جدال حول التطبيع و مشاركة جريدة الصباح في مسابقة "للسلام" في تونسنيوز
حول مشاركة "الصباح" التونسية في المسابقة الاسرائيلية
محورية "التطبيع" في الاستراتيجيا الاسرائيلية و لاعقلانية خطاب "السلام" الراهن
الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية
مرت الآن بضعة أسابيع منذ إثارة مشاركة دار "الصباح" الصحافية التونسية في مسابقة تم وسمها من قبل عدد من الشخصيات و الهيئات التونسية بأنها "تطبيعية". و من بين كل الأشياء التي يمكن التعليق عليها كان أبرز ما لفت إنتباهي هو خطاب الذين قاموا بالدفاع عن هذه المشاركة. كانت تلك مناسبة لتفحص خطاب توارى في السنوات الأخيرة في الوقت الذي كان رائجا بعض الشيئ غداة "مؤتمر مدريد" و "اتفاقيات أوسلو" بداية تسعينات القرن الفائت. و بالرغم أنه خطاب "أقلي" و "مبعثر" مثلما أشار الى ذلك، عن حق، بعض أصحابه إلا أنه موجود و فاعل. و يقدم أصحاب هذه الرؤية موقفهم على أنه يخدم الصراع القائم في المنطقة في اتجاه حله و خدمة المتضررين منه. يتم الاعلان عن ذلك بنرجسية غير مبررة تتجاوز الصراع العربي الاسرائيلي لتقدم لنا تصور أصحاب هذه الرؤية لذاتهم بشكل خلاصي يمسح مجمل القضايا القائمة بما في ذلك "التنمية" و "الاصلاح" و "مقاومة الفساد" و طبعا مواجهة "الظلامية و الخرافة". حيث يرى هؤلاء أنهم لا يقدمون مجرد موقف مختلف و لكن موقف متناقض من حيث المنهج و الرؤية لما هو سائد.
و في الحقيقة ربما كان من الصائب، مثلما فعل البعض، وصف الخطاب التنديدي بالمشاركة بأنه "خشبي". ربما يستعمل المنددون بـ"مشاركة الصباح" الأسلوب غير المناسب في مقاومة "التطبيع". و ربما كان من الأفضل تعميق النقاش و اللجوء الى خطاب هادئ واثق من قضيته عوض الصراخ. ربما كان كل ذلك صحيحا. لكن تلك ملاحظات خاصة بالأسلوب. القضية تبقى في تقييم هذه المشاركة: هل هي في خدمة القضية الفلسطينية و حل جدي و واقعي للصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام أم لا؟ و مثلما سأحاجج لاحقا، يقف هؤلاء المنددون موقفا تاريخيا صحيحا في حين يقف المدافعون عن "مشاركة الصباح" موقفا معاديا للحقوق الإنسانية الأساسية و للحقوق القومية و الشرعية لشعوبهم و أمتهم و من ثمة موقفا لا يقدم حلا واقعيا و ممكنا للصراع العربي الإسرائيلي. لأجل ذلك يستحق خطاب الأخيرين وقفة تأملية خاصة.
سأطرح هنا المسائل التالية:
أولا، كيف يصور المدافعون عن "مشاركة الصباح" الجدال الراهن؟
ثانيا، كيف يقومون بعرض ظروف "مشاركة الصباح" في المسابقة المعنية و ماهي طبيعة هذه المشاركة أصلا؟
ثالثا، هل يعتبرون "مشاركة الصباح" مبادرة "تطبيعية" و هل هي حقا كذلك؟
رابعا و أخيرا، ماهو الموقف الاسرائيلي في علاقة بموضوع "التطبيع" بشكل عام و "التطبيع الثقافي" بشكل خاص؟
رؤيتين متناقضتين: "الماضوية" و "المستقبلية"؟
تبرز نرجسية خطاب المدافعين عن "مشاركة الصباح" في تصور طبيعة الصراع الفكري المؤطر للجدال الراهن. و على سبيل المثال كان السيد خميس الخياطي حاسما حيث رأى أن "القضية" لا تكمن في مجرد الموقف من "مشاركة الصباح" بل تتجازوها لتعكس "رؤيتين متناقضتين" تمسحان مختلف المسائل. و في علاقة بالمنددين بـ"مشاركة الصباح"، حسب السيد الخياطي، فنحن بصدد "رؤية ماضوية ديماغوجية" تتميز بتمسكها بنهج يهمش ماهو سياسي لمصلحة ماهو عقائدي و حسي، فهي ضمنيا "لا تضع السياسي نصب عينيها" و لا تفصل "بين العاطفي و العقلاني". و في مقابل ذلك فإن موقف الدفاع عن "مشاركة الصباح" يعبر في الاساس، حسب الخياطي، عن "رؤية مستقبلية" (عوض المصطلح المهترئ "تقدمية"؟) معزولة، و من ثمة هي على الضد، مما هو سائد في العالم العربي/الاسلامي من "أمية" و "ظلامية و خرافة".[1] في نفس الاتجاه يقترح السيد حبيب الكزدغلي في دفاعه من "مشاركة الصباح" صراعا بين رؤيتين: الأولى تطالب بكل شيئ أو لاشيئ و من ثمة غير واقعية في حين الرؤية الأخرى تعبر عن موقف أناس"إصلاحيين و عقلانيين".[2]
و الواقع هناك ما يكفي من المعطيات كما سنرى للاعتقاد بأننا بصدد خطاب نرجسي غير مبرر. فحسم مسألة ما إذا كان الدفاع عن "مشاركة الصباح" يعبر عن موقف "مستقبلي" و "غير ماضوي" و "عقلاني" و "غير ديماغوجي" و "يضع السياسي نصب عينيه" و "يفصل بين العاطفي و العقلاني"، فحسم هذه المسألة، إذا، لا يحتاج إطلاق شعارات مماثلة بقدر ما يحتاج تمحيصا هادئا لظروف و أهداف المسابقة المعنية و من ثمة معنى "مشاركة الصباح" فيها. فهل قام المدافعون عن "مشاركة الصباح" بذلك أم انخرطوا في تهويمات و تجريدات لاعقلانية تجتر الماضي في أثواب جديدة و من ثمة فهم ليسوا جادين في إيجاد مخارج نحو مستقبل أفضل؟
منظمي "المسابقة"؟
بدت أكثر المسائل غموضا و ضبابية في كتابات المدافعين عن "مشاركة الصباح" المسألة التي من المفترض أن تكون الأكثر إهتماما و تمحيصا خاصة عندما يتعلق الأمر بأصحاب "رؤية عقلانية". حيث تفادى هؤلاء عرض و تقديم بديهيات أساسية في ردودهم تتعلق بمنظم المسابقة و كيفية "مشاركة الصباح" فيها. بل أن عرضهم لمصدر و للإطار التنظيمي للمسابقة غير دقيق و ساذج في أقل التقديرات هذا إذا لم يكن مضللا. فبالنسبة للسيد رضا الكافي يتم التعرض للمنظمين في صيغة المبني للمجهول، مثل وصف ما يجري على أنه مجرد "اشتراك في عملية" من دون توضيح لطبيعة و منظم هذه "العملية"، في حين أنه الشخص الرئيسي المعني بالجانب التنظيمي في "المسابقة" ممثلا لدار الصباح و من ثمة الأعرف بماهية المنظيمين.[3] و حتى عندما يتعرض السيد الكافي للصفة الإسرائيلية للمنظمين يقوم بذلك من خلال الحديث في العام عن "تشارك" مع "مؤسسات إسرائيلية".[4] في حين يتمادى السيد الكزدغلي، و هو الجامعي الذي من المفترض أن يتحرى من مصادره، إلى حد إما الجهل أو التضليل الفاضح عندما يقبل القول القائل بأن "المسابقة أطلقت من قبل عدد من المؤسسات و صحف ضفاف البحر المتوسط".[5]
يأتي هذا في الوقت الذي يمكن فيه الإطلاع مباشرة على مختلف تفاصيل "المسابقة" و إطارها التنظيمي و الظروف التي حفت بإطلاقها على الموقع الالكتروني لمطلقيها و منظمها الرئيسي أي المؤسسة الإسرائيلية "مركز بيريز للسلام" (Peres Center for Peace).[6] حيث أن الأمر لا يتعلق بـ"عدد من المؤسسات و الصحف" بقدر ما هو أحد الأنشطة و المشاريع التي يقوم "مركز بيريز للسلام" بالإشراف عليها بوصفه مطلق المبادرة و الراعي الفكري و المادي لها. و بالرغم من تعرض عدد من التقارير الصحفية لهذه التفاصيل فإنه لا ضير من إعادة عرض بعض المعطيات هنا خاصة لأهميتها اللاحقة في نقاش مسألة "مشاركة الصباح".
و تأتي "المسابقة" ضمن محور "الثقافة" في أحد مشاريع المركز المسمى "المتوسط 2020" (Mediterranean 2020) و الذي يحتوي أركان و من ثمة "مسابقات" و "ورشات" أخرى ضمن محاور "الهوية" و "الديبلوماسية" و "البيئة" و "الاقتصاد".[7] و تم تكليف إدارة خاصة من قبل "مركز بيريز للسلام" للإشراف على المشروع بشكل عام باسم "مؤسسة ليو سافير لرؤية المتوسط 2020" (Leo Savir Foundation for a Mediterranean Vision 2020) و تكليف المركز للباحثة الاسترالية-الاسرائيلية الشابة رونيت زيمر (Ronit Zimmer) لإدارتها. و مثلما هو واضح من اسم المركز فقد تم تأسيسه من قبل الرئيس الاسرائيلي الحالي شيمون بيريز في حين يقوم برئاسته حاليا أوري سافير (Uri Savir) أكثر المقربين لبيريز الذي سمى المؤسسة التي تدير مشروع "المتوسط 2020" باسم والده السفير الاسرائيلي الأسبق ليو سافير. و مثلما هو مذكور تحت ركن "مهمة" المشروع[8] يمكن اعتبار أوري سافير المهندس الأساسي للمشروع خاصة من خلال مقال كتبه سنة 2006 بعنوان "السلام المتوسطي" محمل على موقع المركز.[9] و لأن "مركز بيريز للسلام" هو المبادرفي تنظيم "المسابقة" فإن الصحف المشاركة التحقت بدعوة منه. و لهذا تحديدا يبدو أن دار "الصباح" التحقت بشكل متأخر حيث لا يرد اسمها في قائمة الصحف المشاركة على الصفحة الرئيسية للموقع الالكتروني[10] في حين يرد اسمها على الوثيقة الملحقة (المعدلة) الموضوعة على أحد الوصلات.[11] تبقى الإشارة الى أن الرابحين في مسابقة الرسم (التي من المفترض أن يحاكي فيها "أطفال بين سن 15 و 18 عاما" أحد أشهر رسومات بابلو بيكاسو) سيلتقون في مالقة الاسبانية في حين سيتكفل "مركز بيريز للسلام" بتغطية مصاريف اللقاء.
و في الواقع يعود تهرب المدافعين عن "مشاركة الصباح" من عرض بسيط لمنظمي "المسابقة" الى أنها نقطة محورية في حسم مسألة أساسية هي :هل نحن بصدد مبادرة "تطبيعية" أم لا؟ إذ لا يرغب هؤلاء الاقرار بأن ما يجري يندرج ضمن مسارات "التطبيع" عموما و "التطبيع الثقافي" خصوصا.
هل تهدف "مشاركة الصباح" لنشر "ثقافة السلام" أم هي مبادرة "تطبيعية"؟
للمفارقة يحرص المدافعون عن "مشاركة الصباح"، في الوقت الذي يتجاهلون فيه عرضا دقيقا لماهية منظمي "المسابقة"، على التأكيد على أن "الشركاء" الإسرائيليين المعنيين في هذه "المسابقة" يدافعون عن "ثقافة السلام" بل و أيضا "مناضلين من أجل السلام". يعتبر السيد الكافي، عل سبيل المثال، في إشارة للـ"المسابقة" أن التشارك مع الاسرائيليين "الذين يناضلون من أجل السلام، و هم لحسن الحظ كثيرون، لا يجب أن تعتبر جريمة"، و يضيف الكافي أن هؤلاء "يعملون بنزاهة على وضع حد للانزلاق نحو الكراهية و العنف".[12] في مقابل ذلك ينخرط الكافي في خطاب شعاراتي مثير للغرابة مثل القول بأن معارضة "المسابقة" لا تعني معارضة "ثقافة السلام" فحسب بل أيضا معارضة "التضامن مع الشعب الفلسطيني".[13]
في نفس الاتجاه يعتبر السيد نزار البهلول بأن المعارضين للـ"المسابقة" لا يهمهم كثيرا أن "المؤسسات" المعنية بهذه المسابقة "معروفة برغبتها في السلام، و ماضيها المسالم النضالي".[14] و يبدأ السيد "عدنان الحسناوي" في "عريضة" (ليس من الواضح مآلها) لدعم "مشاركة الصباح" بالإقرار المبدئي بأنها مساهمة في "عمل يهدف نشر ثقافة السلام".[15] السيد زياد الهاني، و الذي كان مصدر أول التصريحات في هذا الشأن، اعتبر أن المشروع "يخدم ثقافة التسامح و السلام و التواصل بين شباب المتوسط" و أن "المؤسسات التي تتبنى مثل هذا المشروع تستحق التهنئة".[16]
و الى جانب العناوين الشعاراتية التجريدية التي تعتبر ضمنيا "مركز بيريز للسلام" و من يقفون وراءه "مناضلين من أجل السلام" يوجد من يواجه المسألة بشكل مباشر لنفي صيغة "التطبيع" عن "المسابقة". فالسيد الخياطي يطلق ما يشبه المصادرة الشعاراتية الباعثة على الحيرة بأن ما يجري "ليس تطبيعا" بل هو "حوار". و في الواقع لا يبدو أن السيد الخياطي، الذي يمثل حسب تصوره لذاته "رؤية عقلانية"، يرى أي مبرر لأن يوضح لماذا لا يمكن اعتبار هذا "الحوار" مبادرة "تطبيعية" سوى الاشارة الايتمولوجية المضطربة الى أن ما يجري "ليس تطبيعا كما يدعي القومجية عندنا، لأننا لم نعش يوما حياة جيرة طبيعية مع إسرائيل"، كأن معنى "التطبيع" (normalization) هو ضرورة "العودة الى حياة طبيعية" و ليس "تطبيع" ما لم يكن طبيعيا أو "عاديا" حتى نقترب أكثر من معنى الأصل الاصطلاحي الانجليزي.[17] السيد الكزدغلي يحاول أن يقدم أفكارا أقل سطحية عندما يعتبر أن "تعليم الأطفال للسلام" ليس "تطبيعا مع السياسات العدوانية". غير أنه، و مثلما تمت الاشارة أعلاه، لا يحاول وضع "المسابقة" ضمن إطارها التنظيمي و بالتالي السياسي الحقيقي حتى يمكن أن نقرر أن ما يجري هو مجرد "تعليم الأطفال للسلام".[18]
و مرة أخرى لا نحتاج للكثير من الوقت حتى نحسم مسألة ما إذا كانت "المسابقة" الاسرائيلية تساهم في نشر "ثقافة السلام" أم مبادرة "تطبيعية" (و من ثمة "مشاركة الصباح" فيها، كذلك، مبادرة "تطبيعية"). يتوقف ذلك على أمرين يستوجب كلاهما حدا أدنى من البحث العقلاني و الهادئ: أولا، الهوية السياسية لمنظمي "المسابقة" و ما إذا كانوا "معروفين بكونهم مناضلين من أجل السلام". ثانيا، بحث في في وثائق "مركز بيريز للسلام" خاصة تلك المتعلقة بالتأطير الفكري و السياسي للـ"المسابقة". و في الحالتين لم يبد أي من المدافعين عن "مشاركة الصباح"، الذين من المفترض أنهم يمثلون "رؤية عقلانية" لا تقبل التحاليل الخرافية، أي رغبة في المحاججة و البحث في أي من هذين الاتجاهين، في الوقت الذي يطلقون فيه المصادرات التجريدية في علاقة بالتحديد بهذه المسائل.
إذا لننظر أولا في هوية "مركز بيريز للسلام" و الواقفين وراءه. لأبدأ بملاحظة أن المؤسسة المعنية "غير حكومية" إلا أن مؤسسها و رئيسها السابق (شيمون بيريز) و رئيسها الحالي (أوري سافير) من السياسيين الذين عملوا لفترات طويلة في الدولة و في حكومات متعاقبة. من ثمة تقييمها يتوقف على تقييم شيمون بيريز و أوري سافير كممثلين لتيار تواجد بشكل شبه مستمر طيلة العشريات الفارطة في الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة سواء تلك التي سيطر عليها "حزب العمل" أو الائتلافية. و من ثمة فإن المؤسسة المعنية، رغم أنها "غير حكومية"، إلا أنها تعبر عن رؤية "حكومية" فاعلة منذ إعلان دولة إسرائيل، بوصف بيريز من بين آخر "الآباء المؤسسين" الباقين على قيد الحياة.
من دون إطالة، يبدو تقييم بيريز، ما إذا كان "مناضلا من أجل السلام"، مسألة غير معقدة. و قد صدرت منذ أشهر قليلة "سيرة ذاتية" (بيوغرافيا) رسمية (أي صادق عليها المعني) لبيريز كتبها مايكل بار زوهار (Michael Bar-Zohar) قدمت الصورة التي يرغب بيريز الظهور بها و هو الأمر الذي يتوافق، حسب العروض النقدية للكتاب، مع الوقائع (و هو الأمر الذي لا يحدث دائما بالنسبة لشخص مثل بيريز). و تزامن صدور النسخة الانجليزية للكتاب (النسخة العبرية صدرت منذ سنة 2006) مع حملة بيريز للحلول محل كاتساف في منصب الرئاسة الإسرائيلية. و بالاعتماد على رزمة من المعطيات ينتهي الكاتب الى أن بيريز"رجل أمن و ليس سلام" (A man of security, not peace) و هي الخلاصة التي يقع تقديمها بشكل مدحي و ليس ذمي. و على سبيل المثال يقدم الكاتب محطات أساسية للتأكيد على ذلك من بينها: بيريز كمهندس أساسي لحرب 1956 من خلال موقعه كأقرب مستشاري بن غوريون، بيريز كمهندس للاتفاق الاسرائيلي الفرنسي للحصول على القنبلة النووية، و بيريز كمهندس للـ"الحائط العنصري" الذي تمت إقامته من قبل حكومة شارون (و التي شغل فيها بيريز منصب نائب رئيس الوزراء).[19] طبعا لا تتعرض هذه السيرة لما يمكن أن يرقى بسهولة الى مرتبة "جرائم الحرب" مثلما هو الحال بالنسبة للمسؤولية المباشرة لبيريز في قصف مقر الأمم المتحدة في "قانا" و عشرات المدنيين الذين قتلوا في الملاجئ و هو ما تم تضمينه في تقارير أممية. و دوره في مباركة القصف العشوائي على المدنين في لبنان، الأمر الذي دعمته تقارير منظمات محايدة بما في ذلك التقرير الأخير لمنظمة "هيومان رايتس واتش"، من خلال دعمه حكومة أولمرت في "حرب تموز" الصائفة الماضية في لبنان. هذا عدى مباركته عمليات الاعدام خارج القانون للقادة السياسيين للمقاومة الفلسطينية و ما يتم من خلالها من قتل للمدنيين. و قد سبق لبعض الكتاب أن أكدوا على "الشراهة الحربية" لبيريز و محاولته إخفاءها تحديدا من خلال خطوات مثل تأسيس "مركز بيريز للسلام" و الذي سبق أن خلفت أنشطته جدالا حادا بين الأوساط الفلسطينية.[20] و سواء تعلق الأمر بما يرغب بيريز في الظهور عليه أو الصورة التي يقدمها منتقدوه فإننا بالتأكيد لسنا بصدد "مناضل معروف من أجل السلام". طبعا يمكن لبيريز أن يقول أي شيء عندما يتعلق الأمر بـ"صناعة السلام" في هذه المناسبة أو تلك: و لعله من المثير أن نعرف، و هو الأمر الذي يمكن أن يهم تحديدا السيد الخياطي و اختياراته الاصطلاحية حول "الرؤى الماضوية و المستقبلية"، أن أكثر كلمات بيريز ترديدا قوله "لا أنظر البتة الى الوراء. بما أني لا أستطيع تغيير الماضي، لماذا علي التعامل معه؟ يجب عليك التعامل فعلا مع المستقبل".[21] و يصعب حقا التوصل لنتيجة معاكسة في علاقة بأوري سفير أقرب مقربي بيريز و هو الذي عمل لفترة كمدير عام لوزارة الخارجية الاسرائيلية و أشرف بصفته تلك على التوصل لـ"اتفاقيات أوسلو" (يشغل سافير الآن مقعدا في الكنيست الاسرائيلي). فمع الغبار الشعاراتي الكثيف حول "السلام" الذي يمكن يثيره سافير إلا أنه لا يتورع أن يكتب مثلا، إثر وقف إطلاق النار في "حرب تموز" الأخيرة و ما يفوق الألف قتيل من المدنيين اللبنانيين (و الذين من بينهم مئات الأطفال الذين كان منهم ربما من يرسم "حمامة سلام" عند مقتله)، أن يكتب ما يلي: "بالرغم من أننا لم نكن منتصرين حسب المعايير العسكرية المطلقة، فإن الحملة التي انتهت للتو تم قيادتها بشكل مناسب كما تم تحقيق معظم أهدافها".[22] طبعا يبقى من الضروري الحديث في هذا الإطار عن "اتفاقيات أوسلو" و التي أشرف عليها كل من بيريز و سافير و مدى تعبيرها عن رغبة جدية في السلام. و هنا ليس من العناء المحاججة أن ياسر عرفات "الاصلاحي المتدرج و العقلاني" (حسب العبارات المحبذة من قبل السيد الكزدغلي مثلا) قد تم قتله في مقره المحاصر في رام الله بعدما رفض تصفية قضية شعبه مقابل العمل كحارس أمن لإسرائيل... و هو الهدف الذي تبين أنه الحد الأقصى إسرائيليا (سواء "العمل" أو "الليكود") لـ"دولة فلسطين" كما فهم الزعيم الفلسطيني في محادثات كامب ديفيد مع باراك و بقية الفريق البيريزي سنة 2000 (تم عرض "الحد الأقصى" الاسرائيلي خاصة من قبل "حزب العمل" في تلك المحادثات في الرواية الأكثر مصداقية حسب عديد المراقبين و هي لروبرت مالي Robert Malley مستشار الرئيس كلنتون للشرق الأوسط و الذي شارك فيها).[23]
أنتقل الآن الى النقطة الثانية و التي على أساسها يمكن حسم ما إذا كانت "المسابقة" مبادرة "تطبيعية" أم مجرد نشر لاسياسوي لـ"ثقافة السلام"؟ سأبقى هنا مع أوري سافير بوصفه منظر مشروع "المتوسط 2020" (و التي تندرج ضمنها "المسابقة" الثقافية التي تشارك فيها "الصباح") كما هو مذكور في تقديم المشروع. و في الحقيقة ليس أفضل هنا من عرض أهم الأفكار الواردة في مقال سافير، المذكور أعلاه، و الذي يعتبره هو ذاته الإطار الفكري و السياسي لمشروع "المتوسط 2020". و بالرغم أن أي طرف جاد في السلام يمكن أن يقتطف الاستعداد العربي الرسمي غير المسبوق ("إعلان قمة بيروت") للـ"تطبيع" مقابل الانسحاب من أراضي سنة 1967 و هو الأمر الذي بدأ يحظى حتى بموافقة ضمنية لأطراف أساسية في الصراع المسلح (مثل حماس) فإن سافير يرى أن الحل لا يكمن في التوصل لاتفاقيات سياسية ضمن ظروف الوضع الراهن و هو الأمر المؤجل حتى في علاقة بإطار"خريطة الطريق". في المقابل يبدو أن الوقت مناسب، حسب سافير، للقيام بأمر أساسي يسبق أي اتفاقيات سياسية و من ثمة يسمح بنجاحها (حسب مفهوم "النجاح" الاسرائيلي): "حل شامل و أكثر نجاعة يمكن أن يتطلب خلق ثقافة متفهمة للتعايش السلمي عبر التواصل على المستوى الإقليمي—المنطقة المتوسطية".[24] و بمعنى آخر لا يرى سافير أن "السلام" ممكن عبر اتفاقيات سياسية ضمن الإطار البديهي القائل بـ"تبادل الأرض مقابل السلام" بل يراه، قبل كل شيء في خلق "تواصل إقليمي": أي "تطبيع" من دون إنسحابات. طبعا فإن سافير "المناضل المعروف من أجل السلام" لا يشذ عن موقف الطبقة الإسرائيلية السياسية الرسمية من حيث أنه يعتبر أن العنف الفلسطيني بإجماله "رعبا" (terror) و ليس مجرد "إرهاب" (terrorism) و أنه المصدر المستفز للعنف الإسرائيلي. فهل يمكن أن يكون هذا الإطار المفهومي للـ"المسابقة" الذي يندرج ضمن مشروع "التطبيع" قبل قيام إسرائيل بأي إلتزام سياسي للانسحاب من أراضي محتلة سنة 1967 (و هو ما يعني آليا الاعتراف بـ"حقها في الوجود")، هل يمكن أن يكون ذلك مجرد توجه لاسياسوي "لنشر ثقافة السلام" و ليس مبادرة "تطبيعية" ضمن خطة سياسية إسرائيلية للتملص من الاستحقاقات؟
مغزى "التطبيع" في الاستراتيجيا الاسرائيلية
السؤال الأخير الماثل أمامنا يكمن تحديدا في موقع رؤى بيريز و سافير في علاقة بموضوع "التطبيع" ضمن تقاليد الرؤية الاسرائيلية لهذا الموضوع: فهل نحن بصدد خطاب "سلام" استثنائي و "حالم" يدعو للتفاهم بمعزل عن أي رؤى سياسوية أم أننا بصدد رؤية ثابتة تعتبر مطلبية "التطبيع" خطة سياسية و صيغة أساسية للتملص تحديدا من أي إمكانية لإقامة "سلام عادل و شامل" في المنطقة؟
كان مطلب "التطبيع" قبل عقد اتفاقية "الحل النهائي" (أي حل القضية الفلسطينية) بشكل دائم في صدارة المطالب الاسرائيلية في أي مفاوضات مع الجانب العربي. سأكتفي هنا بعرض محطات محددة للتدليل على ذلك.
أولا، مثلما توضح أحد وثائق الأرشيف السري الأمريكي و خلال مفاوضات "كامب ديفيد" سنة 1978 بين الجانبين الاسرائيلي و المصري كان من بين أهم هواجس الجنرال دايان و التي حرص على تكرارها أمام الرئيس كارتر ما اعتبره نوايا مصرية "لإبطاء التطبيع في العلاقات". حيث من الواضح أن مطلب "التطبيع" مع الطرف المصري كان على رأس أولويات الجانب الاسرائيلي و واحدا من بين الأسباب الأساسية لعقد "اتفاقية سلام". لكن ما يلفت الانتباه أن ذلك المطلب كان مرتبطا بفصل المفاوضات حول سيناء عن أي مطالب أخرى في علاقة بالقضية الفلسطينية. و بمعنى آخر كان الإسرائيليون يرغبون في تطبيع العلاقات مع مصر من دون الالتزام بأي حل في علاقة بالصراع الأساسي في المنطقة و هو احتلال الأراضي الفلسطينية. و هو الأمر الذي قبله في نهاية الأمر الرئيس السادات و أدى إلى عزلة مصر عن محيطها العربي و هو الأمر الذي أدى لسياسة "التطبيع الباردة" التي بدأها الرئيس مبارك بعد مقتل السادات.[25]
ثانيا، سبق التحضير لـ"مؤتمر مدريد" بداية التسعينات ورقة لإسحاق شامير عرفت باسم "خطة الأربع نقاط" (Shamir’s four-point plan). و كانت تلك الورقة المرجعية الرئيسية بالنسبة للإدارة الأمريكية أثناء التحضير للمؤتمر. و من بين الأربع نقاط تبين أن النقطة الثانية كانت على رأس أولويات الجانب الإسرائيلي. و تتعلق هذه النقطة بمطلب إسرائيلي يتمثل بتطبيع العلاقات مع مجمل الأطراف العربية، من خلال مفاوضات ثنائية مباشرة، قبل التوصل لأي حل سياسي نهائي في القضية الفلسطينية و ذلك "لبناء جو من الثقة".و يتم تقديم هذه الرؤية بطريقة مشابهة للغاية مع أفكار سافير المذكورة أعلاه. [26]
ثالثا، في وثيقة اتفاقية "معادة السلام الأردنية الأسرائيلية" (المعروفة باتفاقية "وادي عربة") الموقعة سنة 1994 كان من بين البنود الأولى القسم المتعلق بشكل واضح بـ"التطبيع الثقافي" بما في ذلك تغيير المناهج الدراسية الحكومية. و هو ما اشتمل على "الامتناع عن بث الدعايات المعادية" (في أردن غالبية سكانه من الفلسطينيين) في وقت يستمر فيه احتلال الاراضي الفلسطينية و السياسات العدوانية و الاستيطانية هناك.[27]
رابعا، في تصريحات أخيرة لوزيرة الخارجية الإسرائيلية في حكومة أولمرت (التي يشارك فيها بيريز و مجموعته) تزيبي ليفني أشارت فيه الى أن "تطبيع العلاقات مع الدول العربية سيساهم في تسريع إنهاء الصراع الاسرائيلي الفلسطيني". و هذا يعني، مرة أخرى، التأكيد على الرؤية الاسرائيلية الثابتة القاضية بأسبقية "التطبيع" عربيا على أي التزام إسرائيلي بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية.[28]
أمام هذا الثابت الإسرائيلي في علاقة بمحورية "التطبيع" يبدو موقف بيريز و سافير ضمن إجماع إسرائيلي مستمر يقضي بمطلبية "التطبيع" قبل أي إلتزامات بالانسحاب. و هو ما يعني إفشالا لأي فرص جدية لـ"سلام عادل و شامل" في المنطقة.
هل يمكن بعد ذلك لأي رؤية "عقلانية" و "مستقبلية" النظر لـ"مسابقة" مشروع "المتوسط 2020" أنها مجرد مبادرة غير سياسوية "لنشر ثقافة السلام" عبر توفير الفرصة للأطفال كي يرسموا الحمائم؟
أعتقد أن هناك فعلا "رؤيتين متناقضتين": رؤية عقلانية تقدر أن "التطبيع" السابق لأي إلتزامات اسرائيلية للانسحاب هو ثمن مجاني و ساذج يخدم مصلحة إدامة الصراع الراهن و بالتأكيد لا يخدم مصلحة الشعب الفلسطيني (الذي بالمناسبة لم يحسم أمره في اتجاه "الحوار الأزلي" بما في ذلك فريق الرئيس عباس). في مقابل ذلك توجد رؤية ساذجة تهيم في خطاب ديماغوجي للـ"السلام" تعتقد أن تصور العدوانيين كـ"رجال سلام" و الغوص في عالم طوباوي من "النوايا الحسنة" المعزول عن الأطر السياسية الواقعية بالاضافة لتصوير بعض الحمائم على طراز حمامة بيكاسو خطوات كافية لتغيير وجه المنطقة.
إن المقولة التي رددها بشكل متكرر المدافعون عن "مشاركة الصباح" و التي مفادها "أننا نصنع السلام مع أعدائنا و ليس مع أصدقائنا" ليست غير مسبوقة و هي أيضا صائبة بشكل عام. و لكن ترداد شعار مماثل غير كافي إذا أردنا التحلي بالعقلانية. فالمسألة التي تحتاج التمحيص في تلك الحالة هي "ما إذا كان الحوار مع أعدائنا يخدم قضية السلام أم يعرقلها؟" و هو ما ينطوي على عدد من الأسئلة الجوهرية التي من بينها "هل أن أعداءنا على استعداد بناءا على ممارساتهم لعقد سلام عادل و شامل؟" لكن في الحالة التي بين أيدينا رأينا كيف أن "الحوار" (بما ذلك عبر الرسم للأسف) يعني بالنسبة لأعدائنا أمرا آخرا تماما من الناحية السياسية. فهو جزء من خطة سياسية عامة (ليست جديدة) تحت عنوان "التطبيع" تستهدف التحصل على "الاعتراف و القبول و من ثمة الأمن" من دون تقديم أي إلتزامات جدية على صعيد "حل نهائي عادل" للقضية الفلسطينية. و إلى أن يعبر الإسرائيليون (و أعني هنا تحديدا القادرين على التأثير على الموقف العام) عن نوايا جدية في ذلك الاتجاه فإن موقف مقاومي "التطبيع" هو الموقف الصائب تاريخيا و براغماتيا على السواء. و بذلك المعنى هو الموقف العقلاني الوحيد الممكن بعكس الموقف الآخر المدافع عن "السلام" (في صيغته "التطبيعية") حتى لو حمل بكثافة شعار "العقلانية".
ملاحظة أخيرة
Post-scriptum
علي أن أختم بملاحظة موجهة تحديدا للسيد رضا الكافي. حيث أني لم أنس بعد أن الأخير سرق منذ سنتين (في صيغة مقال مترجم الى الفرنسية لمصلحة "جون أفريك") عرضا نقديا كتبته عن كتاب مايكل لاسكييرحول موضوع "التطبيع" في المغرب العربي. و هو الأمر الذي قدمت حوله ما يكفي من الأدلة في وقت سابق (أنظر تونسنيوز عدد 22 سبتمبر 2005 و لكن خاصة عدد 25 سبتمبر 2005 حيث قدمت عرضا تفصيليا و مطولا عن هذه السرقة) و لم يبلغ الى علمي أنه رد بشكل مفصل على ذلك أو قدم اعتذارا (باستثناء "رد" يشبه بعض البيانات الرسمية الخشبية المختصرة نفى فيه الأمر جملة و تفصيلا نشره في عدد تونسنيوز 23 سبتمبر 2005). و يبدو على كل حال، حسب بعض مصادري، أن انكشاف الأمر كان من بين أسباب إبعاده عن فريق تحرير "جون أفريك". لكن ما دفعني لتذكر هذه الحادثة أن السيد الكافي لم يتعلم أي شيئ من المؤلف المذكور (الذي من المفترض أنه "قرأه") مثلما يشير الى ذلك الدور الطليعي الذي بصدد لعبه في مسألة "مشاركة الصباح". حيث بين لاسكيير بالاعتماد على رزمة هائلة من الوثائق الأرشيفية أن السياسة الاسرائيلية كانت تدفع دائما باتجاه "التطبيع" المجاني مع الأقطار المغاربية. في المقابل لم يقبل أي من القادة المغاربيين بما في ذلك أولائك الذين كانوا يحرصون على إقامة اتصالات سرية مع الدولة العبرية (و هذا يشمل الرئيس الراحل بورقيبة) بأي مبادرة تمنح بشكل فعلي إسرائيل مطلبها "التطبيعي" بمعزل عن "الاجماع العربي" و عن إيجاد حل نهائي للقضية الفلسطينية. و هو الأمر الذي يعمق من الأسى الذي شعرت به منذ سنتين عندما قرأت مقال السيد الكافي الذي "ترجم" مقالي للفرنسية.
[1] خميس الخياطي "لا للمقاومة الافتراضية و نعم للحوار العربي/الاسرائيلي" (تونسنيوز 28 أوت 2007). يقول الخياطي: " أين القضية إذا؟ إنها في رؤيتين متناقضتين لتعثر المسار(...) القضية هي بين رؤية ماضوية ديماغوجية "لا تأكل مما تخبزه"، فشلت وستفشل في تأثيرها على للعالم إن لم تضع السياسي نصب عينيها وتعمل على طول المدى بروية وتماسك وفصل بين العاطفي والعقلاني... ثم رؤية مستقبلية ما زالت بذرة في عالم عربي/إسلامي يشكو الفقر والفاقة، الظلم والأمية، الظلامية والخرافة، ضيق القانون وفسحة الفتاوى وما إلى ذلك من نتائج الإستقلالات... "
[2] حبيب الكزدغلي في مقال بالفرنسية في صحيفة "لوطون" (24 أوت 2007).
Habib Kazdaghli “Colombe de la paix de Picasso, rameau d'olivier d'Arafat,
œillets de Lisbonne et jasmin d'Hammamet” (Le Temps 24 Aout 2007).
" Le problème se situe à ce niveau, les esprits chagrins d'ici et d'ailleurs veulent le tout ou rien, une politique qui n'a rien donné, nous avons la chance de faire partie d'une élite continuatrice des démarches réformistes et rationalistes et des avancées de Bourguiba à Jéricho depuis 1965"
[3] رضا الكافي في مقال بالفرنسية في صحيفة "لوطون" (16 أوت 2007).
Ridha Kefi “Y a-t-il parmi nous des ennemis de la paix ? » (Le Temps 16 Aout 2007)
مثلا يعرض السيد الكافي سلسلة من الأسئلة الاستنكارية في صيغة مماثلة للصيغة التالية: " Quel mal y a-t-il alors à ce que la Tunisie, à travers le quotidien ‘‘Assabah’’, soit associée à une opération qui essaie de promouvoir l’idée de paix ? "
لاحظ هنا أن مشاركة دار الصباح تصبح تمثيلا لتونس بأسرها. في حين يقع وصف ما يجري على أنه "تشارك في عملية".
[4] مرة أخرى في صيغة سؤال استنكاري يقوا السيد الكافي: " Pourquoi, au prétexte de ne pas s’associer à des institutions israéliennes, refuser à nos enfants la possibilité d’exprimer leur solidarité avec le peuple palestinien, ainsi que leur espoir de le voir un jour vivre en paix dans le cadre d’un Etat indépendant aux côtés d’Israël ? "
[5] الكزدغلي في المقال المذكور أعلاه. " En effet, je venais d'apprendre et d'apprécier un jour auparavant en lisant dans Le Temps du mercredi 15 août que nos deux quotidiens édités par la Maison Assabah ainsi que plusieurs journalistes tunisiens ont adhéré à un concours lancé par plusieurs fondations et journaux des pays du pourtour méditerranéen. "
[6] http://www.peres-center.org
[7] ركن مشروع "المتوسط 2020" على الرابط التالي:
http://www.peres-center.org/Med2020.html
ركن "الثقافة" في مشروع "المتوسط 2020" على الرابط التالي:
http://www.peres-center.org/SectionProject.asp?cc=01130203
[8] ركن "مهمة" المشروع على الرابط التالي:
http://www.peres-center.org/SectionPage.asp?cc=011301
[9] Uri Saphir, “Pax Mediterraneo” Mediterranean Quarterly, Winter 2006, pp. 16-22.
http://www.peres-center.org/Media/paxmediterraneo.pdf
[10] لا يرد ذكر صحيفة الصباح في النص الموجود على هذا الرابط من بين قائمة الصحف المشاركة:
http://www.peres-center.org/SectionProject.asp?cc=01130203
[11] في حين دار الصباح مذكورة من خلال ممثلها السيد رضا الكافي في الوثيقة المحملة على هذا الرابط:
http://www.peres-center.org/Media/med2020%20contest%20details.pdf
[12] الكافي في مقال مذكور أعلاه.
" Parler aux Israéliens ne doit donc plus constituer un tabou. S’associer à ceux d’entre eux qui militent pour la paix, heureusement nombreux, ne saurait, non plus, constituer un crime. Tant il est vrai qu’on ne fait pas la paix avec ses amis, mais avec ses ennemis, lorsque ces derniers cherchent sincèrement à mettre fin à l’escalade de la haine et de la violence. "
[13] الكافي في مقال مذكور أعلاه.
" Pourquoi, au prétexte de ne pas s’associer à des institutions israéliennes, refuser à nos enfants la possibilité d’exprimer leur solidarité avec le peuple palestinien, ainsi que leur espoir de le voir un jour vivre en paix dans le cadre d’un Etat indépendant aux côtés d’Israël ?"
[14] نزار البهلول في تقرير صادر في مجلة "حقائق" (23 أوت 2007).
Nizar Bahloul “Grande polémique autour d’un concours : La paix pourra attendre » (Réalités, 23 Aout 2007)
« C’est par là que le scandale est arrivé vu que certains considèrent qu’avec la participation de ces organismes-là, il y a une volonté manifeste de normalisation avec Israël. Peu importe que ces organismes soient reconnus pour leur volonté de paix, connus par leur passé pacifique militant, que Rabin ait décroché un Nobel de la Paix »
[15] "عريضة" بإمضاء و حيد لـ"عدنان الحسناوي" تحت عنوان "دفاعا عن نشر ثقافة السلام و حرية التعبير" (تونسنيوز 29 أوت 2007). يبدأ نص "العريضة" كالتالي: " من حيث المبدأ نعبر عن دعمنا لأي عمل من أي كان يهدف نشر ثقافة السلام ومكافحة أيديولوجية الكراهية والدعاية للحرب والتمييز على أساس الدين أو العرق أو أي شكل آخر للتمييز " و تنتهي بـ"وعليه نساند ما قامت به "الصباح" من المشاركة في النشاط الذي نظمه مركز بيريز للسلام."
[16] زياد الهاني في تصريح لموقع "المغاربية" (تقرير لجمال العرفاوي بتاريخ 9 أوت 2007).
" Ce concours Faire Rayonner [la Colombe de la Paix de Picasso] qui vise les jeunes des pays méditerranéens est un projet remarquable, qui sert la culture de la tolérance, de la paix et de la communication entre les jeunes de la Méditerranée… Les organismes qui adoptent ce projet méritent d'être félicités, tout comme les journaux qui y participent."
[17] الخياطي في مقال مذكور أعلاه. تجب الإشارة الى أن السيد الخياطي يكتب عمودا في أكثر الصحف العربية "القومجية" انتشارا ("القدس العربي") و أيضا التي يعارض خط تحريرها بشكل مستمر أي مبادرات "تطبيعية" بما في ذلك التي يقع تسميتها "حوارا".
"هذا ليس "تطبيعا" كما يدعي القومجية عندنا، لأننا لم نعش يوما حياة جيرة طبيعية مع إسرائيل (...) هذا ليس"تطبيعا" كما يدعي القومجية عندنا لأن الحوار مفتاح المستقبل ولا خوف على المستقبل إن آمنت بحق كل الشعوب والأجناس والأديان في العيش الكريم"
[18] الكزدغلي في مقال مذكور أعلاه.
" Initier nos jeunes à la paix, les encourager à s'inspirer d'un tableau de peinture qui avait servi depuis presque 60 ans comme hymne à la paix et à la liberté entre les peuples, à la tolérance et au rejet de tout fanatisme, au respect de l'autre dans sa différence, n'est point à mon avis synonyme d'une quelconque «normalisation» avec les politiques agressives de quiconque ou d'une acceptation de la colonisation israélienne des territoires palestiniens occupés. "
[19] يمكن الاطلاع على أحد العروض النقدية للكتاب على الرابط التالي:
http://www.slate.com/id/2161376
[20] أنظر في علاقة بهذا الموضوع المقالين الموجودين على الرابطين التاليين:
http://www.ziopedia.org/en/articles/israel%10palestine/israel%92s_new_president%3a__a_war_criminal_par_excellence/
http://www.alternativenews.org/blogs/nassar-ibrahim/the-case-against-palestinian-normalization-with-israel-20070904.html
[21] "I never think back. Since I cannot change the past, why should I deal with it? You have to really deal with the future"
http://dir.salon.com/story/news/feature/2005/04/22/peres/index.html
[22] عرض سافير موقفه مما جرى في "حرب تموز" في مقال بصحيفة "الهارتز" (19 أوت 2006).
Uri Savir “Sorry, we reached our goal” Haaretz (19-08-2006)
“although we were not victorious in absolute military terms, the campaign just ended was properly conducted and most of the goals were achieved”
[23] أنظر عرضا نقديا لكتاب مالي "كامب دايفيد: تراجيديا الأخطاء" على الرابط التالي:
http://www.nybooks.com/articles/14380
[24] سافير مقال مذكور أعلاه
" the Road Map lacks the appropriate foundations and environment to cultivate the seeds of peace so that they actually grow. A broader, more effective solution might entail creating a comprehensive culture of peaceful coexistence through communication on a regional basis — the Mediterranean region."
[25] ضمن وثيقة أرشيف سرية في شكل مذكرة من البيت الأبيض بتاريخ 17 أكتوبر 1978 (رفعت عنها السرية في 8 جويلية سنة 1998) نقرأ ما يلي:
" Dayan's third concern was the speed of normalization. Hefears that the Egyptians are weakening their commitment to theestablishment of diplomatic relations at the end of the interimwithdrawal. They are speaking of gradual normalization. Inthe economic and cultural areas, Israel can accept this, but
not in the diplomatic area"
[26] تم نشر هذه الوثيقة في "مجلة دراسات فلسطين" (Journal of Palestine Studies) عدد صيف 1991 (صص. 149-150). يأتي في النقطة الثانية ما يلي:
"The prime minister urged the U.S. and Egypt to call on the other Arab countries to desist from hostility towards lsrael and to re-place belligerency and boycott with negotia-tion and cooperation. Of all the Arab countries, only Egypt has recognized lsrael and its right to exist. Many of these states actively participated in wars against Israel by direct involvement or indirect assistance. To this day, the Arab countries are partners in an economic boycott against Israel, refuse to recognize it and refuse to establish diplomatic relations with it.The solution to the Arab-Israeli conflict and the building of confidence leading to a permanent settlement require a change in the attitude of the Arab countries towards Israel. Israel, therefore, calls on these states to put an end to this historic anomaly and to join direct bilateral negotiations aimed at normalization and peace."
[27] جاء في نص معاهدة "وادي عربة" ما يلي:
"انطلاقاً من رغبة الطرفين في إزالة كافة حالات التمييز التي تراكمت عبر فترات الصراع، فإنهما يعترفان بضرورة التبادل الثقافي والعلمي في كافة الحقول، ويتفقان على إقامة علاقات ثقافية طبيعية بينهما، وعليه فإنهما يقومان -بأسرع وقت ممكن على أن لا يتجاوز ذلك فترة تسعة شهور من تاريخ تبادل وثائق التصديق على هذه المعاهدة- باختتام المفاوضات حول الاتفاقات الثقافية والعلمية.المادة الحادية عشرة - التفاهم المتبادل وعلاقات حسن الجوار:1- يسعى الطرفان إلى تعزيز التفاهم المتبادل في ما بينهما، والتسامح القائم على ما لديهما من القيم التاريخية المشتركة.وبموجب ذلك فإنهما يتعهدان بما يلي:أ - الامتناع عن القيام ببث الدعايات المعادية القائمة على التعصب والتمييز، واتخاذ كافة الإجراءات القانونية والإدارية الممكنة التي من شأنها منع انتشار مثل هذه الدعايات، وذلك من قبل أي تنظيم أو فرد موجود في المناطق التابعة لأي منهما.ب - القيام بأسرع وقت ممكن وبفترة لا تتجاوز ثلاثة شهور من تاريخ تبادل وثائق التصديق على هذه المعاهدة، بإلغاء كافة ما من شأنه الإشارة إلى الجوانب المعادية وتلك التي تعكس التعصب والتمييز، والعبارات العدائية في نصوص التشريعات الخاصة بكل منهما.ج - أن يمتنعا عن مثل هذه الإشارات أو التعبيرات في كافة المطبوعات الحكومية"
[28] تصريحات ليفني بتاريخ 13 مارس 2007.
" Israel urged Arab states on Monday to normalize ties now, saying this could hasten the end of the Israeli-Palestinian conflict, and cautiously welcomed a comprehensive Arab-Israeli peace proposal. The comments by Israeli Foreign Minister Tzipi came amid reports of "secret talks" between Israel and the Palestinians on reviving the peace process."
محورية "التطبيع" في الاستراتيجيا الاسرائيلية و لاعقلانية خطاب "السلام" الراهن
الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية
مرت الآن بضعة أسابيع منذ إثارة مشاركة دار "الصباح" الصحافية التونسية في مسابقة تم وسمها من قبل عدد من الشخصيات و الهيئات التونسية بأنها "تطبيعية". و من بين كل الأشياء التي يمكن التعليق عليها كان أبرز ما لفت إنتباهي هو خطاب الذين قاموا بالدفاع عن هذه المشاركة. كانت تلك مناسبة لتفحص خطاب توارى في السنوات الأخيرة في الوقت الذي كان رائجا بعض الشيئ غداة "مؤتمر مدريد" و "اتفاقيات أوسلو" بداية تسعينات القرن الفائت. و بالرغم أنه خطاب "أقلي" و "مبعثر" مثلما أشار الى ذلك، عن حق، بعض أصحابه إلا أنه موجود و فاعل. و يقدم أصحاب هذه الرؤية موقفهم على أنه يخدم الصراع القائم في المنطقة في اتجاه حله و خدمة المتضررين منه. يتم الاعلان عن ذلك بنرجسية غير مبررة تتجاوز الصراع العربي الاسرائيلي لتقدم لنا تصور أصحاب هذه الرؤية لذاتهم بشكل خلاصي يمسح مجمل القضايا القائمة بما في ذلك "التنمية" و "الاصلاح" و "مقاومة الفساد" و طبعا مواجهة "الظلامية و الخرافة". حيث يرى هؤلاء أنهم لا يقدمون مجرد موقف مختلف و لكن موقف متناقض من حيث المنهج و الرؤية لما هو سائد.
و في الحقيقة ربما كان من الصائب، مثلما فعل البعض، وصف الخطاب التنديدي بالمشاركة بأنه "خشبي". ربما يستعمل المنددون بـ"مشاركة الصباح" الأسلوب غير المناسب في مقاومة "التطبيع". و ربما كان من الأفضل تعميق النقاش و اللجوء الى خطاب هادئ واثق من قضيته عوض الصراخ. ربما كان كل ذلك صحيحا. لكن تلك ملاحظات خاصة بالأسلوب. القضية تبقى في تقييم هذه المشاركة: هل هي في خدمة القضية الفلسطينية و حل جدي و واقعي للصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام أم لا؟ و مثلما سأحاجج لاحقا، يقف هؤلاء المنددون موقفا تاريخيا صحيحا في حين يقف المدافعون عن "مشاركة الصباح" موقفا معاديا للحقوق الإنسانية الأساسية و للحقوق القومية و الشرعية لشعوبهم و أمتهم و من ثمة موقفا لا يقدم حلا واقعيا و ممكنا للصراع العربي الإسرائيلي. لأجل ذلك يستحق خطاب الأخيرين وقفة تأملية خاصة.
سأطرح هنا المسائل التالية:
أولا، كيف يصور المدافعون عن "مشاركة الصباح" الجدال الراهن؟
ثانيا، كيف يقومون بعرض ظروف "مشاركة الصباح" في المسابقة المعنية و ماهي طبيعة هذه المشاركة أصلا؟
ثالثا، هل يعتبرون "مشاركة الصباح" مبادرة "تطبيعية" و هل هي حقا كذلك؟
رابعا و أخيرا، ماهو الموقف الاسرائيلي في علاقة بموضوع "التطبيع" بشكل عام و "التطبيع الثقافي" بشكل خاص؟
رؤيتين متناقضتين: "الماضوية" و "المستقبلية"؟
تبرز نرجسية خطاب المدافعين عن "مشاركة الصباح" في تصور طبيعة الصراع الفكري المؤطر للجدال الراهن. و على سبيل المثال كان السيد خميس الخياطي حاسما حيث رأى أن "القضية" لا تكمن في مجرد الموقف من "مشاركة الصباح" بل تتجازوها لتعكس "رؤيتين متناقضتين" تمسحان مختلف المسائل. و في علاقة بالمنددين بـ"مشاركة الصباح"، حسب السيد الخياطي، فنحن بصدد "رؤية ماضوية ديماغوجية" تتميز بتمسكها بنهج يهمش ماهو سياسي لمصلحة ماهو عقائدي و حسي، فهي ضمنيا "لا تضع السياسي نصب عينيها" و لا تفصل "بين العاطفي و العقلاني". و في مقابل ذلك فإن موقف الدفاع عن "مشاركة الصباح" يعبر في الاساس، حسب الخياطي، عن "رؤية مستقبلية" (عوض المصطلح المهترئ "تقدمية"؟) معزولة، و من ثمة هي على الضد، مما هو سائد في العالم العربي/الاسلامي من "أمية" و "ظلامية و خرافة".[1] في نفس الاتجاه يقترح السيد حبيب الكزدغلي في دفاعه من "مشاركة الصباح" صراعا بين رؤيتين: الأولى تطالب بكل شيئ أو لاشيئ و من ثمة غير واقعية في حين الرؤية الأخرى تعبر عن موقف أناس"إصلاحيين و عقلانيين".[2]
و الواقع هناك ما يكفي من المعطيات كما سنرى للاعتقاد بأننا بصدد خطاب نرجسي غير مبرر. فحسم مسألة ما إذا كان الدفاع عن "مشاركة الصباح" يعبر عن موقف "مستقبلي" و "غير ماضوي" و "عقلاني" و "غير ديماغوجي" و "يضع السياسي نصب عينيه" و "يفصل بين العاطفي و العقلاني"، فحسم هذه المسألة، إذا، لا يحتاج إطلاق شعارات مماثلة بقدر ما يحتاج تمحيصا هادئا لظروف و أهداف المسابقة المعنية و من ثمة معنى "مشاركة الصباح" فيها. فهل قام المدافعون عن "مشاركة الصباح" بذلك أم انخرطوا في تهويمات و تجريدات لاعقلانية تجتر الماضي في أثواب جديدة و من ثمة فهم ليسوا جادين في إيجاد مخارج نحو مستقبل أفضل؟
منظمي "المسابقة"؟
بدت أكثر المسائل غموضا و ضبابية في كتابات المدافعين عن "مشاركة الصباح" المسألة التي من المفترض أن تكون الأكثر إهتماما و تمحيصا خاصة عندما يتعلق الأمر بأصحاب "رؤية عقلانية". حيث تفادى هؤلاء عرض و تقديم بديهيات أساسية في ردودهم تتعلق بمنظم المسابقة و كيفية "مشاركة الصباح" فيها. بل أن عرضهم لمصدر و للإطار التنظيمي للمسابقة غير دقيق و ساذج في أقل التقديرات هذا إذا لم يكن مضللا. فبالنسبة للسيد رضا الكافي يتم التعرض للمنظمين في صيغة المبني للمجهول، مثل وصف ما يجري على أنه مجرد "اشتراك في عملية" من دون توضيح لطبيعة و منظم هذه "العملية"، في حين أنه الشخص الرئيسي المعني بالجانب التنظيمي في "المسابقة" ممثلا لدار الصباح و من ثمة الأعرف بماهية المنظيمين.[3] و حتى عندما يتعرض السيد الكافي للصفة الإسرائيلية للمنظمين يقوم بذلك من خلال الحديث في العام عن "تشارك" مع "مؤسسات إسرائيلية".[4] في حين يتمادى السيد الكزدغلي، و هو الجامعي الذي من المفترض أن يتحرى من مصادره، إلى حد إما الجهل أو التضليل الفاضح عندما يقبل القول القائل بأن "المسابقة أطلقت من قبل عدد من المؤسسات و صحف ضفاف البحر المتوسط".[5]
يأتي هذا في الوقت الذي يمكن فيه الإطلاع مباشرة على مختلف تفاصيل "المسابقة" و إطارها التنظيمي و الظروف التي حفت بإطلاقها على الموقع الالكتروني لمطلقيها و منظمها الرئيسي أي المؤسسة الإسرائيلية "مركز بيريز للسلام" (Peres Center for Peace).[6] حيث أن الأمر لا يتعلق بـ"عدد من المؤسسات و الصحف" بقدر ما هو أحد الأنشطة و المشاريع التي يقوم "مركز بيريز للسلام" بالإشراف عليها بوصفه مطلق المبادرة و الراعي الفكري و المادي لها. و بالرغم من تعرض عدد من التقارير الصحفية لهذه التفاصيل فإنه لا ضير من إعادة عرض بعض المعطيات هنا خاصة لأهميتها اللاحقة في نقاش مسألة "مشاركة الصباح".
و تأتي "المسابقة" ضمن محور "الثقافة" في أحد مشاريع المركز المسمى "المتوسط 2020" (Mediterranean 2020) و الذي يحتوي أركان و من ثمة "مسابقات" و "ورشات" أخرى ضمن محاور "الهوية" و "الديبلوماسية" و "البيئة" و "الاقتصاد".[7] و تم تكليف إدارة خاصة من قبل "مركز بيريز للسلام" للإشراف على المشروع بشكل عام باسم "مؤسسة ليو سافير لرؤية المتوسط 2020" (Leo Savir Foundation for a Mediterranean Vision 2020) و تكليف المركز للباحثة الاسترالية-الاسرائيلية الشابة رونيت زيمر (Ronit Zimmer) لإدارتها. و مثلما هو واضح من اسم المركز فقد تم تأسيسه من قبل الرئيس الاسرائيلي الحالي شيمون بيريز في حين يقوم برئاسته حاليا أوري سافير (Uri Savir) أكثر المقربين لبيريز الذي سمى المؤسسة التي تدير مشروع "المتوسط 2020" باسم والده السفير الاسرائيلي الأسبق ليو سافير. و مثلما هو مذكور تحت ركن "مهمة" المشروع[8] يمكن اعتبار أوري سافير المهندس الأساسي للمشروع خاصة من خلال مقال كتبه سنة 2006 بعنوان "السلام المتوسطي" محمل على موقع المركز.[9] و لأن "مركز بيريز للسلام" هو المبادرفي تنظيم "المسابقة" فإن الصحف المشاركة التحقت بدعوة منه. و لهذا تحديدا يبدو أن دار "الصباح" التحقت بشكل متأخر حيث لا يرد اسمها في قائمة الصحف المشاركة على الصفحة الرئيسية للموقع الالكتروني[10] في حين يرد اسمها على الوثيقة الملحقة (المعدلة) الموضوعة على أحد الوصلات.[11] تبقى الإشارة الى أن الرابحين في مسابقة الرسم (التي من المفترض أن يحاكي فيها "أطفال بين سن 15 و 18 عاما" أحد أشهر رسومات بابلو بيكاسو) سيلتقون في مالقة الاسبانية في حين سيتكفل "مركز بيريز للسلام" بتغطية مصاريف اللقاء.
و في الواقع يعود تهرب المدافعين عن "مشاركة الصباح" من عرض بسيط لمنظمي "المسابقة" الى أنها نقطة محورية في حسم مسألة أساسية هي :هل نحن بصدد مبادرة "تطبيعية" أم لا؟ إذ لا يرغب هؤلاء الاقرار بأن ما يجري يندرج ضمن مسارات "التطبيع" عموما و "التطبيع الثقافي" خصوصا.
هل تهدف "مشاركة الصباح" لنشر "ثقافة السلام" أم هي مبادرة "تطبيعية"؟
للمفارقة يحرص المدافعون عن "مشاركة الصباح"، في الوقت الذي يتجاهلون فيه عرضا دقيقا لماهية منظمي "المسابقة"، على التأكيد على أن "الشركاء" الإسرائيليين المعنيين في هذه "المسابقة" يدافعون عن "ثقافة السلام" بل و أيضا "مناضلين من أجل السلام". يعتبر السيد الكافي، عل سبيل المثال، في إشارة للـ"المسابقة" أن التشارك مع الاسرائيليين "الذين يناضلون من أجل السلام، و هم لحسن الحظ كثيرون، لا يجب أن تعتبر جريمة"، و يضيف الكافي أن هؤلاء "يعملون بنزاهة على وضع حد للانزلاق نحو الكراهية و العنف".[12] في مقابل ذلك ينخرط الكافي في خطاب شعاراتي مثير للغرابة مثل القول بأن معارضة "المسابقة" لا تعني معارضة "ثقافة السلام" فحسب بل أيضا معارضة "التضامن مع الشعب الفلسطيني".[13]
في نفس الاتجاه يعتبر السيد نزار البهلول بأن المعارضين للـ"المسابقة" لا يهمهم كثيرا أن "المؤسسات" المعنية بهذه المسابقة "معروفة برغبتها في السلام، و ماضيها المسالم النضالي".[14] و يبدأ السيد "عدنان الحسناوي" في "عريضة" (ليس من الواضح مآلها) لدعم "مشاركة الصباح" بالإقرار المبدئي بأنها مساهمة في "عمل يهدف نشر ثقافة السلام".[15] السيد زياد الهاني، و الذي كان مصدر أول التصريحات في هذا الشأن، اعتبر أن المشروع "يخدم ثقافة التسامح و السلام و التواصل بين شباب المتوسط" و أن "المؤسسات التي تتبنى مثل هذا المشروع تستحق التهنئة".[16]
و الى جانب العناوين الشعاراتية التجريدية التي تعتبر ضمنيا "مركز بيريز للسلام" و من يقفون وراءه "مناضلين من أجل السلام" يوجد من يواجه المسألة بشكل مباشر لنفي صيغة "التطبيع" عن "المسابقة". فالسيد الخياطي يطلق ما يشبه المصادرة الشعاراتية الباعثة على الحيرة بأن ما يجري "ليس تطبيعا" بل هو "حوار". و في الواقع لا يبدو أن السيد الخياطي، الذي يمثل حسب تصوره لذاته "رؤية عقلانية"، يرى أي مبرر لأن يوضح لماذا لا يمكن اعتبار هذا "الحوار" مبادرة "تطبيعية" سوى الاشارة الايتمولوجية المضطربة الى أن ما يجري "ليس تطبيعا كما يدعي القومجية عندنا، لأننا لم نعش يوما حياة جيرة طبيعية مع إسرائيل"، كأن معنى "التطبيع" (normalization) هو ضرورة "العودة الى حياة طبيعية" و ليس "تطبيع" ما لم يكن طبيعيا أو "عاديا" حتى نقترب أكثر من معنى الأصل الاصطلاحي الانجليزي.[17] السيد الكزدغلي يحاول أن يقدم أفكارا أقل سطحية عندما يعتبر أن "تعليم الأطفال للسلام" ليس "تطبيعا مع السياسات العدوانية". غير أنه، و مثلما تمت الاشارة أعلاه، لا يحاول وضع "المسابقة" ضمن إطارها التنظيمي و بالتالي السياسي الحقيقي حتى يمكن أن نقرر أن ما يجري هو مجرد "تعليم الأطفال للسلام".[18]
و مرة أخرى لا نحتاج للكثير من الوقت حتى نحسم مسألة ما إذا كانت "المسابقة" الاسرائيلية تساهم في نشر "ثقافة السلام" أم مبادرة "تطبيعية" (و من ثمة "مشاركة الصباح" فيها، كذلك، مبادرة "تطبيعية"). يتوقف ذلك على أمرين يستوجب كلاهما حدا أدنى من البحث العقلاني و الهادئ: أولا، الهوية السياسية لمنظمي "المسابقة" و ما إذا كانوا "معروفين بكونهم مناضلين من أجل السلام". ثانيا، بحث في في وثائق "مركز بيريز للسلام" خاصة تلك المتعلقة بالتأطير الفكري و السياسي للـ"المسابقة". و في الحالتين لم يبد أي من المدافعين عن "مشاركة الصباح"، الذين من المفترض أنهم يمثلون "رؤية عقلانية" لا تقبل التحاليل الخرافية، أي رغبة في المحاججة و البحث في أي من هذين الاتجاهين، في الوقت الذي يطلقون فيه المصادرات التجريدية في علاقة بالتحديد بهذه المسائل.
إذا لننظر أولا في هوية "مركز بيريز للسلام" و الواقفين وراءه. لأبدأ بملاحظة أن المؤسسة المعنية "غير حكومية" إلا أن مؤسسها و رئيسها السابق (شيمون بيريز) و رئيسها الحالي (أوري سافير) من السياسيين الذين عملوا لفترات طويلة في الدولة و في حكومات متعاقبة. من ثمة تقييمها يتوقف على تقييم شيمون بيريز و أوري سافير كممثلين لتيار تواجد بشكل شبه مستمر طيلة العشريات الفارطة في الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة سواء تلك التي سيطر عليها "حزب العمل" أو الائتلافية. و من ثمة فإن المؤسسة المعنية، رغم أنها "غير حكومية"، إلا أنها تعبر عن رؤية "حكومية" فاعلة منذ إعلان دولة إسرائيل، بوصف بيريز من بين آخر "الآباء المؤسسين" الباقين على قيد الحياة.
من دون إطالة، يبدو تقييم بيريز، ما إذا كان "مناضلا من أجل السلام"، مسألة غير معقدة. و قد صدرت منذ أشهر قليلة "سيرة ذاتية" (بيوغرافيا) رسمية (أي صادق عليها المعني) لبيريز كتبها مايكل بار زوهار (Michael Bar-Zohar) قدمت الصورة التي يرغب بيريز الظهور بها و هو الأمر الذي يتوافق، حسب العروض النقدية للكتاب، مع الوقائع (و هو الأمر الذي لا يحدث دائما بالنسبة لشخص مثل بيريز). و تزامن صدور النسخة الانجليزية للكتاب (النسخة العبرية صدرت منذ سنة 2006) مع حملة بيريز للحلول محل كاتساف في منصب الرئاسة الإسرائيلية. و بالاعتماد على رزمة من المعطيات ينتهي الكاتب الى أن بيريز"رجل أمن و ليس سلام" (A man of security, not peace) و هي الخلاصة التي يقع تقديمها بشكل مدحي و ليس ذمي. و على سبيل المثال يقدم الكاتب محطات أساسية للتأكيد على ذلك من بينها: بيريز كمهندس أساسي لحرب 1956 من خلال موقعه كأقرب مستشاري بن غوريون، بيريز كمهندس للاتفاق الاسرائيلي الفرنسي للحصول على القنبلة النووية، و بيريز كمهندس للـ"الحائط العنصري" الذي تمت إقامته من قبل حكومة شارون (و التي شغل فيها بيريز منصب نائب رئيس الوزراء).[19] طبعا لا تتعرض هذه السيرة لما يمكن أن يرقى بسهولة الى مرتبة "جرائم الحرب" مثلما هو الحال بالنسبة للمسؤولية المباشرة لبيريز في قصف مقر الأمم المتحدة في "قانا" و عشرات المدنيين الذين قتلوا في الملاجئ و هو ما تم تضمينه في تقارير أممية. و دوره في مباركة القصف العشوائي على المدنين في لبنان، الأمر الذي دعمته تقارير منظمات محايدة بما في ذلك التقرير الأخير لمنظمة "هيومان رايتس واتش"، من خلال دعمه حكومة أولمرت في "حرب تموز" الصائفة الماضية في لبنان. هذا عدى مباركته عمليات الاعدام خارج القانون للقادة السياسيين للمقاومة الفلسطينية و ما يتم من خلالها من قتل للمدنيين. و قد سبق لبعض الكتاب أن أكدوا على "الشراهة الحربية" لبيريز و محاولته إخفاءها تحديدا من خلال خطوات مثل تأسيس "مركز بيريز للسلام" و الذي سبق أن خلفت أنشطته جدالا حادا بين الأوساط الفلسطينية.[20] و سواء تعلق الأمر بما يرغب بيريز في الظهور عليه أو الصورة التي يقدمها منتقدوه فإننا بالتأكيد لسنا بصدد "مناضل معروف من أجل السلام". طبعا يمكن لبيريز أن يقول أي شيء عندما يتعلق الأمر بـ"صناعة السلام" في هذه المناسبة أو تلك: و لعله من المثير أن نعرف، و هو الأمر الذي يمكن أن يهم تحديدا السيد الخياطي و اختياراته الاصطلاحية حول "الرؤى الماضوية و المستقبلية"، أن أكثر كلمات بيريز ترديدا قوله "لا أنظر البتة الى الوراء. بما أني لا أستطيع تغيير الماضي، لماذا علي التعامل معه؟ يجب عليك التعامل فعلا مع المستقبل".[21] و يصعب حقا التوصل لنتيجة معاكسة في علاقة بأوري سفير أقرب مقربي بيريز و هو الذي عمل لفترة كمدير عام لوزارة الخارجية الاسرائيلية و أشرف بصفته تلك على التوصل لـ"اتفاقيات أوسلو" (يشغل سافير الآن مقعدا في الكنيست الاسرائيلي). فمع الغبار الشعاراتي الكثيف حول "السلام" الذي يمكن يثيره سافير إلا أنه لا يتورع أن يكتب مثلا، إثر وقف إطلاق النار في "حرب تموز" الأخيرة و ما يفوق الألف قتيل من المدنيين اللبنانيين (و الذين من بينهم مئات الأطفال الذين كان منهم ربما من يرسم "حمامة سلام" عند مقتله)، أن يكتب ما يلي: "بالرغم من أننا لم نكن منتصرين حسب المعايير العسكرية المطلقة، فإن الحملة التي انتهت للتو تم قيادتها بشكل مناسب كما تم تحقيق معظم أهدافها".[22] طبعا يبقى من الضروري الحديث في هذا الإطار عن "اتفاقيات أوسلو" و التي أشرف عليها كل من بيريز و سافير و مدى تعبيرها عن رغبة جدية في السلام. و هنا ليس من العناء المحاججة أن ياسر عرفات "الاصلاحي المتدرج و العقلاني" (حسب العبارات المحبذة من قبل السيد الكزدغلي مثلا) قد تم قتله في مقره المحاصر في رام الله بعدما رفض تصفية قضية شعبه مقابل العمل كحارس أمن لإسرائيل... و هو الهدف الذي تبين أنه الحد الأقصى إسرائيليا (سواء "العمل" أو "الليكود") لـ"دولة فلسطين" كما فهم الزعيم الفلسطيني في محادثات كامب ديفيد مع باراك و بقية الفريق البيريزي سنة 2000 (تم عرض "الحد الأقصى" الاسرائيلي خاصة من قبل "حزب العمل" في تلك المحادثات في الرواية الأكثر مصداقية حسب عديد المراقبين و هي لروبرت مالي Robert Malley مستشار الرئيس كلنتون للشرق الأوسط و الذي شارك فيها).[23]
أنتقل الآن الى النقطة الثانية و التي على أساسها يمكن حسم ما إذا كانت "المسابقة" مبادرة "تطبيعية" أم مجرد نشر لاسياسوي لـ"ثقافة السلام"؟ سأبقى هنا مع أوري سافير بوصفه منظر مشروع "المتوسط 2020" (و التي تندرج ضمنها "المسابقة" الثقافية التي تشارك فيها "الصباح") كما هو مذكور في تقديم المشروع. و في الحقيقة ليس أفضل هنا من عرض أهم الأفكار الواردة في مقال سافير، المذكور أعلاه، و الذي يعتبره هو ذاته الإطار الفكري و السياسي لمشروع "المتوسط 2020". و بالرغم أن أي طرف جاد في السلام يمكن أن يقتطف الاستعداد العربي الرسمي غير المسبوق ("إعلان قمة بيروت") للـ"تطبيع" مقابل الانسحاب من أراضي سنة 1967 و هو الأمر الذي بدأ يحظى حتى بموافقة ضمنية لأطراف أساسية في الصراع المسلح (مثل حماس) فإن سافير يرى أن الحل لا يكمن في التوصل لاتفاقيات سياسية ضمن ظروف الوضع الراهن و هو الأمر المؤجل حتى في علاقة بإطار"خريطة الطريق". في المقابل يبدو أن الوقت مناسب، حسب سافير، للقيام بأمر أساسي يسبق أي اتفاقيات سياسية و من ثمة يسمح بنجاحها (حسب مفهوم "النجاح" الاسرائيلي): "حل شامل و أكثر نجاعة يمكن أن يتطلب خلق ثقافة متفهمة للتعايش السلمي عبر التواصل على المستوى الإقليمي—المنطقة المتوسطية".[24] و بمعنى آخر لا يرى سافير أن "السلام" ممكن عبر اتفاقيات سياسية ضمن الإطار البديهي القائل بـ"تبادل الأرض مقابل السلام" بل يراه، قبل كل شيء في خلق "تواصل إقليمي": أي "تطبيع" من دون إنسحابات. طبعا فإن سافير "المناضل المعروف من أجل السلام" لا يشذ عن موقف الطبقة الإسرائيلية السياسية الرسمية من حيث أنه يعتبر أن العنف الفلسطيني بإجماله "رعبا" (terror) و ليس مجرد "إرهاب" (terrorism) و أنه المصدر المستفز للعنف الإسرائيلي. فهل يمكن أن يكون هذا الإطار المفهومي للـ"المسابقة" الذي يندرج ضمن مشروع "التطبيع" قبل قيام إسرائيل بأي إلتزام سياسي للانسحاب من أراضي محتلة سنة 1967 (و هو ما يعني آليا الاعتراف بـ"حقها في الوجود")، هل يمكن أن يكون ذلك مجرد توجه لاسياسوي "لنشر ثقافة السلام" و ليس مبادرة "تطبيعية" ضمن خطة سياسية إسرائيلية للتملص من الاستحقاقات؟
مغزى "التطبيع" في الاستراتيجيا الاسرائيلية
السؤال الأخير الماثل أمامنا يكمن تحديدا في موقع رؤى بيريز و سافير في علاقة بموضوع "التطبيع" ضمن تقاليد الرؤية الاسرائيلية لهذا الموضوع: فهل نحن بصدد خطاب "سلام" استثنائي و "حالم" يدعو للتفاهم بمعزل عن أي رؤى سياسوية أم أننا بصدد رؤية ثابتة تعتبر مطلبية "التطبيع" خطة سياسية و صيغة أساسية للتملص تحديدا من أي إمكانية لإقامة "سلام عادل و شامل" في المنطقة؟
كان مطلب "التطبيع" قبل عقد اتفاقية "الحل النهائي" (أي حل القضية الفلسطينية) بشكل دائم في صدارة المطالب الاسرائيلية في أي مفاوضات مع الجانب العربي. سأكتفي هنا بعرض محطات محددة للتدليل على ذلك.
أولا، مثلما توضح أحد وثائق الأرشيف السري الأمريكي و خلال مفاوضات "كامب ديفيد" سنة 1978 بين الجانبين الاسرائيلي و المصري كان من بين أهم هواجس الجنرال دايان و التي حرص على تكرارها أمام الرئيس كارتر ما اعتبره نوايا مصرية "لإبطاء التطبيع في العلاقات". حيث من الواضح أن مطلب "التطبيع" مع الطرف المصري كان على رأس أولويات الجانب الاسرائيلي و واحدا من بين الأسباب الأساسية لعقد "اتفاقية سلام". لكن ما يلفت الانتباه أن ذلك المطلب كان مرتبطا بفصل المفاوضات حول سيناء عن أي مطالب أخرى في علاقة بالقضية الفلسطينية. و بمعنى آخر كان الإسرائيليون يرغبون في تطبيع العلاقات مع مصر من دون الالتزام بأي حل في علاقة بالصراع الأساسي في المنطقة و هو احتلال الأراضي الفلسطينية. و هو الأمر الذي قبله في نهاية الأمر الرئيس السادات و أدى إلى عزلة مصر عن محيطها العربي و هو الأمر الذي أدى لسياسة "التطبيع الباردة" التي بدأها الرئيس مبارك بعد مقتل السادات.[25]
ثانيا، سبق التحضير لـ"مؤتمر مدريد" بداية التسعينات ورقة لإسحاق شامير عرفت باسم "خطة الأربع نقاط" (Shamir’s four-point plan). و كانت تلك الورقة المرجعية الرئيسية بالنسبة للإدارة الأمريكية أثناء التحضير للمؤتمر. و من بين الأربع نقاط تبين أن النقطة الثانية كانت على رأس أولويات الجانب الإسرائيلي. و تتعلق هذه النقطة بمطلب إسرائيلي يتمثل بتطبيع العلاقات مع مجمل الأطراف العربية، من خلال مفاوضات ثنائية مباشرة، قبل التوصل لأي حل سياسي نهائي في القضية الفلسطينية و ذلك "لبناء جو من الثقة".و يتم تقديم هذه الرؤية بطريقة مشابهة للغاية مع أفكار سافير المذكورة أعلاه. [26]
ثالثا، في وثيقة اتفاقية "معادة السلام الأردنية الأسرائيلية" (المعروفة باتفاقية "وادي عربة") الموقعة سنة 1994 كان من بين البنود الأولى القسم المتعلق بشكل واضح بـ"التطبيع الثقافي" بما في ذلك تغيير المناهج الدراسية الحكومية. و هو ما اشتمل على "الامتناع عن بث الدعايات المعادية" (في أردن غالبية سكانه من الفلسطينيين) في وقت يستمر فيه احتلال الاراضي الفلسطينية و السياسات العدوانية و الاستيطانية هناك.[27]
رابعا، في تصريحات أخيرة لوزيرة الخارجية الإسرائيلية في حكومة أولمرت (التي يشارك فيها بيريز و مجموعته) تزيبي ليفني أشارت فيه الى أن "تطبيع العلاقات مع الدول العربية سيساهم في تسريع إنهاء الصراع الاسرائيلي الفلسطيني". و هذا يعني، مرة أخرى، التأكيد على الرؤية الاسرائيلية الثابتة القاضية بأسبقية "التطبيع" عربيا على أي التزام إسرائيلي بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية.[28]
أمام هذا الثابت الإسرائيلي في علاقة بمحورية "التطبيع" يبدو موقف بيريز و سافير ضمن إجماع إسرائيلي مستمر يقضي بمطلبية "التطبيع" قبل أي إلتزامات بالانسحاب. و هو ما يعني إفشالا لأي فرص جدية لـ"سلام عادل و شامل" في المنطقة.
هل يمكن بعد ذلك لأي رؤية "عقلانية" و "مستقبلية" النظر لـ"مسابقة" مشروع "المتوسط 2020" أنها مجرد مبادرة غير سياسوية "لنشر ثقافة السلام" عبر توفير الفرصة للأطفال كي يرسموا الحمائم؟
أعتقد أن هناك فعلا "رؤيتين متناقضتين": رؤية عقلانية تقدر أن "التطبيع" السابق لأي إلتزامات اسرائيلية للانسحاب هو ثمن مجاني و ساذج يخدم مصلحة إدامة الصراع الراهن و بالتأكيد لا يخدم مصلحة الشعب الفلسطيني (الذي بالمناسبة لم يحسم أمره في اتجاه "الحوار الأزلي" بما في ذلك فريق الرئيس عباس). في مقابل ذلك توجد رؤية ساذجة تهيم في خطاب ديماغوجي للـ"السلام" تعتقد أن تصور العدوانيين كـ"رجال سلام" و الغوص في عالم طوباوي من "النوايا الحسنة" المعزول عن الأطر السياسية الواقعية بالاضافة لتصوير بعض الحمائم على طراز حمامة بيكاسو خطوات كافية لتغيير وجه المنطقة.
إن المقولة التي رددها بشكل متكرر المدافعون عن "مشاركة الصباح" و التي مفادها "أننا نصنع السلام مع أعدائنا و ليس مع أصدقائنا" ليست غير مسبوقة و هي أيضا صائبة بشكل عام. و لكن ترداد شعار مماثل غير كافي إذا أردنا التحلي بالعقلانية. فالمسألة التي تحتاج التمحيص في تلك الحالة هي "ما إذا كان الحوار مع أعدائنا يخدم قضية السلام أم يعرقلها؟" و هو ما ينطوي على عدد من الأسئلة الجوهرية التي من بينها "هل أن أعداءنا على استعداد بناءا على ممارساتهم لعقد سلام عادل و شامل؟" لكن في الحالة التي بين أيدينا رأينا كيف أن "الحوار" (بما ذلك عبر الرسم للأسف) يعني بالنسبة لأعدائنا أمرا آخرا تماما من الناحية السياسية. فهو جزء من خطة سياسية عامة (ليست جديدة) تحت عنوان "التطبيع" تستهدف التحصل على "الاعتراف و القبول و من ثمة الأمن" من دون تقديم أي إلتزامات جدية على صعيد "حل نهائي عادل" للقضية الفلسطينية. و إلى أن يعبر الإسرائيليون (و أعني هنا تحديدا القادرين على التأثير على الموقف العام) عن نوايا جدية في ذلك الاتجاه فإن موقف مقاومي "التطبيع" هو الموقف الصائب تاريخيا و براغماتيا على السواء. و بذلك المعنى هو الموقف العقلاني الوحيد الممكن بعكس الموقف الآخر المدافع عن "السلام" (في صيغته "التطبيعية") حتى لو حمل بكثافة شعار "العقلانية".
ملاحظة أخيرة
Post-scriptum
علي أن أختم بملاحظة موجهة تحديدا للسيد رضا الكافي. حيث أني لم أنس بعد أن الأخير سرق منذ سنتين (في صيغة مقال مترجم الى الفرنسية لمصلحة "جون أفريك") عرضا نقديا كتبته عن كتاب مايكل لاسكييرحول موضوع "التطبيع" في المغرب العربي. و هو الأمر الذي قدمت حوله ما يكفي من الأدلة في وقت سابق (أنظر تونسنيوز عدد 22 سبتمبر 2005 و لكن خاصة عدد 25 سبتمبر 2005 حيث قدمت عرضا تفصيليا و مطولا عن هذه السرقة) و لم يبلغ الى علمي أنه رد بشكل مفصل على ذلك أو قدم اعتذارا (باستثناء "رد" يشبه بعض البيانات الرسمية الخشبية المختصرة نفى فيه الأمر جملة و تفصيلا نشره في عدد تونسنيوز 23 سبتمبر 2005). و يبدو على كل حال، حسب بعض مصادري، أن انكشاف الأمر كان من بين أسباب إبعاده عن فريق تحرير "جون أفريك". لكن ما دفعني لتذكر هذه الحادثة أن السيد الكافي لم يتعلم أي شيئ من المؤلف المذكور (الذي من المفترض أنه "قرأه") مثلما يشير الى ذلك الدور الطليعي الذي بصدد لعبه في مسألة "مشاركة الصباح". حيث بين لاسكيير بالاعتماد على رزمة هائلة من الوثائق الأرشيفية أن السياسة الاسرائيلية كانت تدفع دائما باتجاه "التطبيع" المجاني مع الأقطار المغاربية. في المقابل لم يقبل أي من القادة المغاربيين بما في ذلك أولائك الذين كانوا يحرصون على إقامة اتصالات سرية مع الدولة العبرية (و هذا يشمل الرئيس الراحل بورقيبة) بأي مبادرة تمنح بشكل فعلي إسرائيل مطلبها "التطبيعي" بمعزل عن "الاجماع العربي" و عن إيجاد حل نهائي للقضية الفلسطينية. و هو الأمر الذي يعمق من الأسى الذي شعرت به منذ سنتين عندما قرأت مقال السيد الكافي الذي "ترجم" مقالي للفرنسية.
[1] خميس الخياطي "لا للمقاومة الافتراضية و نعم للحوار العربي/الاسرائيلي" (تونسنيوز 28 أوت 2007). يقول الخياطي: " أين القضية إذا؟ إنها في رؤيتين متناقضتين لتعثر المسار(...) القضية هي بين رؤية ماضوية ديماغوجية "لا تأكل مما تخبزه"، فشلت وستفشل في تأثيرها على للعالم إن لم تضع السياسي نصب عينيها وتعمل على طول المدى بروية وتماسك وفصل بين العاطفي والعقلاني... ثم رؤية مستقبلية ما زالت بذرة في عالم عربي/إسلامي يشكو الفقر والفاقة، الظلم والأمية، الظلامية والخرافة، ضيق القانون وفسحة الفتاوى وما إلى ذلك من نتائج الإستقلالات... "
[2] حبيب الكزدغلي في مقال بالفرنسية في صحيفة "لوطون" (24 أوت 2007).
Habib Kazdaghli “Colombe de la paix de Picasso, rameau d'olivier d'Arafat,
œillets de Lisbonne et jasmin d'Hammamet” (Le Temps 24 Aout 2007).
" Le problème se situe à ce niveau, les esprits chagrins d'ici et d'ailleurs veulent le tout ou rien, une politique qui n'a rien donné, nous avons la chance de faire partie d'une élite continuatrice des démarches réformistes et rationalistes et des avancées de Bourguiba à Jéricho depuis 1965"
[3] رضا الكافي في مقال بالفرنسية في صحيفة "لوطون" (16 أوت 2007).
Ridha Kefi “Y a-t-il parmi nous des ennemis de la paix ? » (Le Temps 16 Aout 2007)
مثلا يعرض السيد الكافي سلسلة من الأسئلة الاستنكارية في صيغة مماثلة للصيغة التالية: " Quel mal y a-t-il alors à ce que la Tunisie, à travers le quotidien ‘‘Assabah’’, soit associée à une opération qui essaie de promouvoir l’idée de paix ? "
لاحظ هنا أن مشاركة دار الصباح تصبح تمثيلا لتونس بأسرها. في حين يقع وصف ما يجري على أنه "تشارك في عملية".
[4] مرة أخرى في صيغة سؤال استنكاري يقوا السيد الكافي: " Pourquoi, au prétexte de ne pas s’associer à des institutions israéliennes, refuser à nos enfants la possibilité d’exprimer leur solidarité avec le peuple palestinien, ainsi que leur espoir de le voir un jour vivre en paix dans le cadre d’un Etat indépendant aux côtés d’Israël ? "
[5] الكزدغلي في المقال المذكور أعلاه. " En effet, je venais d'apprendre et d'apprécier un jour auparavant en lisant dans Le Temps du mercredi 15 août que nos deux quotidiens édités par la Maison Assabah ainsi que plusieurs journalistes tunisiens ont adhéré à un concours lancé par plusieurs fondations et journaux des pays du pourtour méditerranéen. "
[6] http://www.peres-center.org
[7] ركن مشروع "المتوسط 2020" على الرابط التالي:
http://www.peres-center.org/Med2020.html
ركن "الثقافة" في مشروع "المتوسط 2020" على الرابط التالي:
http://www.peres-center.org/SectionProject.asp?cc=01130203
[8] ركن "مهمة" المشروع على الرابط التالي:
http://www.peres-center.org/SectionPage.asp?cc=011301
[9] Uri Saphir, “Pax Mediterraneo” Mediterranean Quarterly, Winter 2006, pp. 16-22.
http://www.peres-center.org/Media/paxmediterraneo.pdf
[10] لا يرد ذكر صحيفة الصباح في النص الموجود على هذا الرابط من بين قائمة الصحف المشاركة:
http://www.peres-center.org/SectionProject.asp?cc=01130203
[11] في حين دار الصباح مذكورة من خلال ممثلها السيد رضا الكافي في الوثيقة المحملة على هذا الرابط:
http://www.peres-center.org/Media/med2020%20contest%20details.pdf
[12] الكافي في مقال مذكور أعلاه.
" Parler aux Israéliens ne doit donc plus constituer un tabou. S’associer à ceux d’entre eux qui militent pour la paix, heureusement nombreux, ne saurait, non plus, constituer un crime. Tant il est vrai qu’on ne fait pas la paix avec ses amis, mais avec ses ennemis, lorsque ces derniers cherchent sincèrement à mettre fin à l’escalade de la haine et de la violence. "
[13] الكافي في مقال مذكور أعلاه.
" Pourquoi, au prétexte de ne pas s’associer à des institutions israéliennes, refuser à nos enfants la possibilité d’exprimer leur solidarité avec le peuple palestinien, ainsi que leur espoir de le voir un jour vivre en paix dans le cadre d’un Etat indépendant aux côtés d’Israël ?"
[14] نزار البهلول في تقرير صادر في مجلة "حقائق" (23 أوت 2007).
Nizar Bahloul “Grande polémique autour d’un concours : La paix pourra attendre » (Réalités, 23 Aout 2007)
« C’est par là que le scandale est arrivé vu que certains considèrent qu’avec la participation de ces organismes-là, il y a une volonté manifeste de normalisation avec Israël. Peu importe que ces organismes soient reconnus pour leur volonté de paix, connus par leur passé pacifique militant, que Rabin ait décroché un Nobel de la Paix »
[15] "عريضة" بإمضاء و حيد لـ"عدنان الحسناوي" تحت عنوان "دفاعا عن نشر ثقافة السلام و حرية التعبير" (تونسنيوز 29 أوت 2007). يبدأ نص "العريضة" كالتالي: " من حيث المبدأ نعبر عن دعمنا لأي عمل من أي كان يهدف نشر ثقافة السلام ومكافحة أيديولوجية الكراهية والدعاية للحرب والتمييز على أساس الدين أو العرق أو أي شكل آخر للتمييز " و تنتهي بـ"وعليه نساند ما قامت به "الصباح" من المشاركة في النشاط الذي نظمه مركز بيريز للسلام."
[16] زياد الهاني في تصريح لموقع "المغاربية" (تقرير لجمال العرفاوي بتاريخ 9 أوت 2007).
" Ce concours Faire Rayonner [la Colombe de la Paix de Picasso] qui vise les jeunes des pays méditerranéens est un projet remarquable, qui sert la culture de la tolérance, de la paix et de la communication entre les jeunes de la Méditerranée… Les organismes qui adoptent ce projet méritent d'être félicités, tout comme les journaux qui y participent."
[17] الخياطي في مقال مذكور أعلاه. تجب الإشارة الى أن السيد الخياطي يكتب عمودا في أكثر الصحف العربية "القومجية" انتشارا ("القدس العربي") و أيضا التي يعارض خط تحريرها بشكل مستمر أي مبادرات "تطبيعية" بما في ذلك التي يقع تسميتها "حوارا".
"هذا ليس "تطبيعا" كما يدعي القومجية عندنا، لأننا لم نعش يوما حياة جيرة طبيعية مع إسرائيل (...) هذا ليس"تطبيعا" كما يدعي القومجية عندنا لأن الحوار مفتاح المستقبل ولا خوف على المستقبل إن آمنت بحق كل الشعوب والأجناس والأديان في العيش الكريم"
[18] الكزدغلي في مقال مذكور أعلاه.
" Initier nos jeunes à la paix, les encourager à s'inspirer d'un tableau de peinture qui avait servi depuis presque 60 ans comme hymne à la paix et à la liberté entre les peuples, à la tolérance et au rejet de tout fanatisme, au respect de l'autre dans sa différence, n'est point à mon avis synonyme d'une quelconque «normalisation» avec les politiques agressives de quiconque ou d'une acceptation de la colonisation israélienne des territoires palestiniens occupés. "
[19] يمكن الاطلاع على أحد العروض النقدية للكتاب على الرابط التالي:
http://www.slate.com/id/2161376
[20] أنظر في علاقة بهذا الموضوع المقالين الموجودين على الرابطين التاليين:
http://www.ziopedia.org/en/articles/israel%10palestine/israel%92s_new_president%3a__a_war_criminal_par_excellence/
http://www.alternativenews.org/blogs/nassar-ibrahim/the-case-against-palestinian-normalization-with-israel-20070904.html
[21] "I never think back. Since I cannot change the past, why should I deal with it? You have to really deal with the future"
http://dir.salon.com/story/news/feature/2005/04/22/peres/index.html
[22] عرض سافير موقفه مما جرى في "حرب تموز" في مقال بصحيفة "الهارتز" (19 أوت 2006).
Uri Savir “Sorry, we reached our goal” Haaretz (19-08-2006)
“although we were not victorious in absolute military terms, the campaign just ended was properly conducted and most of the goals were achieved”
[23] أنظر عرضا نقديا لكتاب مالي "كامب دايفيد: تراجيديا الأخطاء" على الرابط التالي:
http://www.nybooks.com/articles/14380
[24] سافير مقال مذكور أعلاه
" the Road Map lacks the appropriate foundations and environment to cultivate the seeds of peace so that they actually grow. A broader, more effective solution might entail creating a comprehensive culture of peaceful coexistence through communication on a regional basis — the Mediterranean region."
[25] ضمن وثيقة أرشيف سرية في شكل مذكرة من البيت الأبيض بتاريخ 17 أكتوبر 1978 (رفعت عنها السرية في 8 جويلية سنة 1998) نقرأ ما يلي:
" Dayan's third concern was the speed of normalization. Hefears that the Egyptians are weakening their commitment to theestablishment of diplomatic relations at the end of the interimwithdrawal. They are speaking of gradual normalization. Inthe economic and cultural areas, Israel can accept this, but
not in the diplomatic area"
[26] تم نشر هذه الوثيقة في "مجلة دراسات فلسطين" (Journal of Palestine Studies) عدد صيف 1991 (صص. 149-150). يأتي في النقطة الثانية ما يلي:
"The prime minister urged the U.S. and Egypt to call on the other Arab countries to desist from hostility towards lsrael and to re-place belligerency and boycott with negotia-tion and cooperation. Of all the Arab countries, only Egypt has recognized lsrael and its right to exist. Many of these states actively participated in wars against Israel by direct involvement or indirect assistance. To this day, the Arab countries are partners in an economic boycott against Israel, refuse to recognize it and refuse to establish diplomatic relations with it.The solution to the Arab-Israeli conflict and the building of confidence leading to a permanent settlement require a change in the attitude of the Arab countries towards Israel. Israel, therefore, calls on these states to put an end to this historic anomaly and to join direct bilateral negotiations aimed at normalization and peace."
[27] جاء في نص معاهدة "وادي عربة" ما يلي:
"انطلاقاً من رغبة الطرفين في إزالة كافة حالات التمييز التي تراكمت عبر فترات الصراع، فإنهما يعترفان بضرورة التبادل الثقافي والعلمي في كافة الحقول، ويتفقان على إقامة علاقات ثقافية طبيعية بينهما، وعليه فإنهما يقومان -بأسرع وقت ممكن على أن لا يتجاوز ذلك فترة تسعة شهور من تاريخ تبادل وثائق التصديق على هذه المعاهدة- باختتام المفاوضات حول الاتفاقات الثقافية والعلمية.المادة الحادية عشرة - التفاهم المتبادل وعلاقات حسن الجوار:1- يسعى الطرفان إلى تعزيز التفاهم المتبادل في ما بينهما، والتسامح القائم على ما لديهما من القيم التاريخية المشتركة.وبموجب ذلك فإنهما يتعهدان بما يلي:أ - الامتناع عن القيام ببث الدعايات المعادية القائمة على التعصب والتمييز، واتخاذ كافة الإجراءات القانونية والإدارية الممكنة التي من شأنها منع انتشار مثل هذه الدعايات، وذلك من قبل أي تنظيم أو فرد موجود في المناطق التابعة لأي منهما.ب - القيام بأسرع وقت ممكن وبفترة لا تتجاوز ثلاثة شهور من تاريخ تبادل وثائق التصديق على هذه المعاهدة، بإلغاء كافة ما من شأنه الإشارة إلى الجوانب المعادية وتلك التي تعكس التعصب والتمييز، والعبارات العدائية في نصوص التشريعات الخاصة بكل منهما.ج - أن يمتنعا عن مثل هذه الإشارات أو التعبيرات في كافة المطبوعات الحكومية"
[28] تصريحات ليفني بتاريخ 13 مارس 2007.
" Israel urged Arab states on Monday to normalize ties now, saying this could hasten the end of the Israeli-Palestinian conflict, and cautiously welcomed a comprehensive Arab-Israeli peace proposal. The comments by Israeli Foreign Minister Tzipi came amid reports of "secret talks" between Israel and the Palestinians on reviving the peace process."
تعليق على "تعقيب" السيد نصر الدين بن حديد
الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية
1- يستحق السيد نصر الدين بن حديد الاحترام، و هو المواطن الجزائري الذي يقوم بدور صحفي مشرف في تونس (حتى عندما عمل سابقا في ظروف صعبة مثل إدارة القسم الفرنسي في صحيفة "الوحدة"، و هي لسان حال طرف سياسي غير جاد مثل "حزب الوحدة الشعبية") لا يقوم به بعض من يحملون المواطنية التونسية و يدعون الانتساب للقطاع الاعلامي. و هو بالتأكيد لا يمكن أن يحظى من قبلي بالإغفال كما أشار الى ذلك. أقول ذلك ليس فقط تعاطفا و تضامنا مع قضيته و قضية أبنائه التونسيين الحقوقية، و التي يجب أن أذكر، أنه قد أثارها منذ مدة ليست بالقليلة، بالرغم من أن رسالته الأخيرة ربما حظيت باهتمام يفوق ما حظيت به نداءاته في الماضي. أقول ذلك، إذا ليس من موقع التعاطف مع وضعيته الحقوقية فحسب، بل أيضا من منطلق احتواء عدد من مقالاته على ما يستحق الانتباه و الاطلاع و لذلك فإني أتابعها كلما سنحت الفرصة لذلك.
2- اعتبر السيد بن حديد فيما سماه "تعقيبا" (نصر الدين بن حديد "بين من يركضون خلف السراب ومن يدافعون عن «عبّاد الشمس!!!!!" تونسنيوز 12 سبتمبر 2007) على مقال لي (الطاهر الأسود "حول "مشاركة الصباح" في المسابقة الاسرائيلية" تونسنيوز 10 سبتمبر 2007) أني "سهوت" أو "أغفلت" كتاباته فيما يخص موضوع مقالي. و الحقيقة أن ملاحظة السيد بن حديد غير دقيقة للسبب التالي: اطلعت على مقالين من قلمه خاصين بموضوع "مشاركة الصباح"،[1] وما أعرفه منهما أنهما لا تندرجان ضمن موضوع مقالي. فكما وضحت في مقدمته، كان موضوع المقال نقد موجه بالتحديد للكتابات المدافعة عن "مشاركة الصباح" في المسابقة المعنية، أو ما سميته في عنوان مقالي "خطاب السلام الراهن". و حسبما فهمت من قراءة مقالي السيد بن حديد، و كذلك قراءة تعقيبه على مقالي، فإن ما كتبه لا يعبر عن موقف مماثل، أي دفاع عن "مشاركة الصباح". و لهذا لم أتعرض له، مثلما تحديدا لم أتعرض لمقالات كتاب آخرين تعرضوا لموضوع "مشاركة الصباح" من دون الدفاع عن هذه المشاركة. و هكذا سأكون "أغفلت" أو "سهوت" عن ذكر مقالات الكاتب لو كان موضوع مقالي نقد كل ما كتب في موضوع "مشاركة الصباح". و لكن ذلك ليس واقع الحال. و في الواقع لم أعتقد أني سأحتاج لتوضيح مسألة بهذه البساطة عند قراءتي لـ"تعقيب" السيد بن حديد.
عدى ذلك لاحظت أن أسلوب الكاتب في التحليل يميل أحيانا نحو تجريدية بالغة (إطلاق متسرع و بثقة مفرطة لمقولات عامة ذات طابع إطلاقي دون الخوض في تفاصيل محددة، "التعقيب" على ما أقول من دون التعرض بشكل مباشر أو الاستشهاد بما أقول... الخ) يصل من خلالها في بعض اأحيان الى مواقف متضاربة. و هذا الأسلوب ليس بالضرورة أمرا سلبيا و لكني شخصيا لا أرتاح اليه. و أتمنى على السيد بن حديد ألا يعتبر ذلك مسا من شخصه. و أعطي هنا بعض الأمثلة على مثل هذه الملاحظات التجريدية المتضاربة و التي هي في حاجة للتعليق:
3- بعد بعض العناء بدى لي أن موقف (أو مواقف) السيد بن حديد مما يجري هو (هي) كالتالي (و الفقرة التالية يجب اعتبارها تقييما جديا من قبلي لما قرأته و ليس من قبيل المزاح): بشكل عام السيد بن حديد ضد "التطبيع" و لكنه، رغم ذلك، ضد "مقاومة التطبيع" مادامت غير صادرة عن القائمين على الصراع العسكري ضد إسرائيل... و هكذا بالتأكيد فإن"مقاومة التطبيع" في حالة "مشاركة الصباح" أمر "دونكشوتي" خاصة أنها صادرة عن أناس "جلهم" لا يستحق الاحترام... غير أن "مقاومة التطبيع" تبقى أمرا ضروريا إذا تعلق الأمر بنقد "أصحاب التطبيع" و لكن من قبل السيد بن حديد تحديدا (مثلما فعل موجها خطابه للأخيرين مثل السيد الخياطي).
و هكذا لا يبدو أن الكاتب على وعي بازواجية موقفه تجاه قضيتين: أولا، ما هو الموقف الذي سميته في مقالي بـ"الموقف الصحيح تاريخيا و شرعيا من مسألة التطبيع". ثانيا، "هل من المجدي ما يقوم به مقاومي التطبيع؟ بل هل من المجدي مقاومة التطبيع أصلا؟". إذ يتخذ موقفا في المسألة الأولى هو معارضة "التطبيع". بينما لا يرى، بالنسبة للمسألة الثانية، أي جدوى في "مقاومة التطبيع" أصلا إذ تبدو هذه القضية مختلقة أو حتى "لهو صغار". و تبدو هنا المفارقة الأساسية فيما كتبه السيد بن حديد. حيث أنه في النهاية يتخذ موقفا من مسألة لا يرى جدوى في اتخاذ موقف منها أساسا. و في الحقيقة تلك هي النقطة الأساسية التي وجدت أنها تعبر عن "تعقيب" من قبله على مقالي. فعلى ما يبدو يلومني السيد بن حديد على مشاركته، و غيره، في موقف معارضة "التطبيع" ما دام لا توجد جدوى في القيام بذلك.
4- برغم هذا الموقف/هذه المواقف المتضاربة فإن بعضها يستدعي المناقشة. و هناك جملة محددة يمكن أن تعبر عن أحدها، و الذي يمكن تبرير وصف السيد بن حديد لـ"موقفه" بأنه موقف "مختلف" عن مجمل المواقف "المقاومة" و "المطبعة" على السواء، و هي الجملة التالية: "نسأل دعاة التطبيع إن كانوا يشعرون أنّهم شركاء الصهاينة في صياغة القرار؟؟؟ نسأل مقاومي التطبيع إن كانوا يشعرون أنّهم شركاء حزب الله في صناعة الانتصار؟؟؟"... و ذلك في إشارة لعدم جدوى مشاركة الأطراف غير المساهمة في الصراع العسكري المباشر في الصراع السياسي العام بما في ذلك الصراع من أجل أو ضد "التطبيع".
و هنا علي أن أشير الى نقطتين. أولا، من الصحيح أن المعادلة السياسية يتم تقرير حدودها، مثلما أشار السيد بن حديد، من خلال المعادلة العسكرية، و قد كنت تعرضت لدور العامل العسكري هذا في مجمل كتاباتي بما في ذلك كتعليق على "حرب تموز".[2] ثانيا، بالرغم من صحة النقطة الأولى، إلا أن السيد بن حديد يفرط في تقييم دور العامل العسكري عند اعتبار أي موقف سياسي في هذا الاتجاه أو ذاك غير مجدي في حالة ما إذا لم يكن صادرا عن الأطراف المباشرة للعمل العسكري. و هذا يطرح مسألة علاقة "العامل السياسي" بـ"القوة". فموقف السيد بن حديد يتضمن اعتقادا بأن تحديد "موازين القوى" تتم فقط (و ليس "رئيسيا" فحسب) من خلال الصراع العسكري. و هذا الاعتقاد يصطدم بمعطيات كثيرة، لا أعتقد أنه سيكون غافلا عنها، توضح بشكل عام دور ماهو "سياسي" في تحديد موازين القوى، و هو الأمر الثابت و لو كان متفاوتا حسب الظروف و الحالات المحددة. و إذا ما فهمنا أهمية دور العامل السياسي فإننا لا يمكن حينها أن نشترط أهميته و فاعليته بالمشاركة الحصرية للأطراف المساهمة في الصراع العسكري.
و لكي ننتقل مما هو عام الى ما هو خاص (أي في هذه الحالة موضوع "التطبيع" مثلما وقع طرحه في مسألة "مشاركة الصباح") فإننا أمام حالة محددة ترغب تحديدا في التأثير على موازين القوى من خلال عمل سياسي. إن خطة "التطبيع" الاسرائيلية، مثلما وضحت في الجزء الأخير من مقالي، هي خطة واقعية. و هي نموذج على أن طرفا مؤثرا في الصراع العسكري، أي إسرائيل، لا يكتفي باستعمال ماهو عسكري للوصول الى أهدافه بل يضع أهمية خاصة لما هو سياسي. و هذا يعني أنه هذا الطرف، مثل غيره من الأطراف المجربة للأعمال العسكرية، تفهم حدود العامل العسكري في تحقيق الأهداف الاستراتيجية. و في هذه الحالة تفهم ضرورة استعمال العامل السياسي بما في ذلك أهمية ما يطلق عليه عموما بـ"الضغط السياسي" من خلال دفع الولايات المتحدة لاقتراح التطبيع على مجمل الأقطار العربية بشكل عام، و هو ما حدث كمثال فحسب في الظروف التي حفت بـ"خطة الاربع نقاط" التي أطلقها شامير قبيل مؤتمر مدريد (و هو الأمر الذي تحدثت عنه أيضا في مقالي). و من الواضح أن ذلك "الضغط السياسي" حقق أهدافه في حالات محددة مع تضافر عوامل أخرى، و هو واقع االحال بشكل واضح بالنسبة لاتفاقية كامب دايفيد مع مصر. و ذلك لا يتوافق مع اطمئنان السيد بن حديد و الذي يبدو أنه يقلل من أهمية السياسة "التطبيعية" الاسرائيلية مادامت صادرة عن رؤية "منفصمة".
5- يبقى أن نتساءل هنا: هل أن تفعيل هذه الخطة السياسية الاسرائيلية (خطة "التطبيع") يستدعي الاهتمام فقط إذا ما كان المشارك فيه الأطراف الاسرائيليون وحدهم؟ هل يمكن اعتبار مشاركة أطراف عربية (بما في ذلك تونسية) في أحد جزيئات هذه الخطة (مسابقة رسم في مشروع "المتوسط 2020") مسألة تستدعي التجاهل؟ و لكن ألا تكمن خطة "التطبيع" بالأساس في مشاركة الطرف العربي... مجرد المشاركة؟
في الحقيقة لا يبدو أن السيد بن حديد مهتم أصلا بهذه الأسئلة لأنه يعتبر أن المشاركة العربية في هذه الحالة لا تستدعي الاهتمام لأنها ستفشل من دون حتى قيام "مقاومي التطبيع" بمقاومتها. أو هذا ما فهمته مثلا من قوله " لسائل ان يسأل عن تأثير «مسابقة السلام هذه» في العمق العربي، وقد صارت قناة «المنار» أو قناة «الأقصى» تجلب الواحدة منهما من أطفالنا في ساعة واحدة ما يحلم به أصحاب هذه المسابقة دهورًا... " و لكن، على أن أقول، أن هذا تحديدا أسلوب دونكيشوتي (طوباوي) في طرح أي قضية سياسية: هل التقييم المسبق لفشل أي مبادرة "تطبيعية" يستدعي تجاهلها؟ في الحقيقة يطرح ذلك تحديدا مجهود الضغط السياسي في الطرف الآخر أي الطرف "المقاوم" بشكل عام، عسكريا و سياسيا.
فالعامل السياسي بالنسبة للطرف "المقاوم" هو بالتأكيد أكثر أهمية منه لدى الطرف الاسرائيلي و شركائه. و ذلك لسبب أساسي: مقابل ضعف الإمكان العسكري لدى هذا الطرف "المقاوم" تاريخيا، أطرافا نظامية و تنظيمات شعبية على السواء، كان العامل الأساسي الذي جعل من العامل العسكري "المقاوم" تدريجيا (خاصة بالنسبة لما أسميه التنظيمات الشعبية) عاملا فعالا و ناجعا هو تحديدا العامل السياسي، أي عدالة القضية. و تلك باتت معادلة كلاسيكية الآن مثلما شاهدنا في المنازلات العسكرية الرئيسية بين قوى اقتصادية ضعيفة تدافع عن وجودها و أخرى قوية تبحث عن الاستيلاء عن مجالات جديدة في القرن الفائت و هذا القرن. و من البديهي أن تفعيل إسرائيل لشركائها العرب يستدعي من الأطراف "المقاومة" تفعيل شركائها على المستوى العربي، و هو الأمر الذي تقوم به حتى إن لم تضع جردا لذلك في بياناتها السياسية بفعل الخط الأحمر الذي تواجهه في علاقة بالحفاظ على علاقات متوازنة مع النظام العربي الرسمي. و هكذا فإن موقف الاحتدجاج على "مشاركة الصباح" من موقع "مقاومة التطبيع" (مثلما يفعل السيد بن حديد نفسه في مقالاته) موقف مبدئي. و هو موقف لا يجب أن يقع تقييم صحته أو ضرورته من زاوية الهوية الشخصية للمشاركين فيه. و لكن من هذه الزاوية تحديدا يمكن ملاحظة موقف آخر إطلاقي و تعميمي يؤكد الاضطراب العام في مواقف السيد بن حديد في هذا الموضوع.
6- و يحيلنا ذلك على مسألة مدى جدية وجود شركاء عرب للقائمين على الصراع العسكري ضد إسرائيل بما في ذلك في المجال التونسي. حيث من الواضح أن السيد بن حديد، و الذي يبقى ضيفا جزائريا علينا، قد تعدى ليس آداب الضياقة فحسب بل أيضا آداب الجدال الموضوعي عندما اعتبر، و ببساطة، أن " هؤلاء «الذين نصّبوا أنفسهم أوصياء على المقاومة»، وأضيف بل أقول وأتحمّل مسؤوليّة قولي أمام القانون والتاريخ والضمير أنّ جلّهم لا يعدو أن يكون سوى ضبعًا أراد التمرّغ في تراب الأسود، ليفهمنا أنّه «شريك في صنع هذه الانتصارات» ومؤتمن عليها!!!... إنّ مقاومة التطبيع لا يمكن أن تتأتّى من خلال الانتظار، بل عبر الفعل والتأسيس، وأسأل الضبع فيهم ومن هو أقلّ من الضبع، عن كتاباته ومواقفه وأفعاله و«صولاته وجولاته»، لنجد مجرّد بيانات ممجوجة، أصبحنا نحفظها عن ظهر قلب..." (مقال بتاريخ 31 أوت) في نفس المقال في موقع آخر في إشارة لـ "مقاومي التطبيع" يرى الكاتب بأن ثقافة المقاومة لديهم تعني "النوم ومراوحة الخمّارات، من باب حراسة «عبّاد الشمس»..."
في مقال آخر يقول الكاتب " إنّ من يدّعون مقاومة التطبيع، وأخصّ بالذكر من وقفوا ضدّ ما أوردته يوميّة الصباح، ودون النزول إلى قراءة النوايا واستقراء الضمائر، جاؤوا كمثل من كّنا نراهم في الأرياف من أطفال، لا همّ لهم سوى «طرد الطيور عن عبّاد الشمس»، فكان هؤلاء الصبية يتراوحون ـ بحكم سنّهم ومحدوديّة فهمهم ـ بين اللعب حينًا والمشاجرة في أغلب الأحيان، ليفيقوا بين الفينة والأخرى عند هجوم الطيور ويكون الصراخ [الذي لا يملكون غيره] أو النقر على القطع المعدنيّة، لتكون بعض الطيور قد أصابت رزقها، ليعودوا إلى اللهو والمشاجرة...ألم نورد هذه الصورة أو هذه الإحالة استنقاصًا أو تصغيرًا، بل حين لم نجد أفضل منّها، دون أن ننسى «هذه الانتقائيّة» التي قد تكون بفعل «النسيان»، حين سكن وسكت لفيف من هؤلاء وأعرضوا بوجوههم حين تمّت دعوة شارون... التاريخ لا ينسى ولا يظلم ولا يرحم... نسوق هذه الحقائق لصحيفة «الشروق» على سبيل المثال و«المركز الوطني للتوثيق» حكم في أمرنا جميعًا... إنّ الغباء وحده أو هو قصر النظر أو ربّما سوء النيّة [ولكلّ أن يختار موقعه وموقفه] ما جعل الكثيرين يتنادون من أجل «هذه الوليمة» ويبحثون من خلالها عن «طهرانيّة» لا تقلّ عمّا عليه حال «المطبّعين»، لنضع المسألة ضمن «أزمة العقل العربي» وليس من خلال التخوين والطعن في الذمم..." (مقال 12 سبتمبر)
و إذا تجاوزنا بعض الجمل الخشبية (من نوع "تحمل (الكاتب) المسؤولية أمام القانون و التاريخ و الضمير" في مقولاته هذه) فإنه من التجني و التعميم الناتج، في حالة استباق حسن النوايا، عن جهل بتفاصيل و هويات بعض الأطراف السياسية التونسية، إطلاق أحكام بهذه الاطلاقية شملت أطرافا سياسية تونسية دفعت و لازالت الكثير مقابل تمسكها بموقفها السياسية المستقلة بما في ذلك موقف "مقاومة التطبيع". و إذا كان من الصحيح أن بعض المسارعين للتنديد بـ"مشاركة الصباح" ينطلقون من حسابات ضيقة و على الأرجح انتهازية (مثلما هو الحال مع بعض صحفيي الشروق و الصريح مثلا الذين أشار اليهم السيد بن حديد أيضا في مقاله بالفرنسية[3]) فإن ذلك لا يستدعي إطلاق التعميم بهذه المنطلقات ("جلهم") على بقية "مقاومي التطبيع". و هنا علي أن أذكر السيد بن حديد أن من أطلق الحملة ضد "مشاركة الصباح" ليس صحفيو الشروق و الصريح الذين أشار اليهم بل أشخاص مثل السيد البشير الصيد عميد المحامين الحالي و الذي سبق له التنديد بالتطبيع في ظروف أعسر من الظروف الراهنة بما في ذلك مناسبة "زيارة شارون"، و موقفه من "التطبيع" هو جزء من موقف عام خاصيته الأساسية النزاهة السياسية. و هو ليس من بين الذين يتخفون خلف "قضية التطبيع" لبناء رأسمالهم السياسي مثلما تشهد بذلك استقلاليته و التي حملته للمرة الثانية على رأس عمادة المحامين في انتخابات استثنائية الصائفة الماضية. هذا عدى أن موقفا لشخص مثل البشير الصيد لا يمثله شخصيا بل يعني تيارا مستقلا داخل قطاع المحاماة كما يعني تيارا سياسيا قوميا له جذوره في تونس و تكبد مقابل ذلك ضريبة الاعتقال و الملاحقة و حتى الموت بما في ذلك في جنوب لبنان ضد القوات الاسرائيلية. بل أن من بين المبادرين، مع السيد البشير الصيد، لإطلاق هذه الحملة من تعرض للاعتقال السياسي المطول في السابق تحديدا في علاقة بقضية "التطبيع". كما أن من بين الأطراف المنددة بالتطبيع من تحظى بعلاقات خاصة مع التنظيمات الممارسة تحديدا للمقاومة المسلحة و ساهمت في ذلك في السابق من خلال عدد من المقاتلين الذين تعرض البعض منهم للموت على يد القوات الاسرائيلية في جنوب لبنان. و على السيد بن حديد الاستفسار عن تفاصيل ذلك ممن يعرفون الساحة التونسية حتى يختار في المستقبل كلماته بالشكل المناسب أو بشكل مختلف على كل حال عن مصطلحات من نوع "ضباع" و "صبية" و "أغبياء" إزاء أناس ضحوا بحياتهم و حريتهم، و هو الأعرف بمعاني خطاب مماثل في الوقت الذي يتعرض اليه لمحاصرة ظالمة تستهتدف عائلته. ففي هذه الحالة هل سيكون من قبيل الإطلاقية أن نصف السيد بن حديد بالذات بحراسة "عباد الشمس" و هو الذي لم يوضح لنا دواعي كتابته و خاصة دفاعه المتكرر على "حزب الله" و بقية أطراف المقاومة المسلحة إزاء منتقديها و هو المستقر في تونس لا يملك إلا قلمه... هل يستحق يا ترى، بفعل دفاعه المستميت هذا، أن نطلق عليه أوصافا مثل "الصبي" و الغبي" و "الضبع" خاصة ما إذا كان هذا ما يراه (السيد بن حديد) صالحا لوصف من لم يكتف برفع قلمه بل امتد لرفع السلاح مع أطراف المقاومة على أرض المعركة المسلحة، و ليس مكان آخر؟
و مثلما أشرت في مقدمة مقالي السابق فإن ذلك لا يعني أن "مقاومي التطبيع" هم "على حق لا يخالطه باطل" بما في ذلك الذين يحظون بالنزاهة السياسية. فموقفهم، "الصحيح تاريخيا و شرعيا" لا ينفي وجود خطاب خشبي و ربما أساليب غير ناجعة و حتى قراءة غير نسبية و موضوعية للوضع الراهن و هو الأمر الذي كتبت فيه في السابق في قضايا عامة خاصة بالوضع العربي الراهن و حتى الوضع التونسي بشكل خاص. غير أن ما نحن بصدده هنا هي أولا و قبل كل شيء تقييم مسألة "مشاركة الصباح". و بالنسبة لهذه النقطة كان الموقف المتضارب للسيد بن حديد، شتم جميع الأطراف و محاولة اتخاذ موقف "مختلف" لا يحدد في النهاية موقفه المبدئي من أصل الجدال، موقفا لا يعبر بدوره عن أية "عقلانية"، و يطرح التساؤل عما إذا كان موقف (مواقفه) هذا (هذه) تعبير عن توازنات في محيط علاقاته الشخصية و هو الذي يحظى بعلاقات صداقة مميزة مع أطراف مدافعة عن "مشاركة الصباح" مثل السيدين الهاني و الخياطي. أرجو حقا أن يكون ذلك مجرد تخمين مجانب للصواب و إلا فإنه ليس لدي أي تفسير لمثل هذه المواقف المتضاربة (و لما الحاجة لذلك أصلا؟). لكن بمعزل عن كل ذلك أرجو أن يكتب السيد بن حديد "تعقيبا" بالفعل عندما يعنون نصه تحت فئة "التعقيب".
بعض الملاحظات العامة: post-scriptum
- لاحظ السيد بن حديد في تعليقه على الفقرة المعنونة "ملاحظة أخيرة pos-scriptum" الخاصة بكلام وجهته للسيد رضا الكافي أنها مسقطة ("لا علاقة بين القضيّة التي أعادها السيّد الطاهر الأسود إلى السطح وحاول ربطها بموضوع البحث") و أنها خوض في "مجاهل الأخلاق" و أنها بالتالي "في قطيعة مع متن النص". و الحقيقة علي هنا أن أوضح مسألتين: أولا معنى "post-scriptum"، و ثانيا ما إذا كان ما تعرضت له "لا علاقة له" بموضوع مقالي و أنه مجرد خوض في "مجاهل الأخلاق". بالنسبة للنقطة الأولي فإن هذه العبارة اللاتينية مستعملة بشكل عام في نفس اتجاه عبارة "addendum" و تعني واحدا من أمرين: إما إضافة فقرة/نص/فصل على نص سابق كرد على ما يمكن أثاره هذا النص (بعد نشره) من تعليقات أشارت الى نقائص او انتقادات. و إما الرغبة في إضافة فقرة/نص/فصل في مسألة لا تبدو مهمة في التخطيط العام للنص الأصلي و لكن يرى الكاتب بعض الأهمية لإضافتها. و قد استعملت فقرة "post-scriptum" كـ"ملاحظة أخيرة" في المعنى الثاني سواءا في نص مقالي أو في نص مقالي هذا أيضا ("تعليق على بعض الملاحظات العامة"). و يرجع قيامي بذلك في نص مقالي الأول لوعيي الكامل بأنها ملاحظة في سياق مختلف عن محتوى المقال، و هو بالتحديد سياق شخصي، ليس بمعنى "شخصنة النقد" و لكن بمعنى أن كلام النقد فيها ليس موجها لبقية من شملهم نقدي في نص المقال. غير أنه ليس من المفترض في فقرة "post-scriptum" أن تكون "في قطيعة مع متن النص". و لهذا، و هنا آتي للنقطة الثانية، فهي ليست "في قطيعة مع متن النص" حتى أني شددت على توضيح هذه النقطة تحديدا حتى لا يبدو الأمر مجرد "تصفية حسابات سابقة". و يلزم هنا ببساطة أن أكرر ما قلته و بالتالي كيف هناك رابط بين النص و "الملاحظة الأخيرة": " لكن ما دفعني لتذكر هذه الحادثة أن السيد الكافي لم يتعلم أي شيئ من المؤلف المذكور (الذي من المفترض أنه "قرأه") مثلما يشير الى ذلك الدور الطليعي الذي بصدد لعبه في مسألة "مشاركة الصباح". حيث بين لاسكيير بالاعتماد على رزمة هائلة من الوثائق الأرشيفية أن السياسة الاسرائيلية كانت تدفع دائما باتجاه "التطبيع" المجاني مع الأقطار المغاربية. في المقابل لم يقبل أي من القادة المغاربيين بما في ذلك أولائك الذين كانوا يحرصون على إقامة اتصالات سرية مع الدولة العبرية (و هذا يشمل الرئيس الراحل بورقيبة) بأي مبادرة تمنح بشكل فعلي إسرائيل مطلبها "التطبيعي" بمعزل عن "الاجماع العربي" و عن إيجاد حل نهائي للقضية الفلسطينية. و هو الأمر الذي يعمق من الأسى الذي شعرت به منذ سنتين عندما قرأت مقال السيد الكافي الذي "ترجم" مقالي للفرنسية." هل التذكير بـ "مجاهل الأخلاق" في هذه الحالة (سرقة مقال موضوعه "التطبيع" لا يبدو أن السيد الكافي فهم مغزاه وهو أمر طبيعي في حالة أنه سرقه) مجاني و يستهدف شخص السيد الكافي بمعزل عن قضية "التطبيع"؟ أرجو من السيد بن حديد التحلي بجدية أكبر في هذه المسألة، خاصة أنه ذاته استعمل عبارات لا يمكن إلا أن تعبر به تحديدا، و بشكل غير مبرر البتة بل بشكل متجني، نحو "مجاهل الأخلاق" عندما وصف "جل" من يقاومون "التطبيع" بأنهم "ضباع" و "أغبياء" و "صبية" و "مراوحي الخمارات" (في حين أن "جلهم" هم على صفات النزاهة و التضحية التي أشرت اليها أعلاه). و طبعا سيكون من المغالطة ألا نعتبر ذلك من قبيل التقييم الأخلاقوي بمجرد أن يقول الكاتب بأنه لا يستعمل مثل هذه الاحالات "استنقاصا أو تصغيرا".
- بخلاف ما أشار اليه السيد بن حديد في بداية مقاله، فإن صفة "الباحث" ليس من المفترض أن تستهدف "البحث عن المطلق" بما في ذلك "المطلق على مستوى المعلومة". لأن ذلك ببساطة، كما يمكن لكل ممارس للبحث أن يعرف، أمر غير ممكن. و ليس من العبيثة فحسب بل أيضا من غير الفعال (و هو، أي ما هو "فعال"، في المقابل هو ما يجب أن يبحث عنه الباحث) البحث عما هو غير ممكن. فكل ما يمكن أن يطمع فيه أي ممارس للبحث هو إيجاد كل ما يستطيع أن يجده "على مستوى المعلومة" مع التوقع المستمر بوجود أمر خارج إطلاعه. و هذا لا يعني فقط أن الإدراك "المطلق للمعلومة" غير ممكن بل يعني أيضا أن أي باحث ممارس من المفترض أن يعرف، بالتجربة، أنه لا يستطيع أن يطمع في إدراك "مطلق للمعلومة". و لذلك تحديدا من أعسر مجالات البحث الأكاديمي و أكثرها تعرضا للنقد، بفعل سهولة النقد فيها، هو قسم "النقد البيبليوغرافي" (bibliographic critic)، و الذي من المفترض أن يوضح "حالة البحث" (state of the art) في الموضوع المختار للبحث. و في نفس الاتجاه فإن أصعب الدراسات و البحوث و أعسرها على مستوى الانجاز، و لكن أيضا أهمها بالنسبة للباحثين، هي الدراسات التي تهدف تقديم جمع للبيبلوغرافيا في موضوع محدد من المواضيع. و ليعذرني السيد بن حديد عن الإطالة في هذه النقطة حيث لا أتحمل مقولات بالخفة الاطلاقية التي عبر عنها و ذلك بالتحديد لأني "باحث".
[1] نصر الدين بن حديد "تعقيب على مقال الأستاذ خميس الخياطي" تونسنيوز 31 أوت
Ben Hedid “Entre fantassins de paix et fantasmeurs de guerre » tunisnews 26 Aout
[2] أنظرمثلا: الطاهر الأسود "في التوازن الجديد للقوى: شعبية التنظيمات المسلحة الفلسطينية و اللبنانية" القدس العربي 25 جويلية 2006. أنظر في نقاش نفس الفكرة مقالاتي حول الوضع في العراق على موقعي: http://taherlaswad.blogspot.com
[3] " Comment penser un jour ou même un seconde qu’un «Ec-chourok» ou autre «Es-sarrih» peuvent être d’un quelconque apport à une «culture de la résistance». Si l’une et autre conçoivent le rôle d’un journaliste comme celui qui préparent les «casse-croutes», un zeste de Hezbollah, un brin de chanteurs à deux sous, une rondelle de scandales de tribunaux…. Sans oublier d’arroser le tout par un peu de résistance irakienne, à la manière de «copier-coller»…" مقال بالفرنسية مذكور أعلاه للسيد بن حديد
الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية
1- يستحق السيد نصر الدين بن حديد الاحترام، و هو المواطن الجزائري الذي يقوم بدور صحفي مشرف في تونس (حتى عندما عمل سابقا في ظروف صعبة مثل إدارة القسم الفرنسي في صحيفة "الوحدة"، و هي لسان حال طرف سياسي غير جاد مثل "حزب الوحدة الشعبية") لا يقوم به بعض من يحملون المواطنية التونسية و يدعون الانتساب للقطاع الاعلامي. و هو بالتأكيد لا يمكن أن يحظى من قبلي بالإغفال كما أشار الى ذلك. أقول ذلك ليس فقط تعاطفا و تضامنا مع قضيته و قضية أبنائه التونسيين الحقوقية، و التي يجب أن أذكر، أنه قد أثارها منذ مدة ليست بالقليلة، بالرغم من أن رسالته الأخيرة ربما حظيت باهتمام يفوق ما حظيت به نداءاته في الماضي. أقول ذلك، إذا ليس من موقع التعاطف مع وضعيته الحقوقية فحسب، بل أيضا من منطلق احتواء عدد من مقالاته على ما يستحق الانتباه و الاطلاع و لذلك فإني أتابعها كلما سنحت الفرصة لذلك.
2- اعتبر السيد بن حديد فيما سماه "تعقيبا" (نصر الدين بن حديد "بين من يركضون خلف السراب ومن يدافعون عن «عبّاد الشمس!!!!!" تونسنيوز 12 سبتمبر 2007) على مقال لي (الطاهر الأسود "حول "مشاركة الصباح" في المسابقة الاسرائيلية" تونسنيوز 10 سبتمبر 2007) أني "سهوت" أو "أغفلت" كتاباته فيما يخص موضوع مقالي. و الحقيقة أن ملاحظة السيد بن حديد غير دقيقة للسبب التالي: اطلعت على مقالين من قلمه خاصين بموضوع "مشاركة الصباح"،[1] وما أعرفه منهما أنهما لا تندرجان ضمن موضوع مقالي. فكما وضحت في مقدمته، كان موضوع المقال نقد موجه بالتحديد للكتابات المدافعة عن "مشاركة الصباح" في المسابقة المعنية، أو ما سميته في عنوان مقالي "خطاب السلام الراهن". و حسبما فهمت من قراءة مقالي السيد بن حديد، و كذلك قراءة تعقيبه على مقالي، فإن ما كتبه لا يعبر عن موقف مماثل، أي دفاع عن "مشاركة الصباح". و لهذا لم أتعرض له، مثلما تحديدا لم أتعرض لمقالات كتاب آخرين تعرضوا لموضوع "مشاركة الصباح" من دون الدفاع عن هذه المشاركة. و هكذا سأكون "أغفلت" أو "سهوت" عن ذكر مقالات الكاتب لو كان موضوع مقالي نقد كل ما كتب في موضوع "مشاركة الصباح". و لكن ذلك ليس واقع الحال. و في الواقع لم أعتقد أني سأحتاج لتوضيح مسألة بهذه البساطة عند قراءتي لـ"تعقيب" السيد بن حديد.
عدى ذلك لاحظت أن أسلوب الكاتب في التحليل يميل أحيانا نحو تجريدية بالغة (إطلاق متسرع و بثقة مفرطة لمقولات عامة ذات طابع إطلاقي دون الخوض في تفاصيل محددة، "التعقيب" على ما أقول من دون التعرض بشكل مباشر أو الاستشهاد بما أقول... الخ) يصل من خلالها في بعض اأحيان الى مواقف متضاربة. و هذا الأسلوب ليس بالضرورة أمرا سلبيا و لكني شخصيا لا أرتاح اليه. و أتمنى على السيد بن حديد ألا يعتبر ذلك مسا من شخصه. و أعطي هنا بعض الأمثلة على مثل هذه الملاحظات التجريدية المتضاربة و التي هي في حاجة للتعليق:
3- بعد بعض العناء بدى لي أن موقف (أو مواقف) السيد بن حديد مما يجري هو (هي) كالتالي (و الفقرة التالية يجب اعتبارها تقييما جديا من قبلي لما قرأته و ليس من قبيل المزاح): بشكل عام السيد بن حديد ضد "التطبيع" و لكنه، رغم ذلك، ضد "مقاومة التطبيع" مادامت غير صادرة عن القائمين على الصراع العسكري ضد إسرائيل... و هكذا بالتأكيد فإن"مقاومة التطبيع" في حالة "مشاركة الصباح" أمر "دونكشوتي" خاصة أنها صادرة عن أناس "جلهم" لا يستحق الاحترام... غير أن "مقاومة التطبيع" تبقى أمرا ضروريا إذا تعلق الأمر بنقد "أصحاب التطبيع" و لكن من قبل السيد بن حديد تحديدا (مثلما فعل موجها خطابه للأخيرين مثل السيد الخياطي).
و هكذا لا يبدو أن الكاتب على وعي بازواجية موقفه تجاه قضيتين: أولا، ما هو الموقف الذي سميته في مقالي بـ"الموقف الصحيح تاريخيا و شرعيا من مسألة التطبيع". ثانيا، "هل من المجدي ما يقوم به مقاومي التطبيع؟ بل هل من المجدي مقاومة التطبيع أصلا؟". إذ يتخذ موقفا في المسألة الأولى هو معارضة "التطبيع". بينما لا يرى، بالنسبة للمسألة الثانية، أي جدوى في "مقاومة التطبيع" أصلا إذ تبدو هذه القضية مختلقة أو حتى "لهو صغار". و تبدو هنا المفارقة الأساسية فيما كتبه السيد بن حديد. حيث أنه في النهاية يتخذ موقفا من مسألة لا يرى جدوى في اتخاذ موقف منها أساسا. و في الحقيقة تلك هي النقطة الأساسية التي وجدت أنها تعبر عن "تعقيب" من قبله على مقالي. فعلى ما يبدو يلومني السيد بن حديد على مشاركته، و غيره، في موقف معارضة "التطبيع" ما دام لا توجد جدوى في القيام بذلك.
4- برغم هذا الموقف/هذه المواقف المتضاربة فإن بعضها يستدعي المناقشة. و هناك جملة محددة يمكن أن تعبر عن أحدها، و الذي يمكن تبرير وصف السيد بن حديد لـ"موقفه" بأنه موقف "مختلف" عن مجمل المواقف "المقاومة" و "المطبعة" على السواء، و هي الجملة التالية: "نسأل دعاة التطبيع إن كانوا يشعرون أنّهم شركاء الصهاينة في صياغة القرار؟؟؟ نسأل مقاومي التطبيع إن كانوا يشعرون أنّهم شركاء حزب الله في صناعة الانتصار؟؟؟"... و ذلك في إشارة لعدم جدوى مشاركة الأطراف غير المساهمة في الصراع العسكري المباشر في الصراع السياسي العام بما في ذلك الصراع من أجل أو ضد "التطبيع".
و هنا علي أن أشير الى نقطتين. أولا، من الصحيح أن المعادلة السياسية يتم تقرير حدودها، مثلما أشار السيد بن حديد، من خلال المعادلة العسكرية، و قد كنت تعرضت لدور العامل العسكري هذا في مجمل كتاباتي بما في ذلك كتعليق على "حرب تموز".[2] ثانيا، بالرغم من صحة النقطة الأولى، إلا أن السيد بن حديد يفرط في تقييم دور العامل العسكري عند اعتبار أي موقف سياسي في هذا الاتجاه أو ذاك غير مجدي في حالة ما إذا لم يكن صادرا عن الأطراف المباشرة للعمل العسكري. و هذا يطرح مسألة علاقة "العامل السياسي" بـ"القوة". فموقف السيد بن حديد يتضمن اعتقادا بأن تحديد "موازين القوى" تتم فقط (و ليس "رئيسيا" فحسب) من خلال الصراع العسكري. و هذا الاعتقاد يصطدم بمعطيات كثيرة، لا أعتقد أنه سيكون غافلا عنها، توضح بشكل عام دور ماهو "سياسي" في تحديد موازين القوى، و هو الأمر الثابت و لو كان متفاوتا حسب الظروف و الحالات المحددة. و إذا ما فهمنا أهمية دور العامل السياسي فإننا لا يمكن حينها أن نشترط أهميته و فاعليته بالمشاركة الحصرية للأطراف المساهمة في الصراع العسكري.
و لكي ننتقل مما هو عام الى ما هو خاص (أي في هذه الحالة موضوع "التطبيع" مثلما وقع طرحه في مسألة "مشاركة الصباح") فإننا أمام حالة محددة ترغب تحديدا في التأثير على موازين القوى من خلال عمل سياسي. إن خطة "التطبيع" الاسرائيلية، مثلما وضحت في الجزء الأخير من مقالي، هي خطة واقعية. و هي نموذج على أن طرفا مؤثرا في الصراع العسكري، أي إسرائيل، لا يكتفي باستعمال ماهو عسكري للوصول الى أهدافه بل يضع أهمية خاصة لما هو سياسي. و هذا يعني أنه هذا الطرف، مثل غيره من الأطراف المجربة للأعمال العسكرية، تفهم حدود العامل العسكري في تحقيق الأهداف الاستراتيجية. و في هذه الحالة تفهم ضرورة استعمال العامل السياسي بما في ذلك أهمية ما يطلق عليه عموما بـ"الضغط السياسي" من خلال دفع الولايات المتحدة لاقتراح التطبيع على مجمل الأقطار العربية بشكل عام، و هو ما حدث كمثال فحسب في الظروف التي حفت بـ"خطة الاربع نقاط" التي أطلقها شامير قبيل مؤتمر مدريد (و هو الأمر الذي تحدثت عنه أيضا في مقالي). و من الواضح أن ذلك "الضغط السياسي" حقق أهدافه في حالات محددة مع تضافر عوامل أخرى، و هو واقع االحال بشكل واضح بالنسبة لاتفاقية كامب دايفيد مع مصر. و ذلك لا يتوافق مع اطمئنان السيد بن حديد و الذي يبدو أنه يقلل من أهمية السياسة "التطبيعية" الاسرائيلية مادامت صادرة عن رؤية "منفصمة".
5- يبقى أن نتساءل هنا: هل أن تفعيل هذه الخطة السياسية الاسرائيلية (خطة "التطبيع") يستدعي الاهتمام فقط إذا ما كان المشارك فيه الأطراف الاسرائيليون وحدهم؟ هل يمكن اعتبار مشاركة أطراف عربية (بما في ذلك تونسية) في أحد جزيئات هذه الخطة (مسابقة رسم في مشروع "المتوسط 2020") مسألة تستدعي التجاهل؟ و لكن ألا تكمن خطة "التطبيع" بالأساس في مشاركة الطرف العربي... مجرد المشاركة؟
في الحقيقة لا يبدو أن السيد بن حديد مهتم أصلا بهذه الأسئلة لأنه يعتبر أن المشاركة العربية في هذه الحالة لا تستدعي الاهتمام لأنها ستفشل من دون حتى قيام "مقاومي التطبيع" بمقاومتها. أو هذا ما فهمته مثلا من قوله " لسائل ان يسأل عن تأثير «مسابقة السلام هذه» في العمق العربي، وقد صارت قناة «المنار» أو قناة «الأقصى» تجلب الواحدة منهما من أطفالنا في ساعة واحدة ما يحلم به أصحاب هذه المسابقة دهورًا... " و لكن، على أن أقول، أن هذا تحديدا أسلوب دونكيشوتي (طوباوي) في طرح أي قضية سياسية: هل التقييم المسبق لفشل أي مبادرة "تطبيعية" يستدعي تجاهلها؟ في الحقيقة يطرح ذلك تحديدا مجهود الضغط السياسي في الطرف الآخر أي الطرف "المقاوم" بشكل عام، عسكريا و سياسيا.
فالعامل السياسي بالنسبة للطرف "المقاوم" هو بالتأكيد أكثر أهمية منه لدى الطرف الاسرائيلي و شركائه. و ذلك لسبب أساسي: مقابل ضعف الإمكان العسكري لدى هذا الطرف "المقاوم" تاريخيا، أطرافا نظامية و تنظيمات شعبية على السواء، كان العامل الأساسي الذي جعل من العامل العسكري "المقاوم" تدريجيا (خاصة بالنسبة لما أسميه التنظيمات الشعبية) عاملا فعالا و ناجعا هو تحديدا العامل السياسي، أي عدالة القضية. و تلك باتت معادلة كلاسيكية الآن مثلما شاهدنا في المنازلات العسكرية الرئيسية بين قوى اقتصادية ضعيفة تدافع عن وجودها و أخرى قوية تبحث عن الاستيلاء عن مجالات جديدة في القرن الفائت و هذا القرن. و من البديهي أن تفعيل إسرائيل لشركائها العرب يستدعي من الأطراف "المقاومة" تفعيل شركائها على المستوى العربي، و هو الأمر الذي تقوم به حتى إن لم تضع جردا لذلك في بياناتها السياسية بفعل الخط الأحمر الذي تواجهه في علاقة بالحفاظ على علاقات متوازنة مع النظام العربي الرسمي. و هكذا فإن موقف الاحتدجاج على "مشاركة الصباح" من موقع "مقاومة التطبيع" (مثلما يفعل السيد بن حديد نفسه في مقالاته) موقف مبدئي. و هو موقف لا يجب أن يقع تقييم صحته أو ضرورته من زاوية الهوية الشخصية للمشاركين فيه. و لكن من هذه الزاوية تحديدا يمكن ملاحظة موقف آخر إطلاقي و تعميمي يؤكد الاضطراب العام في مواقف السيد بن حديد في هذا الموضوع.
6- و يحيلنا ذلك على مسألة مدى جدية وجود شركاء عرب للقائمين على الصراع العسكري ضد إسرائيل بما في ذلك في المجال التونسي. حيث من الواضح أن السيد بن حديد، و الذي يبقى ضيفا جزائريا علينا، قد تعدى ليس آداب الضياقة فحسب بل أيضا آداب الجدال الموضوعي عندما اعتبر، و ببساطة، أن " هؤلاء «الذين نصّبوا أنفسهم أوصياء على المقاومة»، وأضيف بل أقول وأتحمّل مسؤوليّة قولي أمام القانون والتاريخ والضمير أنّ جلّهم لا يعدو أن يكون سوى ضبعًا أراد التمرّغ في تراب الأسود، ليفهمنا أنّه «شريك في صنع هذه الانتصارات» ومؤتمن عليها!!!... إنّ مقاومة التطبيع لا يمكن أن تتأتّى من خلال الانتظار، بل عبر الفعل والتأسيس، وأسأل الضبع فيهم ومن هو أقلّ من الضبع، عن كتاباته ومواقفه وأفعاله و«صولاته وجولاته»، لنجد مجرّد بيانات ممجوجة، أصبحنا نحفظها عن ظهر قلب..." (مقال بتاريخ 31 أوت) في نفس المقال في موقع آخر في إشارة لـ "مقاومي التطبيع" يرى الكاتب بأن ثقافة المقاومة لديهم تعني "النوم ومراوحة الخمّارات، من باب حراسة «عبّاد الشمس»..."
في مقال آخر يقول الكاتب " إنّ من يدّعون مقاومة التطبيع، وأخصّ بالذكر من وقفوا ضدّ ما أوردته يوميّة الصباح، ودون النزول إلى قراءة النوايا واستقراء الضمائر، جاؤوا كمثل من كّنا نراهم في الأرياف من أطفال، لا همّ لهم سوى «طرد الطيور عن عبّاد الشمس»، فكان هؤلاء الصبية يتراوحون ـ بحكم سنّهم ومحدوديّة فهمهم ـ بين اللعب حينًا والمشاجرة في أغلب الأحيان، ليفيقوا بين الفينة والأخرى عند هجوم الطيور ويكون الصراخ [الذي لا يملكون غيره] أو النقر على القطع المعدنيّة، لتكون بعض الطيور قد أصابت رزقها، ليعودوا إلى اللهو والمشاجرة...ألم نورد هذه الصورة أو هذه الإحالة استنقاصًا أو تصغيرًا، بل حين لم نجد أفضل منّها، دون أن ننسى «هذه الانتقائيّة» التي قد تكون بفعل «النسيان»، حين سكن وسكت لفيف من هؤلاء وأعرضوا بوجوههم حين تمّت دعوة شارون... التاريخ لا ينسى ولا يظلم ولا يرحم... نسوق هذه الحقائق لصحيفة «الشروق» على سبيل المثال و«المركز الوطني للتوثيق» حكم في أمرنا جميعًا... إنّ الغباء وحده أو هو قصر النظر أو ربّما سوء النيّة [ولكلّ أن يختار موقعه وموقفه] ما جعل الكثيرين يتنادون من أجل «هذه الوليمة» ويبحثون من خلالها عن «طهرانيّة» لا تقلّ عمّا عليه حال «المطبّعين»، لنضع المسألة ضمن «أزمة العقل العربي» وليس من خلال التخوين والطعن في الذمم..." (مقال 12 سبتمبر)
و إذا تجاوزنا بعض الجمل الخشبية (من نوع "تحمل (الكاتب) المسؤولية أمام القانون و التاريخ و الضمير" في مقولاته هذه) فإنه من التجني و التعميم الناتج، في حالة استباق حسن النوايا، عن جهل بتفاصيل و هويات بعض الأطراف السياسية التونسية، إطلاق أحكام بهذه الاطلاقية شملت أطرافا سياسية تونسية دفعت و لازالت الكثير مقابل تمسكها بموقفها السياسية المستقلة بما في ذلك موقف "مقاومة التطبيع". و إذا كان من الصحيح أن بعض المسارعين للتنديد بـ"مشاركة الصباح" ينطلقون من حسابات ضيقة و على الأرجح انتهازية (مثلما هو الحال مع بعض صحفيي الشروق و الصريح مثلا الذين أشار اليهم السيد بن حديد أيضا في مقاله بالفرنسية[3]) فإن ذلك لا يستدعي إطلاق التعميم بهذه المنطلقات ("جلهم") على بقية "مقاومي التطبيع". و هنا علي أن أذكر السيد بن حديد أن من أطلق الحملة ضد "مشاركة الصباح" ليس صحفيو الشروق و الصريح الذين أشار اليهم بل أشخاص مثل السيد البشير الصيد عميد المحامين الحالي و الذي سبق له التنديد بالتطبيع في ظروف أعسر من الظروف الراهنة بما في ذلك مناسبة "زيارة شارون"، و موقفه من "التطبيع" هو جزء من موقف عام خاصيته الأساسية النزاهة السياسية. و هو ليس من بين الذين يتخفون خلف "قضية التطبيع" لبناء رأسمالهم السياسي مثلما تشهد بذلك استقلاليته و التي حملته للمرة الثانية على رأس عمادة المحامين في انتخابات استثنائية الصائفة الماضية. هذا عدى أن موقفا لشخص مثل البشير الصيد لا يمثله شخصيا بل يعني تيارا مستقلا داخل قطاع المحاماة كما يعني تيارا سياسيا قوميا له جذوره في تونس و تكبد مقابل ذلك ضريبة الاعتقال و الملاحقة و حتى الموت بما في ذلك في جنوب لبنان ضد القوات الاسرائيلية. بل أن من بين المبادرين، مع السيد البشير الصيد، لإطلاق هذه الحملة من تعرض للاعتقال السياسي المطول في السابق تحديدا في علاقة بقضية "التطبيع". كما أن من بين الأطراف المنددة بالتطبيع من تحظى بعلاقات خاصة مع التنظيمات الممارسة تحديدا للمقاومة المسلحة و ساهمت في ذلك في السابق من خلال عدد من المقاتلين الذين تعرض البعض منهم للموت على يد القوات الاسرائيلية في جنوب لبنان. و على السيد بن حديد الاستفسار عن تفاصيل ذلك ممن يعرفون الساحة التونسية حتى يختار في المستقبل كلماته بالشكل المناسب أو بشكل مختلف على كل حال عن مصطلحات من نوع "ضباع" و "صبية" و "أغبياء" إزاء أناس ضحوا بحياتهم و حريتهم، و هو الأعرف بمعاني خطاب مماثل في الوقت الذي يتعرض اليه لمحاصرة ظالمة تستهتدف عائلته. ففي هذه الحالة هل سيكون من قبيل الإطلاقية أن نصف السيد بن حديد بالذات بحراسة "عباد الشمس" و هو الذي لم يوضح لنا دواعي كتابته و خاصة دفاعه المتكرر على "حزب الله" و بقية أطراف المقاومة المسلحة إزاء منتقديها و هو المستقر في تونس لا يملك إلا قلمه... هل يستحق يا ترى، بفعل دفاعه المستميت هذا، أن نطلق عليه أوصافا مثل "الصبي" و الغبي" و "الضبع" خاصة ما إذا كان هذا ما يراه (السيد بن حديد) صالحا لوصف من لم يكتف برفع قلمه بل امتد لرفع السلاح مع أطراف المقاومة على أرض المعركة المسلحة، و ليس مكان آخر؟
و مثلما أشرت في مقدمة مقالي السابق فإن ذلك لا يعني أن "مقاومي التطبيع" هم "على حق لا يخالطه باطل" بما في ذلك الذين يحظون بالنزاهة السياسية. فموقفهم، "الصحيح تاريخيا و شرعيا" لا ينفي وجود خطاب خشبي و ربما أساليب غير ناجعة و حتى قراءة غير نسبية و موضوعية للوضع الراهن و هو الأمر الذي كتبت فيه في السابق في قضايا عامة خاصة بالوضع العربي الراهن و حتى الوضع التونسي بشكل خاص. غير أن ما نحن بصدده هنا هي أولا و قبل كل شيء تقييم مسألة "مشاركة الصباح". و بالنسبة لهذه النقطة كان الموقف المتضارب للسيد بن حديد، شتم جميع الأطراف و محاولة اتخاذ موقف "مختلف" لا يحدد في النهاية موقفه المبدئي من أصل الجدال، موقفا لا يعبر بدوره عن أية "عقلانية"، و يطرح التساؤل عما إذا كان موقف (مواقفه) هذا (هذه) تعبير عن توازنات في محيط علاقاته الشخصية و هو الذي يحظى بعلاقات صداقة مميزة مع أطراف مدافعة عن "مشاركة الصباح" مثل السيدين الهاني و الخياطي. أرجو حقا أن يكون ذلك مجرد تخمين مجانب للصواب و إلا فإنه ليس لدي أي تفسير لمثل هذه المواقف المتضاربة (و لما الحاجة لذلك أصلا؟). لكن بمعزل عن كل ذلك أرجو أن يكتب السيد بن حديد "تعقيبا" بالفعل عندما يعنون نصه تحت فئة "التعقيب".
بعض الملاحظات العامة: post-scriptum
- لاحظ السيد بن حديد في تعليقه على الفقرة المعنونة "ملاحظة أخيرة pos-scriptum" الخاصة بكلام وجهته للسيد رضا الكافي أنها مسقطة ("لا علاقة بين القضيّة التي أعادها السيّد الطاهر الأسود إلى السطح وحاول ربطها بموضوع البحث") و أنها خوض في "مجاهل الأخلاق" و أنها بالتالي "في قطيعة مع متن النص". و الحقيقة علي هنا أن أوضح مسألتين: أولا معنى "post-scriptum"، و ثانيا ما إذا كان ما تعرضت له "لا علاقة له" بموضوع مقالي و أنه مجرد خوض في "مجاهل الأخلاق". بالنسبة للنقطة الأولي فإن هذه العبارة اللاتينية مستعملة بشكل عام في نفس اتجاه عبارة "addendum" و تعني واحدا من أمرين: إما إضافة فقرة/نص/فصل على نص سابق كرد على ما يمكن أثاره هذا النص (بعد نشره) من تعليقات أشارت الى نقائص او انتقادات. و إما الرغبة في إضافة فقرة/نص/فصل في مسألة لا تبدو مهمة في التخطيط العام للنص الأصلي و لكن يرى الكاتب بعض الأهمية لإضافتها. و قد استعملت فقرة "post-scriptum" كـ"ملاحظة أخيرة" في المعنى الثاني سواءا في نص مقالي أو في نص مقالي هذا أيضا ("تعليق على بعض الملاحظات العامة"). و يرجع قيامي بذلك في نص مقالي الأول لوعيي الكامل بأنها ملاحظة في سياق مختلف عن محتوى المقال، و هو بالتحديد سياق شخصي، ليس بمعنى "شخصنة النقد" و لكن بمعنى أن كلام النقد فيها ليس موجها لبقية من شملهم نقدي في نص المقال. غير أنه ليس من المفترض في فقرة "post-scriptum" أن تكون "في قطيعة مع متن النص". و لهذا، و هنا آتي للنقطة الثانية، فهي ليست "في قطيعة مع متن النص" حتى أني شددت على توضيح هذه النقطة تحديدا حتى لا يبدو الأمر مجرد "تصفية حسابات سابقة". و يلزم هنا ببساطة أن أكرر ما قلته و بالتالي كيف هناك رابط بين النص و "الملاحظة الأخيرة": " لكن ما دفعني لتذكر هذه الحادثة أن السيد الكافي لم يتعلم أي شيئ من المؤلف المذكور (الذي من المفترض أنه "قرأه") مثلما يشير الى ذلك الدور الطليعي الذي بصدد لعبه في مسألة "مشاركة الصباح". حيث بين لاسكيير بالاعتماد على رزمة هائلة من الوثائق الأرشيفية أن السياسة الاسرائيلية كانت تدفع دائما باتجاه "التطبيع" المجاني مع الأقطار المغاربية. في المقابل لم يقبل أي من القادة المغاربيين بما في ذلك أولائك الذين كانوا يحرصون على إقامة اتصالات سرية مع الدولة العبرية (و هذا يشمل الرئيس الراحل بورقيبة) بأي مبادرة تمنح بشكل فعلي إسرائيل مطلبها "التطبيعي" بمعزل عن "الاجماع العربي" و عن إيجاد حل نهائي للقضية الفلسطينية. و هو الأمر الذي يعمق من الأسى الذي شعرت به منذ سنتين عندما قرأت مقال السيد الكافي الذي "ترجم" مقالي للفرنسية." هل التذكير بـ "مجاهل الأخلاق" في هذه الحالة (سرقة مقال موضوعه "التطبيع" لا يبدو أن السيد الكافي فهم مغزاه وهو أمر طبيعي في حالة أنه سرقه) مجاني و يستهدف شخص السيد الكافي بمعزل عن قضية "التطبيع"؟ أرجو من السيد بن حديد التحلي بجدية أكبر في هذه المسألة، خاصة أنه ذاته استعمل عبارات لا يمكن إلا أن تعبر به تحديدا، و بشكل غير مبرر البتة بل بشكل متجني، نحو "مجاهل الأخلاق" عندما وصف "جل" من يقاومون "التطبيع" بأنهم "ضباع" و "أغبياء" و "صبية" و "مراوحي الخمارات" (في حين أن "جلهم" هم على صفات النزاهة و التضحية التي أشرت اليها أعلاه). و طبعا سيكون من المغالطة ألا نعتبر ذلك من قبيل التقييم الأخلاقوي بمجرد أن يقول الكاتب بأنه لا يستعمل مثل هذه الاحالات "استنقاصا أو تصغيرا".
- بخلاف ما أشار اليه السيد بن حديد في بداية مقاله، فإن صفة "الباحث" ليس من المفترض أن تستهدف "البحث عن المطلق" بما في ذلك "المطلق على مستوى المعلومة". لأن ذلك ببساطة، كما يمكن لكل ممارس للبحث أن يعرف، أمر غير ممكن. و ليس من العبيثة فحسب بل أيضا من غير الفعال (و هو، أي ما هو "فعال"، في المقابل هو ما يجب أن يبحث عنه الباحث) البحث عما هو غير ممكن. فكل ما يمكن أن يطمع فيه أي ممارس للبحث هو إيجاد كل ما يستطيع أن يجده "على مستوى المعلومة" مع التوقع المستمر بوجود أمر خارج إطلاعه. و هذا لا يعني فقط أن الإدراك "المطلق للمعلومة" غير ممكن بل يعني أيضا أن أي باحث ممارس من المفترض أن يعرف، بالتجربة، أنه لا يستطيع أن يطمع في إدراك "مطلق للمعلومة". و لذلك تحديدا من أعسر مجالات البحث الأكاديمي و أكثرها تعرضا للنقد، بفعل سهولة النقد فيها، هو قسم "النقد البيبليوغرافي" (bibliographic critic)، و الذي من المفترض أن يوضح "حالة البحث" (state of the art) في الموضوع المختار للبحث. و في نفس الاتجاه فإن أصعب الدراسات و البحوث و أعسرها على مستوى الانجاز، و لكن أيضا أهمها بالنسبة للباحثين، هي الدراسات التي تهدف تقديم جمع للبيبلوغرافيا في موضوع محدد من المواضيع. و ليعذرني السيد بن حديد عن الإطالة في هذه النقطة حيث لا أتحمل مقولات بالخفة الاطلاقية التي عبر عنها و ذلك بالتحديد لأني "باحث".
[1] نصر الدين بن حديد "تعقيب على مقال الأستاذ خميس الخياطي" تونسنيوز 31 أوت
Ben Hedid “Entre fantassins de paix et fantasmeurs de guerre » tunisnews 26 Aout
[2] أنظرمثلا: الطاهر الأسود "في التوازن الجديد للقوى: شعبية التنظيمات المسلحة الفلسطينية و اللبنانية" القدس العربي 25 جويلية 2006. أنظر في نقاش نفس الفكرة مقالاتي حول الوضع في العراق على موقعي: http://taherlaswad.blogspot.com
[3] " Comment penser un jour ou même un seconde qu’un «Ec-chourok» ou autre «Es-sarrih» peuvent être d’un quelconque apport à une «culture de la résistance». Si l’une et autre conçoivent le rôle d’un journaliste comme celui qui préparent les «casse-croutes», un zeste de Hezbollah, un brin de chanteurs à deux sous, une rondelle de scandales de tribunaux…. Sans oublier d’arroser le tout par un peu de résistance irakienne, à la manière de «copier-coller»…" مقال بالفرنسية مذكور أعلاه للسيد بن حديد
تعليق على رد السيد نصر الدين بن حديد و على "تعقيب" السيد زياد الهاني
الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية
قام كل من السيدين نصر الدين بن حديد و زياد الهاني، في عدد تونسنيوز 17 سبتمبر، الأول برد على تعليق سابق كنت قمت به على "تعقيب" له على مقال لي (أنظر بالنسبة لمقالي المعني بالـ"تعقيب" عدد تونسنيوز 10 سبتمبر و بالنسبة لتعليقي على "تعقيب" السيد بن حديد عدد تونسيوز 15 سبتمبر)، و الثاني، أي السيد زياد الهاني، بماسماه "تعقيبا" على التعليق الذي قمت به و المذكور أعلاه. و أود هنا إبداء بعض الملاحظات على كليهما.
أولا تعليق على رد السيد بن حديد
أرغب في البداية تثمين موقف السيد بن حديد في اعتباره ما يجري من نقاش بيننا بأنه "ليس مناظرة" و إنما مناسبة لـ"تعميق الحوار". و هي هذا الاطار يجب أن أؤكد أن ملاحظاتي النقدية حول ما كتب بما في ذلك ملاحظة "التضارب في نصه" لا تستهدف شخصه و لا تحليل "توازنه النفسي" كما يمكن يعتقد، حيث أن ذلك يتجاوز أهدافي و امكانياتي. و في نفس الاتجاه فإني أعتز بهذا النقاش و ليس استمراري فيه إلا من باب إيماني بجدواه و جودة ما يكتبه السيد بن حديد. و بالرغم أنه لم يرد بشكل مباشر إلا على بعض النقاط التي أثرتها في تعليقي على "تعقيبه" (و سآتي عليها تباعا) إلا أني بتأثير رغبتي في دفع النقاش بروح إيجابية أواصل التعليق على بقية تساؤلاته (بعضها مكرر لم يأخذ بعين الاعتبار ما سبق أن كتبته) و التي أرى، بمعزل عن القضايا السابقة التي أثرتها، أنها تبقى في حاجة للنقاش و المجادلة. و على هذا الأساس على أن ألاحظ ما يلي:
- يشير السيد بن حديد في سياق رد عام على ما قلته (و ذلك في آخر نصه) ما يلي: " خلط السيّد الطاهر الأسود عند مطالعة مقالي، بين موقفي من الفعل من ناحية وقراءة قدرة الفاعل على فعله من ناحية، فليس لي كما بيّنت أن أنفي عن أيّ كان مهما كان فعل أيّ فعل، حين غابت عنّي ـ لحسن الحظّ ـ أيّ قدرة زجريّة أو طاقة منع من أيّ صنف كان، ومن ثمّة جاء قولي ناقدًا ومتسائلا بخصوص أهليّة الفاعل وقدرته، ضمن ما نراه من حقّ على بعضنا، وليس نفي حقّه في الفعل أصلا. [الفرق بيّن والبون شاسع، سواء على مستوى المرجعيّة أو الفعل والممارسة]..." و ذلك في إطار تعليقه على الفقرة التالية من نصي: " بعد بعض العناء بدى لي أن موقف (أو مواقف) السيد بن حديد مما يجري هو (هي) كالتالي (و الفقرة التالية يجب اعتبارها تقييما جديا من قبلي لما قرأته و ليس من قبيل المزاح): بشكل عام السيد بن حديد ضد "التطبيع" و لكنه، رغم ذلك، ضد "مقاومة التطبيع" مادامت غير صادرة عن القائمين على الصراع العسكري ضد إسرائيل... و هكذا بالتأكيد فإن"مقاومة التطبيع" في حالة "مشاركة الصباح" أمر "دونكشوتي" خاصة أنها صادرة عن أناس "جلهم" لا يستحق الاحترام... غير أن "مقاومة التطبيع" تبقى أمرا ضروريا إذا تعلق الأمر بنقد "أصحاب التطبيع" و لكن من قبل السيد بن حديد تحديدا (مثلما فعل موجها خطابه للأخيرين مثل السيد الخياطي)"، و قد قدمت على مدى نصي ما يشير، و على لسان السيد بن حديد، الى هذا التضارب. إن الخلط يكمن تحديدا في نص السيد بن حديد و هو معنى التضارب أساسا. حيث أشرت كيف يقوم الكاتب في نفس الوقت بـ"مقاومة التطبيع" و من ثمة قبوله لهكذا ممارسة (من خلال ممارسته لها في كتابته) و من ثمة، طبعا، إقرار"حق" القيام بها، و بنفي جدوى هذا الفعل تحديدا بما أن بالنسبة له "مقاومة التطبيع" هي مجرد تعبير لغوي في حالة ما إذا لا يقوم به فاعل العمل العسكري، و هو الأمر الذي عاود التأكيد عليه في رده الأخير و هذا ليس من اختلاقي (أنظر النقطة الثالثة هنا). هذا طبعا بمعزل عن ملاحظاته عن "مقاومي التطبيع" في الحالة التونسية بشكل محدد و تقييمه لـ"أهليتهم" في تواصل لنهجه السابق في تعميم صفات محددة على مجموعة محددة (صحفيي الشروق و الصريح) على أطراف تونسية مبادرة و قدمت تضحيات جدية في هذا المضمار (و هو الأمر الذي سأعود اليه لاحقا).
- يقول السيد بن حديد في نقطة أخرى تعليقا على إحدى الجمل الواردة في نص تعليق (15 سبتمبر): " يكتب السيّد الطاهر الأسود: «هل من المجدي ما يقوم به مقاومي التطبيع؟ بل هل من المجدي مقاومة التطبيع أصلا؟.»، لأعرب عن رفضي المطلق لوضع المعادلة أو انزلاها من خلال القبول بالتطبيع أو التسليم بالمقاومة [مهما كانت]، لتكون المعادلة متجاوزة لهذا البعد الشكسبيري [كيان من عدمه]، عندما يكون دور المثقّف النقد الذي يبغي البناء والرفض الذي يعني التجاوز، لا أن ينخرط في منطق القطيع أو أن يكون في قطيعة مع الجماعة" ثم "مقاومة التطبيع تستدعي منّا الغلظة في القول والشدّة في النقد، والفرق بين من يسعى إلى الإحباط وبين من يسعى إلى تجاوز الأخطاء والعمل على المراكمة أمر لا يحتاج إلى تبيان " السؤال هنا هل من الدقيق أن يستنتج السيد بن حديد من التساؤل الذي طرحتها الثنائية التي توصل اليها؟ علي قبلا أن أضع التساؤل المقتطف من نصي في إطار الفقرة الأصلية الواردة فيه و هي في تواصل مع الفقرة أعلاه حول التضارب في مواقف السيد بن حديد: "و هكذا لا يبدو أن الكاتب على وعي بازواجية موقفه تجاه قضيتين: أولا، ما هو الموقف الذي سميته في مقالي بـ"الموقف الصحيح تاريخيا و شرعيا من مسألة التطبيع". ثانيا، "هل من المجدي ما يقوم به مقاومي التطبيع؟ بل هل من المجدي مقاومة التطبيع أصلا؟". إذ يتخذ موقفا في المسألة الأولى هو معارضة "التطبيع". بينما لا يرى، بالنسبة للمسألة الثانية، أي جدوى في "مقاومة التطبيع" أصلا إذ تبدو هذه القضية مختلقة أو حتى "لهو صغار". و تبدو هنا المفارقة الأساسية فيما كتبه السيد بن حديد. حيث أنه في النهاية يتخذ موقفا من مسألة لا يرى جدوى في اتخاذ موقف منها أساسا". حيث يأتي هذا التساؤل الثاني في إطار مسألة أخرى لا تتعلق بماهية الموقف من التطبيع ("مع أم لا")، إذ أني تعرضت الى ذلك في السؤال الأول. و مثلما أشرت في النقطة الأولى أعلاه فإني على قناعة أن السيد بن حديد يقف ضد "التطبيع" و هو ما عاود التأكيد عليه بوصفه "موقفه" في رده الأخير من خلال الكلمات التالية: " أودّ بدءا التعبير أو بالأحرى التذكير بموقفي من مسألة التطبيع، حيث أعتبر أنّ ما قام على باطل يبقى ويضلّ باطلا، ومن ثمّة تأتي الصهيونيّة فكرًا وممارسة ومشروعًا ومنجزًا وصمة عار في وجه الإنسانيّة، وليس من باب حلّ سوى أن يحمل الصهاينة أمواتهم ويرحلوا عن هذه الأرض التي رفضت جذورهم وثبت بالفعل والممارسة والتّاريخ عجزهم عن الوقوف عليها كمثل ما يقف ابن هذه الأرض. [هذه المواقف سبق أنّ عبّرت عنها من خلال كتابات عديدة سابقة لهذا الحوار]. من ثمّة يتنزّل فعل المقاومة ضمن ما هو مشروع ومطلوب سوى من قبل أهل الأرض أو من يرون لأنفسهم ـ ضمن هذه الصيغة أو تلك ـ علاقة بهذه الأرض " لكنه يقوم هنا تحديدا، أي مقابلة "المشروع الصهيوني" برمته، عدى عن ذلك "التطبيع"، كـ"باطل" مقابل "تنزل فعل المقاومة ضمن ما هو مشروع"، بما لا يرغب في القيام به لاحقا أي: " رفضي المطلق لوضع المعادلة أو انزلاها من خلال القبول بالتطبيع أو التسليم بالمقاومة"، و هذا مجرد مثال آخر مكرر على التضارب في أقوال الكاتب. المشكل هنا أن السيد بن حديد، بالرغم من تسليمه المبدئي (بمعنى في بداية مقاله) بـ"المقاومة" في مقابل "التطبيع" و "المشروع الصهيوني"، فإنه يرفض لاحقا هذه "المعادلة" لأنه يعتبر الانحياز للمقاومة (مثلما يفعل هو نفسه هنا و في غير ذلك من كتاباته حسبما أشار) يعتبر ذلك بالضرورة سبيلا للانخراط في "منطق القطيع" و من ثمة فانحياز موقفه لـ"المقاومة" لا ينسجم حسب رأيه مع "دور المثقّف النقد الذي يبغي البناء والرفض الذي يعني التجاوز"... فهلا بين السيد بن حديد، على سبيل االمثال، و بما أن رده و "تعقيبه" توجها لي، كيف كان ما كتبته، مع الانحياز مبدئيا مع موقف "المقاومة"، مندرجا ضمن "منطق القطيع"؟ عندما يرفض السيد بن حديد التسليم بكوجود واحد من موقفين (مع أنه اختار في بداية مقاله أحدهما) بدعوى أن ذلك يعني الانخراط في "منطق القطيع" فإنه يشير الى أنه لا يستطيع أن يفرق بين مستويين: أولا التعبير عما أسميه "الموقف الصحيح شرغيا و تاريخيا" (و هو موقف أشترك فيه معه أي موقف مضاد للـ"التطبيع")، ثانيا، أسلوب و طريقة و شكل و صياغة التعبير عن ذلك الموقف التي سماها طريقة "منطق القطيع" و أسميها "اللغة الخشبية". حيث أنه ليس من الضروري و الحتمي، مثلما يؤكد السيد بن حديد، أن "مقاومة التطبيع تستدعي منّا الغلظة في القول والشدّة في النقد"، بل ذلك أحد أساليبها. أسلوبها الآخر الممكن و الذي أحبذه شخصيا هو عمق القول (بدل "غلظته") و دقة النقد (بدل "شدته").
- يقول السيد بن حديد في سياق تعليقه على لفظ "مقاومة التطبيع" ما يلي: "المساواة بين القول بالفعل والإدّعاء بتنفيذه، وصولا إلى اعتبار الإعلان أو التعبير «اللّغوي» دليل فعل وبديلا عن الانجاز المادّي والحقيقي"، و يضيف لاحقا و في نفس الاتجاه في إطار مقارنة "المقاومة" ذاتها (أي الطرف الممارس للعمل المسلح و الصراع المباشر مع الطرف الاسرائيلي) مع "مقاومة التطبيع" ما يلي: "أيضًا، يكون السؤال «المعرفي» [حصرًا] عن قدرة طرف أوّل [المقاومة الفاعلة] وطرف ثان [دعاة مقاومة التطبيق] الدخول في مشروع جامع [أو اعتبارهما كذلك]، سواء على مستوى الخطاب أو الممارسة، وكلّ منها يحمل بين طيّات فكره وتفكيره مفاعيل تناقض ما يحمل الآخر، حين تأتي المقاومة ـ في أبعادها العامّة دون النزول إلى العمق ـ فعل مبادرة ومراكمة وقدرة على القراءة وطاقة انجاز، في حين أنّ «مقاومة التطبيع» [ونعني موضوع الحال] تأتي فعل انتظار وترقّب وحراسة وحرص على الدّفاع... من ثمّة لا يمكن أن ننزل ـ كما يرى الأستاذ الطاهر الأسود ـ هذه المعادلة ضمن ضرورة اختيار هذا الصفّ أو ذاك أو علينا أن ننظر إلى المعادلة على أنّها «صفّين» أو «الجمل»، في ثنائيّة بين طرفين أو تثليث حين نضيف «الخوارج»". و تبدو هذه الملاحظات بالنسبة لي، مرة أخرى، إجابات عمومية، على مسألة تحتاج دقة أكبر، و هي مسألة العلاقة بين "المقاومة العسكرية" و تلك "السياسية" و هي المسألة التي تعرضت اليها بتدقيق أكبر في تعليقي السابق. و لن أكرر هنا تفاصيل ما قلته لأن ذلك بدأ يقارب الممارسة الروتينية (على المهتم بهذه التفاصيل الرجوع لتعليق 15 سبتمبر)، فقط سأكرر خلاصة ما توصلت اليه و هو (أولا) أن من يمارس "المقاومة العسكرية" ذاته يمارس بل يعرف الأهمية الكبرى للـ"مقاومة السياسية" في مشروعه بشكل عام بما في ذلك ضمن مشروع "مقاومته العسكرية" بالتحديد و بذلك المعنى فهي أيضا "فعل" و ليست مجرد تمرين لغوي، و (ثانيا) أن "لمقاومة السياسية" (و ليست "مقاومة التطبيع" إلا أحد أوجهها) تفتح الباب للأطراف العربية غير الممارسة للفعل المسلح لإسناد الفعل السياسي للطرف الذي يمارس الفعل المسلح... و لا يحصل ذلك بما في ذلك في علاقة بالأطراف التونسية الجادة في "مقاومة التطبيع" (و لا يعني ذلك صحفيي "الشروق" و "الصريح" المشار اليهم من قبل السيد بن حديد) بشكل متطوع من قبل هذه القوى فحسب (بدافع "الغيرة القومية" أو "الواجب الاسلامي" أو أي مشاعر مماثلة) بل أيضا بطلب و إلحاح من القوى الممارسة للفعل المسلح (و هذا يشمل بالمناسبة تنظيمات مثل "حزب الله") لما ترى في ذلك من إسناد سياسي لفعلها السياسي و العسكري على السواء. و على الراغب في التأكد ككا هو معلن من ذلك مراجعة مقررات و توصيات "المؤتمر القومي العربي" و "المؤتمر القومي الاسلامي" و التي تشارك في هيئاتها القيادية، علي التذكير بذلك، الأطراف التي تمارس الفعل المسلح "الحقيقي" (من "حزب الله" الى "حماس" الي غيرهما). إن كل ذلك لا يعني بشكل من الأشكال "التساوي" بين مساهمة مختلف هذه الأطراف (الممارسة و غير الممارسة للعمل المسلح) أو بين مختلف الأفعال (الفعل السياسي و الآخر العسكري). فمثلما أنه من الصائب أن الوضع العربي لا يحتمل تقسيما حادا و حاسما بين "فسطاطين" كل من فيهما مماثل و مطابق للآخر فإنه لا يمكن أن نعتبر غياب "التساوي" تعبيرا عن قطيعة بين مختلف هذه المستويات، و من ثمة مدعاة لاعتبار ما هو فعل سياسي بأنه مجرد "تعبير لغوي". ليس في ذلك ظلم فقط للأطراف العربية الممارسة للعمل السياسي و البعيدة ظاهريا عن العمل المسلح (حيث هي ليست كذلك بشكل مطلق بدليل قتلاها على الساحات العسكرية في جنوب لبنان) بل ذلك أيضا ظلم للأطراف الممارسة للعمل المسلح (و التي تمارس بدورها العمل السياسي بما فيه "مقاومة التطبيع"). مرة أخرى هنا أرجو من السيد بن حديد الاستفسار أكثر عن القوى التونسية المعنية بهذا الصراع و التي يشير الى أنها مجرد "جليس" و ليست "شريكا" فيه.
- يقول السيد بن حديد في استفسار موجه لي: "لأسأل السيّد الطاهر الأسود وأسأل من أخذتهم غضبة في الأمر عن معنى التطبيع لنعرف بالتالي كيف نقاومه". أليس من المثير للدهشة أن يصدر هذا التساؤل بالرغم أنني فصلت في قسم خاص فيما سبق (مقال 10 سبتمبر) بالتحديد، و بالاستناد على مراجع عديدة، في مسألة "معنى التطبيع في الاستراتيجيا الاسرائيلية"؟ أليس من المحبط، إذا أملنا في "تعميق الحوار"، ألا يقع الانتباه لذلك؟ ألا يدعو ذلك ببساطة الى التساؤل عما إذا كان السيد بن حديد قد قرأ بالجدية الكافية المقال الذي قام بـ"التعقيب" عليه؟
يؤكد السيد بن حديد فعلا أنه لم يقرأ بالجدية الكافية ما كتبت عندما ينتهي للقول: " إنّ حصر التطبيع بما فعلته يوميّة الصباح، واعتبار الأمر حصرًا على علاقة حوار أو لقاء أو غيرها من الأفعال مع الصهاينة يحمل تبسيطًا على غاية من الخطورة وتجريدًا أراه دليل أزمة حقيقيّة، حين يمكن للنّاظر العادي ـ دون اعتبار من يدرك دواخل الأمور ـ أن يرى ويشهد ويقرّ بوجود عشرات الحالات التطبيعيّة الأشد خطورة ممّا فعلته دار الصباح، حيث نرى من يحاول ويعمل على تبليد الفكر وإفساد الذوق والحطّ من شعور الانتماء ومن ثمّة إعداد هذا العقل لقبول التطبيع"... فأين يجد في نصي "حصر التطبيع بما فعلته يومية الصباح" أو حتى "حصرا على علاقة أو لقاء أو غيرها من الأفعال مع الصهاينة"؟ أليس ما جاء في فقرة "معنى التطبيع في الاستراتيجيا الاسرائيلية" (مقال 10 سبتمبر) كافيا لفهم معناه؟ هل قدم السيد بن حديد تحليلا لتلك الفقرة و دحضا يوضح كيف أنها تدافع عن طرح "يحمل تبسيطا على غاية الخطورة و تجريدا يراه دليل أزمة حقيقية"؟ لكن السيد بن حديد كان قد بين في نصه السابق أنه ليس معنيا بمحاججات دقيقة و مباشرة عندما يكتب "تعقيبا" مقابل ذلك يقفز الى الأمام ليقدم لنا معناه للتطبيع أو "الحالات التطبيعية الأشد خطورة" و هي كل ما يعني "إعداد العقل لقبول التطبيع" في إشارة الى ما تنشره بعض الصحف التونسية التي يرغب في حصر "مقاومة التطبيع" فيها من "تبليد الفكر و إفساد الذوق"... ألا يشعر السيد بن حديد أننا هنا تحديدا حيال "حوار غير ثري" و مجرد بهلوانيات تجريدية... حيث أن تعريف "ما يعد العقل للتطبيع"، و هو المدقق فيما هو تعبير لغوي، ليس هو تعريف "التطبيع" ذاته بالرغم أن ذلك لا يمنع طبعا أن "تبليد الفكر" يمكن أن "يعد العقل للتطبيع"؟
- يسألني السيد بن حديد مرة أخرى: "أسألك يا أستاذ الطاهر، وقد اكتشفت فيك قدرة توثيقيّة، وأرى فيك من يعطي المعلومة حقّها ويوفي العلم قدره، عن كتابات «حرّاس عبّاد الشمس» وما قدّموا خلاف البيانات والخطب والمقالات الناريّة الموسميّة، التي تنام دهرًا وتنطق بما اعتادت أن تنطق به [حين نكتفي بتشخيص الفعل دون التقييم.."، و لا أدري إن كان ذلك لمجرد مزيد اكتشاف "قدرتي التوثيقية" أم بغرض التقدم بهذا النقاش؟ لقد سبق أن وضحت في أكثر من موضع سابق نأيي عن المواقف "الخشبية" بل و نقدي لها و بضررها على أصول المواقف (و هو ما لا يمكن أن يخفى على أي متابع سواء لمقالاتي الخاصة بالوضع التونسي أو تلك الخاصة بالوضع العربي). لكن السيد بن حديد يتهرب هنا تحديدا من التعرض المباشر لما أشرت اليه في المرة السابقة من تجنيه على قوى سياسية تونسية و تعميم أوصاف نابية عليها بدعوى مهاجمة بعض الشخوص الانتهازية في الوسط الصحفي المواجه للسيد بن حديد. هل يمكن أن يبرر نقد الطبيعة "الخشبية" و صيغ "البيانات النارية" في معظم خطاب "مقاومي التطبيع" أن يعمم في تقييمه له معاني "القطيع" و "الكلامية" و "حراسة عباد الشمس" في حين أن، و هذا ما أشرت اليه في سابق تعليقي مع إيراد أمثلة محددة، غالبية "مقاومي التطبيع" من القوى السياسية الفاعلة داخليا و خارجيا و العريقة في وجودها في القطر التونسي و ممن بلغ بها الأمر ليس التعرض للاعتقال و الملاحقة فحسب للدفاع عن موقفها "المقاوم للتطبيع" بل أيضا إرسال المقاتلين الى جنوب لبنان بتنسيق مع القوى الممارسة للعمل العسكري. ربما يكون لنا اختلاف أو تباين في مدى ضرورة مثل تلك الممارسات أو في تقييم فاعليتها، و لكن لا يوجد ما يبرر أن يمنح السيد بن حديد لنفسه الحق في تقييم مدى "أهليتها" و صدق نيتها في التعبير عن "مقاومة التطبيع". و بمعنى آخر أسأل السيد بن حديد بدوري: هل يبرر خصامك مع بعض صحفيي الشروق و الصريح و موقفك منهم (الذي على الأرجح أوافقك فيه) تعميم الألفاظ النابية في علاقة بـ"مقاومي التطبيع" و منح نفسك حق تقييم "أهليتهم"؟
أود هنا أن أشير الى ملاحظة عابرة: أشار السيد بن حديد أكثر من مرة الى "الغضب" بل و "الثورة" في مقالي و كلامي. و لا أدري في الواقع كيف استخلص الكاتب بالتحديد مشاعر من ذلك النوع من قبلي بناءا على ما ورد في نصي. و الحقيقة أني أحرص الالتزام بالهدوء فيما أكتب، و في علاقة بما كتب السيد بن حديد تحديدا فربما شعرت بالاستياء من بعض ما كتبه و لم يصل بي الأمر الى حدود "الغضب" فما بالك "الثورة"، لأن الأمر لا يستحق ببساطة لذلك. و إذا "عبر آخرون عن غضبهم" له فأرجو ألا يسحب ذلك علي بشكل ميكانيكي. فقط أريد أن ألاحظ، بالمناسبة، أن نصوص السيد بن حديد تمتلئ بعديد العلامات التي تحيل دائما و بالتحديد على معاني "الغضب" و كذلك "الثورة" و ما التكرار الدائم لعلامات التعجب و الاستفهام من نوع (!!!!!!) أو (؟؟؟؟؟؟) إلا أحد مظاهر هذه المقاربة لنصوصه. و هي صيغ لا أحبذها شخصيا و لا أرى لها ضرورة في الكتابة التحليلية و لكني طبعا لا أجادل في حق السيد بن حديد في استخدامها، كما لا أهتم لذلك كثيرا.
- أرغب باختتام تعليقي على رد السيد بن حديد بالتعليق على ما ختم به نصه. في تعليق على جملة أثارت بصيغتها المجتزأة الجدل لدى البعض (و ستكون محور تعليق أطول على "تعقيب" السيد زياد الهاني في القسم الثاني من تعليقي هذا)، يقول السيد بن حديد: "يعتبرني السيّد الطاهر الأسود «ضيفا جزائريا» قد «تعدى ليس آداب الضيافة فحسب بل أيضا آداب الجدال الموضوعي»، وأقول له، أنّي ولدت في هذه الأرض الطيّبة ولم أنظر إلى إقامتي أو علاقتي أو وجودي أو فعلي أو أيّ شكل من أنماط الفعل ضمن القطيعة القطريّة أو العداوة المفتعلة التي شكّلت أساس «الشوفينيّة» التي اعتمدها بورقيبة وغيره في غير هذا القطر على السواء". و من المثير أن يحمل السيد بن حديد عبارتي "الضيف الجزائري" و "آداب الضيافة"، و التي استعملتهما من منطلق توصيفات واقعية و "قانونية" مجردة اتباعا للمعطيات التي قدمها السيد بن حديد حول شخصه في مناسبات سابقة (و هو الأمر الذي قلت سأفصل فيه لاحقا)، أن يحملهما، إذا، معاني "القطيعة القطرية" و "العداوة المفتعلة" و "الشوفينية" عدى عن الاتيان على سيرة الرئيس الراحل بورقيبة و تقييمه بالمرة لسياساته تجاه القطر الجزائري. و بمعزل عن تقييمنا لطبيعة العلاقة بين القطرين التونسي و الجزائري و ماهية "الهوية" التي تجمعهما فإن الصفة الواقعية "القانونية" المجردة في معنى "الضيف" (بمعنى "غير الحامل للمواطنة") لا تعني بأي شكل من الأشكال استعداءا تونسيا للجزائريين أو في المقابل استعداءا جزائريا للتونسيين حيث أنها في صيغتها الأصلية هي تعبير عن تعاقد لحفظ الحقوق بالأساس لولا الظرفيات السياسية و تقلباتها و التي تجعل بين الحين و الحين مثل هكذا صفات مبررا لاغتصاب الحقوق مثلما هو وضع أخينا ("في العروبة و الاسلام و الانسانية" إن أراد) بن حديد. إن الوضع السياسي القائم في الواقع الراهن و الذي يعني وجود دولتين، تونسية و جزائرية، لا يجب أن يعني في ذاته و آليا "قطيعة قطرية" و "عداوة مفتعلة" و، بالتأكيد لا يمكن أن يكون له علاقة بـ"الشوفينية" (و أتساءل إن كان استعمال السيد بن حديد لهكذا مصطلح بتعقيده التاريخي و ما يحمله من تجارب كونية رهيبة يأتي عن معرفة جدية له).
أشير فقط هنا الى أني لا أتفق مع السيد بن حديد في تقييمه لسياسة الرئيس الراحل تجاه الجزائر بـ"الشوفينية". و بالرغم أنه لم يوضح مبررات هكذا تقييم فإني أود أن أذكر أن سياسة الحزب الحر الدستوري الجديد بين سنوات 1954 و 1957 برأسيه و قيادتيه (اليوسفية و البورقيبية) كانت تدعم سياسيا و عسكريا نضال "جبهة التحرير"، في حين كان خلافهما الداخلي كما هو معروف حول نقطة أخرى و هي مدى علاقة استقلال تونس بمسار استقلال الجزائر. و في ندوة أخيرة حول الراحل "أحمد التليلي" (تم عقدها على ما أذكر في مدينة قفصة) قام عدد من المؤرخين التونسيين بتقديم ما يكفي من المعطيات المفيدة بأن منسق الشق البورقيبي للحزب في هذا الملف أي أحمد التليلي و حتى أيام حصول الجزائر على استقلالها (و ما تخلل ذلك من دعم عسكري لـ"جبهة التحرير") كان يعمل بإشراف مباشرمن الرئيس بورقيبة. إن ذلك لا يعني أن الأخير كان شخصا ملائكيا بما في ذلك في رؤيته لعلاقته مع الجزائر، و شاءت الظروف أن الملف المبكر لـ"حاسي مسعود" و تخطيط الحدود بين الدولتين الفيتين، أن يعكر العلاقة بين قيادتي البلدين. غير أن مصدر هذا التوتر (الذي سيتواصل بشكل متفاوت عبر عهدي الرئيسين بن بيلا و بومدين) لم يكن فقط رغبة بورقيبة في ضم "أجزاء من الجزائر" فحسب بل أيضا بسبب الإصرار الجزائري على الامتناع الكامل عن مناقشة مسألة الحدود. و لكن قضية الحدود تدخل في هذا الاطار ليس تحت باب "الشوفينية" المتبادلة من هذا الطرف أو ذاك بل ضمن "منطق الدولة" و الذي يفرض نفسه بمعزل عن أي نوايا سواء "القطرية التونسية" للرئيس بورقيبة أو "القومية العربية" للرئيس بن بيلا. لم يكن الرئيس بورقيبة "شوفينيا" بأي مقياس مقارن في المعاني التي يختزنها هذا المصطلح، بل كان، مثل غيره، "رجل دولة". على كل كان ذلك قوس، من الأقواس العديدة التي يتيح لي السيد بن حديد الفرصة لفتحها، و هكذا أغلقه.
لكن هناك أمر وحيد علي شخصيا الإقرار به لمصلحة السيد بن حديد: حيث رأى أن أسوأ ما يمكن أن يعنيه ما قلت حول تابعيته الجزائرية و هو الأمر الأساسي الذي يجعلني ربما أرغب في مراجعة ما قلته: " قد يرى البعض من الصحفيين ومن السياسيين ومن غيرهم في هذا التوصيف وهذه الإشارة بابًا يفتح الموقف [منّي] على الطرد والترحيل، كما هدّدني البعض ذات يوم أو كما يفكّر البعض راهنًا... قد نلتقي حينها خارج هذه الأرض يومًا... من يعلم؟؟؟ " و بالرغم أني لا أعتقد أن أي من الذين ذكرهم السيد بن حديد بصدد انتظار ما قلته حتى يجد ما يبرر "ترحيله" إلا أني لا أسمح لنفسي أن أساهم حتى بمقدار أونصة واحدة في مظلمة مماثلة.
لكن السيد زياد الهاني، في المقابل، كان ملكيا أكثر من الملك، و توغل في إسداء التهم المجانية على أساس الجملة المجتزأة أعلاه و ذلك بأسلوب مخل بأي نزاهة أدبية أو فكرية حتى كال لي تهمة "العنصرية"، و ليس أقل منها. و لكن الى جانب قضية مختلقة من هذا النوع بقي السيد الهاني صامتا تماما حيال الموضوع الأساسي الذي يجعله طرفا في مجمل هذا الجدال أي الدفاع عن "مشاركة الصباح". و لم يفعل ذلك أو هذا بدون مبررات، كما سأوضح تاليا.
ثانيا تعليق على "تعقيب" السيد الهاني
يقتطف السيد الهاني الجملة التالية من تعليقي السابق (15 سبتمبر) على السيد بن حديد بأن الأخير: "يبقى ضيفا جزائريّـا علينا، قد تعدى ليس آداب الضيافة فحسب، بل أيضا آداب الجدال الموضوعي" و بناءا عليها يستنتج (أي السيد الهاني) السلسلة الآتية من الرؤى بل و كذلك الاتهامات تجاهي و التي تصل، ببساطة، لـ"العنصرية":
- يقول السيد الهاني: "أخشى أن يكون السيد الطاهر الأسود قد انحرف عن هذا المبدإ الأساسي (احترام الطرف الآخر في الحوار) حين سمح لهواه بجرّه للطعن في أهليّـة زميلنا نصر الدين بن حديد من خلال الاستنقاص من "مشروعيّـة" اشتراكه كطرف كامل في الجدل الدائـر أخيرا عبر التركيز على مواطنته الجزائرية"
- ثم يمضي للقول: "لو أقدم على مثل قول السيد الطاهر الأسود مواطن فرنسي في مهاجر لقامت الدّنيا ولم تقعد ولواجه اتهامات بالعنصرية تجعله يخجل من نفسه"
- و أخيرا في مراسلة بالفرنسية وزعها السيد الهاني عبر الانترنت و تلقيت منها نسخة يقول عنوانها ما يلي: "A taher laswed: Attention aux derives racistes" و يضيف في نص المراسلة ما يلي: "Prière de trouver en attachement une copie de la réplique de Nasreddine Ben H'did à Tahar Laswed, ainsi qu'un appel que je lui ai adressé pour éviter les dérives racistes.Zied"
و أمام هذا الاتهام الخطير كان علي أن أتوقف بشكل مدقق أمام ما سبق أن قلته و ما يقوله السيد الهاني خاصة أن اتهامات بهذا الثقل لا يجب أن يتم إلقاؤها باستخفاف و بدون براهين. فالذي تثبت إزاءه تهمة بهذا الحجم يستحق بكل تأكيد الخزي الكامل أما الذي تثبت إزاءه تهمة إلقائها باستخفاف و دون وجه حق و دون إبداء أي براهين جدية فهو يستحق، بدوره... الخزي الكامل. فالاتهام بالتعامل بـ"عنصرية" يماثل اتهام الآخرين عن باطل بـ"العنصرية" ليس لأن ذلك مجرد كذب و تزوير فحسب بل لأنه يساهم في تهرئة تهمة "العنصرية" من مصداقيتها.
لقد جادلت السيد بن حديد في النقاط التي أثارها نقطة بنقطة و إصراري على هذا التمشي الجاد في التعليق على ما كتبه لا يمكن أن يعبر بأي حال على استنقاص من حقه، فما بالك عن "مشروعيته" (و هو مصطلح لم أذكره في أي مقال ذي علاقة بهذا الجدال و انما هو من اختلاق السيد الهاني و هو الذي يضعه بين ظفرين كأنه من صنعي)، في الجدال في أي قضية خاصة بالوضع التونسي بما في ذلك مسألة "مشاركة الصباح". و لكن السؤال الأكثر بدائية هنا هو الآتي: هل يؤدي مجرد القول في الجملة المقتطفة من قبل السيد الهاني (دون الرجوع الى بقية الفقرة و كذلك النص الذي جاءت فيه و هو الذي سأقوم به أسفله) بأن السيد بن حديد: " يبقى ضيفا جزائريّـا علينا، قد تعدى ليس آداب الضيافة فحسب، بل أيضا آداب الجدال الموضوعي "، هل يؤدي هذا القول الى الاستنتاج بأن قائله يستحق الاتهام بـ"العنصرية"؟ المصيبة الحقيقية بالنسبة لصحفي من المفترض أن يحترم مهنيته و استفاد من تدريبه في نقل الخبر و تبرير استنتاجاته، مثلما افترض حال السيد الهاني، أن الأخير لم يكن يرى أي داعي حتى لتفسير كيف يمكن تأويل هذا القول بأنه تعبير عن رؤية "عنصرية" من قبلي تجاه السيد بن حديد. فحسبما أعرف لم يبلغ لعلمي أن صفة "الضيف الجزائري" أضحت في ذاتها تعبيرا "عنصريا". فهذا التوصيف ليس بأي حال من الأحوال توصيفا يقلل من قيمة السيد بن حديد بل هو إشارة لواقع قائم كان عبر عنه السيد بن حديد في سابق مقالاته التي تعرض فيها لحالته الحقوقية بما في ذلك افتكاك جواز سفره الجزائري. و هذا التوصيف أي أن يكون السيد بن حديد "جزائريا" و أكثر من ذلك أن يكون "ضيفا" لا يمكن أن يكون تقليلا من شأنه و من أهليته في هذا الجدال و لا يقلل بأي حال من الأحوال في علاقته الوثيقة بأرضنا التونسية. و هو تحديدا الأمر الذي أشرت اليه في أول فقرة من تعليقي (15 سبتمبر) على "تعقيبه". و التي أرى من الضروري أن أنقلها كما هي فيما يلي:
"يستحق السيد نصر الدين بن حديد الاحترام، و هو المواطن الجزائري الذي يقوم بدور صحفي مشرف في تونس (حتى عندما عمل سابقا في ظروف صعبة مثل إدارة القسم الفرنسي في صحيفة "الوحدة"، و هي لسان حال طرف سياسي غير جاد مثل "حزب الوحدة الشعبية") لا يقوم به بعض من يحملون المواطنية التونسية و يدعون الانتساب للقطاع الاعلامي. و هو بالتأكيد لا يمكن أن يحظى من قبلي بالإغفال كما أشار الى ذلك. أقول ذلك ليس فقط تعاطفا و تضامنا مع قضيته و قضية أبنائه التونسيين الحقوقية، و التي يجب أن أذكر، أنه قد أثارها منذ مدة ليست بالقليلة، بالرغم من أن رسالته الأخيرة ربما حظيت باهتمام يفوق ما حظيت به نداءاته في الماضي. أقول ذلك، إذا ليس من موقع التعاطف مع وضعيته الحقوقية فحسب، بل أيضا من منطلق احتواء عدد من مقالاته على ما يستحق الانتباه و الاطلاع و لذلك فإني أتابعها كلما سنحت الفرصة لذلك"
فدور السيد بن حديد المشرف صحافيا يجعله، بالنسبة لي على الأقل، في مرتبة أعلى بالنسبة للمشهد الإعلامي التونسي من غيره ممن يحملون المواطنية التونسية و يدعون امتهان الصحافة. فإشارتي للمواطنية الجزائرية هنا (أو "تركيزي عليها" كما يمكن أن يحلو للسيد الهاني أن يقول) يهدف بالتحديد الى التأكيد على عدم أهمية المواطنية عند تقييم الشرف الصحفي لأي إعلامي ينشط في تونس و ذلك في اتجاه الاشارة لدعم حقه في استرجاع جواز سفره مع حقه في التمسك بالتمتع بالعمل كصحفي في تونس جنبا الى جنب عائلته و أبنائه التونسيين. أما مقام السيد بن حديد الطويل و علاقته الوثيقة بهذه الأرض لا تتضارب مع المعنى الإيجابي لصفة "الضيف" التي ما هي إلا توصيف لوضعية قانونية مجردة في النهاية أمام الاعتبارات الانسانية.
الشيئ الوحيد الذي يقدمه السيد الهاني و الذي يمكن، بعد الكثير من التساهل، اعتباره "تحليلا" في اتجاه تبرير اتهاماته تجاهي هي الجملة التالية: " سمح لهواه بجرّه للطعن في أهليّـة زميلنا نصر الدين بن حديد من خلال الاستنقاص من "مشروعيّـة" اشتراكه كطرف كامل في الجدل الدائـر أخيرا عبر التركيز على مواطنته الجزائرية "، فهل أقوم في قولي هذا بالتقليل من "مشروعية" السيد بن حديد في الجدال الدائر حول "مشاركة الصباح" عندما أشير الى أنه "ضيف جزائري"؟ في الحقيقة سيكون ذلك ممكنا لو أني أسقطت مثل هذه الإشارة من دون أي داعي في صيغة مبهمة من نوع مثلا أن السيد بن حديد "ضيف جزائري" و بالتالي أني لا أرى، مثلا، أي داعي لاشتراكه في هذا الجدال أصلا. غير أن ذلك لم يحصل البتة. و هنا آتي للإطار الذي جاءت فيه الجملة التي اقتطفها السيد الهاني و بنى عليها استنتاجاته بلا أي مبرر و في معزل عن إطارها. و يستوجب هنا أن لا نقف عند المقولة المجتزأة أعلاه كما يفعل صحفي مثل السيد الهاني كان من المفترض أن يتحلى بالمهنية و المصداقية في نقل الخبر و القول كاملا. يستوجب أن نمضي لقراءة مجمل الفقرة المعنية، و هو ما لم يفعله للأسف السيد الهاني في مقابل سماحه لنفسه إطلاق اتهامات خطيرة تصل حد "العنصرية". و هكذا كان علي أنا أن أقوم بذلك عوضا عنه. و تأتي الجملة المعنية في الفقرة التي ضمنها كالآتي (كلامي باللون الأحمر، و كلام السيد بن حديد الذي أعلق عليه باللون الأزرق):
" و يحيلنا ذلك على مسألة مدى جدية وجود شركاء عرب للقائمين على الصراع العسكري ضد إسرائيل بما في ذلك في المجال التونسي. حيث من الواضح أن السيد بن حديد، و الذي يبقى ضيفا جزائريا علينا، قد تعدى ليس آداب الضياقة فحسب بل أيضا آداب الجدال الموضوعي عندما اعتبر، و ببساطة، أن " هؤلاء «الذين نصّبوا أنفسهم أوصياء على المقاومة»، وأضيف بل أقول وأتحمّل مسؤوليّة قولي أمام القانون والتاريخ والضمير أنّ جلّهم لا يعدو أن يكون سوى ضبعًا أراد التمرّغ في تراب الأسود، ليفهمنا أنّه «شريك في صنع هذه الانتصارات» ومؤتمن عليها!!!... إنّ مقاومة التطبيع لا يمكن أن تتأتّى من خلال الانتظار، بل عبر الفعل والتأسيس، وأسأل الضبع فيهم ومن هو أقلّ من الضبع، عن كتاباته ومواقفه وأفعاله و«صولاته وجولاته»، لنجد مجرّد بيانات ممجوجة، أصبحنا نحفظها عن ظهر قلب..." (مقال بتاريخ 31 أوت) في نفس المقال في موقع آخر في إشارة لـ "مقاومي التطبيع" يرى الكاتب بأن ثقافة المقاومة لديهم تعني "النوم ومراوحة الخمّارات، من باب حراسة «عبّاد الشمس»..." ... و إذا تجاوزنا بعض الجمل الخشبية (من نوع "تحمل (الكاتب) المسؤولية أمام القانون و التاريخ و الضمير" في مقولاته هذه) فإنه من التجني و التعميم الناتج، في حالة استباق حسن النوايا، عن جهل بتفاصيل و هويات بعض الأطراف السياسية التونسية، إطلاق أحكام بهذه الاطلاقية شملت أطرافا سياسية تونسية دفعت و لازالت الكثير مقابل تمسكها بموقفها السياسية المستقلة بما في ذلك موقف "مقاومة التطبيع". "
إن تذكير السيد بن حديد بـ"آداب الضيافة" عندما يوجه شتائم من النوع أعلاه ("ضباع"، "صبية"، "عباد شمس") لقوى تونسية (و ذكرت منها في هذا الاطار على سبيل الذكر لا الحصر الاستاذ البشير الصيد و التيار الذي يمثله) طالما دفعت الكثير من التضحيات من أجل التعبير عن مواقفها (و ليست "مقاومة التطبيع" إلا أحدها) و ممارسة حقوقها السياسية في واقع محاصر نعرفه جميعا ، إن تذكيرا بـ"آداب الضيافة" ليس بأي حال تعبير عن "عنصرية" تجاه السيد بن حديد. فهل أن صفة "الضيف"، القانونية المجردة هنا، لا تعني في النهاية التزامات في آداب الخطاب تتجاوز على كل حال صفة "الضيف" و "المواطن" على السواء؟ و هو تحديدا ما أشرت اليه من خلال التذكير بـ"آداب الضيافة" مع "آداب الجدال الموضوعي" على السواء.
و هو تذكير لا يتجاوز حدود الكياسة بمقاييس أي مجال جغراسياسي بما في ذلك الأمريكي شمالي الذي تساءل عنه السيد الهاني (بالمناسبة من الصفات "القانونية" تحديدا للمقيمين على الأرض الكندية أو الأمريكية ممن لا يحملون المواطنة المحلية بمعزل عن مدة الإقامة هو "عامل ضيف" (guest worker). و لكن هذه إشارة خارج الموضوع). حيث من المفترض لأي "ضيف" كان، مرة أخرى بالمعنى القانوني المجرد للكلمة و بمعزل عن علاقة المعني الواقعية بالأرض التي يقيم عليها، أن يحافظ على مسافة ما في المجال الذي يقيم فيه، و المسافة الأدبية هنا بالرغم من عدم إلزاميتها إلا أنها تعبر عن تقدير للـ"مضيفين" يعبر في الأصل عن التساوي في النظر الى القيم الانسانية بين "المواطن" و "الضيف". و طبعا غني عن القول أن مواقف السيد بن حديد لا تعبر عن مستوى متطرف من القطيعة مع و التهجم على القوى المحلية (في هذه الحالة المعنية بـ"مقاومة التطبيع")، مثلما هو الحال مثلا مع مواقف من يرغب في تأسيس الخلافة و تكفير مجتمع مضيفيه كما حدث و يحدث في بريطانيا. و لكن ذلك لا ينفي عن هذه المواقف صفات التهجم المجاني و فقدان اللباقة عدى أنها لا تعكس معرفة جدية من قبل السيد بن حديد بهذه القوى و بتاريخها و ممارستها التي تتجاوز الإصدار الميكانيكي للبيانات، كما يبدو أنه يعتقد، و هو ما أرغب أن أرجعه ليس لتجاهل من قبله بل لمحدودية في الخبرة بالواقع التونسي.
إن ما قلته من تعابير (من نوع "ضيف" و "آداب الضيافة") تعكس صفات قائمة في الواقع كان أشار اليها السيد بن حديد سابقا و تصانيف "قانونية" مجردة كان الغرض منها الأساسي، كما هو واضح من الإطار الذي جاءت فيه و حسبما عاودت التأكيد أعلاه، إما التعاطف مع السيد بن حديد و تأكيد دوره المشرف كصحفي في واقع إعلامي تونسي يعاني من الهنات أو لفت انتباهه بشكل ملطف، و هو الأسلوب الذي التزمت به و لا أسمح لنفسي بغيره فيما أكتب، للعبارات و الأوصاف اتي تجنى بها على قوى تونسية مناضلة من نوع "ضباع" و "صبية"، و هو الأسلوب المشخصن الذي لم أر السيد الهاني يحرك ساكنا تجاهه و هو الحريص، كما يبدو، على نقد النص و ليس نقد الشخص. إن تقديم عباراتي و أفكاري تلك، كما يفعل السيد الهاني بكل روح لامهنية بالنسبة لدوره المفترض كصحفي، على أنها ببساطة و بدون أي تبرير و برهان أنها تعابير أو رؤى "عنصرية" إنما يشير الى أساليب تبعث على الخجل في "الحوار الفكري" كما يفهمه السيد الهاني. ألا يبدو ذلك نموذجا غير مطمئن بالمرة لمن يرغب في أن يقدم بديلا إعلاميا في حجم قناة إذاعية، مثلما يسعى السيد الهاني أن يفعل عبر مشروعه "إذاعة قرطاج"، و التي عاود منذ أيام الاحتجاج على تجاهلها من قبل الأطراف الرسمية (و هو ما نتضامن فيه معه من زاوية مبدئية حقوقية بمعزل عن هذا الجدال)؟ كيف سينقل السيد الهاني الأخبار و الأقوال و أي معاني سيسبغ عليها عندما تصبح بين أيديه أداة إعلامية خطيرة بحجم إذاعة؟
و لكن قبل و بعد ذلك، أليس من المريب أن يقوم السيد الهاني بتجاهل كل النقاط التي أثرتها و التي تتعلق بموقف الدفاع عن "مشاركة الصباح"، و التي تشمل فيمن تشمل موقفه هو تحديدا، و أن يقوم باختلاق اتهامات "عنصرية" تجاهي ككتلة دخان، عوض "التعقيب" بحق على رأيي، و هو ما أراه من أساسيات أي شخص جاد في "الحوار الفكري" الذي يسعى اليه بكل إلحاح افتراضا السيد الهاني؟ في علاقة بأصل كل هذه الردود و "التعقيبات" أي مسألة "مشاركة الصباح" كان كل ما استطاع أن يقوله السيد الهاني ما يلي: " أما باقي النقاط المعروضة للنقاش فيهمني بيان المبدأين التاليين الذين يوجّـهان حركتي: أوّلا أنا أرفض سياسة المقعد الشاغر.. ثانيا لا أردّ على التهجمات الشخصية التي تستهدفني متمثّلا قوله تعالى: بسم الله الرحمان الرحيم "وإذا سمعُوا اللّـغوَ أعرضوا عنهُ وقالُوا لنا أعمالُـنا ولكُـمْ أعمالُـكمْ سلامٌ عليكُمْ لا نبتغي الجاهلـيْن " صدق الله العظيم " "
و هنا أرجو من السيد الهاني أن يتحلى بشيئ من الجدية و أن يتفضل بأن يفسر لقرائه كيف لهذين "المبدأين الذين يوجهان حركته" أي علاقة بكل ما قلته في كتاباتي عن موضوع "مشاركة الصباح" بما في ذلك ما كتبته عن موقفه و غيره في الدفاع عنها؟ هل هناك في كل ما كتبته أي دعوة لأي كان أن يمارس "سياسة المقعد الشاغر"؟ هل هناك ما يشير بأي حال الى "تهجمات شخصية" عليه أو غيره فيما قلته حتى "تتوجه حركته" الى أسلوب النعامة التي تحشر رأسها في الرمل و تتجنب نقاش موقفه في "مشاركة الصباح" و استبدالها بقضايا مختلقة بشكل معيب و مخزي مثل اتهامه لي بأني أوجه خطابا "عنصريا" نحو السيد بن حديد؟ خاصة أنه ليس لي أن أعتبر إشاراته و اتهاماته هذه في إطار التأكيدات العامة خاصة في الوقت الذي يأتي فيه استعراض السيد الهاني هذين "المبدأين" تحديدا في إطار "تعقيبه" على ما كتبته.
الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية
قام كل من السيدين نصر الدين بن حديد و زياد الهاني، في عدد تونسنيوز 17 سبتمبر، الأول برد على تعليق سابق كنت قمت به على "تعقيب" له على مقال لي (أنظر بالنسبة لمقالي المعني بالـ"تعقيب" عدد تونسنيوز 10 سبتمبر و بالنسبة لتعليقي على "تعقيب" السيد بن حديد عدد تونسيوز 15 سبتمبر)، و الثاني، أي السيد زياد الهاني، بماسماه "تعقيبا" على التعليق الذي قمت به و المذكور أعلاه. و أود هنا إبداء بعض الملاحظات على كليهما.
أولا تعليق على رد السيد بن حديد
أرغب في البداية تثمين موقف السيد بن حديد في اعتباره ما يجري من نقاش بيننا بأنه "ليس مناظرة" و إنما مناسبة لـ"تعميق الحوار". و هي هذا الاطار يجب أن أؤكد أن ملاحظاتي النقدية حول ما كتب بما في ذلك ملاحظة "التضارب في نصه" لا تستهدف شخصه و لا تحليل "توازنه النفسي" كما يمكن يعتقد، حيث أن ذلك يتجاوز أهدافي و امكانياتي. و في نفس الاتجاه فإني أعتز بهذا النقاش و ليس استمراري فيه إلا من باب إيماني بجدواه و جودة ما يكتبه السيد بن حديد. و بالرغم أنه لم يرد بشكل مباشر إلا على بعض النقاط التي أثرتها في تعليقي على "تعقيبه" (و سآتي عليها تباعا) إلا أني بتأثير رغبتي في دفع النقاش بروح إيجابية أواصل التعليق على بقية تساؤلاته (بعضها مكرر لم يأخذ بعين الاعتبار ما سبق أن كتبته) و التي أرى، بمعزل عن القضايا السابقة التي أثرتها، أنها تبقى في حاجة للنقاش و المجادلة. و على هذا الأساس على أن ألاحظ ما يلي:
- يشير السيد بن حديد في سياق رد عام على ما قلته (و ذلك في آخر نصه) ما يلي: " خلط السيّد الطاهر الأسود عند مطالعة مقالي، بين موقفي من الفعل من ناحية وقراءة قدرة الفاعل على فعله من ناحية، فليس لي كما بيّنت أن أنفي عن أيّ كان مهما كان فعل أيّ فعل، حين غابت عنّي ـ لحسن الحظّ ـ أيّ قدرة زجريّة أو طاقة منع من أيّ صنف كان، ومن ثمّة جاء قولي ناقدًا ومتسائلا بخصوص أهليّة الفاعل وقدرته، ضمن ما نراه من حقّ على بعضنا، وليس نفي حقّه في الفعل أصلا. [الفرق بيّن والبون شاسع، سواء على مستوى المرجعيّة أو الفعل والممارسة]..." و ذلك في إطار تعليقه على الفقرة التالية من نصي: " بعد بعض العناء بدى لي أن موقف (أو مواقف) السيد بن حديد مما يجري هو (هي) كالتالي (و الفقرة التالية يجب اعتبارها تقييما جديا من قبلي لما قرأته و ليس من قبيل المزاح): بشكل عام السيد بن حديد ضد "التطبيع" و لكنه، رغم ذلك، ضد "مقاومة التطبيع" مادامت غير صادرة عن القائمين على الصراع العسكري ضد إسرائيل... و هكذا بالتأكيد فإن"مقاومة التطبيع" في حالة "مشاركة الصباح" أمر "دونكشوتي" خاصة أنها صادرة عن أناس "جلهم" لا يستحق الاحترام... غير أن "مقاومة التطبيع" تبقى أمرا ضروريا إذا تعلق الأمر بنقد "أصحاب التطبيع" و لكن من قبل السيد بن حديد تحديدا (مثلما فعل موجها خطابه للأخيرين مثل السيد الخياطي)"، و قد قدمت على مدى نصي ما يشير، و على لسان السيد بن حديد، الى هذا التضارب. إن الخلط يكمن تحديدا في نص السيد بن حديد و هو معنى التضارب أساسا. حيث أشرت كيف يقوم الكاتب في نفس الوقت بـ"مقاومة التطبيع" و من ثمة قبوله لهكذا ممارسة (من خلال ممارسته لها في كتابته) و من ثمة، طبعا، إقرار"حق" القيام بها، و بنفي جدوى هذا الفعل تحديدا بما أن بالنسبة له "مقاومة التطبيع" هي مجرد تعبير لغوي في حالة ما إذا لا يقوم به فاعل العمل العسكري، و هو الأمر الذي عاود التأكيد عليه في رده الأخير و هذا ليس من اختلاقي (أنظر النقطة الثالثة هنا). هذا طبعا بمعزل عن ملاحظاته عن "مقاومي التطبيع" في الحالة التونسية بشكل محدد و تقييمه لـ"أهليتهم" في تواصل لنهجه السابق في تعميم صفات محددة على مجموعة محددة (صحفيي الشروق و الصريح) على أطراف تونسية مبادرة و قدمت تضحيات جدية في هذا المضمار (و هو الأمر الذي سأعود اليه لاحقا).
- يقول السيد بن حديد في نقطة أخرى تعليقا على إحدى الجمل الواردة في نص تعليق (15 سبتمبر): " يكتب السيّد الطاهر الأسود: «هل من المجدي ما يقوم به مقاومي التطبيع؟ بل هل من المجدي مقاومة التطبيع أصلا؟.»، لأعرب عن رفضي المطلق لوضع المعادلة أو انزلاها من خلال القبول بالتطبيع أو التسليم بالمقاومة [مهما كانت]، لتكون المعادلة متجاوزة لهذا البعد الشكسبيري [كيان من عدمه]، عندما يكون دور المثقّف النقد الذي يبغي البناء والرفض الذي يعني التجاوز، لا أن ينخرط في منطق القطيع أو أن يكون في قطيعة مع الجماعة" ثم "مقاومة التطبيع تستدعي منّا الغلظة في القول والشدّة في النقد، والفرق بين من يسعى إلى الإحباط وبين من يسعى إلى تجاوز الأخطاء والعمل على المراكمة أمر لا يحتاج إلى تبيان " السؤال هنا هل من الدقيق أن يستنتج السيد بن حديد من التساؤل الذي طرحتها الثنائية التي توصل اليها؟ علي قبلا أن أضع التساؤل المقتطف من نصي في إطار الفقرة الأصلية الواردة فيه و هي في تواصل مع الفقرة أعلاه حول التضارب في مواقف السيد بن حديد: "و هكذا لا يبدو أن الكاتب على وعي بازواجية موقفه تجاه قضيتين: أولا، ما هو الموقف الذي سميته في مقالي بـ"الموقف الصحيح تاريخيا و شرعيا من مسألة التطبيع". ثانيا، "هل من المجدي ما يقوم به مقاومي التطبيع؟ بل هل من المجدي مقاومة التطبيع أصلا؟". إذ يتخذ موقفا في المسألة الأولى هو معارضة "التطبيع". بينما لا يرى، بالنسبة للمسألة الثانية، أي جدوى في "مقاومة التطبيع" أصلا إذ تبدو هذه القضية مختلقة أو حتى "لهو صغار". و تبدو هنا المفارقة الأساسية فيما كتبه السيد بن حديد. حيث أنه في النهاية يتخذ موقفا من مسألة لا يرى جدوى في اتخاذ موقف منها أساسا". حيث يأتي هذا التساؤل الثاني في إطار مسألة أخرى لا تتعلق بماهية الموقف من التطبيع ("مع أم لا")، إذ أني تعرضت الى ذلك في السؤال الأول. و مثلما أشرت في النقطة الأولى أعلاه فإني على قناعة أن السيد بن حديد يقف ضد "التطبيع" و هو ما عاود التأكيد عليه بوصفه "موقفه" في رده الأخير من خلال الكلمات التالية: " أودّ بدءا التعبير أو بالأحرى التذكير بموقفي من مسألة التطبيع، حيث أعتبر أنّ ما قام على باطل يبقى ويضلّ باطلا، ومن ثمّة تأتي الصهيونيّة فكرًا وممارسة ومشروعًا ومنجزًا وصمة عار في وجه الإنسانيّة، وليس من باب حلّ سوى أن يحمل الصهاينة أمواتهم ويرحلوا عن هذه الأرض التي رفضت جذورهم وثبت بالفعل والممارسة والتّاريخ عجزهم عن الوقوف عليها كمثل ما يقف ابن هذه الأرض. [هذه المواقف سبق أنّ عبّرت عنها من خلال كتابات عديدة سابقة لهذا الحوار]. من ثمّة يتنزّل فعل المقاومة ضمن ما هو مشروع ومطلوب سوى من قبل أهل الأرض أو من يرون لأنفسهم ـ ضمن هذه الصيغة أو تلك ـ علاقة بهذه الأرض " لكنه يقوم هنا تحديدا، أي مقابلة "المشروع الصهيوني" برمته، عدى عن ذلك "التطبيع"، كـ"باطل" مقابل "تنزل فعل المقاومة ضمن ما هو مشروع"، بما لا يرغب في القيام به لاحقا أي: " رفضي المطلق لوضع المعادلة أو انزلاها من خلال القبول بالتطبيع أو التسليم بالمقاومة"، و هذا مجرد مثال آخر مكرر على التضارب في أقوال الكاتب. المشكل هنا أن السيد بن حديد، بالرغم من تسليمه المبدئي (بمعنى في بداية مقاله) بـ"المقاومة" في مقابل "التطبيع" و "المشروع الصهيوني"، فإنه يرفض لاحقا هذه "المعادلة" لأنه يعتبر الانحياز للمقاومة (مثلما يفعل هو نفسه هنا و في غير ذلك من كتاباته حسبما أشار) يعتبر ذلك بالضرورة سبيلا للانخراط في "منطق القطيع" و من ثمة فانحياز موقفه لـ"المقاومة" لا ينسجم حسب رأيه مع "دور المثقّف النقد الذي يبغي البناء والرفض الذي يعني التجاوز"... فهلا بين السيد بن حديد، على سبيل االمثال، و بما أن رده و "تعقيبه" توجها لي، كيف كان ما كتبته، مع الانحياز مبدئيا مع موقف "المقاومة"، مندرجا ضمن "منطق القطيع"؟ عندما يرفض السيد بن حديد التسليم بكوجود واحد من موقفين (مع أنه اختار في بداية مقاله أحدهما) بدعوى أن ذلك يعني الانخراط في "منطق القطيع" فإنه يشير الى أنه لا يستطيع أن يفرق بين مستويين: أولا التعبير عما أسميه "الموقف الصحيح شرغيا و تاريخيا" (و هو موقف أشترك فيه معه أي موقف مضاد للـ"التطبيع")، ثانيا، أسلوب و طريقة و شكل و صياغة التعبير عن ذلك الموقف التي سماها طريقة "منطق القطيع" و أسميها "اللغة الخشبية". حيث أنه ليس من الضروري و الحتمي، مثلما يؤكد السيد بن حديد، أن "مقاومة التطبيع تستدعي منّا الغلظة في القول والشدّة في النقد"، بل ذلك أحد أساليبها. أسلوبها الآخر الممكن و الذي أحبذه شخصيا هو عمق القول (بدل "غلظته") و دقة النقد (بدل "شدته").
- يقول السيد بن حديد في سياق تعليقه على لفظ "مقاومة التطبيع" ما يلي: "المساواة بين القول بالفعل والإدّعاء بتنفيذه، وصولا إلى اعتبار الإعلان أو التعبير «اللّغوي» دليل فعل وبديلا عن الانجاز المادّي والحقيقي"، و يضيف لاحقا و في نفس الاتجاه في إطار مقارنة "المقاومة" ذاتها (أي الطرف الممارس للعمل المسلح و الصراع المباشر مع الطرف الاسرائيلي) مع "مقاومة التطبيع" ما يلي: "أيضًا، يكون السؤال «المعرفي» [حصرًا] عن قدرة طرف أوّل [المقاومة الفاعلة] وطرف ثان [دعاة مقاومة التطبيق] الدخول في مشروع جامع [أو اعتبارهما كذلك]، سواء على مستوى الخطاب أو الممارسة، وكلّ منها يحمل بين طيّات فكره وتفكيره مفاعيل تناقض ما يحمل الآخر، حين تأتي المقاومة ـ في أبعادها العامّة دون النزول إلى العمق ـ فعل مبادرة ومراكمة وقدرة على القراءة وطاقة انجاز، في حين أنّ «مقاومة التطبيع» [ونعني موضوع الحال] تأتي فعل انتظار وترقّب وحراسة وحرص على الدّفاع... من ثمّة لا يمكن أن ننزل ـ كما يرى الأستاذ الطاهر الأسود ـ هذه المعادلة ضمن ضرورة اختيار هذا الصفّ أو ذاك أو علينا أن ننظر إلى المعادلة على أنّها «صفّين» أو «الجمل»، في ثنائيّة بين طرفين أو تثليث حين نضيف «الخوارج»". و تبدو هذه الملاحظات بالنسبة لي، مرة أخرى، إجابات عمومية، على مسألة تحتاج دقة أكبر، و هي مسألة العلاقة بين "المقاومة العسكرية" و تلك "السياسية" و هي المسألة التي تعرضت اليها بتدقيق أكبر في تعليقي السابق. و لن أكرر هنا تفاصيل ما قلته لأن ذلك بدأ يقارب الممارسة الروتينية (على المهتم بهذه التفاصيل الرجوع لتعليق 15 سبتمبر)، فقط سأكرر خلاصة ما توصلت اليه و هو (أولا) أن من يمارس "المقاومة العسكرية" ذاته يمارس بل يعرف الأهمية الكبرى للـ"مقاومة السياسية" في مشروعه بشكل عام بما في ذلك ضمن مشروع "مقاومته العسكرية" بالتحديد و بذلك المعنى فهي أيضا "فعل" و ليست مجرد تمرين لغوي، و (ثانيا) أن "لمقاومة السياسية" (و ليست "مقاومة التطبيع" إلا أحد أوجهها) تفتح الباب للأطراف العربية غير الممارسة للفعل المسلح لإسناد الفعل السياسي للطرف الذي يمارس الفعل المسلح... و لا يحصل ذلك بما في ذلك في علاقة بالأطراف التونسية الجادة في "مقاومة التطبيع" (و لا يعني ذلك صحفيي "الشروق" و "الصريح" المشار اليهم من قبل السيد بن حديد) بشكل متطوع من قبل هذه القوى فحسب (بدافع "الغيرة القومية" أو "الواجب الاسلامي" أو أي مشاعر مماثلة) بل أيضا بطلب و إلحاح من القوى الممارسة للفعل المسلح (و هذا يشمل بالمناسبة تنظيمات مثل "حزب الله") لما ترى في ذلك من إسناد سياسي لفعلها السياسي و العسكري على السواء. و على الراغب في التأكد ككا هو معلن من ذلك مراجعة مقررات و توصيات "المؤتمر القومي العربي" و "المؤتمر القومي الاسلامي" و التي تشارك في هيئاتها القيادية، علي التذكير بذلك، الأطراف التي تمارس الفعل المسلح "الحقيقي" (من "حزب الله" الى "حماس" الي غيرهما). إن كل ذلك لا يعني بشكل من الأشكال "التساوي" بين مساهمة مختلف هذه الأطراف (الممارسة و غير الممارسة للعمل المسلح) أو بين مختلف الأفعال (الفعل السياسي و الآخر العسكري). فمثلما أنه من الصائب أن الوضع العربي لا يحتمل تقسيما حادا و حاسما بين "فسطاطين" كل من فيهما مماثل و مطابق للآخر فإنه لا يمكن أن نعتبر غياب "التساوي" تعبيرا عن قطيعة بين مختلف هذه المستويات، و من ثمة مدعاة لاعتبار ما هو فعل سياسي بأنه مجرد "تعبير لغوي". ليس في ذلك ظلم فقط للأطراف العربية الممارسة للعمل السياسي و البعيدة ظاهريا عن العمل المسلح (حيث هي ليست كذلك بشكل مطلق بدليل قتلاها على الساحات العسكرية في جنوب لبنان) بل ذلك أيضا ظلم للأطراف الممارسة للعمل المسلح (و التي تمارس بدورها العمل السياسي بما فيه "مقاومة التطبيع"). مرة أخرى هنا أرجو من السيد بن حديد الاستفسار أكثر عن القوى التونسية المعنية بهذا الصراع و التي يشير الى أنها مجرد "جليس" و ليست "شريكا" فيه.
- يقول السيد بن حديد في استفسار موجه لي: "لأسأل السيّد الطاهر الأسود وأسأل من أخذتهم غضبة في الأمر عن معنى التطبيع لنعرف بالتالي كيف نقاومه". أليس من المثير للدهشة أن يصدر هذا التساؤل بالرغم أنني فصلت في قسم خاص فيما سبق (مقال 10 سبتمبر) بالتحديد، و بالاستناد على مراجع عديدة، في مسألة "معنى التطبيع في الاستراتيجيا الاسرائيلية"؟ أليس من المحبط، إذا أملنا في "تعميق الحوار"، ألا يقع الانتباه لذلك؟ ألا يدعو ذلك ببساطة الى التساؤل عما إذا كان السيد بن حديد قد قرأ بالجدية الكافية المقال الذي قام بـ"التعقيب" عليه؟
يؤكد السيد بن حديد فعلا أنه لم يقرأ بالجدية الكافية ما كتبت عندما ينتهي للقول: " إنّ حصر التطبيع بما فعلته يوميّة الصباح، واعتبار الأمر حصرًا على علاقة حوار أو لقاء أو غيرها من الأفعال مع الصهاينة يحمل تبسيطًا على غاية من الخطورة وتجريدًا أراه دليل أزمة حقيقيّة، حين يمكن للنّاظر العادي ـ دون اعتبار من يدرك دواخل الأمور ـ أن يرى ويشهد ويقرّ بوجود عشرات الحالات التطبيعيّة الأشد خطورة ممّا فعلته دار الصباح، حيث نرى من يحاول ويعمل على تبليد الفكر وإفساد الذوق والحطّ من شعور الانتماء ومن ثمّة إعداد هذا العقل لقبول التطبيع"... فأين يجد في نصي "حصر التطبيع بما فعلته يومية الصباح" أو حتى "حصرا على علاقة أو لقاء أو غيرها من الأفعال مع الصهاينة"؟ أليس ما جاء في فقرة "معنى التطبيع في الاستراتيجيا الاسرائيلية" (مقال 10 سبتمبر) كافيا لفهم معناه؟ هل قدم السيد بن حديد تحليلا لتلك الفقرة و دحضا يوضح كيف أنها تدافع عن طرح "يحمل تبسيطا على غاية الخطورة و تجريدا يراه دليل أزمة حقيقية"؟ لكن السيد بن حديد كان قد بين في نصه السابق أنه ليس معنيا بمحاججات دقيقة و مباشرة عندما يكتب "تعقيبا" مقابل ذلك يقفز الى الأمام ليقدم لنا معناه للتطبيع أو "الحالات التطبيعية الأشد خطورة" و هي كل ما يعني "إعداد العقل لقبول التطبيع" في إشارة الى ما تنشره بعض الصحف التونسية التي يرغب في حصر "مقاومة التطبيع" فيها من "تبليد الفكر و إفساد الذوق"... ألا يشعر السيد بن حديد أننا هنا تحديدا حيال "حوار غير ثري" و مجرد بهلوانيات تجريدية... حيث أن تعريف "ما يعد العقل للتطبيع"، و هو المدقق فيما هو تعبير لغوي، ليس هو تعريف "التطبيع" ذاته بالرغم أن ذلك لا يمنع طبعا أن "تبليد الفكر" يمكن أن "يعد العقل للتطبيع"؟
- يسألني السيد بن حديد مرة أخرى: "أسألك يا أستاذ الطاهر، وقد اكتشفت فيك قدرة توثيقيّة، وأرى فيك من يعطي المعلومة حقّها ويوفي العلم قدره، عن كتابات «حرّاس عبّاد الشمس» وما قدّموا خلاف البيانات والخطب والمقالات الناريّة الموسميّة، التي تنام دهرًا وتنطق بما اعتادت أن تنطق به [حين نكتفي بتشخيص الفعل دون التقييم.."، و لا أدري إن كان ذلك لمجرد مزيد اكتشاف "قدرتي التوثيقية" أم بغرض التقدم بهذا النقاش؟ لقد سبق أن وضحت في أكثر من موضع سابق نأيي عن المواقف "الخشبية" بل و نقدي لها و بضررها على أصول المواقف (و هو ما لا يمكن أن يخفى على أي متابع سواء لمقالاتي الخاصة بالوضع التونسي أو تلك الخاصة بالوضع العربي). لكن السيد بن حديد يتهرب هنا تحديدا من التعرض المباشر لما أشرت اليه في المرة السابقة من تجنيه على قوى سياسية تونسية و تعميم أوصاف نابية عليها بدعوى مهاجمة بعض الشخوص الانتهازية في الوسط الصحفي المواجه للسيد بن حديد. هل يمكن أن يبرر نقد الطبيعة "الخشبية" و صيغ "البيانات النارية" في معظم خطاب "مقاومي التطبيع" أن يعمم في تقييمه له معاني "القطيع" و "الكلامية" و "حراسة عباد الشمس" في حين أن، و هذا ما أشرت اليه في سابق تعليقي مع إيراد أمثلة محددة، غالبية "مقاومي التطبيع" من القوى السياسية الفاعلة داخليا و خارجيا و العريقة في وجودها في القطر التونسي و ممن بلغ بها الأمر ليس التعرض للاعتقال و الملاحقة فحسب للدفاع عن موقفها "المقاوم للتطبيع" بل أيضا إرسال المقاتلين الى جنوب لبنان بتنسيق مع القوى الممارسة للعمل العسكري. ربما يكون لنا اختلاف أو تباين في مدى ضرورة مثل تلك الممارسات أو في تقييم فاعليتها، و لكن لا يوجد ما يبرر أن يمنح السيد بن حديد لنفسه الحق في تقييم مدى "أهليتها" و صدق نيتها في التعبير عن "مقاومة التطبيع". و بمعنى آخر أسأل السيد بن حديد بدوري: هل يبرر خصامك مع بعض صحفيي الشروق و الصريح و موقفك منهم (الذي على الأرجح أوافقك فيه) تعميم الألفاظ النابية في علاقة بـ"مقاومي التطبيع" و منح نفسك حق تقييم "أهليتهم"؟
أود هنا أن أشير الى ملاحظة عابرة: أشار السيد بن حديد أكثر من مرة الى "الغضب" بل و "الثورة" في مقالي و كلامي. و لا أدري في الواقع كيف استخلص الكاتب بالتحديد مشاعر من ذلك النوع من قبلي بناءا على ما ورد في نصي. و الحقيقة أني أحرص الالتزام بالهدوء فيما أكتب، و في علاقة بما كتب السيد بن حديد تحديدا فربما شعرت بالاستياء من بعض ما كتبه و لم يصل بي الأمر الى حدود "الغضب" فما بالك "الثورة"، لأن الأمر لا يستحق ببساطة لذلك. و إذا "عبر آخرون عن غضبهم" له فأرجو ألا يسحب ذلك علي بشكل ميكانيكي. فقط أريد أن ألاحظ، بالمناسبة، أن نصوص السيد بن حديد تمتلئ بعديد العلامات التي تحيل دائما و بالتحديد على معاني "الغضب" و كذلك "الثورة" و ما التكرار الدائم لعلامات التعجب و الاستفهام من نوع (!!!!!!) أو (؟؟؟؟؟؟) إلا أحد مظاهر هذه المقاربة لنصوصه. و هي صيغ لا أحبذها شخصيا و لا أرى لها ضرورة في الكتابة التحليلية و لكني طبعا لا أجادل في حق السيد بن حديد في استخدامها، كما لا أهتم لذلك كثيرا.
- أرغب باختتام تعليقي على رد السيد بن حديد بالتعليق على ما ختم به نصه. في تعليق على جملة أثارت بصيغتها المجتزأة الجدل لدى البعض (و ستكون محور تعليق أطول على "تعقيب" السيد زياد الهاني في القسم الثاني من تعليقي هذا)، يقول السيد بن حديد: "يعتبرني السيّد الطاهر الأسود «ضيفا جزائريا» قد «تعدى ليس آداب الضيافة فحسب بل أيضا آداب الجدال الموضوعي»، وأقول له، أنّي ولدت في هذه الأرض الطيّبة ولم أنظر إلى إقامتي أو علاقتي أو وجودي أو فعلي أو أيّ شكل من أنماط الفعل ضمن القطيعة القطريّة أو العداوة المفتعلة التي شكّلت أساس «الشوفينيّة» التي اعتمدها بورقيبة وغيره في غير هذا القطر على السواء". و من المثير أن يحمل السيد بن حديد عبارتي "الضيف الجزائري" و "آداب الضيافة"، و التي استعملتهما من منطلق توصيفات واقعية و "قانونية" مجردة اتباعا للمعطيات التي قدمها السيد بن حديد حول شخصه في مناسبات سابقة (و هو الأمر الذي قلت سأفصل فيه لاحقا)، أن يحملهما، إذا، معاني "القطيعة القطرية" و "العداوة المفتعلة" و "الشوفينية" عدى عن الاتيان على سيرة الرئيس الراحل بورقيبة و تقييمه بالمرة لسياساته تجاه القطر الجزائري. و بمعزل عن تقييمنا لطبيعة العلاقة بين القطرين التونسي و الجزائري و ماهية "الهوية" التي تجمعهما فإن الصفة الواقعية "القانونية" المجردة في معنى "الضيف" (بمعنى "غير الحامل للمواطنة") لا تعني بأي شكل من الأشكال استعداءا تونسيا للجزائريين أو في المقابل استعداءا جزائريا للتونسيين حيث أنها في صيغتها الأصلية هي تعبير عن تعاقد لحفظ الحقوق بالأساس لولا الظرفيات السياسية و تقلباتها و التي تجعل بين الحين و الحين مثل هكذا صفات مبررا لاغتصاب الحقوق مثلما هو وضع أخينا ("في العروبة و الاسلام و الانسانية" إن أراد) بن حديد. إن الوضع السياسي القائم في الواقع الراهن و الذي يعني وجود دولتين، تونسية و جزائرية، لا يجب أن يعني في ذاته و آليا "قطيعة قطرية" و "عداوة مفتعلة" و، بالتأكيد لا يمكن أن يكون له علاقة بـ"الشوفينية" (و أتساءل إن كان استعمال السيد بن حديد لهكذا مصطلح بتعقيده التاريخي و ما يحمله من تجارب كونية رهيبة يأتي عن معرفة جدية له).
أشير فقط هنا الى أني لا أتفق مع السيد بن حديد في تقييمه لسياسة الرئيس الراحل تجاه الجزائر بـ"الشوفينية". و بالرغم أنه لم يوضح مبررات هكذا تقييم فإني أود أن أذكر أن سياسة الحزب الحر الدستوري الجديد بين سنوات 1954 و 1957 برأسيه و قيادتيه (اليوسفية و البورقيبية) كانت تدعم سياسيا و عسكريا نضال "جبهة التحرير"، في حين كان خلافهما الداخلي كما هو معروف حول نقطة أخرى و هي مدى علاقة استقلال تونس بمسار استقلال الجزائر. و في ندوة أخيرة حول الراحل "أحمد التليلي" (تم عقدها على ما أذكر في مدينة قفصة) قام عدد من المؤرخين التونسيين بتقديم ما يكفي من المعطيات المفيدة بأن منسق الشق البورقيبي للحزب في هذا الملف أي أحمد التليلي و حتى أيام حصول الجزائر على استقلالها (و ما تخلل ذلك من دعم عسكري لـ"جبهة التحرير") كان يعمل بإشراف مباشرمن الرئيس بورقيبة. إن ذلك لا يعني أن الأخير كان شخصا ملائكيا بما في ذلك في رؤيته لعلاقته مع الجزائر، و شاءت الظروف أن الملف المبكر لـ"حاسي مسعود" و تخطيط الحدود بين الدولتين الفيتين، أن يعكر العلاقة بين قيادتي البلدين. غير أن مصدر هذا التوتر (الذي سيتواصل بشكل متفاوت عبر عهدي الرئيسين بن بيلا و بومدين) لم يكن فقط رغبة بورقيبة في ضم "أجزاء من الجزائر" فحسب بل أيضا بسبب الإصرار الجزائري على الامتناع الكامل عن مناقشة مسألة الحدود. و لكن قضية الحدود تدخل في هذا الاطار ليس تحت باب "الشوفينية" المتبادلة من هذا الطرف أو ذاك بل ضمن "منطق الدولة" و الذي يفرض نفسه بمعزل عن أي نوايا سواء "القطرية التونسية" للرئيس بورقيبة أو "القومية العربية" للرئيس بن بيلا. لم يكن الرئيس بورقيبة "شوفينيا" بأي مقياس مقارن في المعاني التي يختزنها هذا المصطلح، بل كان، مثل غيره، "رجل دولة". على كل كان ذلك قوس، من الأقواس العديدة التي يتيح لي السيد بن حديد الفرصة لفتحها، و هكذا أغلقه.
لكن هناك أمر وحيد علي شخصيا الإقرار به لمصلحة السيد بن حديد: حيث رأى أن أسوأ ما يمكن أن يعنيه ما قلت حول تابعيته الجزائرية و هو الأمر الأساسي الذي يجعلني ربما أرغب في مراجعة ما قلته: " قد يرى البعض من الصحفيين ومن السياسيين ومن غيرهم في هذا التوصيف وهذه الإشارة بابًا يفتح الموقف [منّي] على الطرد والترحيل، كما هدّدني البعض ذات يوم أو كما يفكّر البعض راهنًا... قد نلتقي حينها خارج هذه الأرض يومًا... من يعلم؟؟؟ " و بالرغم أني لا أعتقد أن أي من الذين ذكرهم السيد بن حديد بصدد انتظار ما قلته حتى يجد ما يبرر "ترحيله" إلا أني لا أسمح لنفسي أن أساهم حتى بمقدار أونصة واحدة في مظلمة مماثلة.
لكن السيد زياد الهاني، في المقابل، كان ملكيا أكثر من الملك، و توغل في إسداء التهم المجانية على أساس الجملة المجتزأة أعلاه و ذلك بأسلوب مخل بأي نزاهة أدبية أو فكرية حتى كال لي تهمة "العنصرية"، و ليس أقل منها. و لكن الى جانب قضية مختلقة من هذا النوع بقي السيد الهاني صامتا تماما حيال الموضوع الأساسي الذي يجعله طرفا في مجمل هذا الجدال أي الدفاع عن "مشاركة الصباح". و لم يفعل ذلك أو هذا بدون مبررات، كما سأوضح تاليا.
ثانيا تعليق على "تعقيب" السيد الهاني
يقتطف السيد الهاني الجملة التالية من تعليقي السابق (15 سبتمبر) على السيد بن حديد بأن الأخير: "يبقى ضيفا جزائريّـا علينا، قد تعدى ليس آداب الضيافة فحسب، بل أيضا آداب الجدال الموضوعي" و بناءا عليها يستنتج (أي السيد الهاني) السلسلة الآتية من الرؤى بل و كذلك الاتهامات تجاهي و التي تصل، ببساطة، لـ"العنصرية":
- يقول السيد الهاني: "أخشى أن يكون السيد الطاهر الأسود قد انحرف عن هذا المبدإ الأساسي (احترام الطرف الآخر في الحوار) حين سمح لهواه بجرّه للطعن في أهليّـة زميلنا نصر الدين بن حديد من خلال الاستنقاص من "مشروعيّـة" اشتراكه كطرف كامل في الجدل الدائـر أخيرا عبر التركيز على مواطنته الجزائرية"
- ثم يمضي للقول: "لو أقدم على مثل قول السيد الطاهر الأسود مواطن فرنسي في مهاجر لقامت الدّنيا ولم تقعد ولواجه اتهامات بالعنصرية تجعله يخجل من نفسه"
- و أخيرا في مراسلة بالفرنسية وزعها السيد الهاني عبر الانترنت و تلقيت منها نسخة يقول عنوانها ما يلي: "A taher laswed: Attention aux derives racistes" و يضيف في نص المراسلة ما يلي: "Prière de trouver en attachement une copie de la réplique de Nasreddine Ben H'did à Tahar Laswed, ainsi qu'un appel que je lui ai adressé pour éviter les dérives racistes.Zied"
و أمام هذا الاتهام الخطير كان علي أن أتوقف بشكل مدقق أمام ما سبق أن قلته و ما يقوله السيد الهاني خاصة أن اتهامات بهذا الثقل لا يجب أن يتم إلقاؤها باستخفاف و بدون براهين. فالذي تثبت إزاءه تهمة بهذا الحجم يستحق بكل تأكيد الخزي الكامل أما الذي تثبت إزاءه تهمة إلقائها باستخفاف و دون وجه حق و دون إبداء أي براهين جدية فهو يستحق، بدوره... الخزي الكامل. فالاتهام بالتعامل بـ"عنصرية" يماثل اتهام الآخرين عن باطل بـ"العنصرية" ليس لأن ذلك مجرد كذب و تزوير فحسب بل لأنه يساهم في تهرئة تهمة "العنصرية" من مصداقيتها.
لقد جادلت السيد بن حديد في النقاط التي أثارها نقطة بنقطة و إصراري على هذا التمشي الجاد في التعليق على ما كتبه لا يمكن أن يعبر بأي حال على استنقاص من حقه، فما بالك عن "مشروعيته" (و هو مصطلح لم أذكره في أي مقال ذي علاقة بهذا الجدال و انما هو من اختلاق السيد الهاني و هو الذي يضعه بين ظفرين كأنه من صنعي)، في الجدال في أي قضية خاصة بالوضع التونسي بما في ذلك مسألة "مشاركة الصباح". و لكن السؤال الأكثر بدائية هنا هو الآتي: هل يؤدي مجرد القول في الجملة المقتطفة من قبل السيد الهاني (دون الرجوع الى بقية الفقرة و كذلك النص الذي جاءت فيه و هو الذي سأقوم به أسفله) بأن السيد بن حديد: " يبقى ضيفا جزائريّـا علينا، قد تعدى ليس آداب الضيافة فحسب، بل أيضا آداب الجدال الموضوعي "، هل يؤدي هذا القول الى الاستنتاج بأن قائله يستحق الاتهام بـ"العنصرية"؟ المصيبة الحقيقية بالنسبة لصحفي من المفترض أن يحترم مهنيته و استفاد من تدريبه في نقل الخبر و تبرير استنتاجاته، مثلما افترض حال السيد الهاني، أن الأخير لم يكن يرى أي داعي حتى لتفسير كيف يمكن تأويل هذا القول بأنه تعبير عن رؤية "عنصرية" من قبلي تجاه السيد بن حديد. فحسبما أعرف لم يبلغ لعلمي أن صفة "الضيف الجزائري" أضحت في ذاتها تعبيرا "عنصريا". فهذا التوصيف ليس بأي حال من الأحوال توصيفا يقلل من قيمة السيد بن حديد بل هو إشارة لواقع قائم كان عبر عنه السيد بن حديد في سابق مقالاته التي تعرض فيها لحالته الحقوقية بما في ذلك افتكاك جواز سفره الجزائري. و هذا التوصيف أي أن يكون السيد بن حديد "جزائريا" و أكثر من ذلك أن يكون "ضيفا" لا يمكن أن يكون تقليلا من شأنه و من أهليته في هذا الجدال و لا يقلل بأي حال من الأحوال في علاقته الوثيقة بأرضنا التونسية. و هو تحديدا الأمر الذي أشرت اليه في أول فقرة من تعليقي (15 سبتمبر) على "تعقيبه". و التي أرى من الضروري أن أنقلها كما هي فيما يلي:
"يستحق السيد نصر الدين بن حديد الاحترام، و هو المواطن الجزائري الذي يقوم بدور صحفي مشرف في تونس (حتى عندما عمل سابقا في ظروف صعبة مثل إدارة القسم الفرنسي في صحيفة "الوحدة"، و هي لسان حال طرف سياسي غير جاد مثل "حزب الوحدة الشعبية") لا يقوم به بعض من يحملون المواطنية التونسية و يدعون الانتساب للقطاع الاعلامي. و هو بالتأكيد لا يمكن أن يحظى من قبلي بالإغفال كما أشار الى ذلك. أقول ذلك ليس فقط تعاطفا و تضامنا مع قضيته و قضية أبنائه التونسيين الحقوقية، و التي يجب أن أذكر، أنه قد أثارها منذ مدة ليست بالقليلة، بالرغم من أن رسالته الأخيرة ربما حظيت باهتمام يفوق ما حظيت به نداءاته في الماضي. أقول ذلك، إذا ليس من موقع التعاطف مع وضعيته الحقوقية فحسب، بل أيضا من منطلق احتواء عدد من مقالاته على ما يستحق الانتباه و الاطلاع و لذلك فإني أتابعها كلما سنحت الفرصة لذلك"
فدور السيد بن حديد المشرف صحافيا يجعله، بالنسبة لي على الأقل، في مرتبة أعلى بالنسبة للمشهد الإعلامي التونسي من غيره ممن يحملون المواطنية التونسية و يدعون امتهان الصحافة. فإشارتي للمواطنية الجزائرية هنا (أو "تركيزي عليها" كما يمكن أن يحلو للسيد الهاني أن يقول) يهدف بالتحديد الى التأكيد على عدم أهمية المواطنية عند تقييم الشرف الصحفي لأي إعلامي ينشط في تونس و ذلك في اتجاه الاشارة لدعم حقه في استرجاع جواز سفره مع حقه في التمسك بالتمتع بالعمل كصحفي في تونس جنبا الى جنب عائلته و أبنائه التونسيين. أما مقام السيد بن حديد الطويل و علاقته الوثيقة بهذه الأرض لا تتضارب مع المعنى الإيجابي لصفة "الضيف" التي ما هي إلا توصيف لوضعية قانونية مجردة في النهاية أمام الاعتبارات الانسانية.
الشيئ الوحيد الذي يقدمه السيد الهاني و الذي يمكن، بعد الكثير من التساهل، اعتباره "تحليلا" في اتجاه تبرير اتهاماته تجاهي هي الجملة التالية: " سمح لهواه بجرّه للطعن في أهليّـة زميلنا نصر الدين بن حديد من خلال الاستنقاص من "مشروعيّـة" اشتراكه كطرف كامل في الجدل الدائـر أخيرا عبر التركيز على مواطنته الجزائرية "، فهل أقوم في قولي هذا بالتقليل من "مشروعية" السيد بن حديد في الجدال الدائر حول "مشاركة الصباح" عندما أشير الى أنه "ضيف جزائري"؟ في الحقيقة سيكون ذلك ممكنا لو أني أسقطت مثل هذه الإشارة من دون أي داعي في صيغة مبهمة من نوع مثلا أن السيد بن حديد "ضيف جزائري" و بالتالي أني لا أرى، مثلا، أي داعي لاشتراكه في هذا الجدال أصلا. غير أن ذلك لم يحصل البتة. و هنا آتي للإطار الذي جاءت فيه الجملة التي اقتطفها السيد الهاني و بنى عليها استنتاجاته بلا أي مبرر و في معزل عن إطارها. و يستوجب هنا أن لا نقف عند المقولة المجتزأة أعلاه كما يفعل صحفي مثل السيد الهاني كان من المفترض أن يتحلى بالمهنية و المصداقية في نقل الخبر و القول كاملا. يستوجب أن نمضي لقراءة مجمل الفقرة المعنية، و هو ما لم يفعله للأسف السيد الهاني في مقابل سماحه لنفسه إطلاق اتهامات خطيرة تصل حد "العنصرية". و هكذا كان علي أنا أن أقوم بذلك عوضا عنه. و تأتي الجملة المعنية في الفقرة التي ضمنها كالآتي (كلامي باللون الأحمر، و كلام السيد بن حديد الذي أعلق عليه باللون الأزرق):
" و يحيلنا ذلك على مسألة مدى جدية وجود شركاء عرب للقائمين على الصراع العسكري ضد إسرائيل بما في ذلك في المجال التونسي. حيث من الواضح أن السيد بن حديد، و الذي يبقى ضيفا جزائريا علينا، قد تعدى ليس آداب الضياقة فحسب بل أيضا آداب الجدال الموضوعي عندما اعتبر، و ببساطة، أن " هؤلاء «الذين نصّبوا أنفسهم أوصياء على المقاومة»، وأضيف بل أقول وأتحمّل مسؤوليّة قولي أمام القانون والتاريخ والضمير أنّ جلّهم لا يعدو أن يكون سوى ضبعًا أراد التمرّغ في تراب الأسود، ليفهمنا أنّه «شريك في صنع هذه الانتصارات» ومؤتمن عليها!!!... إنّ مقاومة التطبيع لا يمكن أن تتأتّى من خلال الانتظار، بل عبر الفعل والتأسيس، وأسأل الضبع فيهم ومن هو أقلّ من الضبع، عن كتاباته ومواقفه وأفعاله و«صولاته وجولاته»، لنجد مجرّد بيانات ممجوجة، أصبحنا نحفظها عن ظهر قلب..." (مقال بتاريخ 31 أوت) في نفس المقال في موقع آخر في إشارة لـ "مقاومي التطبيع" يرى الكاتب بأن ثقافة المقاومة لديهم تعني "النوم ومراوحة الخمّارات، من باب حراسة «عبّاد الشمس»..." ... و إذا تجاوزنا بعض الجمل الخشبية (من نوع "تحمل (الكاتب) المسؤولية أمام القانون و التاريخ و الضمير" في مقولاته هذه) فإنه من التجني و التعميم الناتج، في حالة استباق حسن النوايا، عن جهل بتفاصيل و هويات بعض الأطراف السياسية التونسية، إطلاق أحكام بهذه الاطلاقية شملت أطرافا سياسية تونسية دفعت و لازالت الكثير مقابل تمسكها بموقفها السياسية المستقلة بما في ذلك موقف "مقاومة التطبيع". "
إن تذكير السيد بن حديد بـ"آداب الضيافة" عندما يوجه شتائم من النوع أعلاه ("ضباع"، "صبية"، "عباد شمس") لقوى تونسية (و ذكرت منها في هذا الاطار على سبيل الذكر لا الحصر الاستاذ البشير الصيد و التيار الذي يمثله) طالما دفعت الكثير من التضحيات من أجل التعبير عن مواقفها (و ليست "مقاومة التطبيع" إلا أحدها) و ممارسة حقوقها السياسية في واقع محاصر نعرفه جميعا ، إن تذكيرا بـ"آداب الضيافة" ليس بأي حال تعبير عن "عنصرية" تجاه السيد بن حديد. فهل أن صفة "الضيف"، القانونية المجردة هنا، لا تعني في النهاية التزامات في آداب الخطاب تتجاوز على كل حال صفة "الضيف" و "المواطن" على السواء؟ و هو تحديدا ما أشرت اليه من خلال التذكير بـ"آداب الضيافة" مع "آداب الجدال الموضوعي" على السواء.
و هو تذكير لا يتجاوز حدود الكياسة بمقاييس أي مجال جغراسياسي بما في ذلك الأمريكي شمالي الذي تساءل عنه السيد الهاني (بالمناسبة من الصفات "القانونية" تحديدا للمقيمين على الأرض الكندية أو الأمريكية ممن لا يحملون المواطنة المحلية بمعزل عن مدة الإقامة هو "عامل ضيف" (guest worker). و لكن هذه إشارة خارج الموضوع). حيث من المفترض لأي "ضيف" كان، مرة أخرى بالمعنى القانوني المجرد للكلمة و بمعزل عن علاقة المعني الواقعية بالأرض التي يقيم عليها، أن يحافظ على مسافة ما في المجال الذي يقيم فيه، و المسافة الأدبية هنا بالرغم من عدم إلزاميتها إلا أنها تعبر عن تقدير للـ"مضيفين" يعبر في الأصل عن التساوي في النظر الى القيم الانسانية بين "المواطن" و "الضيف". و طبعا غني عن القول أن مواقف السيد بن حديد لا تعبر عن مستوى متطرف من القطيعة مع و التهجم على القوى المحلية (في هذه الحالة المعنية بـ"مقاومة التطبيع")، مثلما هو الحال مثلا مع مواقف من يرغب في تأسيس الخلافة و تكفير مجتمع مضيفيه كما حدث و يحدث في بريطانيا. و لكن ذلك لا ينفي عن هذه المواقف صفات التهجم المجاني و فقدان اللباقة عدى أنها لا تعكس معرفة جدية من قبل السيد بن حديد بهذه القوى و بتاريخها و ممارستها التي تتجاوز الإصدار الميكانيكي للبيانات، كما يبدو أنه يعتقد، و هو ما أرغب أن أرجعه ليس لتجاهل من قبله بل لمحدودية في الخبرة بالواقع التونسي.
إن ما قلته من تعابير (من نوع "ضيف" و "آداب الضيافة") تعكس صفات قائمة في الواقع كان أشار اليها السيد بن حديد سابقا و تصانيف "قانونية" مجردة كان الغرض منها الأساسي، كما هو واضح من الإطار الذي جاءت فيه و حسبما عاودت التأكيد أعلاه، إما التعاطف مع السيد بن حديد و تأكيد دوره المشرف كصحفي في واقع إعلامي تونسي يعاني من الهنات أو لفت انتباهه بشكل ملطف، و هو الأسلوب الذي التزمت به و لا أسمح لنفسي بغيره فيما أكتب، للعبارات و الأوصاف اتي تجنى بها على قوى تونسية مناضلة من نوع "ضباع" و "صبية"، و هو الأسلوب المشخصن الذي لم أر السيد الهاني يحرك ساكنا تجاهه و هو الحريص، كما يبدو، على نقد النص و ليس نقد الشخص. إن تقديم عباراتي و أفكاري تلك، كما يفعل السيد الهاني بكل روح لامهنية بالنسبة لدوره المفترض كصحفي، على أنها ببساطة و بدون أي تبرير و برهان أنها تعابير أو رؤى "عنصرية" إنما يشير الى أساليب تبعث على الخجل في "الحوار الفكري" كما يفهمه السيد الهاني. ألا يبدو ذلك نموذجا غير مطمئن بالمرة لمن يرغب في أن يقدم بديلا إعلاميا في حجم قناة إذاعية، مثلما يسعى السيد الهاني أن يفعل عبر مشروعه "إذاعة قرطاج"، و التي عاود منذ أيام الاحتجاج على تجاهلها من قبل الأطراف الرسمية (و هو ما نتضامن فيه معه من زاوية مبدئية حقوقية بمعزل عن هذا الجدال)؟ كيف سينقل السيد الهاني الأخبار و الأقوال و أي معاني سيسبغ عليها عندما تصبح بين أيديه أداة إعلامية خطيرة بحجم إذاعة؟
و لكن قبل و بعد ذلك، أليس من المريب أن يقوم السيد الهاني بتجاهل كل النقاط التي أثرتها و التي تتعلق بموقف الدفاع عن "مشاركة الصباح"، و التي تشمل فيمن تشمل موقفه هو تحديدا، و أن يقوم باختلاق اتهامات "عنصرية" تجاهي ككتلة دخان، عوض "التعقيب" بحق على رأيي، و هو ما أراه من أساسيات أي شخص جاد في "الحوار الفكري" الذي يسعى اليه بكل إلحاح افتراضا السيد الهاني؟ في علاقة بأصل كل هذه الردود و "التعقيبات" أي مسألة "مشاركة الصباح" كان كل ما استطاع أن يقوله السيد الهاني ما يلي: " أما باقي النقاط المعروضة للنقاش فيهمني بيان المبدأين التاليين الذين يوجّـهان حركتي: أوّلا أنا أرفض سياسة المقعد الشاغر.. ثانيا لا أردّ على التهجمات الشخصية التي تستهدفني متمثّلا قوله تعالى: بسم الله الرحمان الرحيم "وإذا سمعُوا اللّـغوَ أعرضوا عنهُ وقالُوا لنا أعمالُـنا ولكُـمْ أعمالُـكمْ سلامٌ عليكُمْ لا نبتغي الجاهلـيْن " صدق الله العظيم " "
و هنا أرجو من السيد الهاني أن يتحلى بشيئ من الجدية و أن يتفضل بأن يفسر لقرائه كيف لهذين "المبدأين الذين يوجهان حركته" أي علاقة بكل ما قلته في كتاباتي عن موضوع "مشاركة الصباح" بما في ذلك ما كتبته عن موقفه و غيره في الدفاع عنها؟ هل هناك في كل ما كتبته أي دعوة لأي كان أن يمارس "سياسة المقعد الشاغر"؟ هل هناك ما يشير بأي حال الى "تهجمات شخصية" عليه أو غيره فيما قلته حتى "تتوجه حركته" الى أسلوب النعامة التي تحشر رأسها في الرمل و تتجنب نقاش موقفه في "مشاركة الصباح" و استبدالها بقضايا مختلقة بشكل معيب و مخزي مثل اتهامه لي بأني أوجه خطابا "عنصريا" نحو السيد بن حديد؟ خاصة أنه ليس لي أن أعتبر إشاراته و اتهاماته هذه في إطار التأكيدات العامة خاصة في الوقت الذي يأتي فيه استعراض السيد الهاني هذين "المبدأين" تحديدا في إطار "تعقيبه" على ما كتبته.