Friday, July 01, 2005

التيار الاسلامي المعتدل في مواجهة اختبارات الحوار الأمريكي وتحديات التيار "القاعدي"

التيار الاسلامي المعتدل في مواجهة اختبارات الحوار الأمريكي وتحديات التيار "القاعدي"(1)
الطاهر الأسود (*)
لن يكون هذا المقال قائما بالأساس على جرد دقيق للمعطيات الخبرية والتحليلية التي تراكمت طوال الفترة الماضية - والتي تمتد الى حوالي العام والنصف منذ زمن كتابتنا لمقال حول رؤية (أو الأصح رؤى) الولايات المتحدة للتيارات الاسلامية (أقلام أون لاين عدد فيفري 2004).[i] في المقابل سنعمل على الانسياق في جملة من الخواطر التي تعكس ما تراكم من انطباعات وتحاليل قمنا بها خلال الفترة الماضية (بالخصوص سلسلة من المقالات نشرت في شتاء 2004 وربيع 2005)[ii] و هوما نعتقد أنه أسلوب يخفف من وطأة تكاثر التقارير الاخبارية والأبحاث المنشورة في هذا الموضوع (من قبل مراكز بحث أمريكية أصبح من الصعب عدها والأهم من ذلك أحيانا تحديد تأثيرها الفعلي في صناعة القرار السياسي).
إن المسألة الأولى التي سنحاجج عليها هنا هي تنسيب تقييم المواقف الأمريكية والنظر الى السياسة الأمريكية في علاقة بموضوع الحوار مع التيارات الوطنية بما في ذلك التيارات الاسلامية المعتدلة لا كسياسة ثابتة ونهائية ومنسجمة بل كسياسة تعرف الكثير من الاضطراب لأنها تعيش حالة انتقالية ترجع جزئيا لنتائج تلك السياسة بالذات. إن محاولة تحديد السياسة الأمريكية ضمن خطوط محددة لمجرد الاحساس بالاطمئنان والخلود لشعور الثقة المزيفة وأننا نعرف "نوايا أمريكا" هوأسلوب ربما يحقق نوعا من الجاذبية الشعبية المؤقتة ولكن من دون أن يعمل على فهم ما يجري وبالتالي الاستعداد لتحديات المستقبل. من جهة أخرى سنطرح مسألة العامل الرئيسي الذي يلعبه التيار "القاعدي" (عن تسمية تنظيم "القاعدة") في علاقة بهذا الموضوع. إن النقطة الرئيسية التي سنركز عليها الاهتمام هنا هي المصلحة العربية أولا في مواجهة هذا التيار الذي نعتبره من المخاطر الرئيسية على السلم الأهلي العربي لا يقل في ذلك خطورة عن وقائع ومشاريع الاحتلال الأجنبي المباشر. إن مواصلة الاعتقاد في أن الاحتلال وحده هوالمسؤول عن هذه الظاهرة وبالتالي يتحمل مسؤولية مواجهته إنما هوتجاهل للعوامل الداخلية (ثقافية وسياسية) لمثل هذا التياركما أنه استقالة عن تحمل مسؤولية الجبهة الداخلية العربية في مواجهة التحديات الخارجية.
ملاحظات حول الجدال العربي من المواقف الأمريكية
من الضروري في البداية تقديم بعض الملاحظات الأولية في علاقة بالمادة المنشورة عربيا (والتي بلغت كما مهولا خلال الأشهر الأخيرة) حول موضوعنا هذا.
أولا، لم يكن هناك في البداية (أي قبل حوالي العام أوحتى أقل من ذلك) أي اهتمام جدي عربيا (وحتى دوليا في بعض المستويات) بمؤشرات المتغيرات المتعلقة بالسياسة الأمريكية في علاقة بالتيارات الاسلامية إلا مع حدوث اجتماعات (أوأشباه اجتماعات) وتصريحات دللت من خلالها الولايات المتحدة (ومن بعدها الاتحاد الأوروبي) بشكل صريح بأنها في أقل الأحوال بصدد مناقشة القبول (والتسويق) لامكانية مشاركة حركات اسلامية معتدلة في مسار الدمقرطة ومن ثمة الحكم عربيا. وهذا يمكن أن يكون طبيعيا في علاقة بمواقف أحزاب وأطراف سياسية معنية بالاعتناء بماهومرئي وحيني. غير أنه يدل على حالة من عدم التركيز بالنسبة لجيش كامل من الخبراء والمعلقين والذين لا يستحقون انتظار التحقق الاعلامي (أي عبر واجهة التصريح الرسمي) لموقف سياسي معين حتى يبادرون الى الاهتمام الجدي به. ونعني هنا تحديدا مسألة رئيسية: مازال يقع التعامل، في محيط جيش الخبراء والمعلقين هذا، مع الساحة السياسية الأمريكية بشكل كلاسيكي، أي يقع التصرف مع متغيرات سياسة الادارة الأمريكية من خلال تعريف كلاسيكي للدولة يقع تصوره وتمثله في مثال الحكومة الأمريكية. ويتعلق هذا التعريف الكلاسيكي، والذي يستجيب لمثال أوروبي قاري ولا يدرك خصوصية الوضع الأمريكي، بأن المسؤول الرئيسي على صياغة المواقف الاستراتيجية (ومن ثمة المرجعيات الأساسية التي تحدد التسيير السياسي اليومي) هوفريق محدود من المسؤولين السياسيين التنفيذيين الذين يتصدرون الواجهة الاعلامية (الرئيس، رئيس الوزراء أوالحكومة، زعيم كتلة برلمانية حاكمة، وغير ذلك من الهياكل السياسية الحاكمة المعتمدة دوليا) وهي رؤية تجد أيضا مثالها في تجربة الحكم الشيوعي (اللجنة المركزية للحزب هي ذاتها القيادة السياسية للبلاد والعكس صحيح أيضا).
غير أن الوضع مختلف في الولايات المتحدة ويتميز بخصوصية تبعث على الاهتمام. وتتمثل هذه الخصوصية في الدور غير العادي في صناعة الموقف الاستراتيجي (على الأقل في خطوطه الايديولوجية والنظرية العامة) لمؤسسات بحثية محددة غير حكومية في الظاهر ولكن فعليا هي حكومية بمعنى أن لها علاقة بالأطر السياسية والحزبية الحاكمة وذلك عن طريق الارتباطات المالية والسياسية وحتى الشخصية الوطيدة بأحد من الفاعلين السياسيين الأساسيين في البلاد أي الجمهوريين والديمقراطيين، أوبتيارات أساسية تعمل ضمن أطرهم الحزبية أوفي تنسيق قوي معها. ويعني هذا الوضع أن صناعة القرارات الاستراتيجية تمر قبلا بمخبر نظري وايديولوجي يتبنى تحديدا رؤية فلسفية معينة في علاقة ليس فقط بالمسائل السياسية والعملية بل حتى بالعالم وبإشكالات تجريدية. وهكذا لا تتعلق مهام بعض أهم هذه المراكز (مثل الراند والهريتاج فاوندايشن ومعهد المؤسسة الأمريكية) بملفات محددة (مثل السياسة الخارجية) بقدر ما تتعلق بكل شيء تقريبا، وهي بالتالي تجمع نخبة من الخبراء يشتركون في رؤية فلسفية عامة ومنسجمة. وهذا لا يعني عدم وجود مراكز مختصة (في السياسة الخارجية مثلا: مجلس العلاقات الخارجية) ولكنها أيضا تتميز بالطابع الانتقائي لعناصرها أي أنهم عموما يشتركون في رؤية عامة تملي رؤيتهم الخاصة في ذلك الملف المحدد. والمواقف السياسية اليومية للادارة الأمريكية تستجيب في النهاية لتلك الرؤية العامة من دون أن يعني ذلك المرور بمراحل طفيفة من التغاير تتعلق أساسا بامسائل التوقيت والمكان. وُجد هذا الوضع منذ زمن طويل ويمكن تحديده على الأقل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبروز “الرجل ايكس” (جورج كينان) خاصة عند نشره مقالا في نشرية الفورين افيرز التابعة لمجلس العلاقات الخارجية (تأسس قبيل الحرب العالمية الثانية) سنة 1947 والذي أصبح المرجع الرئيسي للسياسة الأمريكي طوال فترة الحرب الباردة. ولم تصبح هذه الخصوصية، كما هومعلوم الان، إلا أكثر بروزا مع الادارة الجديدة أي فريق بوش الابن. وهنا من الضروري التنبيه الى مسألة جانبية هنا وفي علاقة تحديدا بملف السياسة الخارجية: أن تيار "الواقعية" (أي التيار الذي أرساه كينان وتصدر كيسنجر بصفته باحثا ثم بصفته السياسية التنفيذية قيادته) هوليس أقل ايديولوجية من أطروحات التيار النيومحافظ. ولذلك فمن التضليل (كما يقوم البعض في الولايات المتحدة) توصيف التناقض بين التياريين كتناقض بين تيار "ايديولوجي" واخر "براغماتي". فالذرائعية والبراغماتية هي فلسفة في ذاتها تتميز بنفس القدر من الحس الايديولوجي. ويتعلق هذا النقاش في الواقع بخلط اصطلاحي بين مفهومي "الجمود العقائدي" و"الايديولوجيا" عمل على إبرازه التيار "الواقعي" تحديدا (شخص مثل فوكوياما يدفع تجاه هذا الخلط في الوقت الذي يتبنى فيه رؤية عقائدية وفلسفية شاملة وبالتالي ايديولوجيا).
وتنسجم هذه الوضعية الأمريكية الخاصة مع البنية الفكرية والثقافية والاقتصادية للولايات المتحدة بشكل عام. حيث أنه (وبشكل تجاوزي وربما تسطيحي أكثر من اللازم) بقدر ما يحضى القطاع الخاص الأمريكي بسلطة كبيرة وحرية استثنائية في المجال الاقتصادي فإن "القطاع الخاص" الفكري أوالايديولوجي يمتلك سلطة مماثلة. ومؤسسة الدولة في الحالتين (أي من جهة مهامها الاقتصادية أوالسياسية) إنما تخضع على مستوى الممارسة لما يوفره هذا "القطاع الخاص" من مرجعيات أساسية واستراتيجية. هناك طبعا علاقة مباشرة بين القطاع الخاص الاقتصادي والاخر الايديولوجي: حيث يدفع الأول بالأموال للثاني.
على كل حال نرجع لمبدأ ملاحظتنا الأولى: في الوقت الذي كان فيه على المعلقين والخبراء التركيز على المؤشرات المبكرة والصادرة تحديدا من مراكز صناعة القرار تم الانتظار حتى صدور الموقف السياسي الرسمي. بمعنى اخر كان هناك سوء فهم لماهية "مركز صناعة القرار" بالنسبة للنموذج الأمريكي. وفي الواقع فقد تابعت بعض مراكز الدراسات العربية أوغيرها من الحلقات السياسية والإخبارية ما تصدره المراكز البحثية الأمريكية غير أن ذلك لم يتعد تعريب الوثائق بدون أي جهد جدي لتركيز النقاش وتعميقه حول محتوياتها (نشرت مثلا نشرية المستقبل العربي في الصيف الماضي تعريبا لأحد التقارير المهمة التي أصدرتها مؤسسة الراند ولكن من دون تعليق).

وحتى إن ظهرت هنا وهناك محاولات للنقاش فهي تنزع لإصدار موقف سياسي سطحي ينزع لتبرئة الذمة وإعلان النوايا الشيطانية الأمريكية، أي بالتحديد القفز على مرحلة أساسية تلى القراءة أي بكل بساطة فهم المقروء.
ثانيا، وهذه الملاحظة تتعلق بسلوك معاكس تماما لما تعرضنا له في الملاحظة الأولى وتتمثل في المبالغة الراهنة في التعويل على ما تصدره مراكز البحث الأمريكية مهما كانت وبغض النظر عن تكرارية محتواها والأهم من ذلك بغض النظر عما يمكن أن تمثله من ثقل في علاقة بصناعة القرار. وقد اجتاح في الواقع المشهد الاعلامي العربي مد هائل من المقالات والحوارات والدراسات العربية بداية السنة الجارية (2005) تكرر وتجادل في ذات الموضوع وهوما ترافق مع ظاهرة الاهتمام المبالغ فيه بأي شيء يمكن أن يُكتب أمريكيا. وبمعنى اخر تم تجاهل التقارير والمؤشرات الأمريكية التي تستحق الاهتمام عند صدورها في حين يقع الان اجترار مواقف مكررة وأحيانا غير مهمة.
ثالثا، نتاجا لكل ما سبق فقد حدث ارتباك كبير على مستوى تفسير وتحليل السياسة الأمريكية الراهنة. وانعكس هذا الارتباك من خلال عدم القدرة أوالمحدودية تحديدا في تفسير الارتباك الأمريكي الرسمي ذاته في علاقة بهذا الموضوع. وبشكل عام يتم القفز من الارتباك والعجز عن تفسير ظاهرة الارتباك الأمريكية الى مواقف تشكك أصلا في وجود أي متغيرات أوحتى إحتمال حدوثها في الموقف الأمريكي تجاه الحركات الاسلامية المعتدلة. وفي النهاية لن تتبقى مسافة ذات شأن تفصل بين هذا الموقف المتسرع لبعض النخب العربية والموقف السطحي الذي يدافع عنه التيار "القاعدي"، كما عبر عنه بشكل واضح المنظر الرئيسي الراهن لهذا التيار أيمن الظواهري، والذي يرى في أي إصلاحات سياسية سلمية مجرد مؤامرة أمريكية لتأبيد "الطاغوت المحلي" من خلال تعويض "عملاء" بـ"عملاء" اخرين. وفي الواقع تثير هذه الظاهرة (أي المسافة غير المنظورة تقريبا بين جانب من النخب العربية والتيار "القاعدي") الانتباه خاصة وأنها مسكوت عنها وهوما يدعو، بالفعل، الى الاستياء لأنها تعبير دقيق عن حالة اليأس الراهن في بعض الأوساط النخبوية.
المعضلة أن هذه القفزات على المستوى الاعلامي العربي تحدث بشكل قياسي لا تعكس رغبة في التأني وتأمل مشكلات أسلوب الطرح عوضا عن التقافز الى مشكلات الموضوع ذاته. إن المسائل الأساسية التي يجب الاحتفاظ بها بناءا عما تقدم تتمثل فيما يلي:
-الأهمية الاستثنائية للمنظر أوالايديولوجي في صناعة القرار السياسي للادراة الأمريكية. نستحضر هنا بسرعة إطارا كلاسيكيا حداثيا لمفهوم القرار السياسي. نستحضر هنا، تحديدا، الأجواء السحرية للخصوبة الايديولوجية التي طبعت أوروبا القرن التاسع عشر وجانبا من القرن العشرين حيث كان للنقاش الفلسفي التجريدي تأثيرا قويا على مجال القرار السياسي. نستحضر، على سبيل المثال، تلك المرحلة الذهبية من الحركة الشيوعية عندما كان القرار السياسي تفصيلا طفيفا في خضم تجاذبات ايديولوجية ضخمة وبنيوية تتعلق بالمنهج وبأصول وسائل النظر... عندما كان السياسي "التعبير المركز" للفلسفي. والحقيقة، أن مستوى متابعة المعلقين والخبراء العرب لهذه الظاهرة الأمريكية الإحيائية لتقاليد حداثية بدت وكأنها في معرض الاندثار لا يرتقي الى المستوى المطلوب. حيث تتم مواجهة هذه الدرجة الرفيعة من التجريد النظري بتحاليل سياسوية لا تتجاوز سطح النقاش الفعلي. إن قراءة مقالات لشخصيات محورية في تقريرالسياسة الأمريكية الراهنة مثل تشارلز كراوثمر وفرانسيس فوكوياما وجورج كيغان (وهم بالمناسبة لا يتقلدون أي منصب رسمي) مقابل قراءة من يُفترض أن يقابلهم من المحللين والخبراء العرب يشير الى معطى أساسي: لا يتعلق التفاوت بين الولايات المتحدة والطرف العربي بذلك المستوى البديهي أي ما هوتقني-تكنولوجي فحسب، يتعلق الأمر، أكثر من ذلك، بعمق الرؤية الفلسفية وبرهافتها وحسها الفكري الرفيع بغض النظر عن نتائجها التدميرية والتخريبية. مقابل النسق البطيء، الواثق من نفسه، الرفيع للاستراتيجيين الأمريكيين يمثل غالبية الاستراتيجيون العرب كلاهثين، سطحيين، مشوشين. نؤكد على هذه المسألة في الوقت الذي نعتقد فيه أنها في غاية الأهمية على مستوى مستقبل صناعة القرار (أوالقرارات) العربية (رسمية أوأهلية) وأن بلوغ ذلك المستوى ليس أمرا مستحيلا على فرض الكفاءات الأكاديمية العربية العديدة. ولكن نؤكد على ذلك ونحن عارفون أيضا بمحدودية الكثير من المراكز البحثية العربية ماليا وسياسيا بسبب ارتباطها بأطراف لديها خطوط حمر كثيرة تمنع الارتقاء بمستوى التفكير. كما أن القطاع الخاص العربي لازال لم يرتق فكريا بعد (فضلا عن ارتباطاته السياسية المعيقة) لدعم مراكز بديلة تساهم في الـتأسيس لحيوية فكرية عربية ترتقي لمستوى التحديات المطروحة.
-أن الأهمية الاستثنائية للايديولوجي في صناعة القرار السياسي الأمريكي لا تعنى أن كل ايديولوجي أومنظر أومركز بحث أمريكي يساهم بالضرورة في ذلك. إن العمل الضروري الذي يجب القيام به عند تحليل أي تقرير أمريكي هوأولا تفكيك البنى المالية والسياسية لمصدره. وتوجد بالمناسبة مواقع أمريكية على الانترنت تقوم بذلك مجانا حيث تقدم مصادر تمويل والارتباطات السياسية لأي مركز بحث. إن تقييم الـتأثير السياسي لأي تقرير لا يمكن أن يتم بمعزل عن هذه الخطوة الضرورية. وهكذا فإن القفز الى مسلمة (ليس عليها إثبات) من نوع أن هذا التقرير أوذاك يعبر عن موقف موحد ومنسجم داخل الادارة الأمريكية أوحتى عن موقف أحد الأطراف في الادارة الأمريكية إنما هي خطوة خاطئة منهجيا كما أنها تؤسس لاستنتاجات تزيد في غموض ما هومطروح عوضا عن تبيانه وتوضيحه.
-وهنا نأتي الى المسألة الأخيرة التي يجب الاحتفاظ بها وهي بيت القصيد هنا: ليس هناك موقف ايديولوجي حاسم داخل الادارة الأمريكية. يوجد صراع بين أكثر من موقف ايديولوجي (إأي أكثر من مركز بحث مؤثر أوأكثر من رأي داخل مركز البحث الواحد أحيانا) وهوما يفسر الارتباك الذي يطبع المواقف السياسية الأمريكية. إن تفسير ذلك شديد البساطة على ما نعتقد: كل سياسة جديدة تعترض الى اختبارات ورفض ولا تستطيع فرض الاحترام الا بعد صراع طويل. علينا أن نضيف هنا أننا محظوظون لأن هذا الصراع في الإطار الأمريكي يتسم بدرجة كبيرة من العلنية لا توجد في أي مثال اخر ولا يتعلق ذلك فقط ببعض الاشاعات حول صراعات تشق المسؤولين التنفيذيين (مثلا تباينا بين رايس ورامسفيلد) بل الأهم من ذلك يتعلق الأمر بالصراع النظري الايديولوجي على صفحات مواقع أونشريات متخصصة والتي تمثل المجال الفعلي لرصد الصراع الحقيقي الذي يشق هذه الادارة، وهوالمجال الذي للأسف الشديد لا يولي له المحللون والخبراء العرب المشار اليهم أعلاه إي اهتمام جدي. سنأخذ مثلا محددا للتدليل على ذلك: في مقال نشرناه أواخر العام الماضي ("النزاع بين النيومحافظين حول طبيعة الديمقراطية الاسلامية" القدس العربي 11/12 ديسمبر2004 وميدل إيست أونلاين13 ديسمبر 2004)[iii] تعرضنا الى جدال قوي حدث خلف الكواليس السياسية وتحديدا في النشرية الرئيسية للتيار النيومحافظ في علاقة بشؤون السياسة الخارجية "الناشيونال انترست" بين قطبين من هذا التيار تشارلز كراوثمر وفرانسيس فوكوياما. تميز الصراع بطابعه الايديولوجي البارز حيث قام كل منهما بمحاولة لتمييز المدارس الفكرية التي تؤثر في السياسة الأمريكية الراهنة. وقد كان هذا الجدال (والذي استمر ولايزال على صفحات الناشيونال انترست) عميقا الى درجة كبرى تم فيه طرح أكثر المسائل الاستراتيجية أهمية على صعيد القرار السياسي الأمريكي. المهم أن ما برز من جدال بين هذه الأوساط المنظرة منذ بداية سنة 2004 بدأ في البروز أخيرا فقط على صعيد السياسة الأمريكية التنفيدية وتحديدا منذ بداية العهدة الرئاسية الثانية للرئيس بوش وهوما تمثل في الانقسام بين (وهي مصطلحات صاغها رئيسيا كراوثمر) تيار "واقعي ديمقراطي" (يختلف بدوره في داخله حول تقييم المغامرة الأمريكية في العراق: كراوثمر يراهاايجابية وفوكوياما يراها سلبية) واخر "كوني ديمقراطي" (يمثله بيل كريستول رئيسيا) وهوالصراع الذي يفسر ارتباك الرؤية الرسمية الأمريكية التي تكشف نفسها منذ أشهر قليلة على صعيد التصريحات الرسمية (سواء تصريحات الرئيس بوش أومساعديه والذي أصبح من ضمنهم بالمناسبة زوجته التي بدأت تقوم بدور سياسي مموه خاصة منذ بداية العهدة الرئاسية الثانية) هذا الارتباك الذي يمكن اختصاره في التصريح الدوري الي يكرره الجميع في الادارة الامريكية الآن: "الاصلاح ضروري في المنطقة ولكن لا يمكن أن يكون فوريا" وهوتصريح يحاول إخفاء الصراع حول نسق ومستوى الاسهام الأمريكي في الدمقرطة تحت سلسلة من المقولات البديهية.
مسألة العاملين العراقي والفلسطيني
يشير البعض (وهم كثر في الواقع) من هواة التحاليل التآمرية أن ما يجري على مستوى "السياسة الأمريكية" (كأنها منسجمة ونهائية) وتحديدا في علاقة بمسألة ما يدور حول مؤشرات أمريكية لقبول إسهام حركات إسلامية معتدلة في عملية الاصلاح الداخلي إنما هي تعني تحديدا وحصرا نماذج من نوع التنظيمات التي قبلت بالتعاون مع قوات الإحتلال الأمريكية في العراق. ويقصد هؤلاء (وهم يتماهون مع موقف التيار "القاعدي" في علاقة بهذه المسألة) أن مفهوم التنظيم الاسلامي المعتدل في المنظور الأمريكي هوتحديدا تنظيم يقبل بانتهاك السيادة الوطنية ويقبل بالاعتراف بوصاية الاحتلال والعمل بإمرتها والتعاون معها ضد التشكيلات المقاومة لها. وباختصار يقع تأويل معنى "الإعتدال" (في التعريف الأمريكي) تجاه معاني "الخيانة" و"العمالة". إن هذا التحليل خاطئ.
أولا من الضروري الاشارة الى مسألة رئيسية في علاقة بالمشهد العراقي وتحديدا المشهد الشيعي في العراق (حيث لا يستدعي المشهد السني أي نقاش كبير في علاقة بهذه المسألة خاصة وأن الذي يحضى بالتمثيل السياسي الشعبي الفعلي للأطراف الاسلامية هناك هي "هيئة العلماء" وليس "الحزب الاسلامي" كما يعتقد البعض، ومن المعروف عدم تورط الهيئة في أي أنشطة موالية للاحتلال بل على العكس). وهي أنه باستثناء أطراف هامشية جدا على المستوى الشعبي (مثل "المؤتمر الوطني" لأحمد الجلبي) فإن الأطراف التي تمثل أغلب هذا الطيف تتميز بطرحها الديني. طبعا هناك التيار الصدري والذي لا يجوز إقحامه أصلا في شبهات النقاش حول العلاقة بالاحتلال الأمريكي، حيث يتصدر هذا التيار ما يمكن الاصطلاح عليه بـ"المقاومة الشيعية" ولوأنه اختار أخيرا المقاومة السياسية عوض العسكرية، وهوالأمر الذي لا توجد مؤشرات تدل على أنه سستمر طويلا. يبقى إذا الموقف الذي تتصدره مرجعية النجف وواجهاتها السياسية سواءا "حزب الدعوة" (بتياريه) أو"المجلس الأعلى للثورة الاسلامية" والذي ساهم بنشاط ولايزال في مشروع الاحتلال القائم سواءا في مرحلة "حكم بريمر" أومرحلة "الحكومة عراقية". وهنا علينا الاعتراف أن هذا الطرف يستحوذ على تأييد أعداد هامة من الشيعة العراقيين أحببنا ذلك أم كرهنا، وهوالأمر الذي يجب التعامل معه وفهمه عوض تجاهله. وهنا علينا أن ننتبه الى مسألة أساسية مسكوت عنها عموما: يمثل موقف مرجعية النجف موقفا مواليا لتيار رئيسي يسيطر على إيران (موقف الحزبين المذكورين أعلاه في موالاة إيران موقف معروف ولا يحتاج التدليل). وهكذا لسنا هنا بصدد "حركات إسلامية معتدلة" تتعاون مع الاحتلال بقدر ما يعترضنا وضع أكثر تعقيدا: حيث ترى هذه المرجعية (الايرانية حتى من ناحية الانتماء القومي وهوأحد مصادر توتر علاقتها مع التيار الصدري) أن التعاون مع الاحتلال الأمريكي في العراق هوفي المصلحة القومية الإيرانية من عدة جوانب: دفع أي بديل اخر محلي (بعثي، سلفي قاعدي...) ترى إيران أنه يشكل تهديدا أكبر على المدى البعيد من الطرف الأمريكي الذين يرون أنه سيذهب آجلا أم عاجلا، أن التعاون مع الاحتلال الأمريكي في العراق يوفر للإيرانيين فرصة للضغط أوالمناورة في علاقة بملف العلاقات الأمريكية الايرانية وهوالموضوع الرئيسي بالنسبة لهم مقارنة بمسألة يبدومن الواضح أنهم يعتبرونها مسألة ثانوية أي إحتلال العراق ومعاناة الشعب العراقي جراء ذلك. وبمعنى آخر لا تؤمن أطراف مرجعية النجف بمفهوم الوحدة الوطنية العراقية بقدر ما يؤمنون بأولوية المصلحة القومية الإيرانية. وهنا فإن المصلحة القومية الإيرانية لا تعني مصلحة قومية تحديدا بقدر ما تعني مصلحة الإمامة الشيعية التي تستحوذ القيادة الدينية الايرانية على مهمة تسييرها بشكل عام يتجاوز الاطار القومي الإيراني بفعل القوة المالية والسياسية التي تتميز بها. بمعنى اخر لا يتم هنا التعاون بين طرف عراقي "اسلامي معتدل" معزول مع قوات احتلال أمريكية بقدر ما يتعلق الأمر بلعبة أكبر. والأمريكيون على معرفة تامة بهذا الوضع المعقد ويتعاملون معه بحذر شديد.
إن ما نريد أن نصل اليه هنا هوما يلي: لا يقصد الأمريكيون بـ"الطرف الاسلامي المعتدل" الأطراف العراقية المذكورة أعلاه حصرا أوبخططها السياسية لأنها ببساطة تعبر عن وضع شديد الخصوصية يعرفه الأمريكيون ولا ينطبق بالتأكيد على أوضاع أقطار أخرى يستهدفون إشراك الأطراف الاسلامية فيها (مثل فلسطين ومصر والجزائر...). إن النقطة المشتركة الوحيدة بين هذه الأطراف غير العراقية والأطراف العراقية المذكورة والتي تركز عليها كل الدراسات والأبحاث الأمريكية المعنية منذ البداية هي التالية: أن الطرف الاسلامي (مهما كان وأينما كان ومهما كانت ارتباطاته السياسية) هوالطرف الأكثر جاذبية عربيا الان وهوالطرف الذي لديه تمثيل شعبي حقيقي. إن هذه الظاهرة بالذات، ظاهرة "أسلمة الحياة السياسية العربية"، هي التي تجذب الاهتمام الأمريكي والتي تشكل حجر زاوية في إعادة تقييم السياسة الأمريكية في المنطقة ككل وليس مدى ارتباطه بالاحتلال الأمريكي في العراق.
إن هناك طبعا تأثير للوضع العراقي على المواقف الأمريكية. لقد أشرنا العديد من المرات (مثلما هوالحال في مقالنا المذكور في عدد فيفري 2004 لأقلام أون لاين) الى أن الوجود الاستعماري الأمريكي في العراق سيجعل الولايات المتحدة في احتكاك أكبر مع الوضع العربي ومميزاته وأهمها المد الاسلامي فيها بكافة تلويناته. ز كنا قد أشرنا الى أن هذا الاحتكاك بالذات هوالضي سيجعلها تندفع أكثر نحوالتمييز بين أطراف هذا المد الاسلامي. ولا يتعلق ذلك بتفريقها بين الطرف الاسلامي الذي يتعاون معها من ذلك الذي لا يتعاون معها وإنما يتعلق الأمر بالتفريق حتى داخل معسكر المقاومة العسكرية التي تواجهها.
في مقال طويل ("التفكير العسكري الأمريكي ومسائل الانتصار والهزيمة" في القدس العربي 31 ديسمبر 2004 وميدل إيست أون لاين 19 نوفمبر 2004)[iv] كنا أشرنا الى قناعة أساسية: المقاومة العراقية ستوصل الاحتلال الأمريكي وتحديدا مؤسسته العسكرية الى الاقتناع باستحالة السيطرة العسكرية الأمريكية على العراق (وهناك تيار موجود داخل هذه المؤسسة ومستعد للتوصل لهذه القناعة) وبالتالي اتخاذ قرار الانسحاب. ولكن عند التحضير لهذا القرار فإن الولايات المتحدة ستعمل على خوض مفاوضات مع هذه المقاومة مثلما هوالحال في أي انسحاب مماثل (أمريكا في الفيتنام وبقية القوى الاسيتعمارية أواسط القرن الماضي). في إطار هذه المرحلة السياسية (والتي توجد مؤشرات محتشمة على بدايتها) ستشتبك الولايات المتحدة مع نوعين من المقاومة العسكرية. في مقال أيضا سابق ("حول القاعديين في العراق وماهية المقاومة العراقية" القدس العربي 25 أكتوبر 2004)[v] كنا تعرضنا الى هذه المسألة بالذات. في الوقت الذي توجد فيه مقاومة عسكرية واحدة في العراق منسجمة عموما من حيث أسلوبها يوجد نوعين من المقاومة العسكرية: مقاومة عراقية وطنية تستهدف تحرير العراق أي لديها سقف سياسي محدد واقعي يمكن أن يتحقق كما أسلفنا الذكر (أي القبول الأمريكي بالانسحاب العسكري) ومقاومة عسكرية أخرى (يمثلها التيار القاعدي بمختلف فصائله)، تستعمل الارهاب المدني في أحيان كثيرة تحت تبرير "التترس"، لديها سقف سياسي تدميري عراقيا وغير واقعي دوليا: من جهة أولى ليست مهتمة بتحرير العراق والحفاظ على وحدته الوطنية بقدر ما تدفع تجاه مشروع طائفي يقابل المشروع الطائفي الشيعي المدعوم إيرانيا ويروج للحرب الأهلية، فلا ترى العراق وطنا (فذلك "كفر" حسب ممارستها ورؤاها) بقدر ما تراه ساحة جغرافية ("بلاد الرافدين") للصراع بين "المسلمين"(التيار السلفي القاعدي تحديدا الذي ينقسم الى "مهاجرين" و"أنصار" أي غير عراقيين وعراقين والذي يعتقد أنه يتكلم باسم "أهل السنة والجماعة") وبين "الرافضة" وغيرهم من "الكفرة". ودوليا يعتقد هذا التيار جديا أنه قادر على إزالة الولايات المتحدة من الوجود.
وبمعنى اخر عندما ستُدفع الولايات المتحدة (وهي الآن بصدد السير نحوذلك الطريق) نحوالتفاوض السياسي للانسحاب ستجد بشكل متزايد أن هناك مقاومة يمكن التعايش معها دوليا على المدى الطويل (أي عندما تمسك بشؤون دولتها الوطنية) وطرف اخر ليس مهتما أصلا بعالمنا الدنيوي حيث يصفي حسابات سماوية بل يعتقد أن مجموعة من المتوترين المؤمنين بوحدانية طهريتهم مقابل نجاسة كل من تبقى (وحتى إن لم يكونوا نجسين ستتولى السماء انقاذهم في الحياة الأخرى، كما يتم تبرير قتل الأبرياء في فقه التترس القاعدي) قادرون بسبب ذلك على الاطاحة بالجميع.
وهكذا فإن الدرس العراقي للولايات المتحدة في علاقة بالـ"الاسلام المعتدل" لا يأتي ولن يأتي من الأطراف المتعاونة معها بل من صفوف الأطراف المقاومة لها. وهنا تأتي أهمية الوضع الفسطيني في تقييم المواقف الأمريكية من مسألة الاسلام السياسي المعتدل.
في الجدال بين كرواثمر وفوكوياما المشار اليه أعلاه برزت مسألة للنقاش لا يقع تداولها في نطاق التصريحات السياسية الأمريكية بنفس درجة الوضوح وهي مسألة ماهية "العدوالوجودي" Existential Enemy للولايات المتحدة. كان منطلق هذا النقاش ملاحظة أبداها كراوثمر حول اعتقاده أن تنظيم القاعدة يمثل "عدوا وجوديا" للولايات المتحدة مثلما كان الحال مع الاتحاد السوفياتي. حيث يرى أن ذلك صحيح ليس فقط لنوايا هذا التنظيم بل خاصة للتحالف الذي يمكن أن يحصل بينه وبين أطراف (أنظمة) تملك مقدرات نووية توفرها للقاعدة يمكن من خلالها تعريض الولايات المتحدة لخطر الإزالة مثلما كان الحال مع المعسكر الاشتراكي. وفي الواقع أتت هذه الملاحظة في سياق تبريره لدعم ضرب العراق حيث رأى (مثلما سوقت لذلك الادارة الأمريكية) أن هذا الخطر كان قائما في حال بقاء النظام العراقي. في معرض رده على هذه النقطة (وغيرها من النقاط التي تبرر للحرب لأنه تخلى عن مساندته لها أوكشف عن معارضته لها) قال فوكوياما أن ذلك غير صحيح لأنه لا توجد دولة تملك المقدرات النووية يمكن أن تدعم تنظيم القاعدة كما أن استعمال الأسلحة النووية لا يمكن أن يتم حسب رأيه بالسهولة التي يعتقدها الكثيرون.
على كل حال هذا نقاش جانبي لما نريد التعرض له. في إطار هذا الجدال برزت للنقاش مسألة تقييم حركات المقاومة الفلسطينية وتحديدا حركتي حماس والجهاد. بالاضافة طبعا لتقييم حزب الله. وهنا ركز فوكوياما على النقطة التالية: لأنه يرى أن قرار الحرب كان بالأساس من تأثير لوبي يفكر في المصلحة الاسرائيلية أكثر من المصلحة القومية الأمريكية فإنه رد أنه لا يرى في حركات المقاومة الوطنية الفلسطينية واللبنانية بما في ذلك الحركات الاسلامية بمثابة "العدوالوجودي" للولايات المتحدة. طبعا يُعتبر هذا الموقف لوحده في غاية الأهمية لأنه يُبرز أنه حتى ضمن أكثر المفكرين الذين يتم تسويقهم من قبل عدد من المحللين العرب كمفكرين أمريكيين أعداء (مثلما يقع التعامل مع فوكوياما من خلال تسطيحه الدائم) يوجد موقف يطرح أمام الأطراف العربية أرضية للحوار مع تيار أساسي داخل النخبة الحاكمة (والتي يعبر عنها بالتأكيد شخص مثل فوكوياما). المثير أكثر أن كراوثمر والذي يقع تقديمه باستمرار كأحد المفكرين والاستراتيجيين دفاعا عن اسرائيل عبر عن موقف مماثل في رده على فوكوياما حيث تبرأ من أي موقف يمكن اعتبار أي من هذه الحركات "عدوا وجوديا" للولايات المتحدة، بل الأكثر من ذلك أكد على أهمية إقحامها في الترتيبات السياسية المحلية وحتى التحاور معها (أنظر مقاله في عدد الخريف من سنة 2004 في الناشيونال انترست). وبالرغم أن وسائل الاعلام ومقالات المحللين العرب قد ركزت على اللقاء الذي حصل في بيروت بين غربيين (بما في ذلك مسؤولين أمريكيين سابقين بمافيهم غراهم فولر: أنظر حول مواقف فولر مقالنا في عدد فيفري 2004 من نشرية أقلام أون لاين) وكل من حماس وحزب الله فإن مؤشرات الإطار الايديولوجي والنظري لمثل هذه المبادرة تسبق ذلك لنجدها مثلا في هذا الجدال بين الثنائي كراوثمر وفوكوياما.
هل يعني هذا أنه لا يوجد في هذه الادارة أوفي الدوائر التي تصنع قرارها أي موقف يعتبر حماس أوحركات مقاومة عربية أخرى "عدوا وجوديا" للولايات المتحدة؟ طبعا لا. هناك من يعتقد في شيئ مماثل وضد هؤلاء يحاجج كل من فوكوياما وكراوثمر. على سبيل المثال فإن شخصا متوترا مثل دانيال بايبس والذي يعتنق بشكل كامل ودون أي تعديلات الموقف السائد ضمن حزب الليكود الاسرائيلي وبالتالي فهويعدل ساعته اسرائيليا وليس أمريكيا يعتقد أن حماس "عدووجودي" للولايات المتحدة. ومن المعروف فإن هذا التيار (الاسرائيلي قلبا وقالبا) داخل الولايات المتحدة له بعض التأثير. وعلى سبيل المثال كان الرئيس بوش قد دفع منذ عامين ببايبس لقمة مؤسسة حساسة مثل "معهد السلام" الحكومي الأمريكي وهوما أثار اعتراضات عديدة من قبل الكونغرس الأمريكي بما في ذلك الجمهوريين. ولكن حظوة هؤلاء قد تراجعت بوضوح منذ تصاعد المقاومة في العراق (وهم كانوا في مقدمة المبشرين بنظرية استقبال القوات الأمريكية بالورود في شوارع بغداد بناء على تقارير استخبارية اسرائيلية) ولكن خاصة بسبب فشل الحكومة الليكودية في القضاء على المقاومة الفلسطينية، وهوما تجسم من خلال الدفع الأمريكي والتشجيع للنظام المصري لاستقبال محادثات "التهدئة" وإشراك حركات المقاومة بما في ذلك حركة حماس في المسار السياسي الفلسطيني. ربما يتخوف الأمريكيون من إمكانية السيطرة الكاملة من قبل حماس على مقاليد الأمور إثر الانتخابات التشريعية القادمة (حيث أجل محمود عباس الانتخابات بعد قدومه من واشنطن) وربما يواصل الرئيس بوش تصريحاته الرنانة حول "إرهابية" حركة حماس. ولكن هذا لا يعني أن "حماس" يتم التعامل معها أمريكيا وفقا لرؤية الليكود أي كطرف يستحق الاستئصال. ونفس الشئ ينطبق على حزب الله وهوما برز من ردة الفعل الأمريكية على النزول الثقيل والمؤثر للحركة الى الشارع كرد على "المعارضة" في لبنان إثر مقتل الحريري، ردة الفعل التي ركزت على الدور الرئيسي للحزب في أي ترتيبات سياسية إصلاحية في لبنان "فقط لويتخلى عن سلاحه".
حول مسألة ضرورة الحسم مع التيار "القاعدي"
ليس التيار "القاعدي" جديدا على الساحة العربية وهوبالتأكيد يسبق من حيث الرؤية تنظيم "القاعدة" ذاته. وعلينا أن نعرفه أولا: هوالتيار الاسلامي الذي لا يؤمن بعض من فيه بجاهلية المجتمع مقابل إيمانية وطهارتهم الشخصية أوالسياسية فحسب بل ينتقلون الى تحليل دم المجتمع والعالم الذين يعيشون فيه من خلال إعلان حرب عامة دولية وأهلية. كانت الساحة المصرية سباقة في هذا المجال حيث نشأت فيها منذ السبعينات أول التيارات التي ستعمل بشكل دقيق بهذا التوجه. وليس من الصدف أن القيادة الحالية لهذا التيار تتكون في جزء منها من عناصر قادت ونشأت في خضم تلك التجربة.
وقد تعرضنا في مقالات مختلفة (أنظر: المقال المذكور أعلاه "حول القاعديين في العراق وماهية المقاومة العراقية". أنظر أيضا: "محاولة لتقييم شمولي للحظة الراديكالية الراهنة: القاعديون بلشفيوالمرحلة الراهنة؟" القدس العربي 4 و11 فيفري 2005 وميدل إيست أون لاين 5 فيفري 2005) الى معطيات مأخوذة مباشرة عن تجارب ونصوص المعنيين بهذا التيار والذي تجاوز بالتأكيد تنظيم القاعدة ذاته ولوإن قيادة الأخير بقيت تلعب تقريبا دور الإرشاد الروحي. وستكون الملاحظات التالية مجالا لتحديث وتلخيص جملة من المعطيات التي يفرضها على الواقع الاسلامي والواقع الدولي حضور هذا التيار وما يطرحه من تحديات في علاقة بالتيارات الاسلامية المعتدلة:
-يجب الاعتراف من قبل جميع التيارات السياسية العربية والنخب أن اكتساحا بطيئا ولكن قويا من قبل هذا التيار بصدد التحقق. المثير للقلق أن هذا الاكتساح يتم بصمت وأحيانا لا يتم اكتشافه إلا عند انفجار قبلة أوسيارة. ولأن هذا التيار لا يؤمن بالعمل السياسي السلمي فإنه يستعصي على أي أجهزة مراقبة في أجواء استخبارية مهما كانت خانقة أن تستدرجه أمنيا بسهولة. وبمعنى آخر فإنه تيار متأقلم تماما من الناحية البنيوية مع أي أجواء سياسية تتميز بالاستبداد، حتى أنه يمكن النظر إليه بوصفه الوليد الاكثر انسجاما مع ذهنية النظام الأمني المنغلق. إن عدم الاعتراف بحقيقة هذا الاكتساح الصامت سيؤدي الى نتائج كارثية في السمتقبل القريب. والتيارات الاسلامية المعتدلة هي في مقدمة الاطراف التي تحتاج الى تقييم سريع ومناسب لهذه الظاهرة.
-الأهم من كل ذلك أنه تيار يُبشر بنظام استبدادي بامتياز يفوق أي شيء يمكن أن يكون قد تعود عليه المواطن العربي، بداية من إلغاء مفهوم المواطنة نفسه حتى من الناحية الشكلية من خلال ما يمليه مفهوم "حاكمية الشريعة" كما يقدمه أيمن الظواهري في كتاباته كمسألة رئيسية في برنامجه للـ"الاصلاح" وهولا يعني حسب تحليله الفعلي إلا تأويلا سلفيا ضيقا لمعنى الشريعة تقصي حتى تلك الأطراف والنخب "المُطلبنة" والتي تساهم حتى بالصمت أوبأوهامها حول "دعم هذا التيار لقضايا الأمة" أو"العمل على تكوين جبهة وطنية معه" في تدعيم هذا التيار، والمثير للسخرية أن مثل هذه النخب تحديدا مستهدفة من قبل التيار القاعدي (أنظر الى المقالات أعلاه لمزيد من التفاصل حول هذه النقطة بناءا على كتابات قيادات التيار). ليس ماهومطروح الاستبداد وحده بل تهديد السلم الأهلية في المجتمع العربي تحت عنوان "حاكمية الشريعة" من خلال إحياء واختلاق أجواء طائفية تصل الى حد التكفير وتطبيق الحد. والتيار القاعدي لا ينتظر الوصول للسلطة لوضع هذا البرنامج موضع التطبيق بل يمارسه في خضم الحروب الأهلية التي يعمل على الدفع تجاهها من خلال اعتداءات تعتمد فقه "التترس" و"ضلال علماء الأمة" وتعريف الأنظمة القائمة بوصفها "طواغيت" وهوما يقتح الباب لاستهداف حتى المواطنين العاملين ضمن مؤسسات الدولة (أنظر توجهاتهم في السعودية والجزائر وحتى لبنان-عناصر مخيم عين الحلوة).
-يعمل التيار القاعدي ضمن خطة تحاول خلط مسألة أسلوب مواجهة القوى الخارجية وتحديدا أوضاع الاحتلال العسكري الأجنبي بمسألة مواجهة الأنظمة القائمة. إن هذا التوجه يجعل هذا التيار موضوعيا في حالة مواجهة مع تيارات وطنية ونزيهة (بما في ذلك التيارات الاسلامية المعتدلة) ترفض استعمال العنف في الصراعات الداخلية. أهم الأمثلة التي تبين احتكاكا بين التيار القاعدي وبقية التيارات الوطنية العربية هوالمثال الفلسطيني حيث يمارس القاعديون تحريضا متواصلا ضدها وخاصة ما يسمونه أحيانا بالـ"التيار العصراني" والذي يشمل خاصة الاخوانيين. إن التحريض المتواصل للتيار القاعدي ضد حركة مثل حماس (وهي بمثابة التجربة الاخوانية في فلسطين) تعكس هذا الاحتكاك. أصلا يرفض القاعديون مفهوم الوطنية ويعتبرونه من الأفكار "الضالة" (أنظر المقالات أعلاه للتفاصيل). إن هذا الاحتكاك في غاية الأهمية لأنه يبين أنه حتى المسألة الأساسية التي على أساسها يُجند القاعديون الكثير من الشبان العرب (أي مسألة الدفاع عن الأرض ضد الاستعمار الأجنبي) هي مسألة مُشوهة لديهم وهوما ينكشف من موقفهم من حركات مقاومة وطنية عريقة مثل حركة حماس هذا فضلا عن حركة مثل حزب الله والتي يتم التعامل معها ببساطة على أنها "حركة رافضية" كما كان اعتبار جبهة المقاومة في الجنوب اللبناني بأنها "مضللة" عن "الجهاد الحقيقي في صفوف الامارة الاسلامية في افغانستان" (كان ذلك خاصة في ظروف انخراط التيار القاعدي في أواخر التسعينات ضمن تحالف كامل مع حركة طالبان).
-إن التيار الاسلامي المعتدل يتحمل مسؤولية تاريخية خاصة لمواجهة هذا الأفق الموحش والخطير. فمن جهة يقوم التيار القاعدي تحديدا بتجنيد تلك القواعد التي كان يمكن أن تكون ضمن صفوف التيار الاسلامي المعتدل لوأن الأخير كان (أولا) يتمتع بحرية العمل السياسي (ثانيا) أنه يساهم بالفعل في بناء نظام ديمقراطي حقيقي. من جهة أخرى أفضل المؤهلين للمواجهة الفكرية (وهي فقهية في أكثرها في هذه الحالة) للتيار القاعدي هوتحديدا التيار الاسلامي المعتدل وليس مجموعة من الليبراليين المتوترين والمعادين للهوية والذين يتميزون بقدرات أكبر من ناحية توجيه الشتائم مقارنة بقدراتهم على جذب اهتمام شارع عربي يعيش حالة متزايدة من التدين. وهنا لا يقدم التيار الاسلامي المعتدل خدمة للولايات المتحدة ومصالحها كما يروج بعض المهتزين والمشوشين بقدر ما يقدم خدمة للأمة من حيث تحصينها من مخاطر الخراب الأهلي والدمار الذاتي.
-إن سياسة إقصاء واستئصال التيارات الاسلامية المعتدلة تساهم مباشرة في دعم التيار القاعدي. هناك العديد من الأمثلة التي يمكن استذكارها. ربما أكثر الأمثلة دقة في علاقة بهذه النقطة هي التجربة الجزائرية: كانت الجبهة الاسلامية للانقاذ تقوم بدور كبير في احتواء التيار القاعدي في الجزائر والذي له جذور محلية ولكن تدعم بشكل كبير مع الوافدين من "الجزائريين الأفغان" أواخر الثمانينات. ومن المعروف الان أن هؤلاء كانوا يخوضون صراعا قويا داخل صفوف الجبهة لاستبعاد الاندماج في النظام الديمقراطي الناشئ آنذاك باعتباره (حسب رأيهم آنذاك والآن) نظاما "ضالا". وكان هذا الصراع موجودا حتى ضمن التيارات السلفية للجبهة حيث كان أحد رموز هذا التيار الشيخ علي بالحاج يتعرض للتجريح المتواصل من قبلهم بسبب دعمه لخيار الانخراط في المشروع الديمقراطي وهوما جعل موقفهم اللاحق المعادي له من قبلهم تطورا منطقيا. إن الهجوم الذي قاده هؤلاء آنذاك وحتى الآن ضد خط الجبهة السلمي عرف زخما خاصا منذ إلغاء الانتخابات والعمل على استئصال الجبهة نفسها. وهوما جعل الأخيرة تتعرض لهجوم مزدوج بين إستئصالين واحد "قاعدي" والآخر رسمي.
إن النقاط أعلاه والتي حاولنا من خلالها تقديم ملامح تميز الظاهرة "القاعدية" وخاصة من جهة ما تطرحه من تحديات على التيار الاسلامي المعتدل تدفع نحوالخلاصة التالية: على جميع الأطراف العربية وخاصة التيارات الاسلامية المعتدلة عدم الاستقالة عن مواجهة التيار القاعدي وتوهم أن الخلاف معه "تناقض ثانوي" مقارنة مع التناقضات مع الولايات المتحدة وإسرائيل والأنظمة القائمة. إن أي مماطلة أوتأخير أوغموض في علاقة بمسألة الحسم الكامل مع هذا التيار واعتباره عدوا وجوديا لبقاء الأمة وإصلاحها ونموها هوسياسة مضرة للغاية بل تهدد وجود هذه الأطراف نفسها. لم يعد هناك داعي لتجنب الانخراط الكامل في مواجهته واعتبار أسلوبه وممارساته إرهابا موجها ضد الأمة. إن مثل هذه الخيارات الحيوية بالإضافة الى الظروف الموضوعية التي تجعل من التيار الاسلامي المعتدل الطرف الأول في المواجهة ضد التيار القاعدي يجعل الولايات المتحدة في موقع لا تُحسد عليه. إن مسألة الحوار مع قوى الأمة الوطنية والنزيهة والتي لا ترغب إلا في علاقات من الاحترام المتبادل دوليا (مقابل توجه التيار القاعدي نحوتدمير الجميع) سيصبح عمليا ليس مجرد أحد الخيارات المطروحة أمام الولايات المتحدة بل ضرورة لا يوجد لها أي بديل.
غير أن المواجهة مع التيار "القاعدي" ليست مجرد مناظرة فقهية من عصور سابقة بل هي محددة بالظروف العربية والاسلامية والدولية الراهنة. حيث أن الطموحات الشعبية العربية لنيل حريات أكبر أصبحت محورا أساسيا في التطورات الراهنة. ربما يكون من المفارق بالنسبة للبعض أن يتزامن هذا الاتجاه مع اتجاه الصحوة الدينية. غير أن الارتباط بينهما يرجع بالتحديد لتزامن التهديدات الخارجية للهوية مع تواصل الاستبداد الداخلي في ظرفية دولية يتأثر فيها الجمهور العربي بنزعة انتشار الحريات السياسية والمنظومة الليبرالية بشكل عام وهي الحركة التي تضاعفت مع انهيار المعسكر الاشتراكي وتحول العالم الى قرية الكترونية. إن هذا يطرح للنقاش الجذور الداخلية للتيار القاعدي والذي لا يمكن الاقتصار في تفسير جذوره على مسألة التهديدات الخارجية. إن مسألة الاصلاح الثقافي والتجديد الديني تقف في صدارة المسائل التي يطرحها وجود التيار القاعدي. وهوما يطرح مسألة الحاجة التاريخية من قبل مختلف القوى الوطنية العربية لتبني المنظومة الليبرالية ولوحتى ضمن ما تطرحه خصوصيات المنطقة وهوما نراه كمقدمة لخلاص حقيقي سواء في علاقة بملف التهديدات الخارجية المتصاعدة أوفي علاقة بملف الاصلاح الداخلي (كنا عالجنا هذه المسائل بشكل أكثر تفصيلا في مقال سابق: "من أجل تيار ليبرالي وطني" القدس العربي 4 و6 ماي 2005 وميدل ايست أون لاين 13 أفريل 2005). هناك تطور ايجابي في هذا الاطار في علاقة بالتيارات الاسلامية المعتدلة بصدد الحدوث عربيا وتحديدا في أكثر الأقطار العربية تأثيرا عادة: مصر.
التبني الاسلامي للخيار الليبرالي: آمال التجربة المصرية
يمثل الوضع في مصر قبل كل شيء وضعا مناسبا لتقييم مسألة الأنظمة العربية. ور بما تبدوالأخيرة كالحاضر الغائب في نقاشنا هذا. سنأخذ هنا النظام المصري كنموذج لتقديم مجموعة من الملاحظات الضرورية في علاقة بمسألة الاصلاح والموقف الأمريكي من الأنظمة العربية القائمة، خاصة وأن طبيعة هذا الموقف لها علاقة قوية بطبيعة موقفها من التيارات الاسلامية المعتدلة:
-يتركب النظام المصري من كتل مختلفة. ما يهمنا هنا هي كتلة محددة لعبت وستلعب على ما نعتقد دورا محوريا في الوضع السياسي. يتعلق الأمر بما يمكن أن نسميه كتلة "بيروقراطية-وطنية-ناصرية" وهم بالمناسبة ليسوا بالضرورة أعضاءا في "الحزب الوطني" ولكن يمكن أن يكونوا كذلك أيضا. تتمثل هذه الكتلة فيمن لم يشمله "التطهير" الساداتي خلال السبعينات وخاصة إثر سنة 1975 حيث تم التخلص من آخر الرؤوس العليا في النظام والتي كانت لازالت تتمسك برؤى ناصرية وتدور في فلك يتجاوز مراقبة السادات. ما استرجع الانتباه والتركيز على هذه الفئة هوتأسيس طرف سياسي نعتقد أنه سيساهم بشكل كبير في تغيير مشهد المعارضة المصرية ألا وهو"التجمع الوطني للتحول الديمقراطي" بقيادة عزيز صدقي المسؤول الحكومي الكبيرالأسبق في حكومات مصرية متعاقبة (حتى سنة 1975). الملفت في هذا التجمع السياسي الجديد أنه سيقحم ولأول مرة جانب مهم من فئات بيروقراطية هامة (أساتذة جامعات، موظفين حكوميين سابقين عاليي المستوى...) كانت تتسم بالصمت أوفي أقل الأحوال عدم العمل على الانخراط السياسي سواء في صف الحزب الحاكم أوفي صف المعارضة صورية كانت أوفعلية. سنرجع لهذا الطرف السياسي فيما بعد عند الحديث عن الاخوان المسلمين. ما يهمنا هنا أن هذا الفئة تمثل امتدادا لفئة بيروقراطية رئيسية في النظام المصري كانت مجمدة ولا ترى في الساحة أي بديل فعلي عن النظام بالرغم من محاولتها للتمسك بروح ناصرية قوية. وهنا من الضروري توضيح مسألة أساسية خاصة في علاقة بمفاهيمنا كملاحظين عرب غير مصريين: إذا كانت التجربة الناصرية تمثل تجربة ذات بعد سياسي وفكري محدد بالنسبة للذهنية العربية (غير المصرية) أي تحديدا التوجه القومي العربي، فهي تحمل معاني أكثر تعقيدا بالنسبة للمصريين أنفسهم، فهي تتجاوز ذلك لتعني معنى بناء الدولة الوطنية وما تزامن مع ذلك من مشاريع "رفع الأمية" و"تحقيق الاكتفاء الذاتي" و"استرجاع الكرامة الوطنية" وغير ذلك من الأشياء التي لم تكن بالضرورة تتعلق مباشرة بالتوجه القومي العربي. يمكن أن نقارن ذلك بما يمكن أن يعنيه مثلا الرئيس بورقيبة في تونس بالنسبة للتونسيين أوالرئيس بومدين بالنسبة للجزائريين الى غير ذلك من الأمثلة. إن هاته الحقبة على اختلاف نماذجها خلفت فئة بيروقراطية (ليس بالمعنى السلبي بل بالمعنى الوصفي المحايد للكلمة) تؤمن بمفهوم الدولة الوطنية وبأنها خط أحمر يجب الدفاع عنه بكل قوة، كما تؤمن من جهة أخرى بطابع اجتماعي للسياسة الاقتصادية للدولة بما يؤمن خاصة للطبقة الوسطى والفقيرة ضمانات أساسية للنهوض.
-تشير مختلف المعطيات (تجمع عزيز صدقي، المطالبون بترشيح عمروموسى، تحرك القضاة) أن هذه الفئة البيروقراطية بصدد مراجعة حساباتها. إن هذا معطى مهم لسبب أساسي: أن التغيير والاصلاحات التي ستطرأ حتما على النظام الرسمي العربي لن تتم إلا بسبب تضافر الحركات الاجتجاجية (كفاية مثلا) وانخراط قواعد تقليدية في النظام بشكل تدريجي وغير مرئي وبالتالي بطيئ في التحركات من أجل الإصلاح. نعتقد أن مشاركة هذه الفئة الأخيرة لا يقل أهمية عن مشاركة الحركات الاحتجاجية. وهذه المشاركة ربما تكون سلبية (أي مثلا بعدم الانضباط للتعليمات الفوقية من دون الانتقال الى أشكال احتجاجية) لكنها ستكون ضمن العوامل الرئيسية في اهتراء النظام المصري. نعتقد أن هذه السيناريومرشح للحدوث في بقية الأنظمة العربية. ولهذا وبغض النظر عن خطاب الحركات الاحتجاجية المنفعل تجاه الأنظمة القائمة فإنه من الضروري الانتباه الى أن انخراط كتل من هذه الأنظمة في عجلة الاصلاح ربما يكون ضروريا لتحرك الوضع.
-نقول ذلك ونحن نستذكر مسار سقوط الأنظمة الشمولية في "المعسكر الاشتراكي" حيث لعبت كتل حاولت القيام بسياسات "الغلاسنوست" و"البريسترويكا" دورا رئيسيا في مسار الاصلاح السياسي والاقتصادي وانهيار الأنظمة القديمة من خلال اهترائها من الداخل ومساعدة الحركات الاحتجاجية. نسترجع هذا المثال (مشابه لما حدث في وقت متزامن في أمريكا اللاتينية باستدراج الجيش الى الحلبة السياسية ومتكرر أخيرا في أوكرانيا وجورجيا) لأنه يستحوذ على انتباه خاص في الذهنية الأمريكية في علاقة بموضوع الدمقرطة. لقد كانت هذه النقطة بالذات أحد الأفكار الرئيسية التي دافع عنها بقوة فرانسيس فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ والانسان الأخير". يتدسم ذلك عمليا من خلال العمل على إقامة علاقات مباشرة مع أوساط اجتماعية مختلفة (نساء الأعمال، الصحفيين...) في برامج "المبادرة للشرق الأوسط وشمال افريقيا" الأمريكية حيث يتم تجاوز الأطر الرسمية والسياسية للاحتكاك بأطراف بيروقراطية أوتمثل أحد القواعد الرئيسية للنظام القائم. وبمعنى آخر فإن هذه الرؤية (التي سماها فوكوياما وكراثمر "الدمقرطة الواقعية") تعمل على محورين: تهرئة النظام وتشجيع إعلامي وسياسي للحركات الاحتجاجية من خلال منظمات غير حكومية (تلك التي تحدثنا عنها أعلاه) منسجمة الى حد ما مع السياسة الرسمية. ولكن حتى هذه السياسة بصدد المراجعة أوالنقاش من قبل رؤية أخرى ("الدمقرطة الكونية" والتي تعتمد نفسا أكثر هجومية) من خلال القانون الجديد والذي يقع تحضيره من قبل أغلبية نيابية في الكونغرس (ديمقراطيين وجمهوريين) حول منح السفارات الأمريكية نفسها (وليس منظمات غير حكومية أمريكية فحسب كما كان الأمر في الماضي) الضوء الأخضر لتجاهل الأعراف الديبلوماسية و تشجيع الحركات الاحتجاجية بشكل أكثر مباشرة وأكثر قوة.
إن الارتباك الأمريكي، إذا، تجاه الحوار والموقف من التيارات الاسلامية المعتدلة يرجع في جزء منه لنقطة تقييم الولايات المتحدة للدور الممكن الذي يمكن أن تلعبه الكتل الداخلية مقارنة بالحركات الاحتجاجية (حيث يتم تصنيف التيارات الاسلامية). وهوبالتالي نقاش لا يتعلق بماهية هذه التيارات (رفضها للسياسات الأمريكية في المنطقة) بقدر ما يتعلق بتقييم الأمريكيين لمسألة الدور الفعلي الذي يمكن أن تلعبه الحركات الاحتجاجية بشكل عام خاصة وأن الولايات المتحدة ستفضل بالنسبة لدول "حليفة" انتقالا هادئا في السلطة مقارنة بما يمكن أن تندفع للعمل من أجله بالنسبة لأوضاع أخرى (العراق، سوريا...). إن استحضار مجمل هذه العوامل ضروري بالنسبة لاستقراء المواقف الأمريكية غير المنسجمة في علاقة بالوضع المصري (المتراوحة بين لورا بوش وكوندوليزا رايس) طبعا هذا بالاضافة الى الاطار العام الذي أشرنا اليه أعلاه والمتعلق بالصراع بين رؤى فكرية متنوعة (قديمة وجديدة ولكن أيضا جديدة و.. جديدة) داخل الادارة الأمريكية.
إزاء كل ذلك فإن التيارات الاسلامية المعتدلة وتحديدا الاخوان المسلمين قاموا بخطوة هامة تعكس الافاق الجديدة للأجواء السياسية المصرية. حيث قاموا بالانضمام بشكل جدي ولأول مرة لصدارة الحركات الاحتجاجية من أجل الاصلاح السياسي كمسألة رئيسية في أجندتهم العملية وليس البرامجية والنظرية فحسب. وهذا تحول كبير يشير الى المنزلة الهامة التي أصبحت للشعارات الليبرالية في الظرفية السياسية الراهنة. وهذه بالتأكيد خطوة إجابية. وطبعا لازالت هذه الخطوة مرتبكة بعض الشيئ لأنها في بدايتها (حيث تم ولا يزال تفويت فرصة الاعتقالات ضد قيادات أساسية وخاصة عصام العريان والتي يمكن تحويلها اعلاميا وسياسيا واحتجاجيا الى محور يعطي زخما جديدا، لكن وقع الركون للحذر في مواجهة خطوة النظام). إن دخول أطراف سياسية جديدة يمكن لها أن تشكل تدريجيا طرف جذب جدي في الساحة السياسية (مثل تجمع عزيز صدقي) يجعل من انخراط الأخوان في الصراع من أجل الشعارات الليبرالية أكثر قبولا. حيث أن حجمهم الجماهيري الواسع والذي لا تضاهيه أي حركة سياسية أخرى يجعل من جميع الأطراف تتهرب من التعاون معهم خوفا من الاحتواء كما يتيح للنظام تصويرهم كـ"وحش" متربص بالسلطة في إي منعطف خطير للأحداث السياسية. وطبعا تقوم حركة كفاية بتسهيل هذا الدور الاندماجي للاخوان في ملف الحريات ولكنها لا تملك صفة حزبية وبرامجية سياسية مثل تجمع عزيز صدقي. إن موقف الاخوان المصريين هذا سيؤثر من جهتين: موقعهم هم كطرف إسلامي على بقية الأطراف الاسلامية العربية من جهة أولى، وموقع مصر المميز عربيا من جهة ثانية. وهنا لا بد من ملاحظة خاصة أننا نتحسس كثيرا من شعور العظمة الذي يمكن ملاحظته لدى كثير من المصريين حاكمين أومحكومين: بالرغم من أنه من البلاهة الاعتقاد بأن "مصر أم الدنيا" فإنه لا يمكن تجاهل الدور الخاص لمصر في التأثير على مجريات الأمور عربيا وسواءا عبر عن ذلك البعض بتعبير "الدولة-القائدة" أورأى البعض الآخر الأقل اهتماما بالشعارات القديمة بوصفها بـ"المكانة الاستراتيجية المميزة" فإن لمصر مكانة مميزة. والان بفضل الفضائيات والانترنت أصبح بالإمكان المشاهدة الفورية لتطورات الأحداث هناك: ربما تكون المشاهدة المرئية لما سيحصل خلال الفترة القادمة أكثر أهمية من أية بيانات أواجتماعات تُعقد هنا أوهناك بالنسبة للكثير من الأقطار العربية.
ملاحظة أخيرة:
في النهاية يجب التعرض لمسألة نعتقد أنها تتعلق جزئيا بمسائل نفسية أكثر منها سياسية: حساسية الحوار مع الطرف الأمريكي بالنسبة للسياسيين العرب خاصة الذين يشعرون بالغضب والاشمئزاز من التعديات الأمريكية في العراق والدعم الذي يتم تقديمه للحكومة الشارونية. وهذا طبعا يشمل التيارات الاسلامية المعتدلة.
أولا، ليس هناك ضرورة حتى الان لحدوث حوار مباشر. إن ما يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة قبل أي حوار وبغض النظر عنه هورفع غطاء الدعم المطلق الذي كانت تسند به حلفاءها. وهذا وحده مهم. إن المسألة المهمة هنا أن هناك ضغطا قويا على الأمريكيين وهوما سيجعل من الممكن تأجيل الحوار حتى يضمنوا تصميمهم على رفع الغطاء على الأنظمة المعنية وهذه مسألة لازالت قيد النقاش أوالصراع داخل الادارة الأمريكية كما أسلفنا، ولكنه صراع لا يعني غياب أي ممارسات تجاه الضغط. حيث بدأت عجلة الضغط أصلا وهوما ينعكس في الخطاب المتوتر والمرتبك للكثير من الأنظمة العربية.
ثانيا، لا يعني الحوار عقد صفقات. هذه مسألة أساسية حيث يمكن أن يتراءى للبعض أن الأمريكيين سيجرون التيارات الاسلامية لحوار "مفخخ محتوم". وطبيعي سيحاول الأمريكيون نصب الفخاخ: ولكن ذلك لا يعني أن الفخاخ ستطبق على المحاورين إلا إذا أرادوا هم أنفسهم ذلك. وبمعنى آخر إن من يتمسك بثوابته لا يجب أن يتخوف من مجرد حوار أوتبادل آراء. إن موقف التمسك بدعم (سياسي) للمقاومة العراقية الوطنية والفلسطينية هوموقف وطني ومشرف ولا يجب لأحد التخلي عنه. ولا يمكن أن يحدث ذلك لمجرد حوار خاصة إذا تم في شفافية كاملة. وهنا يجب التذكير أنه يمكن للجميع نصب الفخاخ وليس الأمريكيين وحدهم.
ثالثا، على التيارات الاسلامية المعتدلة أن تنسق أي توجه نحوالحوار مع بقية القوى الوطنية. هذه مسألة في غاية الأهمية. يجب أن يتم ذلك قبل اتخاذ قرار الحوار وخلاله. إن مسألة الحوار مع قوة مثل الولايات المتحدة لا تحظى بالكثير من التعاطف على المستوى الشعبي العربي لأنها تمارس العدوان مباشرة (العراق) أوبشكل غير مباشر (الدعم لاسرائيل) هي خطوة ملغومة بالتأكيد. ولهذا لا يجب استعداء أية أطراف وطنية وهوما يمكن أن يؤثر على مسار الدمقرطة نفسه. والأهم من ذلك فإنه يوفر شروخات غير مناسبة في وقت يدعي فيه التيار القاعدي بحيازته للطهارة السياسية والإيمانية. إن المسألة الوطنية وتعلق التيارات الاسلامية المعتدلة بقضايا الأمة هي جزء حيوي من رأسمالها ولا يجب أن تخاطر به بأي شكل من الأشكال. من جهة أخرى يجب التعامل مع مسألة الدمقرطة من زاوية أجندة وطنية وليس حزبية فقط. وهنا أي اغترار بفراغ الساحة وامكانية اكتساحها من قبل الحركة الاسلامية سيدفع بتهديد وحدة الضغط المجتمعي من أجل الدمقرطة.
(*) باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية(1) نُشر هذا المقال في مجلة أقلام أون لاين، العدد الخامس عشر، السنة الرابعة/ جويلية - أوت 2005
[i] http://taherlaswad.blogspot.com/2004/02/blog-post_01.html [ii] http://taherlaswad.blogspot.com[iii] http://taherlaswad.blogspot.com/2004/12/blog-post.html[iv] http://taherlaswad.blogspot.com/2004/12/blog-post_31.html [v] http://taherlaswad.blogspot.com/2004/10/blog-post.html




">Link
Link