Saturday, November 25, 2006

في العلاقة بين القوميين و الاسلاميين عربيا و مغاربيا

الطاهر الأسود-باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية


” إن أخطر ما يمكن أن تتوقعه إسرائيل من العرب أن يتوحد الدين مع التوجهات القومية، ان ما نعيشه حالياً يمكن أن يكون نكتة لما قد نعيشه في المستقبل في حال تواصل المد الإسلامي المقاتل في مواجهة الدولة العبرية. أن هذا هو الذي يتوجب أن يقلقنا بشكل كثير، وللأسف إننا لا نحرك ساكناً في سبيل قطع الطريق على تعاظم هذا الخطر عن طريق رفضنا إبداء تنازلات ولو شكلية. لقد سكرنا من شدة الفرح عندما أعلن شارون بتبجح في العام 1982 أنه طرد منظمة التحرير من لبنان، لنبكي بعد ذلك عندما فوجئنا أن من حل مكان منظمة التحرير هو حزب الله، العدو الأكثر خطراً، الذي مرغ أنف دولة بأكملها في التراب “.
افرايم هاليفي (Ephraim Halevy) الرئيس السابق لجهاز "الموساد" ( القناة الأولي في التلفزيون الإسرائيلي، 15/7/2006)

ربما يبدو للبعض أن التمحيص في مسألة العلاقة بين التيارات القومية و الاسلامية غير ذات معنى في الظرفية الراهنة. حيث سيشير هؤلاء الى أن المرحلة القادمة ستشهد استقطابا غير مسبوق لصالح التيارات الاسلامية بكل تلويناتها مقابل استمرار تراجع نفوذ التيارات القومية و انسحابها القسري (العراق) أو الطوعي (ليبيا) من معاقل السلطة السياسية و النفوذ السياسي بشكل عام. و هو ما يعني أن التيارات الاسلامية لن تحتاج التقارب مع تيار "متهاوي" في جميع الأحوال. غير أن هذه الرؤية لا تقع في خطأ التهوين المبالغ فيه للتيارات القومية فحسب بل تهمش نقطة محورية. حيث لا تمثل التيارات القومية مجرد حالة حركية بل هي أكثر من ذلك تعبير عن رؤية لطبيعة الصراع في المنطقة. و يمكن الاشارة بكل ثقة أن الكثير من ملامح هذه الرؤية لازالت تحتفظ بحيويتها. و لهذا بالذات فإن الاستقطاب الراهن لصالح التيارات الاسلامية لا يعني تحديدا فقدان مصداقية الكثير من المعاني الاستراتيجية للطرح القومي. بل على العكس من ذلك: يبدو أن ترشيد الكثير من قطاعات المشهد الاسلامي و اكتسابها حسا متفاقما من الواقعية يحصل من جملة ما يحصل على أساس استكشافها و تبنيها لمحاور الاستراتيجيا القومية. ليس الوضع الراهن، كما يمكن أن يحاجج البعض، و ضعا انتهت فيه التجربة القومية لتفسح فيه المجال لتجربة اسلامية مختلفة تماما. الخطأ الرئيسي في هذه الرؤية تصوير الرؤية الاسلامية بشكل يجعلها مختلفة بشكل جوهري عن الرؤية القومية. أبيض مقابل أسود. الحقيقة أن ما يجمع الرؤيتين هو ربما سر نجاحهما الممكن. فما يحتاجه كل منهما يبدو أنه يوجد في الآخر. و بهذا المعنى يجب فهم لماذا يخشى شخص مثل افرايم هاليفي في خضم الحرب الأخيرة على لبنان من "توحد الدين مع التوجهات القومية".

في معنى الطرح القومي في الظرف الراهن
يجب التفكير في المسألة القومية بالأساس على أنها واقع راهن تشمل سلطته الجميع بما في ذلك الذين لا ينظرون الى أنفسهم كقوميين. يبدو مثال الرئيس جمال عبد الناصر بالغ الأهمية في استكشاف السلطة البالغة للطرح القومي على الواقع السياسي العربي: حيث انطلق الزعيم المصري في البداية كصاحب مشروع متركز في القطر المصري و لم تكن له رؤية دقيقة في علاقة بالمشروع القومي على الشاكلة العملية التي أصبح عليها المشروع الناصري خاصة إثر العدوان الثلاثي. و اكتشف الرئيس المصري بعد كثير من الصراع أن مشروعه الوطني المصري لا يمكن أن يتحقق خارج الوعي الدقيق بإطار قومي عربي و بمفهوم استراتيجي مثل الأمن القومي العربي. و بمعنى آخر أصبح الزعيم المصري زعيما قوميا تحت ضغط الواقع، لقد أصبح عبد الناصر قوميا ليس لشعاراتية متأصلة فيه، كما يحاول الاشارة بعض المتوترين من "الليبراليين العرب الجدد"، بل لأنه كان واقعيا. لا يجب أن يكون ذلك مفاجئا بأي شكل من الأشكال: جوهر الرؤية القومية ليس عقيدة إيمانية بمشروع مستقبلي بل هي قبل ذلك إدراك دقيق لهوية المنطقة و طبيعة الصراع القائم فيها.

و بهذا المعنى ليس الأمن القومي العربي مشروعا للتحقيق بقدر ما هو واقع قائم. و سواء كان ذلك الأمن منتهكا أو مخترقا فإن ذلك لا يعني البتة عدم إدراك الأطراف العربية في جملتها بما في ذلك النظام الرسمي القائم لأهمية ارتباط أمنهم بالأمن القومي. و لهذا حتى تلك الأطراف العربية التي تموقع نفسها لأسباب عديدة ضمن استراتيجيا الأمن القومي الأمريكي فهي تعرف جيدا أهمية الحفاظ على حد أدنى من الأمن القومي العربي. غير أن طبيعة الالتزامات التي انخرطت فيها تكبح الامتداد الطبيعي لمعاني أمنها القطري الى الحد الذي تتفادي فيه حتى النظر لأمن القطر المجاور كأي طرف مجاور لا يجمع بينهما الرابط القومي. و هكذا تنظر دولة مثل تركيا بجدية أكبر الى طبيعة الوضع في العراق أو سوريا و لتأثير ذلك على مصالحا القومية مقارنة عما تقوم به مثلا أنظمة مثل الأردن و الذي يبدو أحيانا كثيرة مهتما بالمصلحة الأمريكية أكثر حتى من مصالحه القطرية عند تعامله مع الوضع في القطرين المذكورين.

و رغم ذلك فإن تهور الاستراتيجيا الأمريكية خاصة في مرحلتها النيومحافظة دفع الكثير من المتموقعين ضمنها الى الاحتراز و التخوف حيث فهموا أنه لا توجد ما يكفي من الضمانات لعدم امتداد آثار الحروب الأمريكية للداخل القطري الذي اعتقدوه محصنا بعيداعن تهديد "القومجيين". و في هذا السياق يعيد من تبقى فيهم بعض الحكمة من الراهن العربي الرسمي إعادة اكتشاف مزايا الحفاظ على حد أدنى من الأمن القومي العربي و لو أن ذلك يتم الآن من خلال تكتلات عربية اقليمية موضعية و ظرفية و من خلال تمثل هذا الحد الأدنى ضمن معايير غير دقيقة تحور طبيعة الأمن القومي لتصل ضمنيا حتى الى مستوى الحديث عن أمن عربي سني في مواجهة "هلال فارسي شيعي".

و بشكل عام و بالرغم من كل هذا القصور في التصور و الممارسة فإن الحقائق الأكثر بداهة للرؤية القومية، أي أساسا تلك المتمحورة حول مفهوم الأمن القومي العربي، لا زالت حقائق شديدة العناد و تجاهلها بالتحديد و ما ينشأ عن ذلك من فراغات هو الذي يوفر الأرضية لانفلاتات التنظيمات القاعدية و التي تقدم مفاهيم و استراتيجيات بديلة مقوضة للأمن القومي.

القاعديون و التهديد بالحروب الطائفية و الأهلية: التقويض الآخر للأمن القومي
و حسب الاستراتيجيا العملية و المعلنة للتنظيمات القاعدية فإن مسألة "حاكمية الشريعة" تتبوأ مكانة مركزية. و بعنى آخر فإن "أمن الشريعة"، بما يتضمن ذلك من المعاني الطائفية الضيقة للـ"سلفية الجهادية"، يحتل المكانة العليا التي يتم على أساسها الفرز العام لقائمة "المؤمنين" و "المرتدين". و تستبدل هذه المنظومة ذلك المعطى الواقعي المتمثل في الامن القومي.

إن جوهرالتنظيمات القاعدية هو استرجاع لمقولة اسلامية سابقة مفادها رفض الواقع الراهن القائم بالأساس على رئيسية المرجعيتين الوطنية و القومية للعمل السياسي من خلال اعتبار هذه المعايير ببساطة معايير "جاهلية". لكن الوضع العراقي، على سبيل المثال، يؤكد، من جهة أخرى، معطى غير قابل للتجاهل: أن الحفاظ على شعبية التنظيم المسلح المناهض للاحتلال غير ممكن خارج شروط التركيبة العراقية شديدة الحساسية تجاه نعرات الحرب الطائفية و هكذا فإن هذا الشرط الأساسي للحل المسلح الناجع، أي العلاقة المتينة بين المسلح و محيطه الشعبي، سيفرض على التنظيم القاعدي الانقسام و من ثمة تخلي البعض عن جوهر الرؤية القاعدية أي التخلي عن القول بعلوية ماهو سني سلفي على ما هو وطني.[1]

و في الواقع فإن هذا التهديد للصيغة الوطنية و المغامرة بتفتيتها بدعوى "جاهلية العصبية الوطنية" (يقع تمثيلها بالعصبية القبلية) لا يتجه الى تقويض الدول القطرية في مصلحة دولة جامعة بقدر ما يسعى لإقامة دولة جامعة تحت النفوذ الاستبدادي للطائفة "السنية" في محيطها العقائدي الأقل انفتاحا. و هو ما يؤدي الى اشعال سلسلة من الصراعات الأهلية على أساس "الهوية" ليس فقط بين الفصيل "السني" و الآخر الشيعي أو حتى الطوائف النصرانية العربية بل حتى في خضم المحيط "السني". فلا يجب الوقوع هنا في المغالطة القاعدية التي تدعي الدفاع عن "أهل السنة و الجماعة" حيث يقع الدفاع عن فصيل أقلي ضمن الساحة الشاملة للسنة العرب. إن المؤشر الآخر الباعث على الاهتمام هو الالتقاء على مستوى الرؤية الاستراتيجية بين التنظيمات القاعدية المؤججة للصراع "السني-الشيعي" و بعض الأطراف العربية الرسمية التي تتحدث عن تهديد "الهلال الشيعي". فتقييم الجانبين يتجه عمليا للالتقاء حول استهداف "غير السني" العربي بوصفه تهديدا ضروريا. إن ذلك يؤكد مقولة أساسية في علاقة ببداهة الطرح القومي من جهة الواقع القائم: تفتيت الصيغ الوطنية القائمة في إطارها القطري الراهن تهديد مباشر للأمن القومي العربي. و هنا، و رغم ما يبدو لذلك من مفارقة بالنسبة للخطاب القومي الحركي، فإن الدفاع ضد تفتيت الدولة القطرية على أساس الصراعات الطائفية و الأهلية يصب مباشرة في إطار الدفاع عن الأمن القومي العربي.


الاسلام المعتدل و الرؤية القومية
شاب تعبير "الاسلام المعتدل" المعرب عادة من رديفه الانجليزي (moderate Islam) الكثير من الجدال الى الحد الذي يتهم فيه البعض كل من يستعمله بأنه "يلوك الخطاب الأمريكي". و سواء كان أصل المصطلح ضمن القاموس السياسي الأمريكي أم لا فإنه تعبير يحتاج الاهتمام لمعانيه الفعلية و التي تفلت بالتأكيد من الضوابط الأمريكية. فمن جهة هناك استعمال شديد الضبابية و غير نزيه يدفع في اتجاه إضفاء تسمية "الاسلام المعتدل" على كل من يجاهر في الأساس بالعداء لأساسيات في الدين الاسلامي. و بالنسبة لشخص غير متوازن مثل دانيال بايبس فهناك ضرورة لدعم "المسلم المعتدل" (moderate Muslim) و هو ذلك الطرف المعادي بالأساس لأي طرف إسلامي و الذي يمكن أن نطلق عليه بدون مبالغة طرفا استئصاليا. غير أن هناك "اسلاميين معتدلين" (moderate Islamists) و هنا يرفض شخص استئصالي مثل بايبس المصطلح أصلا معتبرا أنه من الاستحالة أن يكون طرف إسلامي معتدل بالأساس.

و بالرغم من أن البعض يمكن أن يرى في بعض التنظيمات الاسلامية العراقية اعتدالا لأنها متعاونة مع الاحتلال القائم فإن ذلك لا يعني أن هذا التعبير خاطئ في ذاته. في الحقيقة يوجد اسلاميون معتدلون و هؤلاء يمكن التعرف عليهم ليس على أساس تعاونهم مع الاستراتيجيا الأمريكية بل من خلال تمايزهم الجذري مع التنظيمات القاعدية و هو ما ينطبق على أطراف اسلامية تعتبرها الادراة الأمريكية "ارهابية". و هكذا فإن تنظيمات لا يشك في ممانعتها للاستراتيجيا الأمريكية مثل "حركة حماس" أو "حزب الله" هي في الاساس نماذج للتيارات الاسلامية المعتدلة. و لا يتعلق الاعتدال هنا بدرجة الحرص على تنفيذ أحكام فقهية لا تتردد القاعدة في العمل بها بل يشمل مسائل أهم مثل الاعتراف بالواقع الوطني و القومي كأطر للعمل السياسي في المشهد العربي. و هكذا فإن اعتدال الحركتين المذكورتين يتمثل خاصة في وعيهم الكبير بمفهوم استراتيجي مثل الأمن القومي العربي. ينطبق ذلك أيضا على بقية التيارات الاسلامية المعتدلة (و التي تعرف نفسها على هذا الأساس) و التي تتصرف بشكل مسؤول تجاه هذا المفهوم الاستراتيجي.

إن المثير هنا أن مقابل الالتقاء العملي بين التنظيمات القاعدية و بعض الأطراف العربية الرسمية حول استثارة الصراع الطائفي السني الشيعي هناك في المقابل تشكيل لم يظهر الى السطح السياس العربي بعد لو أن مكانه يبدو مهيئا: الالتقاء بين التيارات الاسلامية المعتدلة و الطيف العربي السياسي الغالب غير المؤطر في كثير من الأحيان و المتمسك بالدفاع عن مفهوم الأمن القومي العربي. و في الحقيقة في نقطة الالتقاء هذه تكمن الحالة التي تذوب فيها الأطراف الاسلامية المعتدلة ببنيتها و مفهومها التقليدي مع التيارات القومية في بنيتها و مفهومها التقليدي. إن الالتقاء الاستراتيجي يعني نهاية الطرفين، كما اعتادا أن يكونا. يبقى أن هذه الحالة من الذوبان المتبادل تبدو أكثر رجاحة في بعض الظرفيات الاقليمية العربية منها مقارنة بأخرى.


أفق الحوار القومي-الاسلامي مغاربيا
هناك ملمح جديد في الوضع المغاربي سيساهم بشكل بالغ في إعادة تشكل الواقع السياسي: "قاعدة الجهاد في بلاد المغرب". فمنذ البيعة الرسمية مؤخرا لتنظيم "الجماعة السلفية للدعوة و القتال" تجاه تنظيم القاعدة و حسم مسألة القيادة التي سيتم إحالة "أمر بلاد المغرب" اليها من قبل الامارة القاعدية و التقارير الصحفية عن تدريب عدد من المواطنين المغاربيين من قبل التنظيم الجزائري بهدف تحقيق هدف امتداد الصراع الأهلي الى بقية الأقطار المغاربية فإن مسألة بروز تهديد التنظيمات القاعدية للسلم الأهلي مغاربيا سيصبح مجرد مسألة وقت. إن ذلك سيدفع الى الواجهة الحاجة التاريخية لعقد اجتماعي جديد يجب العقد الاجتماعي المرتجل لما بعد مرحلة الاستقلال و يحظى بالقبول و الاقناع و هو ما لم يتحقق حتى الآن. و ليس العقد الاجتماعي في هذه الحالة و بالتعابير السياسية الراهنة سوى مشروع المصالحة الوطنية.

إن مسار المصالحة الوطنية مغاربيا هو المسألة الجوهرية في المستقبل السياسي المنظور. لا يتعلق ذلك بمجرد تمنيات بل هو ما سيشكل جوهر الصراع السياسي بالذات و حوله سيتم حسم طبيعة المرحلة المقبلة. و ليست مسألة الدمقرطة بمعزل عن هذا المسار. إن التفاعلات و التجاذبات المتصاعدة مغاربيا تبين أن الدمقرطة لا يمكن أن تتم بمعزل عن واقع معقد فيه الكثير من التوازنات المحلية و الاقليمية و الدولية. و مثلما كان الحال دائما، بما في ذلك في النماذج الغربية، فإن الدمقرطة ستتحدد مسارا و توقيتا و سرعة حسب توافقات موضوعية معقدة. و التوافقات وحدها و ليس عقلية الفرض و الإملاء أو التوتر و الصراخ هي التي ستحل المعضلات القائمة. و من هذا المنظور يجب النظر لمسألة المصالحة الوطنية. فهي، بمعنى آخر، البعد الواقعي و العملي التي ستشكل القاعدة التوافقية الممكنة لإرساء مسار دمقرطة حقيقي و من ثمة تحقيق المثال الديمقراطي. إن مسار المصالحة الوطنية الذي هو في وضع تشكل في بعض الأقطار و في حالة ماقبل الولادة في أقطار أخرى سيصبح مسارا حتميا للبقاء بمجرد أن يسترجع التهديد القاعدي للسلم الأهلي حيويته (في المثال الجزائري) أو يصبح أمرا واقعا (في بقية الأقطار)، و هي للأسف و كما أشرت ليست إلا مسألة وقت. إن استمرار البعض في إنكار هذه الآفاق بدعوى نجاح ما هو قائم لن يغير في الأمر شيئا إلا في اتجاه تعقيد الحلول و تأجيل التوافق.

إن لمعادلة المصالحة الوطنية مغاربيا علاقة قوية بل مشروطة بطبيعة العلاقة بين الأطراف القومية و الاسلامية. من الضروري التأكيد هنا على الطبيعة الخاصة للمحيط المغاربي. حيث يبدو التواجد المهيمن للاسلام مغاربيا و بمدرسته السنية المغاربية العريقة (المالكية) عاملا أساسيا شكل و يشكل قاعدة للتوافق يجمع الغالبية العربية مع الأقليات البربرية. أكثر من ذلك فإن الخصوصية العربية البديهية للاسلام جعلت من مفهوم العروبة مفهوما متضمنا حتى ضمن الظرفية البربرية. و من ثمة فإن التماهي بين الظاهرتين الاسلامية و القومية في الواقع المادي و الثقافي المغاربي جعل من الصعوبة بمكان استقطابا سياسيا متبادلا بين التيارات السياسية التي تتصدر الدفاع عن الظاهرتين مثلما حدث بشكل مبكر و بارز في المشرق العربي. و هكذا كانت الحركات الوطنية المغاربية التي قادت مسيرة الاستقلال هي حركات قومية-اسلامية بالفطرة (حزب الاستقلال، جبهة التحرير، حزبي الدستور القديم و الجديد). و بالرغم من السلبيات المرتبطة بتقاليد استبدادية لم يكن سهلا تجاوزها فإن من المثير أن مختلف هذه الحركات الوطنية قد احتوت الى هذه الدرجة أو تلك نزعات عملية و فكرية نحو الانتماء القومي الاسلامي. و ربما من العثرات التي يمكن حسابها على التيارات القومية و الاسلامية المغاربية المشابهة للحالة الحركية المشرقية بشكل متفاوت هو عدم ادراكها الكافي لأهمية الكتل القومية و الاسلامية في البنى القطرية المغاربية بما في ذلك داخل الأحزاب المهيمنة. و ربما من عوامل اللخبطة تصرفات هذه الكتل نفسها و التي تذهب في أحيان كثيرة الى تصور غير دقيق يقول بضرورة تمييز "الأمة القطرية" ("الأمة المغربية"، "الامة الجزائرية"، "الأمة التونسية") و التأكيد عليها بشكل يستفز الأطراف الحركية القومية و الاسلامية.[2]

و بشكل عام يبدو الوضع المغاربي كالتالي: أولا، أطراف محلية لا ترغب في المصالحة الوطنية لتداعيات الدمقرطة المتماهية معها و من المفارقة أن هذه الأطراف تبدو متناقضة: من جهة أولى جزء من النخب الحاكمة الآتية إثر العقد الاجتماعي المرتجل و الضمانات الدولية الأمريكية لعالم ما بعد الاستقلال و غير المستعدة لإدراك المتغيرات القطرية و القومية، و من جهة ثانية التنظيمات القاعدية التي ترفض الجميع و ترى في الديمقراطية و المصالحة مع "المرتدين" و "الكفر" ضلالا مبينا. ثانيا، أطراف اسلامية و قومية و وطنية اعتدالها يكمن في تفهم الواقع القطري و القومي و الاستعداد للدفاع عن الأمن القومي في إطار جغراسياسي مغاربي يشكل جناحا هاما للأمن القومي العربي.

إن أي حوار منظور بين التيارات القومية و نظيرتها الاسلامية يجب أن يأخذ بعين الاعتبار هذه الملامح العامة للوضع الراهن و التي يمكن حصرها في النقاط التالية:
-الطرح القومي بوصفه توصيفا لواقع أكثر منه مشروعا بديلا.
-الاسلام القاعدي هو نتيجة للفراغات في الأمن القومي و عامل مقوض لهذا الامن في نفس الوقت.
-الاسلام المعتدل سينتهي الى الاقرار بأن الطرح القومي هو الطرح الأكثر واقعية.
-هناك قوميين و اسلاميين "بالفطرة" في الواقع الخصوصي للمغرب العربي.



[1] في الوضع العراقي هناك تموقع سياسي جديد يتمثل في ظاهرتين مفارقتين لا يمكن على المدى المنظور سوى التوافق بينهما للبقاء: من جهة هناك إعادة تشكل الخارطة السياسية على أساس التركز الطائفي و القومي و من جهة أخرى هناك تباين طائفي و قومي حول مفهوم الوطن العراقي. و على سبيل المثال هناك تيارات طائفية و قومية معادية لفكرة الوطن الجامع في حين هناك تيارات طائفية و قومية تدافع بشراسة عن مبدأ الوطن العراقي. إن هذا نموذج آخر، ينضاف للنموذج اللبناني مفاده القاعدة التالية: يمكن للتركز الطائفي أن يكون مقوضا للوحدة الوطنية و لكن ذلك ليس أمرا ضروريا. حيث يمكن للتنظيم المشروط بقاعدة طائفية أن يكون قاطرة للوحدة الوطنية على أساس دوره الدقيق في معادلات و توازنات الداخل القطري و الامتداد القومي. و في هذه الحالة يصبح الحفاظ على الوطن مصلحة طائفية.
[2] كان مفهوم "الامة القطرية" في الأساس مفهوما دفاعيا ضد الإلغاء الاستعماري. و هكذا مثلا كانت صرخة الشيخ عبد العزيز الثعالبي و الذي لا يشك في إخلاصه للانتماء العربي-الاسلامي لتونس من خلال كتابه "تونس الشهيدة". كما يجب فهم إصرار الزعيم الوطني من الحزب الدستوري الجديد على البلهوان على نفس الصيغة كما هو معروف في مؤلفه "نحن أمة" في ذات الاطار. و في الحالتين لم تكن "الأمة التونسية" في ذلك الاطار مفهوما مناقضا للانتماء العربي-الاسلامي بقدر ما كانت مفهوما ضروريا لاعادة استكشاف الهوية العربية الاسلامية المميزة للامة القطرية و التي تم تهميشها في ظل الهيمنة الاستعمارية. غير أن الصراعات بين القطرية في ما بعد الاستقلال و خاصة بين بعض الزعماء المغاربيين و الرئيس عبد الناصر أدت الى التأثير على أصول مفهوم "الأمة القطرية" ليصبح إطارا مفهوميا للانعزال، ليس عن الانتماء العربي-الاسلامي في المطلق و لكن عن القيادات القومية في المشرق العربي. من المهم تتبع إعادة التركيز على هذا المفهوم لدى بعض القيادات التلقيدية المحلية و معاني ذلك، و بشكل عام لا أعتقد أنها تأتي بالضرورة على الضد من رؤية مغاربية و عربية واحدة.


">Link
http://www.aqlamonline.com/laswad19.htm
http://www.alquds.co.uk:8080/archives/pdf/2006/11Nov/29NovWed/qds18.pdf
Link