركة بممثل سامي إسرائيلي (و كان حسب الوثائق ضابطا كبير في الموساد) و ذلك في شهر اذار (مارس) 1960 حيث طالب الاسرائيليون على وجه الخصوص باستعادة الاتصالات الربيدية بين إسرائيل و المغرب في ظل الحكومة التي كان يسطر عليها أنصار بن بركة. كما اجتمع الأخير في شهر نيسان (أفريل) من نفس السنة بإيسترمن و الذي ينقل في تقريره تصريح بن بركة حول استعداد الاتحاد الاشتراكي لافتكاك السلطة عبر الضغط السلمي و استعداده لإقامة علاقات سلمية مع الدولة العبرية. و تمضي الوثائق الاسرائيلية للحديث عن علاقة تجاوزت مجرد اللقاء و التشاور حيث تذكر تقديم "المؤتمر اليهودي العالمي" في شهر يوليو (جويلية) 1960 لدعم مالي لبن بركة بقيمة ألف دولار. و قد قام الاسرائيليون في هذه المرحلة باللعب على حبلي المعارضة و السلطة حيث تشير الوثائق الى سماح وزير الخارجية الاسرائيلي لإيسترمن بالذهاب في أغسطس (أوت) 1960 الى الرباط للقاء ولي العهد المغربي و رئيس الحكومة انذاك الحسن الثاني حيث قدم له نفس قائمة المطالب الاسرائيلية التي تم عرضها على بن بركة في اجتماع اذار. و يبدو أن هذه السياسة الاسرائيلية المزدوجة أثرت على أي امكانية لانحياز اسرائيلي واضح لأي من الطرفين و هو ما يبدو ما أدى الى قرار بن بركة التخلي عن هذه العلاقة خاصة في ظل الدعم المتزايد الذي بدأ يلمسه من قبل الحكومة الجزائرية. في المقابل تطورت العلاقة بين المخزن المغربي و الاسرائيليين خلال الستينات خاصة من خلال رجال أعمال مؤثرين في الساحة الدولية بالاضافة الى الأثرياء من اليهود المغاربة و هو ما كان منسجما مع طموحات العاهل المغربي لإقامة علاقات قوية مع الأوساط المالية الدولية. و قد تطورت العلاقات الأمنية بشكل متسارع بعد قيام الموساد بإشعار المقربين من ولي العهد انذاك الحسن الثاني في كانون الثاني (ديسمبر) من سنة 1959 بتحضير المعارضة المغربية لإفتكاك السلطة. و يبدو أن علاقة الموساد بالجنرال أوفقير قد توثقت منذ تلك اللحظة حيث تشير الوثائق الاسرائيلية الى مساعدته شبكة الموساد في المغرب على استمرار عملية تهجير اليهود المغاربة. و لكن نقطة التحول الدراماتيكية في هذا التحالف الأمني/المخابراتي غير المسبوق عربيا حدثت حسب الوثائق الاسرائيلية مع أواسط سنة 1963 عندما قام الجنرال أوفقير بالاتفاق مع الموساد في تمرين أعوان و ضباط مغاربة من قبل ضباط إسرائيليين. و في فترة قريبة من ذلك و لكن غير محددة حسب هذه الوثائق ذهب الملك الحسن الثاني الى حد القبول بوجود مكتب دائم للموساد على الأراضي المغربية و قد أشرف هذا المكتب على الحفاظ على علاقة مستمرة بين الاسرائيليين و المخزن و قام مثلا بترتيب زيارة اسحاق رابين للمغرب سنة 1976. كما قام المكتب بتنسيق الدعم العسكري الذي قدمه الاسرائيليون للمغرب خلال المواجهات مع الجيش الجزائري سنة 1963. و عموما فإنه ضمن هذه المعادلة بالذات شاركت المخابرات الاسرائيلية في عملية إغتيال المهدي بن بركة و التي لم تكن إلا نقطة في بحر من التنسيق الوثيق بين الطرفين.

غير أنه مقابل كل ذلك لم يتوان العاهل المغربي أمام ارسال فوات مغربية الى سوريا للمشاركة في حرب أكتوبر و هو ما أدى الى أزمة حقيقية مع الاسرائيليين. كما أنه لم يخاطر بإبرام أي اتفاق للسلام بعيدا عن الاجماع العربي بعد كامب ديفيد و التي ساهم في التوصل اليها من خلال استضافته لأولى الاتصالات المصرية الاسرائيلية. و هكذا كانت حسابات الحسن الثاني متعلقة بشكل كبير باستراتيجيا عامة خاصة بما يراه "مصالح المغرب" بالضبط كما كان يرى الرئيس بورقيبة دواعي تحالفه و صراعه مع مختلف الأطراف الدولية بما في ذلك الاسرائيليين من خلال "المصالح التونسية"، و هي مصالح لا يتم تعريفها من خلال الانعزال المطلق عن "المصالح العربية المشتركة" و لكن لا يتم أيضا ربطها تماما ياستراتيجيا عربية موحدة. في نفس الوقت كانت الرؤية الإسرائيلية لا ترى مانعا في المساهمة في "حفظ الاستقرار" أو "المساعدة المالية" للأنظمة القطرية/الوطنية في المغرب العربي مادام أن ذلك يأتي في إطار مساهمة هذه الأنظمة للحد من استمرارية و عمق أي توجه عربي مشترك لمواجهة الطرف الاسرائيلي. و قد أصبحت هذه العلاقة أكثر قوة مع سقوط جدار برلين و نهاية حرب الخليج الاولى حيث تم الانخراط الرسمي العربي الجماعي في تطبيع العلاقات خاصة و أن “دول الرفض” مغاربيا أي الجزائر و ليبيا قد تخلت عن خطوطها الحمراء و تتقدم باتجاه التأسيس لتطبيع العلاقة مع الاسرائيليين. غير أن هذه العلاقة بقيت أيضا ضمن حدود تجاذبات ما تبقى من الصراع العربي الاسرائيلي حيث لم يتوان التونسيون و المغاربة من سحب ممثيهم الديبلوماسيين من تل أبيب بعد اندلاع الانتفاضة الثانية بل و حتى السماح و المشاركة الرسمية في تظاهرات تندد بالمرحلة الراهنة من العدوان الاسرائيلي. و لا يتوان الاسرائيليون في ظل هذا الظرف من المقاطعة (الرسمية على الأقل) من التنديد بـ "الدكتاتوريات العربية" حيث يقومون من خلال تحليلهم الأحادي الطابع من اعتبار "المشكل الرئيسي" عربيا غياب الاصلاحات الديمقراطية.

غير أن التعريف الاسرائيلي لهذه الاصلاحات يتسم بطابع سياسي غير مجرد عن المصالح الاسرائيلية، فبالنسبة لشمال افريقيا يعتبر الاسرائيليون أن من أهم القضايا التي تحتاج الى "إصلاح عاجل" هي مسألة "اللاجئين اليهود" من شمال افريقيا تم "طردهم" أو "دفعهم" للهجرة من خلال العداء المستمر الموجه ضدهم خاصة بعد قيام الدول الوطنية. و من أهم المنظمات ذات الارتباط الاسرائيلي التي تروج بنشاط لهذه القصة منظمة (Jimena) (منظمة "يهود أصيلي الشرق الاوسط و شمال افريقيا”) و التي تتكون بالاساس من يهود ذوي أصول شمال افريقية (خاصة تونس و الجزائر) مقيمين بدول غربية و لكن يحملون أيضا جوازات سفر إسرائيلية يطالبون بتعويضات و الاعتراف بهم من قبل الأقطار المغاربية كلاجئين تعرضوا للاضطهاد. و تستخدم الحكومة الاسرائيلية بنشاط هذه الحكاية خاصة أثناء المفاوضات حول وضع اللاجئين الفلسطينيين حيث يطالب الاسرائيليون بمبدأ "المعاملة بالمثل" و اعتبار "اللاجئين اليهود" بنفس وضعية اللاجئين الفلسطينيين (يستهدف ذلك طبعا دفع الحكومات العربية للضغط على الجانب الفلسطيني للتنازل عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين). و كما تُظهر الوثائق الاسرائيلية الواردة في كتاب لاسكيار فإن الهجرة اليهودية لإسرائيل كانت مرتبطة بالدرجة الأولى بمخطط إسرائيلي بإشراف مباشر من الموساد لم يكن متأثرا البتة بوقائع حقيقية للاضطهاد بل أن الحكومات الجديدة في بداية الأمر رفضت بشدة هذا المخطط و لم تعمل أي من الأطراف الوطنية على الدفع نحو تهجير الأقلية اليهودية. و المثير أن منظمة (Jimena) كانت من المنظمات "الشمال افريقية" القليلة التي شاركت و عبرت عن "قضية الاصلاح في شمال افريقيا" (من خلال الدعوة لـ"إرجاع حقوق اللاجئين اليهود") في موتمر مثير للجدل "من أجل الاصلاح في الشرق الأوسط" الذي نظمه بعض المتوترين "الليبراليين" العرب من أنصار الحكومة الاسرائيلية و النيومحافظين في واشنطن في أكتوبر 2004. المؤتمر الذي كان في الأساس واجهة للمجموعة التي تعمل في الأوساط اللبنانية الأمريكية المقربة من تيار "قرنة الشهوان" بالاضافة للحضور الكبير للمجموعة القبطية المتطرفة. كما شارك في النقاشات تحت يافطة منظمة حقوقية ديبلوماسي اسرائيلي معروف يعمل الان في السفارة الاسرائيلية في واشنطن ضمن الجهاز الاعلامي. و إضافة للمنظمة اليهودية فإن بقية "ممثلي" شمال إفريقيا تراوحوا بين ممثلين مقيمين بالخارج عن منطقة القبايل الجزائرية و منظمة موريتانية تتخصص في مسألة "استعباد العرب للسود". و في العموم فإن "قضية الاصلاح و الديمقراطية" في الرؤية الاسرائيلية و كما عبر عنه هذا المؤتمر تتمثل بالأساس في مشكل واحد: "اضطهاد العرب المسلمين" لبقية الأقليات لا أكثر و لا أقل.

و في الواقع فإن البلاغة الاسرائيلية المتصاعدة حول قضية الاصلاح في الشرق الأوسط مرتبطة بقوة بظرفية سياسية معينة و هي بالأساس شعار ذرائعي لا غير (على العكس من بعض أقطاب التيار النيومحافظ الأمريكي و الذين يعتقدون بجدية في "مثالية" أهدافهم). و علينا أن نشير هنا الى أن ناتان شارانسكي و الذي شارك حزبه في حكومة شارون قد ألف كتابه "الحجة من أجل الديمقراطية" (و الذي "قرأه" الرئيس بوش و يقع تقديمه على أنه "تحليل طليعي" في التدليل على الحاجة الملحة لدمقرطة المنطقة العربية) ألفه ضمن ظروف إنحسار التطبيع الرسمي العربي، و بمعنى اخر كرد فعل على هذا الانحسار. طبعا مثل احتلال العراق و مخلفات 11 سبتمبر مناسبة جديدة في ظل الخطط الجديدة للقادة الاسرائيليين (الذين تخلوا عن مقررات مدريد منذ أواسط التسعينات و قرروا التخفيض من سقف المطالب العربية الى “السلام مقابل السلام” عوض “الأرض مقابل السلام”) لفتح مرحلة أخرى من تطبيع العلاقات التي يمكن أن ترتقي مستقبلا الى علاقات ديبلوماسية كاملة، خاصة و أن وزير الخارجية الاسرائيلي سيلفان شالوم، المتحدر من عائلة يهودية كانت تقطن مدينة قابس التونسية، يعتبر نفسه "مغاربي الهوى". المشكل الذ ي ينتظر الاسرائيليين الان هو أن تيارا مهما أمريكيا بدأ في التصديق الجدي في الأطروحة النيومحافظة (و التي لا يمثل كتاب شارانسكي بالمناسبة إلا قشرة قشرتها) حول "الحاجة الدولية" لدمقرطة المنطقة، حيث أن إصلاحات ديمقراطية عربية حقيقية ستجلب الى السلطة (أو دوائر نفوذها) بالتأكيد قوى وطنية متعطشة للتأثير السياسي تستمد قوتها الجماهيرية (جزئيا على الأقل) من برنامجها القائم على القطيعة مع الدولة العبرية، و هو ما سيجعل من التطبيع مسألة بعيدة المنال أو في أقل الأحوال على غير الدرجة التي يأمل في تحقيقها الاسرائيليون. و يأتي هذا المأزق الاسرائيلي في ظل خلل شامل يتعلق برؤيتهم الصلفة لعلاقتهم بالعرب حيث لم يعدوا مستعدين للقيام يأي مقايضات حتى مع "أصدقائهم المعتدلين". و هكذا فقد سمع في النهاية القادة الاسرائيليون (و لو لأسباب مختلفة) نصيحة ليفي أشكول التي أطلقها قبل 40 سنة: "لا تعلقوا أهمية زائدة على ما يسمى بالقادة العرب المعتدلين".

Laskier, Michael. Israel and the Maghreb: From Statehood to Oslo. Florida University Press: 2004

نشر في صحيفة القدس العربي (صفحة مذكرات و كتب) عدد 28 فيفري 2005

Friday, February 11, 2005

محاولة لتقييم شمولي للحظة الراديكالية الراهنة: «القاعديون»، بلشفيو المرحلة الراهنة؟
بقلم: الطاهر الأسود
إن 11 سبتمبر مثل ثورة أكتوبر حدث يعكس ظاهرة تاريخية عريقة: الظهور الدوري للحظة راديكالية تدفع بالوضع الدولي الى إنقسام عميق حدي الى خندقين يركزان القوى البشرية في مواجهة عنيفة لا تنتهي إلا بانهيار أحد الطرفين.
ميدل ايست اونلاينليس الهدف من هذا المقال المماثلة بشكل إطلاقي بين التجربة البلشفية والتجربة القاعدية. لكننا نرى إمكانية التقييم الشمولي للحظة التاريخية الراهنة من خلال التذكير بلحظة المد البلشفي اللاحق لثورة أكتوبر. يرجع ذلك لدوافع عديدة سنعرضها فيما بعد ولكن في البداية يمكن الإشارة الى الحوافز الأولية لمثل هذه المقارنة التي بدت لي (و ستبدو للكثيرين على ما أعتقد) سوريالية عندما خطرت بذهني في البداية.
يرجع أحد هذه الحوافز الى المعطى التالي: عندما قررت الولايات المتحدة مواجهة المد الشيوعي الذي تلى الثورة البلشفية على الجبهة الفكرية وليس السياسية والعسكرية فحسب، وكان ذلك بالأساس إثر نهاية الحرب العالمية الثانية، توصلت الى خلاصة مركزية، وهي أن أقدر من يواجه الطروحات الشيوعية في تعبيراتها السوفياتية هم شيوعيون غير سوفياتيين. وهكذا على سبيل المثال رأت الولايات المتحدة في الأطراف الإشتراكية الديمقراطية (التي كانت تتقاسم مع البلشفيين عضوية الأممية الثانية) أو في الأطراف التروتسكية حلفاء محتملين في الحملة الفكرية المضادة للرؤية الشيوعية بصياغتها الستالينية. طبعا كان معنى التحالف هنا غامضا: حيث عمل الأمريكيون في بعض الحالات على البحث عن عملاء وليس حلفاء. كما أن بعض هذه الأطراف لم يرغب في الظهور في الصورة الأمريكية حتى وإن تقاطعت بعض مصالحها معه. على كل حال تلك قصة أخرى سنتعرض إليها بتفصيل أكبر في مناسبة لاحقة. ما يهمنا هنا هو أن هذا التصور الأمريكي بصدد التكرار في المرحلة التاريخية الراهنة: حيث أصبح واضحا أن الولايات المتحدة (ويعني ذلك أطرافا قوية التأثير في صياغة القرار السياسي) ترى في التيارات الإسلامية المعتدلة أقدر الأطراف التي يمكن أن تواجه المد الإسلامي في شكله السلفي الجهادي.
سيكون هذا المقال في جزئين: الجزء الأول سنتعرض فيه الى معنى اللحظة الراديكالية وكيف تشكل مدخلا للمقارنة بين حدثي ثورة تشرين الأول/أكتوبر و11 أيلول/سبتمبر. وجزء ثاني سنتعرض فيه الى المحتوى الإيديولوجي المشترك بين الطرفين البلشفي والقاعدي. وسنستعمل مصطلح "القاعدية" هنا بنفس الاستعمال الاصطلاحي لكلمة البلشفية أي ذلك المصطلح الذي يتحول من كونه صفة لحالة سياسية تنظيمية خاصة الى أن يكون صفة لمنهج سياسي وعقائدي خاص. وهكذا فمثلما أصبحت البلشفية حالة غير روسية تجد أتباعا على المستوى الدولي فإن "القاعدية" لم تعد الان حالة خاصة بتنظيم القاعدة بل أصبحت منهجا لتنظيمات كثيرة ليس لها بالضرورة علاقة تنظيمية مباشرة بذلك التنظيم بقدر ما هي موالية لنهجه السياسي والاستراتيجي والعقائدي.
مسألة اللحظة الراديكالية: "ثورة أكتوبر 1917" و"غزوة سبتمبر 2001" وخندقة الوضع الدولي
لا يمكن بالتأكيد المجازفة بأي تحليل يمكن أن يوهم القارئ بأن حدثي الثورة البلشفية و11 سبتمبر متطابقين لكن يمكن المجازفة بالقول بالتأكيد غير أن دور كل منهما التاريخي متقاطع الى حد كبير. حيث يشغلان مكانة مماثلة في إطار منعطف تاريخي مصيري يمس ليس فقط إطارا جغرافيا إقليميا فحسب بل أيضا الإطار الدولي. ويتمثل هذا المنعطف بما نسميه بـ"اللحظة الراديكالية" التي تدفع الى خندقة الوضع الدولي ليس على أساس الصراع بين قوى متماثلة (مثل الحرب العالمية الأولى) بل على أساس الصراع بين قوى تحمل مشاريع متناقضة راديكاليا غير قابل للمواءمة، ظاهريا. إن التماثل هنا ليس بين محتوى الحدثين بل بين كونهما يمثلان لحظة راديكالية متماثلة ولو في ظرفيتين تاريخيتين غير متماثلتين. وبمعنى اخر فبالرغم من أن ثورة أكتوبر ليست 11 سبتمبر و11 سبتمبر ليس ثورة اكتوبر إلا أن لحظة 11 سبتمبر في المنعطف الدولي لما بعد الحرب العالمية الأولى غير ممكنة التصور إلا من خلال ثورة أكتوبر 1917 كما أن ثورة أكتوبر في المنعطف الدولي لما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي لا يمكن أن تكون سوى حدث 11 سبتمبر 2001. ليس ذلك توصيفا قيميا (متعاطفا أو منددا) بل توصيفا موضوعيا للمسار الدولي كما هو.
سنبدأ بتحديد الإختلافات البديهية بين الحدثين. أولها، أن ثورة أكتوبر نجحت في تغيير وضع السلطة السياسية الحاكمة لصالح الطرف الراديكالي وهو ما كانت تهدف إليه، حيث نجح طرف سياسي يتكلم باسم طبقة مقموعة بالوصول الى السلطة بالقوة والحفاظ عليها في مجال سياسي محدد. غير أن 11 سبتمبر لم ينجح في افتكاك السلطة فذلك لم يكن أحد أهداف مخططيه. وفي الواقع يعكس هذا الإختلاف الشكلي (أي على مستوى الخطة السياسية) إختلافا اخر برامجيا/استراتيجيا. فبناء المجتمع الاشتراكي (ثم الشيوعي) كان يستلزم إفتكاك السلطة مبدئيا في دولة محددة. وبالرغم من وجود الأممية الثانية ثم الثالثة (وبالتالي خطة أممية عامة ترفع شعار الثورة الأممية) فإن الأحزاب الشيوعية السابقة لثورة أكتوبر (أي الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية) واللاحقة لها (أي بعد مخاض الثورة وإعادة تأسيس معظم الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية) كانت تخضع لواقع خصوصيات مجالاتها القومية والاقليمية، وهكذا لم تكن الأطروحة التروتسكية الدولية ("الثورة الدائمة") قادرة على الصمود أمام النموذج الستاليني الاقليمي ("بناء الاشتراكية في دولة واحدة"). وهكذا الت القيادة الاممية لصالح نفوذ القيادة السوفياتية وأصبح المشروع الأممي مجرد غطاء من أجل الدفاع عن تجربة إقليمية محددة.
على العكس من ذلك فإن الاستراتيجيا القاعدية وقع تقريرها من قبل قيادة "أممية" مركزية تجعل دور الطابع الدولي للمواجهة رئيسيا مقابل المهام الإقليمية. وهكذا فرغم وجود ساحات إقليمية فلا يوجد تركيز على بناء "الدولة الاسلامية" في مجال سياسي محدد قبل الحسم النهائي للمعركة دوليا. وتوضحت هذه الاستراتيجيا من خلال التضحية بـ"الامارة الاسلامية في إفغانستان" من أجل هدف استفزاز الولايات المتحدة وجرها الى معركة مباشرة على المجال الدولي تنقسم الى معارك إقليمية تتفاوت في الأهمية ولكن لا يتم فيها التركيز على "إقليم قاعدة" معين كما كان حال التجربة البلشفية. إن الاستراتيجيا القاعدية لا تسعى الى بناء نموذج دولتها بغض النظر عن المصير النهائي للمعركة بل تسعى الى تحطيم عدوها نهائيا على المستوى الدولي قبل بناء نموذج الدولة/الخلافة، أيضا على المستوى الدولي. تنعكس هذه الاستراتيجيا العامة بجلاء من خلال الميتافيزيقا العسكرية لتنظيم القاعدة والتي تعتقد بجدية بأن إنهيار برجي التجارة سيؤدي الى إنهيار الإقتصاد الأمريكي (أنظر كلمة بن لادن المشهورة "غزوة نيويورك وواشنطن" والتي أعلن فيها بشكل رسمي عن تبني القاعدة لهجمات 11 سبتمبر). كما أنها تذهب الى أن تحطيم الولايات المتحدة النهائي ممكن من خلال القيام بعمليات إنتحارية نووية على الأراضي الأمريكية (أنظر مثلا مقال أحد قيادات القاعدة أبو مصعب السوري «عمر عبد الحكيم» "ردا على إعلان وزارة الخارجية الأمريكية" كانون الأول/ديسمبر 2004 المنشور على موقعه الالكتروني).
ويعكس هذا الاختلاف الاستراتيجي إختلافا بديهيا على مستوى المنهج الفكري العام: فمقابل الرؤية البلشفية (الماركسية أساسا) التي تتقاسم مع الحداثة البورجوازية حدا أدنى من مفهوم النهج العلمي والبراغماتي فإن الرؤية القاعدية تعول بالتأكيد على التوفيق الإلاهي متى كانت الطهرية الإيمانية حاضرة. وهكذا فإن توصيف مجموعة النيومحافظين (كما تجسد في وثيقة "عقيدة بوش") للفرق الرئيسي بين عدو الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة وعدوها الان بأنه فرق بين عدو (البلشفية ومن ثمة قاعدتها السياسية الممثلة في الاتحاد السوفياتي) يمكن التفاوض معه واخر (القاعدية) لا يريد وغير مستعد للتفاوض هو في الأساس إنعكاس لواقع حقيقي.
غير أن كل هذه الإختلافات البديهية لا تنفي إمكانات التقاطع بين الحدثين. فمن ناحية الهوية الجغرافية لكل منهما نلاحظ تماثلا أساسيا في ترابط الإنتشار الإقليمي بالانتشار الدولي. حيث كانت الساحة الاقليمية الرئيسية التي عبرت عن تأثير شعبي للثورة البلشفية روسيا ومجالها الإمبراطوري العتيق أولا (أوكرانيا وروسيا البيضاء وجورجيا... إلخ) وأوروبا الغربية وخاصة ألمانيا ما بعد الحرب الأولى ثانيا. وكان للعنفوان الراديكالي لحدث 11 سبتمبر تأثيرا إقليميا متعاطفا يتعلق بالمنطقة العربية أولا ويمتد الى المجال الإسلامي وحتى الجاليات المسلمة في أوروبا أساسا ثانيا. غير أنه كان لكلاهما تداعيات دولية عميقة جعلت محاور التحالف والصراع تتأسس رئيسيا على قاعدة الولاء أو العداء لصناع اللحظة الراديكالية. ينعكس ذلك أولا على المستوى الخطابي لجل الأطراف المؤثرة. فثورة أكتوبر كانت لحظة مفصلية في تصور الخطاب البلشفي ("افتتحت ثورة اكتوبر عصر نهاية الامبريالية" أعلنت الأممية الثالثة بقيادة زينوفييف أكثر من مرة في السنوات القليلة التي تلت الثورة وهو الشعار الذي وقع التمسك به في أدبيات الحزب حتى سقوط الاتحاد السوفياتي) وهو ما كان يعني إنقسام العالم الى خندقين: أنصار الثورة وأعداؤها. ولم يختلف التقييم البورجوازي في شيء عن ذلك وباستثناء لحظة التحالف المؤقتة والقصيرة التي فرضتها خطط ألمانيا النازية خاصة خلال الثلاث سنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية فإن خطاب "العالم الحر" كان أيضا يعتبر التهديد الرئيسي للأمن العالمي اتيا من العدو البلشفي. نفس الشيء ينطبق على الخطاب القاعدي في نظرته لحدث 11 سبتمبر وخطاب الولايات المتحدة في علاقة بنفس الحدث.
غير أن الخندقة الحدية (تركز مواجهة عنيفة وحامية بين طرفين أساسيين أو خندقين) على المستوى الدولي الناتجة عن كلى الحدثين هي خندقة واقعية وليست خطابية فحسب. وهو أمر لا يحتاج الى تعليق إضافي في علاقة بثورة أكتوبر. أما في علاقة بـ 11 سبتمبر فمن الواضح أن كل التناقضات الطفيفة التي طفت على السطح الدولي مباشرة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي (مثل التنافس الأمريكي الأوروبي أو الأمريكي الصيني-الروسي) قد توارت في ظل الأهمية المتعاظمة للصراع الأمريكي ضد القاعديين عبر العالم وهو صراع يجعل من نزاعات إقليمية من المفروض أن تكون معارك للتحرير الوطني مثلا (العراق والشيشان) تتداخل مع معركة دولية حيث تحظى برامج وقيادات القاعدة بنفوذ خاص يتجاوز الحدود الوطنية والقومية. كما يفرض هذا الصراع بشكل متنامي على كافة القوى الدولية إختيار أحد الصفوف ليس على مستوى الموقف السياسي البلاغي فحسب بل أيضا على مستوى الممارسة العملية (التنسيق الأمني والمخابراتي مثلا بين الولايات المتحدة وجل دول العالم ضد خلايا القاعدة والقاعديين). في المقابل يتصرف القاعديون بوعي كامل وبقدرات واقعية على أساس أن كافة أنحاء الكرة الأرضية (ذات أغلبية مسلمة أو غير مسلمة) هي مجال مفتوح للعمل المسلح واللوجستي من بالي أندونيسيا الى الغابات الكينية والصحراء الكبرى حيث قبائل الطوارق الى مدريد ونيويورك مرورا بالدار البيضاء وجربة والرياض فضلا عن المدن العراقية أو "بلاد الرافدين" (كما يحرص القاعديون على تسمية العراق بشكل يتجنب التركيز على الصفة الوطنية لذلك المجال الجغرافي). وتجسدت هذه الخندقة الدولية في أقصى رموزها المرئية عندما ارتدى شباب صينيون قمصانا عليها صورة أسامة بن لادن وعندما رفع صبيان من أمريكا اللاتينية أعلاما تحمل صورة شيخ القاعدة. كما يتجسد الطابع الدولي لهذه المواجهة بشكل مركز من خلال المواجهة العسكرية التي تخوضها القوة العسكرية الرئيسية في العالم (أي الولايات المتحدة) في العراق حيث تنشط العديد من التنظيمات ذات التوجه القاعدي بل أن أحدها يمثل رسميا تنظيم القاعدة ("قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين" "حركة التوحيد والجهاد" سابقا) كما أنها لا ترى مشكلا في أن يكون أمير ذلك التنظيم غير عراقي.
إن 11 سبتمبر مثل ثورة أكتوبر حدث يعكس ظاهرة تاريخية عريقة: الظهور الدوري (cyclic) للحظة راديكالية تدفع بالوضع الدولي الى إنقسام عميق حدي يقسمه الى خندقين يركزان القوى البشرية في مواجهة عنيفة لا تنتهي إلا بانهيار أحد الطرفين.
إيديولوجيا "اللحظة الراديكالية": الطهرية في مقابل الديمقراطية "البورجوازية/الكافرة"
تتميز اللحظة الراديكالية بإيديولوجيتها الحدية والقاطعة التي لا تقبل المساومات وتختار بشكل فوري الحلول النهائية ومن ثمة العنيفة. طبعا تتفاوت رومانسية الأسلوب العنيف بين "العنف الثوري" و"الجهاد" على سبيل المثال. وطبعا لا يعني ذلك أن عنف اللحظة الراديكالية هو إما سلبي أو إيجابي من الناحية القيمية حيث أن الواقع أكثر تعقيدا من أن يتحمل أحكاما إطلاقية بهذه الدرجة. كما لا يعني ذلك أن تلك الحلول العنيفة تعبر عن عقول مريضة غير متأثرة بواقع عنيف أصلا. إن كل ما في الأمر أن للحظة الراديكالية أسبابها وظرفيتها التي تبرر وجودها. ومهما كان مشهدها مأساويا فهي تعبير مركز عن ظرفيات مأساوية لا تُشاهد في الأكثر. وهكذا لا يوجد هناك موضوعيا ما يبرر الطابع الإعتذاري المرافق عادة لتحليل اللحظة الراديكالية. من الزاوية الإيديولوجية توجد إختلافات بديهية بطبيعة الحال بين الطرف البلشفي والاخر القاعدي. لن نتحدث هنا عنها لأنها معروفة للقاصي والداني. سنتحدث في المقابل عما يلقى أقل إهتماما: التشارك الإيديولوجي بينهما والذي يكمن أساسا في صيغتهما الطهرية (puritanist) التي تمنح لكلاهما حق تقرير مصائر غالبية المجتمع للإعتقاد في إطلاقية صحة رؤيتهما الايديولوجية وهو ما لا يترك مجالا للإستثاقة في تلك الأغلبية وتركها تختار بنفسها تقرير مصيرها. إن الطهرية، في الحالتين، تؤسس لمفارقة الجمع بين الإعتقاد في أحقية إحتكار التعبير عن مصالح الأغلبية مقابل رفض حق الأغلبية في اختيار المعبرين عنها: في الحالتين يتم تعريف الديمقراطية الأساسية كنظام يستحق التدمير لأنه لا يضمن إحتكار الطهريين لتمثيل الأغلبية.
في الطهرية البلشفية
في أواخر صيف سنة 1917 أنهى فلاديمير إليتش لينين واحدا من أهم مؤلفات القرن العشرين وأكثرها تأثيرا: "الدولة والثورة". فيه حسم الزعيم البلشفي نهائيا مسألتين واحدة عملية/راهنة والأخرى نظرية/سرمدية: إستراتيجيا الثورة البلشفية في روسيا ما بعد الحرب وإستراتيجيا الثورة البروليتارية أين ما كانت وفي كل الأوقات. كتب لينين "الدولة والثورة" لمعالجة نقطة أساسية: كيف تصل البروليتاريا الى السلطة. غير أن الكتاب هو في الأساس رد اخر من مجموعة من الردود على رؤية كانت تشق الأممية الاشتراكية (الثانية) مثلها الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني وأكثر القادة الأمميين شعبية حتى ذلك الوقت، كارل كاوتسكي. كان الأخير يدافع بالأساس عن وصول البروليتاريا السلمي للسلطة وكان ذلك يعني الإنخراط في العملية الديمقراطية القائمة، والتي كان هناك إجماع في صفوف الأممية الثانية على أنها "ديمقراطية بورجوازية". بعد صراع خافت تفجر خاصة مع إندلاع الحرب العالمية الأولى (حينما لم يتخذ كاوتسكي موقفا معاديا من الحرب) وتعمق مع أواخر فترة الحرب وظهور إمكانية ثورة بروليتارية روسية في صيف سنة 1917 حسم لينين علاقته بالأممية الثانية (و التي كان يصفها بـ"الأممية الثانية والنصف") وشمل ذلك بشكل خاص مسألة تقييم الدولة البورجوازية والنظام الديمقراطي. مع نجاح الثورة البلشفية وتأسيس الأممية الثالثة حسم لينين نهائيا علاقته بكاوتسكي بشكل يشبه انقساما داخل أحد الفرق الدينية: ففي نهاية خريف سنة 1918 نشر لينين كراس "الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي". بدى إستعمال لينين انذاك للفظ ذي شحنة دينية مثل "المرتد" مجرد أمر بلاغي يدخل ضمن خصوصيات الخطاب اللينيني المتميز بطابعه الحاسم والحدي. غير أن نظرة تأملية راهنة تدرك تطورات الثورة البلشفية والدولة السوفياتية خاصة خلال المرحلة الستالينية تساعد على ملاحظة الطابع التكفيري العميق للخطاب البلشفي والذي أضحى يتصف بإطلاقية عنيفة تستذكر الوسائل الإحتجاجية التي تميز بعض جوانب الأنظمة الفكرية الدينية العريقة.
لم تكن المسألة مجرد إستعارة لعناصر خطاب ديني تكفيري. لقد دافع لينين في "الدولة والثورة" عن فكرة أساسية تماثل الطرح الراديكالي الذي كان يرافق في الماضي تأسيس دين جديد مقابل تحطيم دين قديم. ومن المفارقة أن معالجة لينين لمسألة إطلاقية كهذه تمت بشكل إبداعي من خلال نص شديد السلاسة والاسترسال، من الممكن إعتباره من أفضل النصوص التي كتبها على الإطلاق. وكانت الفكرة الأساسية التي دافع عنها تعتمد على وقائع جدية تستأهل التأمل حتى من وجهة النظر الانية: هل أن النظام الديمقراطي السياسي الذي تم إرساؤه في إطار مجتمعات رأسمالية قابل لاستيعاب مساواة سياسية فعلية؟ هذه المساءلة ترجع طبعا الى أن غياب الديمقراطية الإجتماعية (أي وجود المجتمع الطبقي) ستجعل أي ديمقراطية سياسية خاضعة في النهاية للطبقة المهيمنة إجتماعيا وإقتصاديا أي البورجوازية في هذه الحالة. غير أن لينين اتجه ضمن هذه المعطيات لإختزال معنى الدولة في كونها أداة للعنف والإكراه. وعلى هذا الأساس تخلص الى أن الطريق الرئيسي لوصول البروليتاريا الى السلطة يرجع لمواجهة الإكراه البورجوازي القائم من خلال الإكراه الثوري ثم تحطيم الدولة البورجوازية بما فيها النظام الديمقراطي.
في النهاية عمليا لم ينتزع لينين "الديمقراطية البورجوازية" فحسب بل دفع عمليا الى التخلي عن الديمقراطية السوفياتية حيث تم حل كافة الأحزاب غير البلشفية التي كانت تنشط داخل السوفياتات وتم إرساء هوية طهرية مقدسة للحزب البلشفي كانت لاحقا المفتاح الرئيسي لشخص بيروقراطي مثل ستالين لإقامة نظام فرداني بامتياز كان بالتأكيد أحد العوامل التي ساهمت في فشل التجربة السوفياتية. المثير أن لينين لم يقم إلا بالتمديد المنطقي لحجج سابقة شارك كاوتسكي نفسه في صياغتها: حيث أعلن الأخير في مؤتمر الأممية الثانية سنة 1904 (مؤتمر أمسترادم) أن حق الأطراف السياسية "غير البروليتارية" في التواجد السياسي هو مجرد تكتيك مرحلي. بينما جسد تصريح القيادي البلشفي البارز كامنييف في مؤتمر الحزب لسنة 1927 ("إما الإنضباط لأغلبية الحزب أو خيانة الثورة") الطابع التراجيدي للبلشفية حيث سيُعدم الأخير بعد إتهامه بالخيانة من قبل "الأغلبية" مثله في ذلك مثل الكثيرين وذلك إثر إندحار رهيب حتى لأبسط قواعد الديمقراطية الحزبية التي وضعها لينين نفسه للحزب البلشفي. حيث تمت في النهاية التصفية الجسدية ليس لغير البلشفيين فقط بل لعناصر وقيادات بلشفية. وبالمناسبة ليس من الضروري الوقوع تحت تأثير الدعاية الغربية المنتظمة التي استعدت الحركة الشيوعية لأجل تقييم تلك المرحلة التاريخية (خاصة الفترة الستالينية) بل يمكن الإقتصار على الأرشيف السوفياتي الخاص بتلك المرحلة والذي تم نشره وترجمته في السنوات الأخيرة والذي يحتاج من كل المرددين بشكل دوغمائي لشعارات قديمة مراجعته بشكل جدي.
يصعب الحكم على ما انتهى اليه البلاشفة من طهرية على أنه النهاية الطبيعية للطروحات الماركسية أم هي النتيجة الضرورية للوضع الروسي ما بعد الحرب، أم خليط من الإثنين. على كل حال تبدو راديكالية اللحظة التاريخية الدولية المحيطة بالحدث البلشفي ذات تأثير ما على ما حدث. وعموما كان قرار الثورة العنيفة ومشروع "تحطيم الدولة البورجوازية" القاعدة العملية والايديولوجية التي جعلت من التفكير الإقصائي والتصفوي مسألة غير قابلة للمراجعة بالحسابات البراغماتية، وهذا ما يشكل في الواقع محرك القاعدة الثابتة التي تعيد نفسها تاريخيا في أي حدث راديكالي: "الثورة تأكل أبناءها". وبالرغم من كل الإختلافات الايديولوجية بين الظاهرتين البلشفية والقاعدية فإن ذلك الاتجاه الإقصائي والتصفوي غير القابل للتوقف والذي يدفع الى دائرة مفرغة من الصراعات ضد صفوف لا تنتهي من المرتدين هو تحديدا ما يشكل نقطة التقاطع الرئيسية بينهما.
في الطهرية القاعدية
لا يكتب القاعديون كثيرا. وإن كتبوا فإن حضورهم الكمي المباشر في النص محدود لأن النصوص المقتبسة أو المنقولة تحتل عادة مجالا واسعا في كتاباتهم. هذا عدا الإستطرادات الشعرية المطولة التي تميز نصوصهم ليس مقارنة بالنص التحليلي السياسي المعاصر عموما فحسب بل حتى بالنسبة للنص السياسي العربي المعاصر (سيكون من المثير قراءة دراسة جدية تحدد هوية "النص القاعدي"). ولكن بالرغم من إلتزامهم ببلاغة وأسلوب تقليديين بشكل متعمد وواعي يسعى لإحداث التناسق الشكلي مع النصوص الأصولية المهيمنة على نصوصهم كميا فإن الظواهر المعاصرة التي يعالجونها بما في ذلك مسائل الديمقراطية والعلمانية وحتى السجائر والسينما تمنع عن نصوصهم هوية أصولية مجردة يرغبون في التمسك بها.
لن نعتمد هنا نصوصا تحريضية لقادة قاعديين يتميزون بالدور السياسي أكثر من الدور التنظيري أو "التأصيلي". ولهذا ستنستبعد نصوص أسامة بن لادن وأبي مصعب الزرقاوي، والتي تكرر على كل حال أهم عناصر نصوص القادة المنظرين. سنعتمد في المقابل على نصوص ثلاث رموز تميزت بـ"عمق" ووضوح نسبيين بالإضافة الى تأثيرها الواضح على النسق العقائدي لمعظم التيارات القاعدية. يتعلق الأمر أساسا بعبد الله عزام وأيمن الظواهري وبدرجة أقل عمر عبد الحكيم (أبو مصعب السوري) والذي تتميز نصوصه ببعد تحليلي أعمق بعض الشيء من الأولين ولو أنه لا يحظى بنفس درجة تأثيرهما. بالنسبة لنصوص عبد الله عزام وأيمن الظواهري سنعتمد ما نُشر منها مؤخرا من قبل عبد الرحيم علي في ملحقات كتابه "حلف الارهاب" (القاهرة 2004 ج 1 و3). في حين سنعتمد بالنسبة لعمر عبد الحكيم على ما نشر في موقعه الالكتروني خاصة في الأشهر الأخيرة.
لم يشارك عبد الله عزام، بطبيعة الحال، في التحضير لحدث 11 أيلول (سبتمبر)، ولكنه شخصية محورية في تكون الظاهرة القاعدية. ويخطئ البعض عندما يحصرون دوره في الجانب التنظيمي التأسيسي من خلال نسب تأسيس تنظيم القاعدة إليه. فعلاوة على هذا الدور يتميز عزام بتشكيله لرؤية أساسية في تنظيم القاعدة تميزه ومن بعده الظاهرة القاعدية بشكل عام. وفي الواقع على عكس ما يردده الكثيرون من جهة مسؤولية أيمن الظواهري على حسم توجه القاعديين (وأسامة بن لادن) في علاقة بـ"الجهاد" ضد "الكفار الأصليين" (تحديدا الولايات المتحدة) فإن هذا المفهوم يرجع بالأساس الى عبد الله عزام ولم يقم أيمن الظواهري إلا ببعض التحويرات في هذا المجال على ضوء المستجدات الواقعية. فقد "أصل" عزام في إطار مجموعة خطبه التي ألقاها قبل مقتله أواخر الثمانينات والمعنونة بـ"في الجهاد فقه واجتهاد" لقضية "دار الاسلام" و"دار الحرب" حيث اعتبر أن الجهاد أصبح "فرض عين" منذ اللحظة التي احتلت فيها قوات غير مسلمة أراضي في دار الاسلام ويشير على هذا الاساس الى أن تاريخ انبعاث هذا الفرض يرجع أساسا الى تاريخ سقوط غرناطة في أيدي القوى المسيحية. ومن الواضح هنا أن عزام يركز بشكل خاص على مواجهة العدو الخارجي وعلى الأراضي التي تقع تحت إحتلال أجنبي وهو ما يمكن تفسيره بأصوله الفلسطينية وتجربته ضمن حركة فتح حيث كان قد شارك ضمن أنشطتها في الضفة الغربية أواخر الستينات قبل إقتناعه "بعدم نجاعة الجهاد تحت راية علمانية". وهكذا لم تحتل مسألة الوضع الداخلي أو الصراع ضمن مجال دار الإسلام موقعا مركزيا في البداية. ومن ثمة لم يطرح عزام مسألة تكفير الحكام بشكل ممنهج وواضح واقتصرت إشاراته في هذا الإطار على ملاحظات متفرقة وهو ما عكس رؤية محددة في الصفوف العربية المتمركزة في إفغانستان وهو ما انعكس كذلك في مساهمة تنظيمات إسلامية متنوعة (تلك التي تكفر الحكام أو التي تمتنع عن ذلك) في المجهود العربي في إفغانستان. بالإضافة الى ذلك لم يكن خطاب عزام (بالرغم من خلفيته السلفية) يتعرض الى الصراع الطائفي تحديدا ضد الشيعة كجزء من "معركة الإسلام" وهو الأمر الذي يشكل علامة أساسية في الخطاب القاعدي الراهن (العراق نموذجا) والذي لا يمكن تعريفه بمعزل عن الهوية الطائفية المضيقة لأحد الفرق السلفية/الحنبلية. غير أن عزام ساهم في نهاية التحليل في التأسيس لمنهج تكفير الحكام الذي سيتأصل لاحقا من خلال التركيز على فكرة محورية لاطالما كررها وهي أن الطرف الوحيد القادر على الممارسة الجهادية وتحرير دار الإسلام هو الطرف المتمسك بـ"الشريعة الاسلامية"، وهو ما يعني طبعا التمسك السلفي/الحنبلي بالشريعة لا غير.
وهذه النقطة تحديدا هي التي سيقوم بإنضاجها أهم منظري الخطاب القاعدي الراهن أيمن الظواهري. وفي أحدث كتابات (تسجيلات) الظواهري وأكثرها إثارة للإهتمام من حيث البناء النظري والتناسق والدقة "تحرير الانسان والأوطان تحت راية القران" (نشر موقع "شفاف الشرق الأوسط" في 31 يناير/كانون الثاني 2005) يحدد الزعيم القاعدي بشكل لا لبس فيه تراتبية دقيقة يضع فيها مسألة "تحرير الأوطان" كمسألة ثانوية وتابعة لمسألة محورية يتوقف عليها كل شيء: "حاكمية الشريعة". وقد سلك الظواهري طريقا معقدا من الناحية التنظيمية ليصل الى المشاركة في تأسيس تنظيم القاعدة. وعكس ذلك المسار التنظيمي في الواقع مسارا فكريا وبرامجيا. غير أنه طيلة ذلك المسار المليء بالتحولات والتحويرات حافظ الظواهري على إيمان أساسي وهو رئيسية مسألة الصراع ضد "المرتدين" وتكفير الحكام على حساب مسألة الدفاع عن دار الإسلام. وهنا من الضروري التذكير بمحطة نظرية أساسية ليس في مسار الظواهري فحسب بل في التأصيل للتيار القاعدي بشكل عام وهي كتابة عبد السلام فرج، الزعيم الرئيسي لتنظيم الجهاد المصري قبل تزعمه من قبل الظواهري، لمؤلف "الفريضة الغائبة" والذي أسس بشكل منهجي للمنهج النظري الذي يجعل من مسألة التحرير الوطني خاضعة لمسألة تحرير دار الإسلام من "كفار الداخل". وهي الرؤية التي عمل على نقلها الى الواقع من خلال تركيز الخطة السياسية لتنظيم الجهاد وخاصة خلال مرحلة إشرافه على التنظيم على الإطاحة بالنظام المصري. ولم يكن تأسيسه للجبهة القاعدية صحبة بن لادن وإعلان "الجهاد على رأس الكفر" الخارجي (الولايات المتحدة) تعبيرا عن تحوله عن أجندة الصراع الداخلي مقابل تبني أجندة للصراع مع الخارج بل كان تعبيرا عن توسيع جبهة الصراع لا غير. وكان من ضمن اخر كتاباته التي قدم فيها تحليلا إضافيا في اتجاه طبيعة العلاقة بين الصراع ضد "كفار" الخارج و"كفار" الداخل هي رسالة كتبها في كانون الأول/ديسمبر 2002 بعنوان "الولاء والبراء: عقيدة منقولة وواقع مفقود". وقد قام فيها باسترجاع قاعدة فقهية مشهورة وهي "عقيدة الولاء والبراء" والتي تعني في تحليل الظواهري خندقة الواقع داخليا وخارجيا، وشرح العلاقة بينهما حيث أعتبر أنه ليس من الضروري محاربة "الكفار الأصليين" (المسيحيين، اليهود... إلخ) فحسب بل أن "الكفار المرتدين والمنافقين" هم كذلك ليس لمجرد "الموالاة" السياسية للـ"الكفار الأصليين" بل لـ"تعظيم شعائرهم" وهو ما يشمل أيضا القبول بـ"النظام الديمقراطي". غير أن الفرز الداخلي الى "مرتدين ومنافقين" في مقابل "مسلمين" لا يتوقف عند هذه الحدود بل يشمل طيفا واسعا جدا من الداخل، وهو ما شرحه في الفصل الثاني من الرسالة "صور من الإنحراف عن عقيدة الولاء والبراء" حيث حدد صور الإنحراف في أربع فئات يضعها في سلة واحدة: فلا يشير الى "الحكام الخارجين عن الشريعة" و"مجاهدي أمريكا" (و يعني بذلك الذين يرفعون شعارات إسلامية ويحاربون مع الولايات المتحدة مشيرا الى النموذج الأفغاني) فحسب بل يضيف إليهما "أعوان الحكام" (ولا يشمل ذلك فقط "الموظفين الرسميين" الذين يساندون الأنظمة القائمة بل يتعداه الى كل من يدعو الى "إرجاء الجهاد") بل أيضا "دعاة التصالح الموهوم" (ويُعرف الظواهري هؤلاء بأنهم "الفئة التي تدعو الى التصالح مع الحكومات الخارجة على الشريعة لمقاومة الأعداء"). وهكذا لا يتوقف الأمر على جوهرية الصراع الداخلي ضد الحكام فحسب بل أن كل حتى من يدعو الى تكتيك مخالف للخطة القاعدية (من نوع تأجيل الصراع ضد الحكام مقابل الصراع ضد الولايات المتحدة وإسرائيل) هم أيضا جزء من الفئة "المرتدة"، وهو ما يشمل معظم التيارات الوطنية إسلامية وقومية ويسارية. والمفارقة أن بعض قطاعات هذه التيارات يمارس خطابا متعاطفا وتبريريا لصالح التيار القاعدي. وتأتي الرسالة الأخيرة "تحرير الانسان والأوطان تحت راية القران" للتأكيد القاطع على هذه النقطة حيث يشترط التعاون في ممارسة "تحرير الأوطان" بالقبول أولا بمفهوم "حاكمية الشريعة" وهو موقف لا يستند الى رؤية مضادة من الديمقراطية السياسية فحسب بل الى تحليل مذهبي يستعمل اليات تحليل السلفية/الحنبلية ولا يقبل بغيرها. وفي كلمة يقطع الظواهري والبرنامج القاعدي الطريق على كل من ينتظر أن يركب الموجة ويشكل مع تنظيم القاعدة "جبهة وطنية" حيث ليس لدى القاعديين أي إستعداد للقيام بذلك.
وليست المواقف أعلاه مجرد تهويمات نظرية بل توجد لها دلائل قوية على أرض الواقع. وكانت ولا تزال أهم المؤشرات العملية على جوهرية مسألة الصراع الداخلي لدى الظواهري هي هجومه العنيف على مراجعات "الجماعة الإسلامية" في مصر وتخليها عن محاربة النظام ورفضه لإعلان أي تراجع في علاقة بتنظيم الجهاد في مصر. ولكن من الواضح أن الظواهري لم يعد له نفوذ قوي على جماعته وقيادتها التاريخية فمن المعروف أن عبود الزمر وهو أهم قادة تنظيم الجهاد داخل مصر حيث لا يزال يتمتع بالنفوذ الأكبر قد أعلن ليس عن رغبته في وقف الصراع داخليا فحسب والانضمام الى مبادرة "الجماعة الاسلامية" لوقف العنف بل تجاوز ذلك للحديث عن ضرورة تبني النموذج الديمقراطي ومفاهيم التعددية السياسية (راجع مقال الزمر بالغ الأهمية في دورية "المنار الجديد" صيف 2004). وبالمناسبة توفر المقارنة بين "رفيقي كفاح" مثل الظواهري والزمر نموذجا مميزا لمدى التناقض الذي يمكن أن يظهر عند إستخلاص الدروس من التجربة الواحدة.
بالإضافة الى موقف الظواهري من الوضع المصري، فإن موقفه من الوضع الجزائري يؤكد ما أشرنا إليه أعلاه. حيث قام الظواهري ومن ورائه التيار القاعدي بدعم "الجماعة الإسلامية المسلحة" حتى عندما بادرت أواسط التسعينات الى مهاجمة المدنيين من موظفي الدولة وخاصة مقتل غيرهم من المدنيين الأبرياء حيث تم تبرير ذلك بـ"التترس" وهي المسألة الفقهية التي ساهم في التنظير لها (أنظر مثلا رسالته "الجهاد وفضل الشهادة") مع غيره من المنظرين للتيار القاعدي مثل أبو قتادة الفلسطيني. وقد بسط عمر عبد الحكيم (أبو مصعب السوري) في مؤلف مهم نشره إلكترونيا سنة 2004 ("مختصر شهادتي على الجهاد في الجزائر") خفايا الصراع داخل القاعديين وخاصة تذبذب مواقفهم في علاقة بمسلسل المذابح التي أعلن عنها تنظيم "الجماعة الإسلامية" غير أن المسألة الأساسية التي أدت الى قرار القطيعة بين التيار القاعدي و"الجماعة الاسلامية المسلحة" كانت مقتل الشيخ محمد السعيد وليس مسألة "التساهل في قتل المدنيين". وبقي إهتمام القاعديين والظواهري بدعم الصراع الداخلي في الجزائر ورفض أية مصالحة وطنية متواصلا حيث تركز الإهتمام في السنوات الأخيرة على دعم "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" والتي تبدو علاقتها بهم (تنظيميا وفكريا) أكثر تماسكا: حيث قبلت الأخيرة على عكس "الجماعة الإسلامية المسلحة" باحتضان مبعوثين من تنظيم القاعدة للإشراف علي خططها (يذكر أبو مصعب السوري أنه كان مرشحا للقيام بذلك الدور أيام التحالف مع الجماعة الإسلامية غير أن الأخيرة ماطلته).
وتبرز هذه الإستراتيجيا الإقصائية والعنيفة على المستوى الداخلي بشكل أكثر تناسق بعد أحداث 11 سبتمبر حيث أصبح من الواضح أن الصراع والتحرش الذي تقوم به على سبيل المثال "جماعة الضنية" اللبنانية ضد فصائل المقاومة الفلسطينية في مخيم عين الحلوة و"جهاد" تنظيم "قاعدة الجزيرة" ضمن هذه الخطة العامة التي لا تؤجل الصراع الداخلي على حساب الصراع الخارجي بل هي أكثر من ذلك لا تحصر الصراع الداخلي في الحكام فحسب بل تشمل فيه قطاعات واسعة من "المرتدين" وحتى من غير "المرتدين" حيث يأتي دور فتاوى "التترس" لتبرير قتل كل من هو ليس قاعديا تقريبا. وفوق أي مثال يأتي الوضع العراقي ليوفر مثالا دقيقا على البرنامج القاعدي: حيث لا يتم مهاجمة "العملية الإنتخابية" الأمريكية لأنها مسرحية تستهدف إطالة الإحتلال بل يتم مهاجمتها بالأساس لأنها ممارسة "كافرة" في كل الظروف: وهكذا لا يتعلق التكفير هنا بمواجهة الإحتلال القائم بل يتعلق بمسألة إجتهادية مذهبية تهم جميع الأقطار الإسلامية الواقعة منها تحت "كفر" الإحتلال أو "كفر" الحاكم (أنظر في علاقة بالوضع العراقي مقالنا السابق "حول القاعديين في العراق وماهية المقاومة العراقية" 25 أكتوبر 2004).
إن سقف الطبيعة الطهرية للمشروع القاعدي تتجسم في روحها الإقصائية التي تمتد حتى الى من ينوي قتال "الكافر" المحتل تحت راية لا تدين مذهبيا بالسلفية/الحنبلية، دع عنك الراية العلمانية. إن تكفير الديمقراطية فكرة في غاية الإنسجام مع هذا المشروع الإقصائي العام والذي تمت صياغتها على أساس مذهبي محدد. إن القاعديين لا تهمهم قضية التحرير الوطني إلا متى كان الوطن مذهبيا (سلفيا/حنبليا). وتفتضح الطبيعة المذهبية الإقصائية بالتحديد في المثال العراقي: فحيث يعرف القاصي والداني أنه لن يمكن تحرير العراق من دون التعاون بين شيعته وسنته، ولكن الشيعة العراقيين لا يهمون القاعديين إلا بوصفهم "رافضة" يمارسون تأمرا تاريخيا على "أهل السنة والجماعة" (إقرأ أهل المذهب السلفي/الحنبلي)، وهو ما يشكل عاملا طاردا لجهود التقارب بين صفوف المقاومة السنية والشيعية. وتنكشف حدة هذه الرؤية التي ترى الشيعة عدوا ضروريا في الحالة اللبنانية حيث لاطالما قام القاعديون بالتشكيك في حرب المقاومة التي خاضها حزب الله، وتحتوي مواقعهم الالكترونية على سبيل المثال على قصص تشير الى "إهتداء" مقاتلين عرب ذهبوا لمساعدة "قوى الضلال الرافضي" في لبنان قبل إستفاقتهم وانضمامهم الى صفوف "المجاهدين" في إفغانستان والشيشان: فـ"الجهاد" بمعناه القاعدي هو سلوك مذهبي (سلفي/حنبلي) قبل أن يكون حربا ضد "اليهود والنصارى". وهكذا ليس تكفير الديمقراطية في هذه الحالة مجرد تفصيل فقهي يتعلق بقواعد أساسية للإسلام (كما يحاجج الظواهري) بل هو جزء من منهج فكري إقصائي يرتكز على الفرز المذهبي، ويتسم بالإعتقاد المطلق في طهريته الذاتية، وهي حالة لا تجد جذورها في قواعد الفقه الإسلامي (كما يعتقد منظرو القاعدة) بل في طبيعة اللحظة الراديكالية الراهنة والتي تحتاج على أي حال إلى مثل هذا الخطاب الطهري مهما كانت هويته الثقافية. وهذا النهج، كأي نهج طهري اخر بما في ذلك الطهرية البلشفية، سيقوم في النهاية بتفجير صراعات داخلية لامتناهية تنهك الصورة الناصعة للطهريين. وهكذا لا يهم إن كانت الطهرية القاعدية طهرية ربانية/سماوية على المستوى الخطابي فإن شروطها ومعانيها هي واقعية/أرضية لا تختلف عن شروط ومعاني الطهرية البلشفية.
في الخاتمة نود أن نكرر ما سبق أن أشرنا إليه وهو أننا لسنا بصدد التقييم القيمي لأي من الظاهرتين، البلشفية والقاعدية. كما أننا لم نتجاهل الاختلافات البديهية بينهما بقدر ما رأينا فيهما تعبيرا ضروريا عن منعطف تاريخي دوري تختلف تعبيراته للاختلاف البديهي لمعانيه، فـ"التاريخ—ببساطة—لا يكرر نفسه". غير أننا أشرنا الى أن هذا المنعطف يحتوي تعبيرا فكريا/مذهبيا ثابتا وهو الطهرية التي تتكلم باسم التاريخ/المجتمع بدون الإستعداد للثقة في خياراته الحرة.
إن للطهرية سحرها الخاص. ويبدو أن لذلك السحر تأثير على التعرف البشري الخلاق على بدائل أكثر واقعية للخلل الذي يقف وراء أي لحظة راديكالية. غير أن تلك البدائل الوسطية تنشأ تحديدا على أنقاض البدائل الطهرية. فليست الإمكانية الواقعية لتحقيق المشروع الطهري هي التي تجعله يساهم في صنع التاريخ. يساهم هكذا مشروع في إنتاج مراحل تاريخية جديدة بقدر مساهمته في صناعة الواقع الراديكالي الناشئ عن الإعتقاد فيه. أي بقدر توفيره للظروف المناسبة لبدائل قادرة على تجاوز طبيعته الطهرية بالذات.
الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية
نُشر كاملا في موقع ميدل إيست أون لاين في 5 فبراير (فيفري) 2005 و على جزئين في صحيفة القدس العربي يومي 4 و 11 فبراير (فيفري)