Friday, October 14, 2005

تشريع التعذيب و تشريع مقاومة التعذيب


بقلم: الطاهر الأسود
الإدارة الأمريكية تواجه اهتراء قاعدتها التشريعية في ضوء شهادات جديدة عن التعذيب في العراق.
ميدل ايست اونلاين
"بشكل من الأشكال كان ذلك نوعا من الرياضة"
في وصف التعذيب في قاعدة أمريكية في العراق
من شهادة عريف من الجيش الأمريكي في تقرير للهيومان رايتس واتش hrw.org/reports/2005/us0905
1
يناقش أعضاء مجلس النواب الأمريكي (House of Representatives) (أي الغرفة السفلى من الكونغرس الأمريكي) في المدة القريبة القادمة مشروع قرار مقترح من قبل أعضاء من مجلس الشيوخ (Senate) (أي الغرفة العليا من الكونغرس الأمريكي) تم تبنيه في الأسبوع الماضي بأغلبية ساحقة (90 مقابل 9) يتضمن قرارا واضحا لا لبس فيه بمنع الجيش الأمريكي من الانخراط بأي شكل من الأشكال وتحت أي مبرر من المبررات في ممارسات لتعذيب المساجين سواء كانوا من جنسيات أمريكية أو غيرها وسواء كانوا سجناء حرب أو "مقاتلين أعداء". المثير في الأمر كله أن البيت الأبيض قد أعلن على الملأ ولأكثر من مرة في الأسبوع الأخير عن معارضته الكاملة لمثل هذا القرار. ففي الندوة الصحفية التي عقدها المتحدث باسم البيت الابيض سكوت ماكليلان يوم 6 أكتوبر الجاري تم التصريح بأن سياسة الإدارة الأمريكية في علاقة بهذا القرار ستكون مُهتدية بما نصح به مستشارو الرئيس ويتمثل ذلك تحديدا في قيامه باستخدام حق الفيتو بصفته الرئاسية ضد مشروع القرار، وهو الإجراء الأقصى الذي يمكن أن يستعمله الرئيس الأمريكي وهو ما سيحصل لأول مرة بالنسبة للإدارة الحالية. ويشير ذلك بوضوح الى شدة مقاومة الادارة لمشروع قرار من المفروض أنه يؤكد على بديهيات تشريعية في القوانين الأمريكية، وعلى سبيل المثال فقد تم الاستناد بشكل كامل تقريبا في صياغة لغة القرار الأخير على القوانين الداخلية المنظمة للجيش الأمريكي لا غير. تقول التقارير الصحفية أن مصادرها من داخل البيت الأبيض تشير الى "خطورة مثل هذا القرار على جهود الادارة في محاربة الارهاب لأنه سيقيد يديها".
وفي الواقع لم يبدأ هذا التجاذب حول القرار أعلاه مؤخرا: حيث بدأت المؤشرات على تصميم عدد من أعضاء مجلس الشيوخ وخاصة من "لجنة القوات المسلحة" وتحديدا من قبل السيناتور الجمهوري البارز جون ماكاين (John McCain) منذ أواسط الصيف الماضي وهو ما أدى الى تحركات مكثفة من قبل نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني للضغط من أجل إبطال تشريع القرار. فقد نقلت صحيفة واشنطن بوست بتاريخ 23 يوليو/تموز 2005 إعتمادا على مصادر من داخل البيت الأبيض أن نائب الرئيس قد التقى بثلاث أعضاء من "لجنة القوات المسلحة" للضغط عليهم من أجل منع القرار مبررا ذلك بأنه سيؤثر على "قدرة الرئيس لحماية الأمريكيين بشكل ناجع من هجوم ارهابي". لا يبدو أن ذلك كان الاجتماع الوحيد حيث تشير الصحيفة الى لقاء آخر على الأقل مورس فيه الضغط من قبل الإدارة خاصة على الأعضاء الجمهوريين. غير أن فشلها كان ذريعا مثلما ظهر من خلال تمرير القرار في مجلس الشيوخ وبدعم من قبل غالبية كبيرة من أعضاء جمهوريين بارزين وليس من قبل أعضاء الحزب الديمقراطي فحسب.
2
يجب الرجوع الى حوالي العام قبل تمرير المشروع الأخير لفهم التجاذبات الخلفية في المؤسسة التشريعية الأمريكية ومن ورائها البيت الأبيض حول مسألة التعذيب. ففي أواخر شهر أيلول (سبتمبر) 2004 قدم المتحدث باسم الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب فقرة في مشروع قرار (حول إصلاح الإستخبارات) تشرع ضمنيا الالتجاء الى التعذيب عبر طرف ثالث لانتزاع المعلومات من المتهمين غير الأمريكيين والمعتقلين في سجون أمريكية. وهي فقرة توفر غطاءا لممارسات هي بصدد التحقق فعلا أي تسفير مساجين الى بلدان أجنبية تمارس عادة التعذيب وهو ما كان يمثل استدراكا تشريعيا لخروقات كانت تقوم بها الادارة الأمريكية للقوانين الأمريكية في هذا الشأن. وبالرغم من الحملة القوية التي نظمتها منظمات حقوق الانسان الأمريكية والدولية لإسقاط المشروع وبالرغم من انضباط غالبية أعضاء الحزب الديمقراطي لقرار معارضته فإن الغالبية الجمهورية في مجلس النواب نجحت في تمريره.
كان ذلك مؤشرا واضحا على رغبة الإدارة الأمريكية في تشريع ما لممارسات التعذيب. المثير أن ذلك كان إثر افتضاح ممارسات التعذيب في سجن أبو غريب وتعهد الادارة رسميا بأنه ليس من سياستها ولا من منطقها الالتجاء الى التعذيب كوسيلة للتحقيق مع السجناء. وكانت استجوابات المسؤولين الأمريكيين في الكونغرس مناسبة لهم لترديد عدم إيمانهم في وسائل التعذيب ليس من ناحية مبدئية فحسب بل أيض من ناحية عملية: وبدا أن الجميع يشارك في القناعة البديهية بأن التعذيب يمكن من استصدار معلومات مغلوطة بشكل يشوه طبيعة الأمور. وفي الواقع تعكس هذه السياسة التشريعية تخوفا من المستقبل وخاصة من جهة المحاسبة الداخلية للمسؤولين الأمريكيين وهو ما ثبت إمكانية حدوثه إثر فضيحة سجن أبو غريب. حيث تم تمريغ أنوف قيادات سياسية وعسكرية عليا في الوحل من خلال أستجوابات الكونغرس والتي تم بثها مباشرة في الشاشات الأمريكية. وكانت لحظات محاصرة السيناتور ماكاين لوزير الدفاع رامسيفيلد والذي يتميز بعناده من المشاهد المثيرة التي غيرت من نظر الكثيرين لهذه الادارة والتي بدا أنها تتمتع بنوع من الحصانة منذ هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001. وبدا من الواضح من خلال ذلك أن مجرد قيام الادارة بإصدار مذكرات سرية تنصح بممارسة التعذيب (مثلما توضح من خلال مذكرة أرسلها المستشار القانوني للرئيس سنة 2002 ووزير العدل الحالي ألبرتو غونزاليز Alberto Gonzalez) لا يمكن إلا أن تورطها فيما بعد في استجوابات وملاحقات من المؤسسة التشريعية لا ترحم. ومن ثمة طرح ذلك الحاجة لتشريع التعذيب كاستكمال لحقيقة ممارسته.
3
غير أن الأمور تغيرت منذ سنة 2004. عندها أعطى أعضاء كبار من مجلس الشيوخ فرصة للإدارة الأمريكية لإنزال عقوبات كبيرة بمسؤولين كبار في التسلسل العسكري والسياسي (وصلت التكهنات آنذاك لرغبة عدد من السيناتورات في استقالة رامسفيلد نفسه) غير أن ذلك لم يحصل وتم التمسك بمعاقبة جنود من رتب ضعيفة كما تم التمسك بالرواية الأولى أي أن ما حدث في سجن أبي غريب كان مجرد عمل معزول وليس جزءا من سياسة عامة تعتمد التعذيب بشكل رسمي.
وحدث في الصيف الماضي أن إحباط أعضاء جمهوريين مثل ماكاين قد تقاطع مع شهادات جديدة تؤكد على استمرار التعذيب في السجون الأمريكية في العراق كما تؤكد أيضا على أن هذه الممارسات هي سياسة فعلية في التحقيق بل وروتينية وليست مجرد أعمال معزولة. وهنا يستحق ثلاث ضباط في الجيش الأمريكي وما قاموا به إهتماما خاصا. فقد قام الكابتن إيان فيشباك (Ian Fishback) والذي عمل في العراق ضمن الفرقة 82 المحمولة جوا بالالتجاء في الصيف الماضي الى منظمة هيومان رايتس واتش الحقوقية الأمريكية بعد أن فشل في لفت إنتباه رؤسائه العسكريين للممارسة الروتينية للتعذيب في العراق. بل أن عددا من رؤسائه نصحوه بشكل صريح بتهديده من خلال نصحه بالإهتمام بـ"مستقبله المهني والابتعاد عن المشاكل". وبعد أن حاول الاتصال بزعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ بيل فريست والذي تجاهل أيضا نداءاته. ولكن بعد تقديم شهادته المروعة مع اثنين من زملائه الى المنظمة الحقوقية قامت الأخيرة بتوفير الاتصال بينه وبين أعضاء آخرين من مجلس الشيوخ وتحديدا بالسيناتور ماكاين والذي يبدو أنه لم يعد ير موجبا لاستمرار الصمت على سلوكيات الإدارة الأمريكية. وبحلول شهر يوليو أصبح من الواضح أن عددا كبيرا من أعضاء مجلس الشيوخ قرر قضم الأضافر التشريعية للرئيس الأمريكي ومساعديه والتبرؤ من استمرار سياسات التعذيب وتشريعها. ومن الواضح أن تزامن الشهادات الجديدة مع تأكيد الكونغرس على لاقانونية التعذيب في أي ظرف من الظروف أثار الذعر في أوساط البيت الأبيض والبنتاغون لأنها ستفتح الباب أمام محاسبة عسيرة يمكن أن تطيح برؤوس كبيرة هذه المرة.
يأتي هذا في وقت تقترب فيه الانتخابات التشريعية ويخشى فيه الكثير من أعضاء الكونغرس وخاصة الجمهوريون منهم من التأثر بالشعبية المتراجعة للرئيس الأمريكي. وتدل مؤشرات مختلفة على هذا التباعد بين جمهوريي البيت الأبيض وجمهوريي الكونغرس بما في ذلك المشاكل التي نشأت عن تعيين العضوة الجديدة في المحكمة العليا الأمريكية والتي لاقت اعتراضا غير مسبوق من قبل الكثير من الأعضاء الجمهوريين. وفي هذا الإطار فإن إسقاط القرار الأخير ضد التعذيب في مناقشات مجلس النواب المقبلة سيكون صعبا للغاية بالرغم من التأثير الأكبر للبيت الأبيض على مجلس النواب. غير أن تفسير ما يحدث لا يتعلق بحسابات سياسيوية فحسب: حيث هناك تيار داخل الحزب الجمهوري من المحافظين التقليديين (مثل ماكاين نفسه) الذين يستعدون منذ مدة للقيام بهجوم معاكس على المجموعة الحاكمة من المحافظين الجدد وهو ما انكشف في عدة مناسبات. وبمعنى آخر فإن ما يجري يمكن اعتباره هجوما تشريعيا معاكسا في إطار تصفية حسابات إيديولوجية وتنظيمية بين الطرفين. وعموما تعكس هذه المعركة القوة الاستثنائية التي تمتلكها المؤسسة التشريعية الأمريكية مقارنة بديمقراطيات أخرى وهو ما يجعلها قوة تعديل هامة في ميزان القوى السياسية وبالتالي الحد من سلطات الرئيس الأمريكي. وهي خاصية شديدة الأهمية في ظل القرارات الاستراتيجية غير المسبوقة التي تبنتها الادارة الأمريكية. وبمعنى آخر فإن الضوء الأخضر الاستثنائي الذي تلقته الأخيرة من الكونغرس بعد هجمات 11/9 بدأ بالتغير الى اللون الأحمر المعتاد.
4
نأتي الآن لتقرير منظمة هيومان رايتس واتش والذي صدر في 24 أيلول/سبتمبر الجاري والذي لم يحظ بعد بالاهتمام الاعلامي المناسب كما لم تقم المنظمات الحقوقية العربية بما في ذلك العراقية بأي مجهود لتعريبه (حيث لاتزال النسخة الكاملة للتقرير مكتوبة بالانجليزية فقط) وترويجه. ويعكس هذا التقرير الأخير أولا أن تركيز اللوم على الجنود الأمريكيين من قبل الإدارة الأمريكية ومن ثمة حصر العقوبات في مراتب دنيا لا يمكن إلا أن يركز الضغوط عليهم الى الحد الذي يدفع بمجندين جدد لفضح ما يجري خلف السجون الأمريكية في العراق. من جهة أخرى يعكس التقرير صورة رهيبة عن حجم معاناة المواطن العراقي من الاحتلال الأمريكي، حيث لا يتعلق الأمر بالعقاب الجماعي فحسب بل يتجاوزه ليعكس حقيقة أصبحت تستحق اهتماما خاصا وهي السادية المثيرة التي يتمتع بها العديد من الجنود الأمريكيين والذين يجتهدون أحيانا وبشكل مرضي في استهداف مواطنين أبرياء لا لشيء إلا لرغبة الاستهداف.
يتكون التقرير من: (أ) ملخص مطول، (ب) شهادة لعريف في الفرقة 82 المحمولة جوا (وكانت متمركزة في الفلوجة)، (ج) شهادة ثانية لعريف في الفرقة 82 المحمولة جوا، (د) شهادة لكابتن في الفرقة 82 المحمولة جوا وهي الشهادة الأكثر طولا وتفصيلا، (د) خلاصة. وسننقل هنا مقتطفات من الملخص المطول. يبدأ الأخير باستشهادين. في الأول يصف العريف ما يجري في غرف الاعتقال الموجودة ضمن القاعدة العسكرية الأمريكية كالتالي: “في أيام عطلهم كانوا (الجنود الموجودين في القاعدة) يأتون في كل الأوقات. الجميع يعلم في المعسكر أنه إذا أردت التخلص من الاحباط فيمكن الذهاب لغرف الاعتقال. بشكل من الأشكال كان ذلك نوعا من الرياضة. كان جميع الطباخين جنودا أمريكيين. في أحد الأيام ظهر أحد العرفاء وأمر أحد المعتقلين بالإمساك بعمود. أمره بالإنحناء وكسر ساقه بهراوة معدنية. كان ذلك (...) الطباخ. لم يكن من المفترض أن يوجد في غرفة الاعتقال أصلا.” يمضي التقرير للإشارة الى أن الشهادات التي قام بها الجنود الثلاث تذكر أن عمليات التعذيب كانت تحدث بشكل يومي في الفترة التي شهدوها وذلك بين سبتمبر 2003 وأفريل 2004 وذلك في القاعدة العسكرية "عطارد" (Mercury) قرب مدينة الفلوجة. وتضمنت عمليات التعذيب هذه: جميع أشكال الضرب المبرح؛ تعريض الجلد والعين لمواد كيميائية خطيرة؛ إجبار المعتقلين على إتخاذ مواضع ضاغطة الى حد اللاوعي مثل إمساك جرة ثقيلة مملوءة بالماء الى الأعلى من دون توقف؛ الحرمان من النوم والأكل...الخ. من جهة أخرى تم إدخال مصطلح جديد على السجناء العراقيين (مثل سجناء غوانتنامو) وذلك لحرمانهم من صفة "سجين حرب" وهي صفة "شخص تحت المراقبة" (Person Under Control) وهي متداولة أكثر في شكل مختصر "بيوك" (PUC). كان هؤلاء "البيوك" معتقلين في خيام لمدة لا تزيد عادة عن الثلاثة أيام قبل ترحيلهم الى أبوغريب أو الافراج عنهم. في تلك الأثناء كانوا يتعرضون الى التعذيب بشكل مكشوف حتى أنه أصبح وسيلة للترفيه كما أنه تم التندر بوسائل التعذيب من خلال منح نعوت مضحكة على بعضها: مثلا كان يقع تسمية حالة الإجهاد الجسدي الى حد اللاوعي للمعتقل بـ"تدخين بيوك" ('Smoking a PUC”). بالاضافة الى ذلك كان الممرضون والأطباء يوافقون على تحوير الحقائق في تقاريرهم الطبية من خلال التستر على الجروح الناتجة عن التعذيب من خلال الاشارة الى أنها ناتجة عن مواجهات مسلحة خلال الاعتقال. وتشير الشهادات أن كل هذه الممارسات كانت تحدث بإشراف وتسيير مباشر من قبل أعلى الرؤساء العسكريين في القاعدة. بالإضافة الى ذلك كانت هناك عمليات تعذيب شهد عليها الجنود الثلاثة من قبل "وكالات حكومية أخرى" (“Other Government Agencies”) وهو مصطلح يتم اختصاره عادة الى (OGA) يشير بشكل عام الى وكالة الاستخبارات المركزية.
ليست الادارة الأمريكية بصدد فقدان قاعدتها التشريعية الجمهورية فحسب بسبب إصرارها على هذا النهج. الأكثر من ذلك هي بصدد مواصلة الترويج بشكل ناجع لكونها تفتقد أيضا الشرعية الأخلاقية في سياستها في المنطقة. طبعا لن يمنع ذلك رموز الإدارة الأمريكية، بما في ذلك كارن هيوز، عن التساؤل باستغراب عن دواعي الكراهية المتصاعدة للولايات المتحدة في المنطقة العربية والاسلامية. دع عنك تعبير القادة العسكريين الأمريكيين عن حيرتهم إزاء نجاح المقاومة العراقية. من جهة أخرى من الواضح أن البنى القانونية والسياسية التي تكفلها الحياة الديمقراطية وحدها التي تسمح لجنود أمريكيين من التمرد على قادتهم والشهادة ضد ممارسات التعذيب الوحشية، ومن ثمة التأثير المباشر في التشريعات الأمريكية بل وفي صراع مهول مثل الذي يحدث الآن بين المؤسسة التشريعية والبيت الأبيض.
الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية
">Link
http://www.middle-east-online.com/?id=33934
Link

Tuesday, October 04, 2005

الفساد في الكونغرس الأمريكي: حول الفساد و ردعه في مجتمع ديمقراطي

الفساد في الكونغرس الأمريكي: حول الفساد و ردعه في مجتمع ديمقراطي

الطاهر الأسود—باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية
1
اتهم محقق رسمي في ولاية تكساس أواخر هذا الشهر (سبتمبر/أيلول) زعيم الأغلبية الجمهورية بمجلس النواب (House of Representatives) توم ديلاي (Tom DeLay) بخرقه قوانين الولاية (و هو أحد نوابها في مجلس النواب و من ثمة يخضع لقوانينها) في علاقة بتمويل رأس المال الخاص للحملات الانتخابية. و من دون الدخول في تفاصيل كثيرة لقضية معقدة من الزاوية القانونية (كان تعقيدها في الواقع من العناصر الرئيسية للخبر ذاته) يتعلق موضوع الفساد هنا بأكثر ملامح الديمقراطية الأمريكية جدالا، أي العلاقة المشبوهة بين الأوساط المالية و مُنتخَبي الشعب. ففي وجود قوانين غامضة و معقدة تم إقرارها أصلا من مجموعات من المشرعين يوجد بينهم الكثير ممن يرتبط بالمصالح الخاصة فإن عملية الاتهام ذاتها عملية صعبة و تحتاج شجاعة كبيرة من أي محقق رسمي حيث يمكن لأي من هؤلاء أن يراهن على مستقبله المهني بمجرد تسلط الأضواء عليه و على لائحة الاتهام التي يتقدم بها.

و على سبيل المثال فبمجرد أن أعلن محقق مقاطعة ترافيس كاونتي (ولاية تكساس) روني إيرل (Ronnie Earl) عن لائحة الاتهام حتى تعرض الى هجوم معاكس قوي يشكك في نزاهته على أساس أنه ينتمي الى الحزب الديمقراطي. المثير أنه تبين بعد ذلك أن السيد إيرل قد أقام قضايا على مسؤولين ديمقراطيين أكثر بكثير من المسؤولين الجمهوريين في مقاطعته. من جهة أخرى لا يبدو أنه كان سيحفل على كل حال بهذا الهجوم سيما أنه طاعن في السن و لا يبدو أنه يخشى على "مستقبله المهني". بمعنى آخر من غير الممكن ألا نرى أن السيد ديلاي وقع أمام خصم عنيد و مصمم هذه المرة. نقول هنا "هذه المرة" لأن زعيم الأغلبية الجمهورية قد تعرض لأكثر من مرة لاتهامات بالتلاعب بالأموال في مسيرته النيابية (أول اتهام كان سنة 1993) غير أنه نجى من العقاب.

يتمثل ملخص لائحة الاتهام فيما يلي: قام السيد ديلاي بتمرير أموال بقيمة 190 ألف دولار ترجع الى مؤسسات من القطاع الخاص (ما يطلق عليه اختصارا: corporate cash) الى سبعة مرشحين من الحزب الجمهوري الى انتخابات المجلس التشريعي المحلي و ذلك في الانتخابات المحلية لسنة 2002. يُعد ذلك خرقا لقوانين ولاية تكساس بما أنه يؤثر على مسار الانتخاب الحر و يعرض المتهم لحكم بالسجن يتراوح بين ستة أشهر و عامين و بغرامة مالية تصل الى العشرة آلاف دينار. و في الواقع هذه قطرة في بحر من الاتهامات تكثفت منذ السنة الفارطة مما أدى آنذاك الى فتح تحقيق من قبل الكونغرس لديلاي حيث وقع استنطاقه حول أموال بقيمة 2 مليون دولار دفعتها منظمة لرجال الأعمال في التكساس (Texas Association of Business) لصالحه مؤسسات يترأسها.

الآن تبدو المعركة أكثر جدية. من المؤشرات على ذلك استقالة ديلاي من موقعه كزعيم للأغلبية الجمهورية. يأتي ذلك في وزقت يتركز فيه الضغط حول قضايا الفساد داخل الجمهوريين تحديدا. حيث تم في الأسبوع الأخير إثارة ملف زعيم جمهوري آخر و هو (الطبيب و المستثمر في المجال الطبي) بيل فريست (Bill Frist) زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ و الذي يبدو أنه كان على علم بتلاعبات مالية (بملايين الدولارات) في الشركة التي يملك فيها أغلب الأسهم (Hospital Corporation of America) و هي بالمناسبة أكبر سلسلة مستشفيات خاصة في الولايات المتحدة.

2
ليس من الصدفة أن تُثار كل هذه القضايا تجاه مسؤولين كبار من الحزب الجمهوري في نفس الوقت تقريبا. دعنا هنا نتجاوز الحديث العام حول أن "لا أحد فوق القانون" في مجتمع ديمقراطي. الواقع أن وراء هذا التركيز هجوم معاكس منسق من قبل الحزب الديمقراطي بعد خسارته في الانتخابات التشريعية و الرئاسية الأخيرتين. كيف ذلك؟ لا يتعلق الأمر بمجرد انتماء روني إيرل أو غيره من المحققين الى الديمقراطيين. الأمر يتجاوز ذلك: حيث توجد منظمة غير حكومية مختصة يرأسها جملة من الخبراء القانونيين مهمتها الأساسية تتبع قضايا الفساد. يتعلق الأمر بـ"مواطنون من أجل المسؤولية و القيم في واشنطن" (Citizens for Responsibility and Ethics in Washington). و بالرغم عدم ارتباطها رسميا بالحزب الديمقراطي إلا أن أهم خبرائها إما عملوا في السابق في مكاتب لنواب من الحزب الديمقراطي أو تم تعيينهم في منصب رسمية من قبل مسؤولين ديمقراطيين قبل أن يغادروها و يتفرغوا لهذا النشاط غير الحكومي (مثلا ميلاني سلون Melanie Sloan المديرة التنفيذية و ناومي سليقمان Naomi Seligman نائبة المدير). و يتميز هؤلاء في جميع الأحوال بخبرة كبيرة في تتبع قضايا الفساد من خلال المواقع المهنية التي شغلوها في السابق و خاصة بوصفهم محققين رسميين. و لهذا تتميز المنظمة (كما يتم تبيان ذلك في موقعها الالكتروني) بأنها إذا لم تكن المنظمة غير الحكومية الوحيدة التي تعنى بقضايا الفساد السياسي فإنها الوحيدة التي تتعرض لهذه القضية من زاوية قانونية بطريقة تركز على رفع قضايا على المعنيين و تهديدهم بالسجن و ليس مجرد التنديد بهم.

و على سبيل المثال تبدو هذه المنظمة صاحبة الدور الرئيسي في المبادرة بالهجوم على زعيم الأغلبية الجمهورية ديلاي حيث قامت بتجميع وثائق على غاية في الأهمية نشرتها في شكل تقرير قانوني (بمثابة لائحة إتهام غير رسمية) منذ يونيو 2004 و هي التي كانت (أولا) أساسا لفتح التحقيق الرسمي ضده في الكونغرس و (ثانيا) اتهامه رسميا من قبل المحقق روني إيرل. و يبدو أن شهية المنظمة قد تزايدت في الأشهر الأخيرة. حيث أعدت تقريرا مثيرا حول "الثلاثة عشر عضوا في الكونغرس الأكثر فسادا" و الذي عنونته "ما بعد ديلاي" (Beyond DeLay) و هو ما يشير لنواياها في فتح معركة طويلة و كبيرة. و بالمناسبة فإن كون أغلب هولاء الأعضاء من الجمهوريين (11 من ضمن 13 إسما) ليس إلا مؤشرا آخر على الارتباطات الحزبية لهذه المنظمة.

تقرير "ما بعد ديلاي" يسلط الضوء على شخصيات لا تقل شهرة من ديلاي. حيث يبرز إسم روي بلانت (Roy Blunt) و هو الزعيم الجديد للأغلبية الجمهورية في مجلس النواب بعد إستقالة ديلاي. ففي علاقة بالأخير يذكر التقرير مثلا: تزوج بلانت سنة 2003 (بعد إنهاء زواج سابق دام حوالي 30 سنة) من أحد المسؤولين الرئيسيين للوبي الشركة الكبيرة فيليب موريس (Philip Morris) و التي غيرت اسمها الآن الى ألتريا (Altria). و لم يكن ذلك مجرد حدث اجتماعي عادي حيث أصبحت الشركة المعنية من الممولين الرئيسيين للحملات الانتخابية لبلانت من خلال تقديمها لمبالغ بقيمة 270 ألف دولار لمنظمات مرتبطة به. أكثر من ذلك فإن إبن بلانت (الذي لم تمر سوى أربع سنوات على تخرجه من كلية القانون) تم انتدابه للقيام بالدفاع عن لوبي الشركة. إبن بلانت مرتبط أيضا بلولي الشركات الخاصة للبريد مثل (FedEx) و (UPS)، حيث يذكر التقرير أنه في الوقت الذي ساعدت فيه هذه الشركات حملة بلانت الانتخابية لسنة 2001 بقيمة 58 ألف دولار فإن بلانت (بوصفه عضوا في مجلس النواب) قد قام بناءا على طلب منها بإدخال تغيير أساسي على أحد القوانين التي تم تشريعها في علاقة بإحتلال العراق: حيث تم منح احتكار حق النقل البريدي الى العراق أساسا الى "الشركات الأمريكية" الخاصة (و هي تحديدا الشركتين أعلاه) بعد أن كانت هناك نية لمنح نسبة مئوية صغيرة لشركات أجنبية (بعضها منافس للشركتين اعلاه و نعني بذلك DHL). الأمور لا تتوقف عند هذا الحد حيث يذكر التقرير مسائل أخرى كثيرة (رحلات مجانية و غيرها). كل هذه المعطيات توفر أسس لرفع قضايا تتعلق بالفساد و ذلك بناءا على نصوص قانون فيدرالي "يمنع المسؤولين الرسميين من طلب أو تلقي أو الموافقة أو قبول بشكل مباشر أو غير مباشر على أي شيئ ذي قيمة مقابل تأثر أدائهم في علاقة بعمل رسمي". و تكشف قائمة الخروقات لأسماء أخرى كبيرة من الكونغرس (مثل الجمهوري راندي كانينغهام Randy Cunningham) الواردة في التقرير حجم إرتهانهم بالمصالح الخاصة و الخطر الذي يشكله ذلك على أداء المؤسسة التشريعية.

3
طبعا يمكن للبعض أن ينظر الى كل ذلك على أنه دلالة على "أن المجتمع الأمريكي فاسدا" في الجملة أو على أنه "لا يقل فسادا عن مجتمعات عالمثالثية". لكن تلك استنتاجات مبالغ فيها. يرجع ذلك لسبب أساسي: توفر بنى سياسية و قانونية تتيح إمكانية ردع الفساد و الفاسدين في أي مجتمع ديمقراطي. إن ذلك يعني خلاصة أساسية من جزئين يمثلان توضيحا لبعض الأوهام: (أولا) ليس المجتمع الديمقراطي مجتمعا مثاليا خاليا من الفساد. يخطئ البعض في دول الجنوب التي لا تزال تعيش تحت أنظمة دكتاتورية عندما يعتقدون أن سبب الفساد هو الأنظمة الشمولية. ليس هناك الآن أي نموذج واقعي تختفي منه ظاهرة الفساد بشكل مطلق سواء كان ذلك مجتمعا ديمقراطيا أم لا. كما أن الفساد ليس مرتبطا حصرا بنظام اقتصادي معين (الرأسمالي) حيث أثبتت التجربة الشيوعية ذلك بالممارسة. (ثانيا) ليس المشكل في وجود الفساد بل في إمكانية ردعه. فحيثما توفرت إمكانية ردعه أمكن التقليص منه بشكل لا يقارن مع تلك الظروف التي يستحيل فيها الردع. إن أحد الاختلافات الجوهرية بين نظام ديمقراطي و آخر شمولي هي غياب آلية الردع الفعلي. فكما ذكرنا أعلاه لا تتيح القوانين المجردة إمكانية الردع بقدر ما يتيحها وجود توازنات سياسية لا تسمح باحتكار الحياة السياسية: إن المتنافسين السياسيين هنا يقومون بفضح بنى الفساد في خضم التنافس على الحظوة الشعبية. كما يصبح ذلك متاحا طبعا في ظل وجود صحافة حرة (تتحكم فيها أيضا مصالح و مواقف متعاكسة). لا توجد بنى و أدوات الردع في المجتمعات غير الديمقراطية: ذلك وحده يجعل المقارنة بين الفساد في الظرفيتين غير ممكن.
First Published 2005-10-04, Last Updated 2005-10-04 16:09:24
">Link
Link