Friday, December 29, 2006

حول الانطلاقة المحتملة لأعمال إرهابية للقاعديين في تونس: استمرار التعامل الساذج في أوساط الطبقة السياسية التونسية مع تيار الفتنة الأهلية

الطاهر الأسود—باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية

تلاحقت أنباء محددة و من مصادر مختلفة في فترة وجيزة خلال الأسابيع الأخيرة حول احتمال إنطلاق أعمال ارهابية في قطرنا العزيز تستهدف السلم الأهلي و النظام القائم من خلال استهداف الجهاز الأمني و هو ما انكشف في بعض الاشتباكات المسلحة المتفرقة. إن ذلك خط أحمر و ليس إلا تكرارا سمجا لبرامج الفتنة الأهلية المدمرة السابقة في المنطقة. و لكن من الواضح أن هناك استمرارا لنوع من الغيبوبة تجاه خطر المجموعات القاعدية مغاربيا و تونسيا من قبل معظم النخبة السياسية بما في ذلك القيادات المحلية و عدم إدراك للبنى الجديدة التي بصدد التشكل. و يأتي هذا المقال في اتجاه التأكيد على أن مثل هذه تحقق هذه الأعمال الارهابية ليست إلا مسألة وقت للأسف الشديد و هو ما أشرت إليه أكثر من مرة و توقعت حدوثه مؤخرا. و بغض النظر عن صحة الأخبار المتداولة أخيرا من حيث نسبها لتيار السلفية الجهادية— هذه الأخبار التي يجب التعامل معها بحذر كبير من خلال رفض التعتيم المحلي المعتاد و الذي يمس السلامة الأهلية في هذه الحالة و لكن أيضا من خلال تجنب التضخيم و التوقف عن التعامل مع هذه الأحداث كمجرد مناسبة للمناورة ضد النظام القائم—قلت بغض النظر عن صحة و دقة نسبها للسلفية الجهادية فإن هذه الأعمال ستحدث لامحالة لوجود ما يكفي من العوامل و المؤشرات و المعطيات لحدوثها.

و قد كتبت لأكثر من مرة في السنة الأخيرة حول الخطر المتعاظم لتنظيم القاعدة على السلم الأهلي في المنطقة العربية بشكل عام. و كان إصراري على هذه النقطة ينبع فيما ينبع من سذاجة مثيرة للانتباه لنسبة كبيرة من النخبة العربية و التي "تطلبنت" سياسيا و فكريا من خلال دعمها للاستراتيجيا القاعدية خاصة في العراق إما دعائيا أو تحليلا بتصنيفها ضمنيا في إطار "المقاومة العراقية" من دون حرص على التمييز الواضح و البين بين أطراف "المقاومة" و "الارهاب" و تغاضيها عن كل المؤشرات الدالة بشكل قاطع على أن هذه الاستراتيجيا بشكل عام لا تستهدف "كفار الخارج" فحسب بل أيضا و خاصة "كفار الداخل" (حيث تم التغاضي المثير و لفترة طويلة عن الاستهداف القاعدي البين في العراق لعامة الشيعة و حتى للسنة من خلال مفهوم "التترس") حيث أكد أيمن الظواهري في أكثر من وثيقة أن مسألة "حاكمية الشريعة" تأتي في مقدمة أولويات التنظيم ليس في العراق فحسب بل في خارجه و بقية الأقطار الاسلامية بشكل عام (أنظر مثلا: الطاهر الأسود "مرة أخرى في ماهية المقاومة العراقية...: حول التيار القاعدي و حتمية منهجه الطائفي" ميدل إست أون لاين 19-09-2005). و برزت في العراق مثلا نوايا القاعدة في تأسيس دولة طائفية في "المناطق السنية" باسم "دولة العراق الاسلامية" في ظل صمت مثير للقلق بين أوساط النخبة السياسية العربية و التي تساهم بصمتها في تفاقم ما يجري خاصة في ظل تركيزها المتناسق على "الخطر الفارسي الشيعي".

إن الرؤية الساذجة العامة تجاه تنظيم القاعدة بما في ذلك في العراق تتقاسمه النخبة المغاربية و التونسية أيضا و كان له تأثير بين على رؤيتها لحضور القاعدة ضمن مجالها المغاربي. حيث تم تجاهل تطورات أساسية في علاقة بوجود التيار القاعدي على الساحة المغاربية و التغاضي عن أهميتها البالغة في تحديد مسار المرحلة المقبلة و هو ما تعرضت له في أكثر من مقال في السنوات الأخيرة (أنظر مثلا: الطاهر الأسود "في إطار تحليل الرؤية الأمريكية لمسألة الديمقراطية السياسية في تونس" العدد العاشر/ فبراير 2004 نشرية أقلام أون لاين) و مؤخرا بالتفصيل في مقال في العدد التاسع عشر من نشرية أقلام أن لاين بعنوان "في العلاقة بين القوميين و الاسلاميين عربيا و ومغاربيا" (نُشر أيضا في صحيفة القدس العربي في عدد 29 نوفمبر 2006). و سأكتفي هنا بإعادة نشر بعض الفقرات الخاصة بمشروع التنظيم القاعدي عربيا و مغاربيا:

" القاعديون و التهديد بالحروب الطائفية و الأهلية: التقويض الآخر للأمن القومي
و حسب الاستراتيجيا العملية و المعلنة للتنظيمات القاعدية فإن مسألة "حاكمية الشريعة" تتبوأ مكانة مركزية. و بعنى آخر فإن "أمن الشريعة"، بما يتضمن ذلك من المعاني الطائفية الضيقة للـ"سلفية الجهادية"، يحتل المكانة العليا التي يتم على أساسها الفرز العام لقائمة "المؤمنين" و "المرتدين". و تستبدل هذه المنظومة ذلك المعطى الواقعي المتمثل في الامن القومي...



أفق الحوار القومي-الاسلامي مغاربيا
هناك ملمح جديد في الوضع المغاربي سيساهم بشكل بالغ في إعادة تشكل الواقع السياسي: "قاعدة الجهاد في بلاد المغرب". فمنذ البيعة الرسمية مؤخرا لتنظيم "الجماعة السلفية للدعوة و القتال" تجاه تنظيم القاعدة و حسم مسألة القيادة التي سيتم إحالة "أمر بلاد المغرب" اليها من قبل الامارة القاعدية و التقارير الصحفية عن تدريب عدد من المواطنين المغاربيين من قبل التنظيم الجزائري بهدف تحقيق هدف امتداد الصراع الأهلي الى بقية الأقطار المغاربية فإن مسألة بروز تهديد التنظيمات القاعدية للسلم الأهلي مغاربيا سيصبح مجرد مسألة وقت. إن ذلك سيدفع الى الواجهة الحاجة التاريخية لعقد اجتماعي جديد يجب العقد الاجتماعي المرتجل لما بعد مرحلة الاستقلال و يحظى بالقبول و الاقناع و هو ما لم يتحقق حتى الآن. و ليس العقد الاجتماعي في هذه الحالة و بالتعابير السياسية الراهنة سوى مشروع المصالحة الوطنية.
إن مسار المصالحة الوطنية مغاربيا هو المسألة الجوهرية في المستقبل السياسي المنظور. لا يتعلق ذلك بمجرد تمنيات بل هو ما سيشكل جوهر الصراع السياسي بالذات و حوله سيتم حسم طبيعة المرحلة المقبلة. و ليست مسألة الدمقرطة بمعزل عن هذا المسار. إن التفاعلات و التجاذبات المتصاعدة مغاربيا تبين أن الدمقرطة لا يمكن أن تتم بمعزل عن واقع معقد فيه الكثير من التوازنات المحلية و الاقليمية و الدولية. و مثلما كان الحال دائما، بما في ذلك في النماذج الغربية، فإن الدمقرطة ستتحدد مسارا و توقيتا و سرعة حسب توافقات موضوعية معقدة. و التوافقات وحدها و ليس عقلية الفرض و الإملاء أو التوتر و الصراخ هي التي ستحل المعضلات القائمة. و من هذا المنظور يجب النظر لمسألة المصالحة الوطنية. فهي، بمعنى آخر، البعد الواقعي و العملي التي ستشكل القاعدة التوافقية الممكنة لإرساء مسار دمقرطة حقيقي و من ثمة تحقيق المثال الديمقراطي. إن مسار المصالحة الوطنية الذي هو في وضع تشكل في بعض الأقطار و في حالة ماقبل الولادة في أقطار أخرى سيصبح مسارا حتميا للبقاء بمجرد أن يسترجع التهديد القاعدي للسلم الأهلي حيويته (في المثال الجزائري) أو يصبح أمرا واقعا (في بقية الأقطار)، و هي للأسف و كما أشرت ليست إلا مسألة وقت. إن استمرار البعض في إنكار هذه الآفاق بدعوى نجاح ما هو قائم لن يغير في الأمر شيئا إلا في اتجاه تعقيد الحلول و تأجيل التوافق. " (انتهى).

إن رؤيتي هذه و التي أكدت عليها في المقال المشار إليه أعلاه تأتي جزئيا كرد فعل على صمت محلي في تونس حول هذه الظاهرة تشارك فيه جميع الأطراف تقريبا. حيث التقت أطراف معارضة مع أوساط داخل السلطة (كما يظهر في صحف مقربة من النظام كصحيفة الشروق و لكن غيرها أيضا) في الموقفين التاليين:

أولا، تطبيع ممارسات القاعدة في العراق ضمن مسار "المقاومة" خاصة من خلال عدم الحرص على مواجهة واضحة لممارساتها الارهابية البينة المستهدفة تحديدا إشعال الفتنة الطائفية في التقاء لا يمكن تجاهله مع بقية الأجندات الطائفية في العراق بما في ذلك أوساط نافذة في سلطات الاحتلال الأمريكي (آخرها مؤشرات واضحة عن التقاء مجموعة تشيني أو ما تبقى من النيومحافظين في واشنطن مع قيادات سعودية للمراهنة على صراع الشيعة ضد السنة في إطار مزيد صب الزيت على النار كخيار أخير لإنقاذ مشروع الاحتلال، و هو ما سأتعرض اليه في مناسبة لاحقة في مقال خاص). إن هذه الرؤية التونسية للوضع العراقي التي تشمل جميع الأطراف تقريبا تعكس عدم إدراك للأهمية المتعاظمة للوضع العراقي و حضور القاعدة فيه سلبيا على الوضعين المغاربي و التونسي.

ثانيا، التعامل من قبل معظم الطبقة السياسية مع ظاهرة السلفية الجهادية المتصاعدة في تونس بشكل ساذج:

-من جهة السلطة و بعد إصدار "قانون الارهاب" و الذي كان يهدف الى تحقيق نقاط سياسية على المستوى الدولي أكثر منه مواجهة جدية لما يحدث من تطورات داخلية تم تدشين الحملة على أوساط السلفية الجهادية بما في ذلك أوساط متعاطفة و قريبة منها (تم في هذا الاطار خلط مواجهة "الارهاب" مع مواجهة مشاعر جدية لدعم المقاومة في فلسطين و العراق خارج الأطر القاعدية). و قد أدى استمرار التعامل الأمني الاستئصالي في المساهمة بجدية في إقحام عناصر جديدة كانت في هامش تيارات السلفية قبل اعتقالها ضمن مسار السلفية الجهادية من خلال الممارسات المتهورة و التعذيب و الاهانة الشخصية للمعتقلين و عائلاتهم. و ساهمت الحملة الأخيرة على الحجاب بشكل قاطع ليس على استهداف حركة النهضة كما اعتقد البعض في الأوساط المؤثرة في السلطة بل في استهداف تيار عريض غير مسيس يعيش على هامشه تيار السلفية الجهادية لينتهز الأخير فرصة إيغال هذه الأطراف في نهجها الاستئصالي لتثبيت و تبرير رؤيته التكفيرية للنظام. لقد استخدم النظام و لفترة طويلة تعميما للساحة الاسلامية اتهم فيه أطرافا لم تعد تشك حتى القوى الدولية المؤثرة في اعتدالها بتهمة "الارهاب". و الآن تحققت للأسف نبوءة الاستئصاليين. و لكن لم يعد ممكنا التعامل التكتيتكي و المناور مع قضية الارهاب في تونس كما اعتاد هؤلاء حيث ستصبح هذه المعضلة أمرا واقعيا و ليس مجرد شعار هلامي و ستؤثر بشكل سلبي للغاية على النسيج الاجتماعي و على الوضعية الاقتصادية الحساسة أصلا. و الجميع يعرف الأهمية الخاصة للتهديد الأمني على قطاعات اقتصادية أساسية مثل القطاع السياحي. إن جزءا من مسؤولية السلطة فيما يجري يشمل أيضا وجود أطراف لا تستهدف الاسلاميين المعتدلين فحسب بل أيضا ما ترى فيه "قاعدة ثقافية للتطرف" و هو ما يشمل أحيانا كثيرة مبادئ دينية يؤدي استهدافها لاستفزاز مشاعر كثيرين يعتبرون المس منها خطا أحمر. و بالرغم من وجود مؤشرات كثيرة على أن هذه الأطراف الاستئصالية تواجه داخل النظام نفسه معارضة قوية إلا أن سياساتها السلبية حققت أضرار بالغة. إن هذه السياسة عامة و عبر الخمسة عشر سنة الأخيرة انعكست ميدانيا من خلال ضرب الأسس التي تسمح يوجود تيار واسع من الأئمة و القادة الدينيين المستقلين و المعتدلين كما هو موجود في كثير من الأقطار العربية و هو ما ترك الساحة فارغة أمام من جهة أولى "أئمة موظفين" مكلفين بمهام و من ثمة لا يحظون بالمصداقية و من جهة ثانية "أئمة متمردين" لا يشغلون ضرورة مناصب الامامة و المشيخة و لكن يعملون على الهامش و بصمت بالغ و مؤثر خاصة منذ سنة 2000.

-في الجهة المقابلة تقف المعارضة (لا أعني هنا طبعا أطراف الديكور و التي لا تقوم حتى الآن على الأقل إلا بمسايرة النهج الرسمي من دون أي "مغامرات غير محسوبة") بخطاب غير مواكب للتطورات الداخلية. حيث بدى أنها تنظر للوضع نظرة متمركزة على الذات. و كان من الواضح أن أطرافا محدودة الفاعلية ميدانيا و لكن كثيرة الصخب إعلاميا اعتقدت أن صخبها الاعلامي في الخارج يعكس أنها موجودة في مركز التطورات الميدانية في الداخل و من ثمة تعمدت تجاهل الانتشار المتعاظم في الساحة التونسية لتيار السلفية بجميع مشاربه و بقية الأطراف الجديدة (الصوفية، الشيعة...) مما يعكس تغيرا في الخارطة السياسية الداخلية و ذلك للاستمرار في الاعتقاد و الترويج لأنها تمسك بمقاليد المعارضة. و اعتقد البعض أن المطلوب الرجوع لما قبل 1990 و هو أمر لم يعد ممكنا. و كانت أكثر الصور الكاريكاتورية صورة السيد منصف المرزوقي راجعا للبلاد بدعوة "للعصيان المدني" و "المقاومة السلمية" بشكل كشف نرجسية و طوباوية لافتة حيث يبدو أنه كان هناك اعتقاد بأن "الجماهير" كانت تنتظر فقط رجوع الزعيم الكارزمي لتنطلق في احتجاجاتها و هو ما عكس غيبوبة كاملة عن الخارطة السياسية و الفكرية الجديدة التي بصدد التشكل و التي هي في قطيعة كبيرة مع الوجوه السياسية التقليدية. إن استراتيجيا المعارضة القائمة على التركيز على الدعم الخارجي المتنوع (الحقوقي و السياسي و الاعلامي خاصة على مستوى الاتحاد الأوروبي) لا تعكس عدم ثقة في جذب دعم داخلي فحسب بل تشير الى أن حاجات الداخل الأقل سياسوية و المصطبغة بقوة بتأثير ديني راديكالي متعاظم أصبحت خارج قدرات و برامج طيف هائل من المعارضة و التي لازالت تكابر تجاه هوية عموم شعبها و تركز بشكل بالغ على مسائل "جوهرية" مثل حقوق التوريث.

و لقد انعكس هذا التوجه الساذج في محاولة الالتصاق بالمجموعات الجديدة و معتقليها في السجون التونسية و التبني الحقوقي لها و من السخرية أن ذلك اصطدم بلامبالاة المعتقلين بالمسألة الحقوقية و هم الذين قاموا أكثر من مرة برفض السلطة القضائية و عدم الاعتراف بها أصلا (لا يرجع ذلك كما أشار بعض محاميهم لفقدان هذه السلطة لمصداقيتها بل لأن جزء هام من المعتقلين المعنيين يتعاملون مع النظام القائم على أنه "طاغوت" بما في ذلك السلطة القضائية). و كان السيد نجيب الشابي في خطابه الافتتاحي لمؤتمر حزبه قد تعامل مرة أخرى بشكل ساذج مع مسألة المعتقلين الحاليين مشيرا فقط الى أنهم مجموعة من الشباب المتعاطف مع المقاومة ليعكس الرغبة في تهميش هذه الأطراف الجديدة و لكن أيضا العمل على استخدام هذه المسألة في المناورة على النظام لا غير عوض الانتباه الجدي لها و فحص آثارها الممكنة على المستقبل السياسي للبلاد. إن الخطاب الذي سنسمعه بين أوساط هذه المعارضة و بشكل جامع في الأيام القادمة هو خطاب التركيز على مسؤولية السلطة فيما يحدث. و سيتم العمل على تهميش الأسس الداخلية للتيار القاعدي و التعامل معه مثلما تتعامل معه الأطراف الأمنية بالذات أي على أنه مجرد تيار مستورد من الخارج ("عبر الفضائيات" كما لا يزال البعض يردد) مما يهمش الأسس الداخلية العميقة لوجود هذا التيار. حيث سيقع التركيز على مسؤولية غياب الديمقراطية فحسب فيما يجري مقابل الاصرار على تهميش قضية مركزية أخرى و هي مسألة الصراع على الهوية و الاستفزاز الخطير للمشاعر الدينية و لكن أيضا أزمة التجديد الديني و التي يتقاسم مسؤوليتها الجميع بما في ذلك بعض الدعاة المزيفين للـ"تجديد الديني" و المنتشرين كالفطر بصفات "دكاترة" و "جامعيين"، صفات توصلوا اليها بفضل التواطئ الأمني و السياسي لا غير.

إن بدايات الحل ليست بأيدي المعارضة كما هي راهنا. إن مركز المواجهة القادمة أحب من أحب و كره من كره ستكون متركزة ليس بين "الديمقراطيين" و غيرهم بل بين أوساط دينية معتدلة و أخرى متطرفة قاعدية تدعو للارهاب الداخلي لحسم مسألة الهوية. و هنا تحديدا يصبح دور التيارات الاسلامية المعتدلة محوريا في مواجهة التيار المتعاظم للفتنة الأهلية. و هذا يعني مسؤولية خطيرة يجب أن تؤدي الى الترفع عن الخطاب المعتاد تجاه السلطة في ظل التغير الدراماتيكي للوضع السياسي و الأمني. و هذه فرصة تاريخية لإثبات اعتدال هذه الأطراف و نبذها الجدي للعنف في ظل تشكيك أطراف مختلفة من المعارضة و السلطة لأسباب ايديولوجية و سياسوية في آن واحد و ليس لتحليل رصين و واقعي للتيار الاسلامي المعتدل. غير أن المسألة الديمقراطية ستأخذ في هذه الظروف بالذات صيغة جديدة حيث أن مشروع المصالحة الوطنية سيصبح مطلبا جوهريا كصيغة عملية لدمقرطة واقعية و لن يصبح في مقدور السلطة أو بعض أطرافها المؤثرة على الأقل مواصلة تجاهل استحقاقاتها. و لم يعد متاحا الاصرار على "خصوصية تونسية" تتميز "بمناخ يسوده الاعتدال" كما يشير "الاستبيان" المسيس الذي نشرته هذا الأسبوع وزارة االشباب و الرياضة في تونس بين صفوف الشباب و الذي يشير الى "92%" من الشباب يعتقدون في "إسلام معتدل" (أنظر صحف أمس). و من المؤكد أن هناك أطرافا في السلطة ستستغل سياسويا ما سيحدث و ستحاول التأكيد على ضرورة تعميم صفة "الارهاب" و "التطرف" على كل طرف إسلامي غير أن تونس تبقى جزءا من نسيج عربي و اسلامي تتأثر بمشاكله مثلما تتأثر بحلوله. و لم يعد هناك مجال في هذا الاطار بالذات لاستمرار تحريم و حضر التيارات الاسلامية المعتدلة مثلما لم يعد ممكنا التسويق لذلك على المستوى الدولي في ظل علم قوى دولية مؤثرة بتعاظم التيارات الدينية عموما في الساحة الشعبية. حيث أصبح من الضروري الاستفادة من تجارب الأنظمة العربية الأخرى في مواجهة تيارات الفتنة الأهلية (مصر، الجزائر، المغرب...) و التي أثبتت أن صيغة التعاون مع التيارات الرافضة للعنف و خاصة التيار الاسلامي المعتدل جوهرية و حاسمة لتخطي مشاريع الحرب الأهلية و تفاقمها. و لا يوجد مثال واحد تم فيه الاقتصار على الحلول الأمنية. حيث ساهمت سياسات التنفيس السياسي و فسح المجال لقيادات دينية مستقلة و معتدلة بشكل رئيسي في نزع الشرعية و المصداقية الميدانية لتيارات الفتنة الأهلية. و رغم أن ذلك لم يؤد الى تطورات ديمقراطية دراماتيكية في هذه الأقطار إلا أنه طرح أسس حقيقية و جدية لتطور ديمقراطي على المدى الطويل. في المقابل يتبين أن "الخصوصية التونسية" و ما تعنيه من سياسات أمنية تدعي "قطع دابر التطرف" لم تكن في النهاية و كما تثبت الأحداث الراهنة سوى تأجيلا لخطر الارهاب الحقيقي و ليس الوهمي هذه المرة.

إن هناك حاجة جدية للتوقف عن التعامل بشكل سياسوي مع موضوع التيار القاعدي و مشاريعه المهددة للسلم الأهلي سواء من قبل السلطة أو المعارضة. إن المرحلة الحساسة التي تقبل عليها تونس (المحفوفة أيضا بظروف اقتصادية صعبة و متفاقمة على الأرجح) تتطلب تغييرا دراماتيكيا يتناسب مع التطورات المتوقعة يضع مسألة تهديد السلم الأهلي و مبدأ احتكار الدولة للسلاح كخط أحمر لا يقبل المناورة السياسية. إن تحميل السلطة المسؤولية و التفرج بشماتة عما يحدث سيضر الجميع و ستصبح أمثولة "أكلت يوم أكل الثور الأبيض" صحيحة مرة أخرى. و هنا أصبح من الضروري التأكيد على عدم الخلط بين التنديد بالقمع من جهة و مواجهة تهديد الأمن العام من جهة أخرى. و يجب التفريق بكل صرامة بين الدور القمعي المسنود من قبل السلطة السياسية للجهاز الأمني بما في ذلك وجود عناصر أمنية تتسم بوحشية بالغة و بين الدور الدستوري غير القابل للجدل للمؤسسة الأمنية و الذي يجعل استهدافها المسلح جريمة يعاقب عليه القانون. إن حسم هذه المسألة لا يعني وقوفا مع السياسة القمعية للسلطة بل يعني وقوفا مع النظام الدستوري القائم و مؤسسة الدولة. إن الحديث عن "ضرورة القطيعة" مع النظام القائم و أطروحات من نوع "الاستقلال الداخلي" تلامس موضوعيا و من حيث لا تدري نهج تكفير التيارات القاعدية للنظام (و المعارضة أيضا). و هذه، طبعا، مسألة في غاية الخطورة.

Appeared in Tunisian sites such as:
">Link
http://www.nawaat.org/portail/article.php3?id_article=1163
Link