Wednesday, November 10, 2004

حول لاديمقراطية النظام الانتخابي الأمريكي

حول لاديمقراطية النظام الانتخابي الأمريكي: "التصويت الشعبي" (Popular vote) و "التصويت المنتخَب" (Electoral vote)

الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية

تكثفت في الفترة الأخيرة الأصوات الداعية لإصلاح النظام الانتخابي الأمريكي القائم على عدد محدد من "الأصوات المتخبة" (Electoral votes) عن كل ولاية (538 صوتا) عوضا عن تمثيله لمجموع الاصوات المتخِبة أي "التصويت الشعبي" (Popular vote) وهو الأمر المعتمد في معظم بلدان العالم. و تصف هاته الأصوات مثل هذا النظام الانتخابي باللايمقراطية بسبب عدم تمثيله لأصوات المواطنين الأمريكيين بشكل متساوي. و من أهم الدراسات التي صدرت في هذا المجال كتاب نُشر في الصيف الماضي لأستاذ العلوم السياسية في جامعة تكساس جورج ادواردس (George Edwards) و الذي لاقى اهتماما خاصا من قبل أولائك الداعين لتغيير النظام الانتخابي و هو ما انعكس مثلا في أحد المقالات الصادرة أخيرا (عدد نوفمبر 2004) في المجلة الليبرالية "هاربارس" (s'Harper). و مثل هذا الجدال المتصاعد يتخذ حدة و أهمية خاصة في الانتخابات الحالية في ظل التقارب الكبير بين المترشحين و الانعكايات الكبيرة التي ستنتج عن إنتخاب أي منهما.

فيما يتمثل النظام الانتخابي الأمريكي؟

يعكس هذا النظام السلطة القوية التي تتمتع بها الولايات في النظام الفدرالي الأمريكي: حيث لا تُحتسب أصوات ناخبي كل ولاية في إطار مجموع أصوات بقية المواطنين الأمريكيين بل يتم تلخيصها في نسبة معينة من الأصوات تمثل بشكل عام (و لكن ليس بالدقة الكافية) حجم الولاية (ولاية كاليفورنيا كثيرة السكان لديها مثلا 55 صوتا و الينوي الأقل لديها 24 صوتا و ولاية ويومنغالصغيرة 3 أصوات) و يمكن وصفها بأنها "أصوات الولاية". و هكذا مهما كانت عدد الأصوات الممنوحة لأي من الناخبين فإن المتفوق منهم في كل ولاية حتى بعدد قليل من الأصوات يتحصل على كل "أصوات الولاية". غير أن "أصوات" كل ولاية لا تعكس بشكل دقيق حجمها السكاني. و هكذا فإن النتيجة المثيرة لذلك تتمثل في أنه يمكن لأحد المترشحين التحصل على أغلبية أصوات المواطنين الأمريكيين على مستوى الولايات المتحدة غير أنه لا يتحصل على أغلبية "أصوات الولايات" و بالتالي تحصل المفارقة المتمثلة في أن المترشح الأكثر شعبية لا يفوز ضرورة بالانتخابات. و أقرب مثال على ذلك هو ما حصل في انتخابات سنة 2000 حينما فاز ال غور بالـ"التصويت الشعبي" (بفارق طفيف: حوالي 540 ألف صوت) في حين فاز الرئيس بوش بـ"التصويت المنتخب" (بفارق صوت واحد ضمن له الأغلبية أي: 270 صوتا). و هكذ مثلا في ولاية فلوريدا حصل كل من المترشحين على حوالي 3 ملايين صوت و لكن بسبب التفوق الضئيل جدا لصالح بوش (537 صوتا) فإن كل الأصوات الـ 27 الممثلة للولاية مُنحت للأخير وهو ما يعني عمليا عدم صلوحية أصوات الثلاث ملايين مواطن في ولاية فلوريدا المساندين لال غور.

الظرف التاريخي لتشكل النظام الانتخابي الأمريكي

طبعا لم ينشأ هذا النظام الانتخابي بشكل اعتباطي أو من خلال صيغة دكتاتورية و هكذا فإنه سيبقى مدعاة للاستغراب إن لم يتم وضعه في إطاره التاريخي. فخلال مداولات إقرار الدستور الأمريكي سنة 1787 و الذي تم بحضورالممثلين المنتَخبين للولايات الأمريكية الناشئة انذاك أصر ممثلو الولايات ذات الحجم السكاني الصغير على منحهم نسب قارة من المجالس التشريعية الفدرالية و نسبة قارة من الأصوات في انتخاب الرئيس الأمريكي و ذلك حتى لا تفرض عليهم الولايات الكبيرة (مثل نيو يورك و بنسيلفانيا) إرادتها. و أمام تهديدهم بالانسحاب إن لم يتم الاستجابة لمطالبهم اضطر ممثلو الولايات الكبيرة قبول مبدأ النسب القارة فيما سُمي انذاك بـ"التوافق العظيم". و من ضمن الصيغ التي تم إقرارها أنه مهما كانت نسبة سكان كل ولاية فإنها تتحصل على الأقل على مقعدين في مجلس النواب الأمريكي. و هو ما اعتبره ادواردس أحد المؤشرات على أن ما تم لا يعكس "توافقا" بقدر ما يعكس تنازلا أضر منذ البداية بأسس عدالة التمثيل الانتخابي. غير أن قائمة الأسباب الداعية لقوله و الكثيرين مثله بلاعدالة النظام الانتخابي الأمريكي تتجاوز ذلك لتشمل عناصر تقوض أساسا المساواة المبدئية بين المواطنين و الطبيعة الديمقراطية للدولة المعلنة في الدستور الأمريكي.

اللامساواة بين أصوات المواطنين الأمريكيين

يبرهن القائلون باللامساواة بين المواطنين الأمريكيين على أطروحتهم من خلال معطيات رقمية دقيقة. و من ذلك أن النواب الممثلين للولايات الستة و عشرين الأصغر سكانيا في الولايات المتحدة (28% فقط من مجمل السكان) يمسكون بأغلبية مقاعد مجلس النواب. و بالنسبة للانتخابات الرئاسية فإن "الصوت المنتخب" الواحد في ولاية كاليفورنيا (من مجموع 55 صوتا) يمثل حوالي 645 ألف مواطن في حين لا يمثل "الصوت المنتخب" بالنسبة لولاية ويومنغ (من مجموع 3 أصوات) إلا حوالي 167 ألف مواطن: و هكذا فالقيمة الانتخابية لكل مواطن في الولاية الأخيرة تساوي قيمة أربعة مواطنين من الولاية الأولى.

الأغلبية الخيالية

هناك أعداد كبيرة من المواطنين الذين لا تمثل أصواتهم أية قيمة خاصة من صفوف الأقليات العرقية أو السياسية. فالمعروف مثلا أن أغلب الأمريكيين الأفارقة (السود) يعيشون في الولايات الجنوبية في حين يصوت أغلب مواطني هذه الولايات في العادة لصالح مرشح الحزب الجمهوري، و هكذا مهما كان عدد المصوتين السود لصالح مرشح الحزب الديمقراطي فإن أصواتهم لن تنعكس على مستوى "أصوات الولاية" و بالتالي فإن أصواتهم غير صالحة عمليا. و في المقابل فإن المحافظين المساندين لمرشح الحزب الجمهوري في ولايات يصوت أغلب مواطنيها لصالح المرشح الديمقراطي (مثل الولايات الشمالية الشرقية) لن تنعكس كذلك على مستوى "أصوات الولاية". و في جميع الأحوال فإن المنتمين لطرف ثالث مخالف للحزبين الديمقراطي و الجمهوري (مثل الخضر أو "التحرريين") لا يمكن لهم أن يشكلوا قوة انتخابية بفعل تشتت أصواتهم بين الولايات و التي يشكلون فيها عموما أقلية غير معتبرة. هكذا تعكس الانتخابات وجهتي نظر فقط: الأصولية المسيحية في الولايات الجنوبية (ذات التوجه الجمهوري) و الانسانوية المعتدلة في الولايات الشمالية (ذات التوجه الديمقراطي عادة). و في النهاية فإن المرشحين يتمسكون بـ"اقليمية" معينة تعكس ولاءهم غير المتساوي جغرافيا لأجزاء من البلاد دون أخرى: فالمرشح الجمهوري مثلا لا يتحمل عناء القيام بحملة انتخابية في الولايات الشمالية و هو ما يؤدي لتجاهل اهتماماتها و مطالبها. و هكذا لا يتم التعامل مع المواطن الأمريكي كفرد يحمل الجنسية الأمريكية بل يتم التعامل مع مجموعات مصالح (مصالح الولايات المتأرجحة بين المرشحين) أو مجموعات محددة على أساس غير مواطنيتهم بل بسبب كثافتهم في ولايات تتصف بتأرجحها (مثل اليهود و الكوبيين الأمريكين في ولاية فلوريدا).

التحيل

الولايات المتأرجحة (Swing states) و التي تحدد عادة الانتخابات الأمريكية بفعل تأرجحها بين المرشحين ينتصر فيها عادة المرشح بفارق ضئيل جدا من الأصوات (في انتخابات سنة 2000: 0.22% في ولاية ويسكونسن و 0.01 % في ولاية فلوريدا) وهو ما يؤدي لتزايد إحتمالات التزوير بفعل الأهمية الكبير لكل صوت فيها. و بسبب إشراف سلط الولايات على تنظيم الانتخابات فإن الولاء السياسي للولاة يؤثر بقوة على احتمالات التزوير: و هكذا في ولاية فلوريدا مثلا حيث يحكم جب بوش (أخ الرئيس بوش) فقد تم إعتماد صيغة التصويت الالكتروني (Direct Recording Electronic System) في كثير من الدوائر الانتخابية و هي صيغة لا تسمح بالتثبت من العملية الانتخابية و لا حتى إعادة إحتساب الأصوات بسبب عدم توفر وصولات ورقية و بسبب تعلق هذه الصيغة بإشراف مباشر لمسؤولي الولاية و ليس لأشخاص مستقلين. بالإصافة الى ذلك أقر المجلس التشريعي لولاية فلوريدا (و الذي يسيطر عليه الجمهوريون) و بشكل وقائي قانونا يحرم إعادة إحتساب الأصوات.


و بشكل عام فإن الصيغة الحالية للنظام الانتخابي الامريكي ستعرض "التوافق العظيم" لخطر التقويض خاصة إذا تزايد الأنقسام الفكري و السياسي بين الناخبين الأمريكيين في ظل التحولات التي تشهدها الولايات المتحدة و تحديدا الميولات الامبراطورية لجزء من نخبها الساسية. فمن الواضح الان أن من أهم المسائل المحددة للانتخابات الحالية هي مسألة السياسة الخارجية الأمريكية و ذلك لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة.

صحيفة القدس العربي 10 تشرين الثاني 2004

Friday, November 05, 2004

الإنتخابات الأمريكية: ما الذي يفسر صراعا بهذه الحدة؟

الإنتخابات الأمريكية: ما الذي يفسر صراعا بهذه الحدة؟
الطاهر الاسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية

مثلما كان للامبراطورية الرومانية عقائديون من طراز تاسيتوس فللولايات المتحدة عقائديوها الذين يؤمنون بحقها الامبراطوري و يسعون الى وضع وسائل تجسيده. و لقد عرفت الولايات المتحدة خلال الفترة الرئاسية لجورج بوش تحولا مهما أصبحت فيه مجموعة من المبادئ العقائدية –و التي يمكن وصفها بعناصر ايديولوجيا واضحة المعالم يتبناها و يروج لها أساسا فريق المحافظين الجدد— المرجع الأساسي للخطوات العملية للاستراتيجيا العسكرية الامريكية. و تُعتبر الحرب الامريكية الاخيرة على العراق التجلي الأكثر وضوحا لمثل هذا التحول حيث كانت النموذج الاول للمفهوم الاستراتيجي المتمثل في "الحرب الاستباقية" (Preemptive War). و في إطار الحملة الانتخابية الأمريكية من الضروري التأكيد على هذا التحول الاستراتيجي و الذي يمثل أحد العوامل التي تفسر ليس فقط حدة الصراع الذي يميز الحملة الانتخابية الحالية بل الاهتمام الشعبي المحيط بها و الاتهامات المسبقة بالتزوير و الذي جعل نسب الناخبين الذين سجلوا أسماءهم من أعلى النسب في التاريخ الأمريكي المعاصر. و الأهم من ذلك يفسر هذا العامل الانخراط النادر في حماسته للنخب المثقفة و الأكاديمية في الولايات المتحدة و الذي يعكس بدوره عمق الانقسام الذي يميز المشهد الفكري عموما. بصدور هذا المقال ستكون المعركة الانتخابية قد حُسمت على الغالب (باستثناء حصول بعض المفاجات) و لكن تداعيات الصراع حول ملف السياسة الخارجية لن تنتهي بانتهاء معركة الرئاسة.

"عقيدة بوش"

اثر أيام قليلة من الذكرى السنوية الاولى لاحداث 11 سبتمبر و تحديدا يوم 17 سبتمبر 2002 اصدرت الادارة الامريكية وثيقة لم تلق بعد القدر الكافي من الاهتمام. الوثيقة (من 31 صفحة) تحمل عنوان"استراتيجيا الامن القومي للولايات المتحدة الامريكية" ممضاة من الرئيس الامريكي, الذي قام بتقديم موجز لها, و هي رسميا من انجاز مجلس الامن القومي, احد الدوائر الرئيسية المحددة للسياسة الخارجية الامريكية. وبسبب التبني الرسمي للوثيقة من قبل الرئيس الامريكي فقد اختارالمحللون السياسيون لهذه الوثيقة اصطلاح "عقيدة بوش(Bush Doctrine)". غير انه من المرجح ان تكون كوندوليزا رايس المشرف الرئيسي على انشطة مجلس الامن القومي هي المسؤولة الرئيسية عن كتابتها. ان الاعلان عن مثل هذه الوثائق أمر نادر. فليس من المعتاد ان تنشر الولايات المتحدة وثيقة رسمية تعلن فيها بشكل تفصيلي عن المبادئ الرئيسية لاستراتيجيتها العسكرية. و من النماذج القليلة المماثلة للوثيقة التي بين ايدينا تلك الدراسة الصادرة ضمن بحوث الخارجية الامريكية سنة 1947 و المحررة من قبل جورج كنان (George Kennan) وهو أحد الرواد الرئيسيين للمدرسة "الواقعية" في السياسة الخارجية الامريكية و التي كانت المرجع الرئيسي للسياسة العامة للولايات المتحدة خلال الحرب الباردة المعروفة باسم "الاحتواء (Containment)".
يدافع كاتب "عقيدة بوش" عن ثلاث افكار اساسية: (أ) إن القوة الامريكية تتميز بتفوق غير مسبوق. (ب) أن المعضلة الامنية الموجودة منذ ما قبل نهاية الحرب الباردة اي "الارهاب" اضحت التهديد الرئيسي للامن العالمي الراهن, غير انها لا ترقى الى مرتبة التهديد الرئيسي الا لانها تتوفر حسب نص الوثيقة على حلفاء في مرتبة دول "مارقة" تتوفر على عداء للولايات المتحدة و على اسلحة دمار شامل. (ج) و في النهاية فان المواجهة العسكرية ضد هذه "المجموعات الارهابية" ليست هي الهدف العسكري الرئيسي بل ان "تحطيم" السيطرة السياسية المعادية للولايات المتحدة في مجالات جغرافية محددة, ممثلة في دول بأسرها "الدول المارقة", هي المهمة العسكرية الاكثر الحاحا. غير ان طبيعة العدو حسب الوثيقة تفرض التخلي عن مفهوم "الردع (Deterrence)" و الذي لا يستلزم التدخل العسكري المباشر و قد كان مفهوما اساسيا يتحكم بالسياسة الخارجية الامريكية طيلة الحرب الباردة. و بالتالي يمكن ان نلاحظ أن النقاط أعلاه تعكس روحا مميزة تعطي اهمية خاصة للعقيدة الفكرية و الايمان بمبادئ اديولوجية واضحة و هو سلوك غريب عن الروح الذرائعية, و المتجسدة في المدرسة "الواقعية", و التي طالما عُرفت بها الادارة الامريكية. غير أنه يكون من الخطأ تصنيف وثيقة "عقيدة بوش" بشكل حصري كوثيقة سياسية أو حتى استراتيجية. فهي تعبر على أفق أبعد من الرئيس الأمريكي و ولايته الرئاسية. إنها تعكس عن إيديولوجية المفكر الامبراطوري, و الذي سيلازم الولايات المتحدة مادامت تعيش عصرها الامبراطوري.

الطابع "الايديولوجي" لادارة الرئيس بوش

عمل جون كيري المرشح الديمقراطي للانتخابات الرئاسية و لأكثر من مرة في خطبه على وصف السياسة الخارجية الأمريكية الراهنة بأنها سياسة "ايديولوجية". و يعني بذلك أساسا بأنها سياسة تخضع لحسابات نظرية دوغمائية و ليس لحسابات الواقع. و كلام المرشح الديمقراطي صحيح عموما و لكنه غير دقيق. فالخصوم الديمقراطيين ل"عقيدة بوش" لا يزالون حيارى أمام الخطاب المميز للادارة الامريكية الحالية و لذلك لم يصيغوا بعد ردا شاملا عليها. إن الخطاب المهيمن على "عقيدة بوش" هو خطاب ايديولوجي و لكن بمعنى أنه ليس دوغمائي فحسب بل بمعنى أنه يعبر عن نظام فلسفي شمولي يعرض بديلا جذريا للوضع الدولي القائم.

قبل حوالي سنتين من الان و تحديدا يوم 14 نوفمبر 2002 بثت قناة (PBS) الامريكية حوارا بات شهيرا الان مع أكثر نجوم السياسة حضورا انذاك على الشاشات الامريكية: ريتشارد بيرل. كان عنوان الحوار: "ريتشارد بيرل: صناعة محافظ جديد" (Richard Perle The Making of a Neoconservative). و كان الحوار, الذي كان بمثابة سيرة ذاتية مختصرة للمستشار الرئيسي للبنتاغون انذاك, يشمل نقاطا حساسة تلقي بعض الضوء على مسار تكوين بيرل الفكري و السياسي. و يتضح من تفاصيله ان الاسم المركزي في التوجيه الفكري ثم السياسي المبكر لريتشارد بيرل كان البرت وهولستتر (Albert Wohlstetter). و كان الاخير أحد الوجوه الاساسية الممثلة للمدرسة الشتراوسية, حيث شكل مع الفيلسوف الألماني الأصل ليفي شتراوس شهرة قسم العلوم السياسية في جامعة شيكاغو خلال الستينات, و من هناك خرجت دفعات من الطلبة يُعتبر بول وولفويتز اشهرهم على الإطلاق بالنسبة للعناصر الموجودة في الادارة الحالية. كما يذكر بيرل سكوب جاكسون ٍScoop Jackson) و الذي كان تقريبا الممثل السياسي لهذا التيار الجنيني و الذي كان ذا سطوة شديدة في شؤون السياسة الخارجية كما كان من أشهر و من أشرس المدافعين عن الكيان الصهيوني. و لكن لم تظهر هذه الافرازات السياسية للمدرسة الشتراوسية بشكل مكشوف الا مع نهاية السبعينات و خاصة مع صعود ادارة الرئيس ريغن, حيث سنجد في وزارة الدفاع انذاك العناصر الرئيسية التي تقرر الان الاستراتيجيا العسكرية الامريكية (تشيني, رامسفيلد, وولفويتز...).

و قد ركزت دراسات أكاديمية تهتم بظاهرة المحافظين الجدد منذ أواخر التسعينات بشكل واسع على أهمية دور ليفي شتراوس في التكوين الفكري و السياسي لأهم رموزهم. و لم يكن الفيلسوف الالماني-الامريكي من عائلة يهودية محافظة فحسب بل كان متحمسا و بشكل مبكر للحركة الصهيونية. و دون الخوض في الرؤى التفصيلية لفلسفة شتراوس السياسية فإن أهم ملامحها التي تفسر ارتباطها بفكر المحافظين الجدد أن الحقيقة لا يجب أن تُعرف إلا من قبل زمرة صغيرة من الحكماء/الساسة. و لأن هؤلاء يجب أن يستعملوا كل الوسائل, حتى تلك التي تستلزم الكذب او التي يمكن ان تثير حفيظة العامة, فعليهم ان يخفوا ماربهم ما دام الإعلان عنها يمكن أن يؤدي الى تهديد الاستقرار. و الفكر الشتراوسي بذلك لا يستهدف الفلسفة السياسية الحديثة فحسب بل يستهدف أيضا الأسس الواقعية لتطبيقاتها: الطابع الديمقراطي للدولة. و يُسائل شتراوس في أطروحته العامة علاقة الفلسفة بالمجتمع. و من أكثر التحليلات التي تبناها و التي أثارت جدلا واسعا هي اعتباره ان التهمة التي حوكم سقراط على أساسها و أعدم لأجلها هي تهمة مشروعة تماما: فالفلسفة بالنسبة لشتراوس—وقاتلي سقراط على السواء—تهديد للمجتمع. و هو نقد واضح للتوجه الحداثي الذي يركز على الالتزام الاجتماعي للفلسفة. و من ثمة تأتي المساءلة الجذرية التي يقوم بها شتراوس للمفاهيم الحداثية للقانون الدولي و لكن بلغته الغامضة الخاصة و التي كانت دائما مثار متاعب لمفسريه. غير أن التجاءه للغموض كان شرطا أساسيا في نظامه الفلسفي.


إثر حوالي العام من الحوار المذكور أعلاه و تحديدا في ليلة الاربعاء 19 نوفمبر 2003 في معهد الفن المعاصر بلندن أعلن ريتشارد بيرل انه في الحالة العراقية "تصادم الحق الاخلاقي مع القانون الدولي". و بالرغم من الطابع السياسي لهذا التصريح فإن جوهره فلسفي و فكري بالدرجة الاولى. فقد أفشى بيرل بأحد أسرار حكماء الادارة الامريكية التي مثلت الأساس الايديولوجي لقرار الحرب و التي لا يجوز البوح بها للرعاع و العامة. كما عبر في كلمات معدودة و تحت عدسات المصورين و امام مراسلين دوليين في قاعة للفن المعاصر ما سخر لأجله ليفي شتراوس حياته الفكرية كلها من كتابات فلسفية ضخمة حررها داخل مكاتب معزولة. و في الواقع يمكن ان نرى ذلك كتعبير امريكي هوليودي (من فتى أصيل هوليود قلبا و قالبا) لفكرة ألمانية شديدة التجريد و البرود. يمثل بيرل بأسلوبه الاستعراضي أمركة للشتراوسية. و في الواقع إذا كان شتراوس او ووهلستتر (الالماني الاصل مثل شتراوس) أحياء فإن بيرل كان سيتلقى توبيخا قويا على ليبراليته "غير الضرورية, بل و المضرة". غير أن كلاهما سيوافق على الفور على الأطروحة الاساسية التي عبر عنها بيرل: ليست فكرة "القانون الدولي" سوى تعبير عن فلسفة الحداثة و التي تعلن ان هناك حاجة أخلاقية لمعاملة شعوب الارض بشكل متساوي. و ذلك يعني تهديدا لشرعية ابدية لما قبل الحداثة: شرعية الغاب. إن أي إعلان عن الحقوق في المساواة الكونية او الاستقلال او العدالة الدولية هي خدمة الفلسفة للعامة— العامة بمعنى الدول الضعيفة هنا— و هو ما يمثل تهديدا للاستقرار الاجتماعي الدولي. و من ثمة يجب الحفاظ عما كان عليه الامر قبل القانون الدولي و منظمة الامم المتحدة, و تجنب نشر الحرية.

في المقابل: كيري يعيد تجميع المؤمنين برؤية "الاحتواء"

بصدور هذا المقال ستكون المعركة الانتخابية قد حُسمت على الأرجح, طبعا الا إذا كان الفارق ضئيلا و هو ما سيؤدي حسب توقعات أغلب الملاحظين الى فضيحة جديدة مماثلة ربما حتى أقوى من "أزمة فلوريدا". بيد أنه و بغض النظر عن النتائج فإنه من المؤكد أن جون كيري قد عرف سياسته الخارجية على قاعدة معارضة "عقيدة بوش" و بالتحديد من خلال إحياء نظرية "الاحتواء" التي سادت الادارات الأمريكية المتعاقبة خلال الحرب الباردة. و بالرغم من أن المرشح الديمقراطي لم يُصدر ورقة استراتيجية مطولة تفسر رؤيته للسياسة الخارجية الأمريكية الواجب اتباعها فإن هناك مؤشرات مختلفة تؤكد تبنيه لنظرية "الاحتواء". و في الواقع فإن تجنب كيري إصدار ورقة علنية واضحة للتعبير عن رؤيته هو تصرف يمثل أساسا جزءا لا يتجزأ من رؤية "الاحتواء": فعلى العكس الرؤية الدوغمائية لجورج بوش و التي لا تفكر في تعديل برنامجها العام فإن أصحاب رؤية "الاحتواء" الذين يُنعتون بشكل متزايد بـ"الواقعيين" (من قدمائهم وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر) ليسوا معتادين على إعلان رؤاهم حتى لا يضطروا الى تقييد مجال المناورة التكتيكية.

أما أهم المؤشرات على توجه كيري الجدي نحو إحياء رؤية "الإحتواء" (بالاضافة الى خطابه الثابت المعارض لـ"الطابع الايديولوجي" لسياسات بوش الخارجية) فهو الطاقم الذي أعلن عنه للإشراف على برنامجه الخاص بالسياسة الخارجية. و على رأس هؤلاء السفير الأمريكي السابق و مساعد وزير الخارجية في إدارة الرئيس كلنتون ريتشارد هلبروك. و بالاضافة الى العلاقة القوية التي تربط الأخير بالمجموعة البيروقراطية المتركزة في أوساط السياسة الخارجية الأمريكية (أساسا السلك الديبلوماسي الأمريكي) و التي تتصف بقلقها العميق من رؤى مجموعة المحافظين الجدد فإن هلبروك قد عبر بشكل ثابت و نشيط خلال السنوات الأخيرة عن معارضته القوية لرؤى المحافظين الجدد خاصة في علاقة بتجاهلهم مؤسسة الأمم المتحدة و التنسيق مع الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة من داخل الحلف الأطلسي. و قد اكتسب هلبروك صيته الخاص في إدارة كلنتون من خلال الدور الذي لعبه في حل أزمة كوسوفو و هو ما بوأه موقعا خاصا داخل المجموعة التي ارتبطت بميراث الرئيس كلنتون في علاقة بالسياسة الخارجية. و كان هلبروك من أبرز الديبلوماسيين السابقين الذين قادو حملة صحفية خلال صيف و خريف 2002 لدعوة الادارة الأمريكية للتريث في القيام بعمل حربي في العراق و ضرورة العمل في إطار الأمم المتحدة. من ضمن الأعضاء البارزين الذين التحقوا بفريق "الامن القومي" لجون كيري راند بيرس (Rand Beers). و قد كان بيرس عضوا في مجلس الأمن القومي للرئيس جورج بوش تحت إشراف كوندوليزا رايس مكلفا بـ "مكافحة الارهاب" منذ 15 أوت 2002 غير أنه استقال من المجلس بسبب معارضته للحرب على العراق و ذلك في مارس 2003. و بيرس مثل هلبروك من الأوساط البيروقراطية الذين تكونوا في أروقة وزارة الخارجية الأمريكية منذ سبعينات القرن الماضي و عمل في الادارات الامريكية المتعاقبة بما في ذلك ادارة الرئيس جورج بوش الأب و إدارة الرئيس كلنتون. و يُعد كل من هلبروك و بيرس قطعا أساسية في قريق كيري حيث يتمتعان أيضا بعلاقات قوية بالأوساط المخابراتية الأمريكية بما أنهما قد بكونا في البداية ضمن وكالة المخابرات المركزية. حول الأخيرين هناك حزمة من المساعدين السابقين للرئيس بيل كلنتون يعبرون عن تجانس في الرؤية تعكس توجها محددا نحو رؤية "الاحتواء" (من ضمن هؤلاء االسناتور جو بايدن و المخضرم من وزارة الخارجية رون اسموس و الناطق السابق باسم وزارة الخارجية جيمس روبن.
طبعا رؤية الاحتواء لا تعني التخلي تماما عن الأطماع التوسعية الأمريكية و لا تعني التخلي عن العلاقات الاستراتيجية المضرة بالأمن الاقليمي العربي (خاصة تجاه اسرائيل) حيث ستتشابه الكثير من الاستتباعات العملية لـ "عقيدة بوش" مع ما يطرحه "الواقعيون" من المحيطين بكيري. ففي تقرير مطول نُشر في دورية "الأطلنطيك" (عدد جويلية/أوت 2004) يؤكد عدد من الملاحظين المقربن من الطرفين أن تقاطعات كثيرة ستجمع بين السياستين. غير أنه من الواضح أن فريق جون كيري لم يكن و لن يكون مستعدا للموافقة على استراتيجيا "الحرب الاستباقية" و التي قادت نحو الحرب على العراق. و بالنسبة لنا كعرب من الضروري أن نتلقف هذه النقطة بالذات لتقييم السياسات الأمريكية بالشكل المناسب, خاصة أن استراتيجيا "الحرب الاستباقية" تعني أساسا منطقتنا بالنسبة للمرحلة التاريخية الحالية.

صحيفة القدس العربي 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 2004