Monday, December 19, 2005

تشارلز كراوثمر "بطل ايديولوجي" من زماننا: ملاحظات حول منظّر نيومحافظ


تشارلز كراوثمر "بطل ايديولوجي" من زماننا: ملاحظات حول منظّر نيومحافظ
نشرية أقلام أون لاين
العدد السادس عشرالسنة الرابعة/ نوفمبر - ديسمبر 2005
(وقع نشره أيضا في موقع ميدل أيست أون لاين)

(تقديم لمقال كراوثمر أنظر أسفله)[1]
الطاهر الأسود (*)
(ملخص بالانجليزية)
Charles Krauthammer an “ideological hero” of our time: Notes on a neoconservative thinker
- Abstract -
This article is meant to introduce one of the latest essays of Charles Krauthammer reproduced below. The latter’s rising star as a major thinker among the neoconservative crowd proves him as an “ideological hero” of our time, recalling the ironic “heroic” model in Lermontov’s 1840 “A Hero of Our Time”. Each ideological system promotes its own hero: a thinker that is elevated to the prophetic role of a messiah. Since each time has its heroes one of the less- talked-about-heroes of each time is the “ideological hero”. Krauthammer who is leading a redefinition of neoconservatism as a “more mature” even a “realist” view is rather increasingly recreating his own image as a major ideologue of our time
1
كتب سنة 1840 الروائي والشاعر الروسي الكبير ميخائيل ليرمينتوف روايته "بطل من زماننا". كانت الفكرة الأساسية لتلك الرواية الرائعة مقولة رومنطيقية تلامس العدمية عكست قلقا روسيا متعاظما من المعاني التي يحملها "الانسان الحديث". "بطل من زماننا" تكشف عما تعتقده من تداخل فظيع، في بداية التحول الروسي نحو الرأسمالية، بين الأمثولة الأخلاقية السلبية و المفهوم النبيل للبطولة، الى الدرجة التي لا يمكن أن توجد بطولة في "ذلك" الزمان إلا متى كانت "سيئة". و كأي عمل روائي عظيم كان فعل الترويع الذي أحدثته رواية ليرمنتوف كبيرا مما أثار عليه هجمة ساخطة من الأوساط النقدية الروسية التي لم تستسغ النظرة العدمية لليرمينتوف و تحديدا منحه دور البطولة الروائية لشخص "سافل".
ما يمكن التمسك به من صدى ذلك الجدل الروسي البريء أن لكل زمان أبطاله. و بالبطولة أنواع. سأتحدث هنا عن نوع لا يحظى بقدر مناسب من التعليق: "البطل الايديولوجي".
2
كل نظام فكري هو بالتأكيد ظاهرة مؤدلجة حتى لو لم يقبل بذلك المنتسبون اليه. لكن هناك أنظمة فاقعة التأدلج أكثر من غيرها. مثلا، كانت الماركسية، و لا تزال، ظاهرة أيديولوجية فاقعة. يمكن أن يبدو ذلك مفارقا: حيث يبقى أفضل عمل فلسفي حول "الايديولوجيا"، حسب رأيي، المؤلف المشترك لماركس و انجلس حول "الايديولوجيا الألمانية". لم يقم فوكو و الجوقة المابعد حداثية التي تنتج تكرارا و ضجيجا تنسبه لفوكو إلا بتفعيل المقولات الرئيسية في ذلك المؤلف الكلاسيكي و الرائع. و ذلك موضوع شيق و لكنه ليس موضوع هذه المقالة.
إذا، الماركسية نظام فكري متأدلج بامتياز. ولكن لكي يصبح نظام فكري متأدلجا بامتياز فيجب أن يوجد أبطال ايديولوجيون. وإذا قامت الماركسية بشيء غير مسبوق فسيكون ذلك تحويلها منظريها الأرضيين الى أبطال يستحقون الثناء بل و العبادة. لم يكن التعامل مع ماركس وانجلس في التراث الماركسوي كأشخاص مُخلِّصين من قبيل الصدفة أو التجني السياسوي. فلأن ماركس تصرف بالتحديد مع نفسه وصورته كمُخلص/مفكر لم يبق لمحبيه إلا أن يروه كذلك. و ربما كانت أحد مصادر السحر الخاص للشخصية المعقدة للفيلسوف الألماني في الذاكرة الايديولوجية الى هذه اللحظة هو ذلك الخليط من القوة و الضعف: شخص مشرد وملاحق ولكنه شديد السطوة والتفوق بفضل قلمه وعقله الوقاد، أي شخص لا يملك إلا فكره بأتم ما تعنيه الكلمة غير أنه كان قادرا بفضل ذلك، فقط، على الرمي بالتاريخ الى معمعة غير مسبوقة. وبمعنى ما ذلك بالتحديد هو معنى "البطل الايديولوجي". غير أنه معنى مشروط بحدود تاريخية محددة. كان ماركس بطلا ايديولوجيا لزمن محدد: زمن غير مسبوق، شديد التحول والفوضى ولكن أيضا شديد الابداع. وربما سأمضي مع البعض الى حد اعتبار ماركس ذلك البطل-المضاد (anti-hero) لبطل ليرمنتوف.
3
ربما هناك ضجر الآن من الفيضان المعرفي الذي يميز الحديث عن الظاهرة النيومحافظة. أعتقد أن ذلك الضجر مبرر. أشعر به بنفسي بين الحين و الآخر. في النهاية، أليس من مميزات هذا الحديث، الذي يكون ضجيجا أحيانا، أنه ينزع الى التكرار؟ من المقلق أنه علينا أن نمر بنفق التكرار هذا كلما أردنا إعادة تعريف الظاهرة النيومحافظة.
من المسائل التي تفرض التكرار هي إعادة ترتيب سلسلة أهم منظري التيار النيومحافظ: هل هو ليو شتراوس ذلك الراهب في الفلسفة على الطراز القديم وفيلسوف السياسة الغامض الذي لم يتحدث تحديدا في السياسة بقدر ما حام حولها؟ هل هو ووهلستتر تلميذ ليو شتراوس وفيلسوف المنطق والراعي المباشر لريتشارد بيرل ووولفويتز؟ هل هو، في النهاية، ايرفينغ كريستول ذلك التروتسكي السابق وأكثر تلامذة ستراوس بروزا والمثقف المخابراتي والذي يوصف بشكل واسع على كل حال بـ"عراب" التيار النيومحافظ؟ لكن هل من الضروري القيام بترتيب في حالة استحالته، أو الأهم من ذلك، في حالة عبثية معانيه. ألا يكفي أن نشدد على حالة محددة من المرشحين للبطولة الايديولوجية للتيار النيومحافظ حتى يمكن أن نفهم معناها و معنى زماننا؟
4
على عكس المرشحين أعلاه يتميز مرشحي أنا لدور البطولة، تشارلز كراوثمر، على بقية المرشحين أعلاه بأنه لايزال حيا. يمكن أن يكون ذلك أمرا غير مهم في حالة أننا لا نتحدث عن ظاهرة فكرية لا تعيش أوجها النظري والعملي في هذه اللحظات مثلما هو الحال مع التيار النيومحافظ: كل الأسماء الثلاثة المذكورة أعلاه لم تعش تحول الفكر النيومحافظ من مجرد تيار هامشي ينتظر فرصته الى التيار الأكثر بروزا فكريا وسياسيا. غير أن كراوثمر لم يعش هذا التحول فحسب بل يتميز أيضا بقدرته النظرية الفائقة و التي تجعل منه المفكر الأكثر ذكاءا و من ثمة الأعمق تأثيرا من بين الجيل الثاني من منظري التيار النيومحافظ.
لا أنكر إعجابي الخاص بأسلوب كتابة كراوثمر وطريقة تقديمه للأمور وخاصة رغبته الجامحة ألا يكون سطحيا. طبعا، وفي نفس الوقت، لا أملك إلا أن أعبر عن إشمئزازي من سطوته العقائدية وترويجه لنفسه كمفكر امبراطوري بلا منازع، مما يكشف عن صورة تسترجع بعناد تاسيتوس ذلك المؤرخ الروماني الذي نحت الصورة المرجعية للمفكر الامبراطوري. غير أنه وبغض النظر عما يمكن أن أحسه أو يحسه غيري لا يمكن ألا نلحظ التأثير الكبير الذي يمارسه كراوثمر ليس في تحوير معاني الفكر النيومحافظ وهو في عنفوان عصر تطبيقاته بل أيضا في إعادة تعريف هذا الفكر من خلال الرصد المستمر للشروط الجديدة التي يفرضها عليه احتكاكه الراهن مع الواقع.
5
كنت قد كتبت عن كراوثمر ودوره البارز في صياغة ملامح التيار النيومحافظ أكثر من مرة. أشرت سنة 2003 في مقال طويل حول "الاستراتيجيا الاستباقية" الى أهمية السبق التنظيري لكراوثمر من خلال نشره لمقال مرجعي في نهاية سنة 1990 وضع أسس الاستراتيجيا الأحادية القطبية للتيار النيومحافظ في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.[2] كما أشرت اليه في ربيع سنة 2004 في مقال حول مسار الحرب الأمريكية على العراق و تحديدا الى دوره الكاريزمي كمفكر رئيسي في التيار النيومحافظ يجب الانتباه اليه بشكل خاص.[3] و أخيرا أشرت اليه و بشكل مطول و مركز في شتاء 2004 على أثر المناظرة المميزة التي جمعته بمفكر نيومحافظ آخر هو فرانسيس فوكوياما و التي تجسمت في ثلاث ورقات شديدة الأهمية من حيث كونها آخر المراجع حول تطور التيار النيومحافظ، كتب منها كراوثمر ورقتان.[4]
المناظرة الأخيرة بشكل خاص أرجعت كراوثمر الى مقدمة المسرح التنظيري النيومحافظ. سأستقطع هنا بعض الأسطر من مقالي السابق والذي حاولت فيه تلخيص بعض جوانبها خاصة وأنها مهمة للغاية لتقديم المقال الذي نعيد نشره في هذا العدد من أقلام أون لاين.
"يوم 10 فيفري 2004 كان مناسبة لحدث نيومحافظ بامتياز ولو أن القليلين لاحظوا ذلك: في مركز الدراسات الرئيسي والأقدم بالنسبة للتيار النيومحافظ "معهد المؤسسة الأمريكية للسياسة العامة" (AEI) و في لقاء شبه سري (لم تتم تغطيته إعلاميا بشكل واسع رغم أهمية الحضور) ألقى تشارلز كراوثمر (Charles Krauthammer) الدكتور في علم النفس الاكلينيكي والعلوم السياسية "محاضرة إرفنغ كريستول" (باسم عراب التيار النيومحافظ) والتي عنونها "الواقعية الديمقراطية (Democratic Realism)". لا يوجد في أوساط النيومحافظين مفكرون كارزميون. فشخص مؤثر من الناحية الفكرية مثل ويليام كريستول ممل و قليل البديهة على الركح الاعلامي و من ثمة السياسي. و في المقابل فإن دونالد رامسفيلد والذي لا توجد له أبحاث تذكر حيث ترعرع في الاوساط البيروقراطية في واشنطن يملك التأثير الاعلامي الأكبر وهو الشخصية الكارزمية الرئيسية للتيار. غير أن هناك شخصية مميزة في هذا الخليط: تشارلز كراوثمر و الذين كان أول المنظرين الفعليين للبرنامج السياسي الراهن للنيومحافظين وذلك في محاضرة القاها لاول مرة يوم 8 سبتمبر 1990 اي اشهر قليلة قبل الحرب الامريكية الاولى على العراق، حيث تم الترويج بشكل واسع ولاول مرة لتشخيص استراتيجي سيصبح أحد مبررات الاستراتيجيا الأمريكية الراهنة: "لحظة القطبية الأحادية (The Unipolar Moment)".بشكل يذكر بالطقوس التي تحيط ولادة فكرة عظيمة قدم كراوثمر في يوم 10 فيفري الماضي "واقعيته الديمقراطية" والتي أصبحت عنوانا للنزاع الرئيسي الذي يشق صفوف التيار النيومحافظ في الوقت الراهن حول مسألة عملية (بناء الديمقراطية في العراق كنموذج عربي) تتعلق بمسألة نظرية أكثر شمولا (بناء الديمقراطية في بلد ذي ثقافة إسلامية). فمنذ تلك اللحظة تبدد الستار ليكشف عن ثلاث فرق داخل مجموعة الدهاقنة هذه: أولا، ميز كراوثمر في محاضرته تلك و بشكل صارم بين ما يراه رؤية "كونية ديمقراطية (Democratic Globalism)" تعبر عنها الادارة الأمريكية الراهنة بالاضافة الى وجوه أساسية من فريق المنظرين (ويليام كريستول أساسا) تتبنى الدفاع عن "بناء الديمقراطية" على مستوى "كوني" يفتح مواجهة عامة تشمل كل الأقطار الاسلامية. ثانيا، و في مقابل ذلك يوضح كراوثمر أن هذه الرؤية "مثالية" و لا تحاول أن تختار معاركها بشكل يحسب القدرات الواقعية؛ و يؤكد في المقابل على ضرورة إتباع أي سياسة واقعية لـ"رؤية" شاملة تحتوي مبادئ سامية تتمثل في هذه الحالة في "بناء الديمقراطية" وهو تعريفه للرؤية "الديمقراطية الواقعية" التي يتبناها والتي تختلف عن الرؤية "الواقعية" التي بصمت لفترة طويلة السياسة الخارجية الأمريكية و التي "تفادت التدخل في الشأن الداخلي العربي" بمعنى دعمها المستمر للدكتاتوريات العربية و تقاعسها في الدفاع عن قضية البناء الديمقراطي، في حين أنها حسب كراوثمر مهمة حتمة من زاوية المصلحة الأمريكية في الوقت الراهن.ثالثا، وهنا أصبح هذا النزاع الداخلي أكثر تشويقا، برز على السطح أن منظرا اساسيا في التيار النيومحافظ بحجم فرانسيس فوكوياما فقد صبره من إستمرار التهويمات المثالية لرفاقه خاصة في ظل تفاقم المأزق "الواقعي" العراقي ولم يشمل بتذمره "الكونيين الديمقراطيين" فحسب بل أيضا "صديقه" كراوثمر "الواقعي الديمقارطي". ففي عدد الصيف الأخير (صيف 2004) من الناشيونال انترست (The National Interest) وهي النشرية الرئيسية التي تعبر عن وجهة النظر النيومحافظة في السياسة الخارجية كتب فوكوياما مقالا مدويا ضد محاضرة كراوثمر حول "الواقعية الديمقراطية" لم يلق الاهتمام المناسب بفعل حمى الحملة الانتخابية الدائرة انذاك عنونه (غامزا من قناة محاضرة كراوثمر في سنة التسعين) "اللحظة النيومحافظة (The Neoconservative Moment)".وفيه أكد فوكوياما أولا على تمسكه بـ"المبادئ" الأساسية التي يجتمع حولها النيومحافظون والتي تشمل حتمية قيام السياسة الخارجية الأمريكية على "نشر الديمقراطية" (وهي النقطة الأساسية التي تقوم عليها أطروحته المشهورة حول "نهاية التاريخ"). وفي المقابل وجه نقده لأطروحة كراوثمر وبقية النيومحافظين كما يلي: أولا، إذا كان على النيومحافظين إعتماد سياسة "واقعية" تتحسب جيدا في اختيار أهدافها كما ينادي بذلك كراوثمر فإن ذلك لم يحدث في الحالة العراقية حيث يلاحظ تصاعد المقاومة العراقية مقابل تراجع السيطرة الأمريكية: و هنا يعلن فوكوياما أنه كانت له منذ البداية "شكوكه" في علاقة بقرار الحرب على العراق بالرغم من مساندته العلنية له حيث رأى أنه ليس هناك فائدة من المعارضة في ظل تصميم البيت الأبيض على شن الحرب (؟!)؛ ثانيا، و هنا يحتاج القارئ للتركيز، يلاحظ فوكوياما أن التسرع في اتخاذ قرار الحرب على العراق لم يكن مبنيا على أساس المصالح العليا للولايات المتحدة بقدر ما كان مبنيا على تعلق غالبية المجموعة النيومحافظة بالمصالح الاسرائيلية، حيث خلطوا بين أعداء الولايات المتحدة (و هي منظمة القاعدة فقط بالنسبة له) و بين أعداء إسرائيل (منظمتي حماس و الجهاد أساسا) و هو ما جعلهم يتحدثون في العموم عن عدو هلامي يتمثل في التيار "الراديكالي الاسلامي" بدون تمييز و هو ما يهدد الدور المحايد الذي يمكن أن تلعبه في العملية السلمية و يُعقد المصالح الأمريكية في المنطقة؛ ثالثا، لا يرى فوكوياما، بعكس كراوثمر، أن معركة الولايات المتحدة ضد "الراديكالية الاسلامية" (مجسدة في منظمة القاعدة أو غيرها) هي معركة وجودية حيث لا يملك هؤلاء التأثير على وجود الولايات المتحدة مثلما كان الحال في علاقة بالاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، و هي ما يؤدي في النهاية الى تصخيم غير مبرر لهذا العدو يدفع باتجاهه مزيدا من المتعاطفين عوض محاصرته و عزله؛ رابعا، يُلاحظ أن إستبعاد الغطاء الدولي عن الحرب الأمريكية على العراق كان سياسة خاطئة تُبرز عدم واقعية صانعيها؛ خامسا، يُبدي فوكوياما الذي لاطالما أكد على كونية الاتجاه الديمقراطي في العالم أن بناء الديمقراطية في العراق هي مهمة "تقريبا لا يمكن تصورها" بفعل مجموعة من العناصر، و بالتالي فإن اخر مبررات الوجود العسكري الامريكي هناك لم تعد صالحة في رأيه.كراوثمر رد بشكل فوري (وبعد حملة إعلامية تمهيدية في الصحف الأمريكية) على مقال فوكوياما وذلك في العدد الأخير من الناشيونال انترست (خريف 2004) "دفاعا عن الواقعية الديمقراطية". وعموما أعاد تقديم أطروحته متهما فوكوياما بسوء فهمها حينا وبتأثره بـ"الخطاب المعادي للسامية" حينا اخر لأنه ينزع لـ"تهويد التيار النيومحافظ" وهي نزعة يراها تتزايد في الاونة الاخيرة. أخيرا يشير كراوثمر الى أن موقف فوكوياما في علاقة بمسألة "بناء الديمقراطية في العراق" يعكس نزعة عنصرية تجاه العرب، وهو ما حاول فوكوياما نفيه بشكل استباقي في مقاله أعلاه حيث وصف اراء كراوثمر حول "بناء الديمقراطية في العراق" بأنها متأثرة بمواقف أستاذ التاريخ الاسلامي برنارد لويس (Bernard Lewis) النيومحافظ المختص في المنطقة العربية والتي تتهم المشككين في دمقرطة العرب بأنهم يعكسون "شعورا عنصريا."
6
من الضروري القيام بملاحظة سريعة قبل المضي نحو آخر مقالات كراوثمر. مثلما تغيرت مراكز قوى الحكم في الولايات المتحدة بما في ذلك مراكز التنظير للمهام الاستراتيجية والسياسة الخارجية الأمريكية تغيرت مصادر رصد الرؤى والنقاشات الداخلية الخاصة بالمجموعة المؤثرة في تقرير هذه الاستراتيجيا وهذه السياسة. على سبيل المثال بعد أن كانت قراءة نشرية "شؤون خارجية" Foreign Affairs مصدرا ضروريا لتتبع تطورات رؤى مؤثرة في الأوساط الأمريكية أصبح من الضروري التخفيف من التركيز على هذه النشرية والتي أصبحت تعرض رؤى معارضة للإدارة الحالية أكثر من أي شيء آخر (وهي تبقى مصدرا هاما على كل حال لتتبع مواقف مدرسة مازالت مؤثرة على هامش الادارة الراهنة أي المدرسة الواقعية) فإن التيار النيومحافظ جذب الأنظار الى نشرياته الخاصة والتي أصبحت تحوز على أهمية استثنائية منذ سنوات قليلة فقط.
هذه النشريات هي بالأساس ثلاث: نشرية أسبوعية ذات تعاليق مخففة وسياسية بالأساس وهي الويكلي ستاندارد (Weekly Standard). نشرية فصلية ذات تعاليق موسعة وعميقة لأهم منظري التيار النيومحافظ وهي الناشيونال انترست (National Interest). وفي العادة هناك خلط غير مقصود بين هذه النشرية ونشرية ذات عنوان مشابه تتبع التيار الواقعي وهي نشرية الناشيونال ريفيو (National Review). وأخيرا، النشرية الثالثة للتيار النيومحافظ، كومنتري (Commentary)، وهي شهرية تتبع اللجنة اليهودية الأمريكية (American Jewish Committee)، وهو تجمع أساسي للوبي الموالي لإسرائيل في الولايات المتحدة ولكنه إطار مبكر للتيار النيومحافظ ولأهم مفكريه بما في ذلك كراوثمر وجوشوا مورافشيك (Joshua Moravshik) ونورمان بودوراتز(Norman Podhoretz). المقال الذي اخترناه لإعادة النشر هو من النشرية الأخيرة ونهدف من ذلك فيما نهدف تركيز الأنظار عليها لأنها الأقل بروزا في المشهد الاعلامي النيومحافظ بالرغم من أهميتها الكبيرة.
7
في العدد المزدوج لجويلية-أوت سنة 2005 من نشرية كومنتري نشر كراوثمر مقالا طرح فيه أفكارا أساسية حول إعادة تعريف التيار النيومحافظ على ضوء تحولات الواقع الدولي. تحت عنوان "التقارب النيومحافظ" دافع كراوثمر عن الأفكار التالية:
- في مواجهة السيطرة الطويلة لمدرسة "واقعية" وأخرى "ليبرالية أممية" برزت المدرسة النيومحافظة بعد صعود إدارة بوش الابن كمرجع رئيسي للسياسة الخارجية الأمريكية ومن ثمة تحولت من رؤية "خلافية" مهمشة الى رؤية "حكم". و يتمثل التعريف الأساسي لهذه المدرسة و هو ما يميزها عن بقية المدارس في النقاط التالية: أولا، عدم التردد في توظيف القوة (العسكرية) الأمريكية في العالم. ثانيا، سياسة أحادية القطبية عند اللزوم و التوجه نحو اعتماد استراتيجيا عسكرية استباقية. ثالثا، و هو حسب كراوثمر "أهم خاصياته"، اعتزام الادارة الأمريكية على اعتبار مبدأ "نشر الحرية عبر العالم" عاملا أساسيا في تقرير السياسة الخارجية.
- خلال سنة 2004 وبسبب الإخفاق الذريع للولايات المتحدة في العراق تراجعت الرؤية النيومحافظة في إطار استرجاع المدرستين الأخرتين لحيويتهما و خاصة المدرسة الواقعية، حيث يشير الى أن الليبراليين خاصة من صفوف الحزب الديمقراطي تبنوا رؤية المدرسة الواقعية في الرد على الرؤية النيومحافظة. و في هذا الاطار يتعرض بالنقد و التشكيك لاراء فوكوياما مذكرا بأهم نقاط الخلاف بينهما خلال المناظرة المذكورة أعلاه. و بشكل عام ينزع لاتهام جميع هؤلاء بالانتهازية من خلال الانضمام للتيار النيومحافظ و تحديدا مشروعه في العراق في فترة عنفوانه و "مغادرة السفينة" عند ظهور التعقيدات الكبيرة في الوضع الأمريكي هناك. غير أن كراوثمر يعتقد أن ثلاث "انتخابات" غيرت الوضع تماما لصالح النيومحافظين (الانتخابات الأمريكية التي أرجعت إدارة بوش الابن الى السلطة و هو ما اعتبره استفتاءا ايجابيا على قرار الحرب، الانتخابات العراقية والأفغانية و"نجاحها" من حيث إقبال الناخبين) وهو ما جعلهم يستعيدون زمام المبادرة في السجال القائم.
- فكرة أخرى، أعتقد أنها الأهم من حيث راهنيتها السياسية، يدافع عنها كراوثمر (أتعرض اليها بشكل خاص في مقالي بالانجليزية في هذا العدد من أقلام أون لاين) هي أنه يفرق بشكل أساسي "الأصدقاء" و"الأعداء" على قاعدة الموقف من "الحرب على الارهاب". و بهذا المعنى تطفو أنظمة شمولية ثلاث في المنطقة يذكرها بشكل صريح، و هي الباكستان و السعودية و مصر، كأنظمة "صديقة" يجب الحذر من حيث الدفع بتحويلها نحو الديمقراطية. حيث يذكر امكانية "انهيار السقف" ككل في الحالة المصرية مذكرا بالتجربة الجزائرية. و يخلص هنا الى موقف "تشجيع" انتقال تدريجي نحو الديمقراطية عوض إعتماد طريقة الضغظ المشددة مثلما هو الحال مع أقطار تُصنف كـ"أعداء" في "الحرب على الارهاب" مثل إيران أو سورية.
- هذه القضية العملية هي الأساس في تفريق كراوثمر المذكور أعلاه بين الموقفين الذين يفرقان التيار النيومحافظ الآن أي "كونية ديمقراطية" تدفع بقطار الحرية بنفس القوة و السرعة أينما كان حتى في مجال "الأصدقاء" و فريق "الواقعية الديمقراطية" الذي ينسب نفسه له والذي يدعو للتعامل بشكل خاص مع "الأصدقاء" بشكل لا يدفع باهتزازات كبرى داخل هذه الأقطار.
- يلمح كراوثمر، أخيرا، الى أن فريق "الواقعية الديمقراطية" تغلب في الصراع الداخلي في الادراة الأمريكية. فالتيار النيومحافظ يميل حسب استنتاجاته الى "النضج" و هو أمر ضروري بالنسبة لنظرية "حكم". لهذا فإن القادة التنفيذيين لهذا التيار الآن ليسوا إلا "واقعيين قدامى" من نوع كوندوليزا رايس تلميذة الواقعي الأكبر برنت سكوكروفت أو ديك تشيني وزير دفاع بوش الأب. يفسر كراوثمر هذا التحول كالتالي: "بقدر ما يقدم الفكر النيومحافظ، حسبما يبدو، أكثر تفسير مناسب للواقع الجديد و الاجابة الأكثر إثارة و فعالية له، فإن الكثير من الواقعيين حُملوا على الاعتراف بفقر الواقعية".
علي هنا أن أقوم بعدد من الملاحظات الأولية تعليقا على هذا المقال:
-هناك غموض في موقف كراوثمر من ناحية المقولة الأساسية الأكثر إثارة في الخطاب النيومحافظ للادارة الأمريكية و التي أفرزت جدلا كبيرا أي: الدمقرطة كحل ضروري لمواجهة التيار القاعدي. حيث أنه يرى، على العكس، أن الدمقرطة في مجال "الأصدقاء" يمكن أن تؤدي الى انتصار التيار القاعدي من خلال "انهيار السقف" و ليس الى دحره.
-في نفس الوقت يتمسك بضرورة "تشجيع" الدمقرطة في مجال "الأصدقاء". وهو تعبير غامض أيضا لا يُفهم منه تحديدا معنى هذا "التشجيع" و ماهي الأشياء التي يمكن أن تؤدي الى "انهيار السقف": فهل هو تشجيع مشاركة الاسلام السياسي المعتدل في الحياة السياسية خاصة و أن كراوثمر يذكر بالتجربة الجزائرية؟
-مثلما ذكرت في مقالي بالانجليزية في هذا العدد فإن تراجعا نسبيا للوجه الأمريكي عن صورة الدمقرطة يبدو أنه في صالح هذا المسار لأنه يفسح المجال لقوى حيوية لا ترغب في التدخل الأمريكي وترى فيه خطا أحمر في الانخراط في مسار التفعيل الديمقراطي ومن ثمة لا تتعامل معه كمؤامرة خارجية. إن موقف هذه القوى وهي الأكثر شعبية عربيا سيساعد بالتأكيد في نقل معركة الدمقرطة من مستويات نخبوية معزولة الى مستويات شعبية. إن التطورات في الوضع المصري وخاصة التجمع السياسي غير المسبوق لأهم قوى المعارضة قبل الانتخابات التشريعية الأخيرة دليل أساسي على مثل هذه التطورات. و هنا ليست نتائج الانتخابات في ذاتها هي الأهم بقدر ما هو تشكل جبهة عريضة مؤثرة حول برنامج فعلي لإحداث إصلاحات ليبرالية على المستوى السياسي.
(*) باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية
من المؤمل أن يتم تعريب مقال كراوثمر في العدد المقبل من أقلام أون لاين. 1
[2] الطاهر الأسود "نشأة وتطور استراتيجيا الحرب الاستباقية" نشر في موقع "تونسنيوز" في 11 نوفمبر 2003. http://taherlaswad.blogspot.com/2003_11_01_taherlaswad_archive.html
مقال كراوثمر المعني هنا: Krauthammer, Ch. “The unipolar moment” Foreign Affairs 70/1 (1990-91): 23-33.
[3] الطاهر الأسود "العراق: حفل عشاء المحافظين الجدد" نشر في موقع "نواة" في 22 أفريل 2004. http://taherlaswad.blogspot.com/2004/04/blog-post.html
[4] الطاهر الأسود "النزاع بين النيومحافظين حول طبيعة الديمقراطية الاسلامية" القدس العربي 11/12 ديسمبر 2004. http://taherlaswad.blogspot.com/2004/12/blog-post.html
">Link
Link

Wednesday, December 14, 2005

كلوني في مواجهة تشويه الحقيقة الإخبارية

كلوني في مواجهة تشويه الحقيقة الإخبارية
جورج كلوني يستحق الاحترام لجرأته وشجاعته على خرق محظورات سادت أخيرا في المشهد الاعلامي والسينمائي الأمريكي.
ميدل ايست اونلاين
بقلم: الطاهر الأسود
1
سيهيمن الممثل (و المنتج والمخرج أيضا وهو ما برهن عليه بقوة الآن) جورج كلوني (George Clooney) على المشهد السينمائي لهذه السنة وبالتالي جوائز أكاديمية الفنون حتى ولو لم يتحصل على أغلبها (مازال من المبكر الحسم في ذلك). الأهم من ذلك أن كلوني حقق ذلك من خلال المراهنة على أشرطة تناقش قضايا شائكة وحساسة على المستوى السياسي الراهن. وبشكل ما فإنه أقحم هوليود، بعد غياب ملحوظ في السنوات القليلة الأخيرة، في خضم النقاش النخبوي المتزن والملتزم ومن ثمة فهو يساهم، مثل الكثيرين غيره (شون بين وروبرت ريدفورد مثلا)، في إستعادة دورها الضروري كواجهة سياسية مستقلة في الولايات المتحدة. إن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن هوليود ليست ولم تكن لونا واحدا أو منبرا آليا للدعاية للقوة الامبراطورية بل هي وكانت دائما تحتوي على مجال للرأي المخالف ومنبرا إعلاميا للمعارضة لما هو رسمي. وذلك على عكس الفكرة النمطية التي تتكرر بشكل مضجر خاصة في وسائل الاعلام العربية الآن.
2
أقول ذلك وفي ذهني فقرة إعلامية وردت يوم الجمعة الماضي في "الجزيرة هذا الصباح" تم فيها استضافة مسئول إداري مكلف بالسينما في وزارة الثقافة اللبنانية، وكان موضوع اللقاء هو مهرجان "السينما الأوروبية" الذي تم تنظيمه في بيروت في الأسبوع الماضي. وقد كرر هذا المسئول ومضيفة الحصة بشكل متناسق مقولات مغرقة في التعميم والسطحية وحتى الجهل من نوع "السينما الاوروبية الناعمة والهادفة" في مواجهة "السينما الأمريكية العنيفة والسطحية". طبعا كان المعني بـ"السينما الاوروبية" السينما الفرنسية تحديدا وهو ما يمكن فهمه من كم الأفلام الفرنسية المعروضة في المهرجان ولكن أيضا من نوع الأشخاص المكلفين بالترويج للمهرجان خاصة من بين الديناصورات الفرنكفونية اللبنانية التي استفاقت بشكل مفاجئ في الفترة الأخيرة لأسباب تتعلق بالتحديد بالظروف السياسية.
على كل حال هناك مشكل حقيقي في علاقة بتصور عربي سائد للسينما الأمريكية: حيث يوجد اعتقاد أنها متشابهة وهذا غير صحيح. وفي الواقع يتحمل جزءا هاما من المسؤولية الموزعون المحليون للسينما الأمريكية الذين ينتقون أفلاما دون غيرها توصف عادة وبشكل تضليلي بـ"التجارية" وهي بالتحديد من نوع "أفلام المغامرات" بالرغم أن بقية الأنواع السينمائية يمكن أن تكون مربحة مثلما يمكن لأفلام المغامرات أن تكون غير ناجحة. إن قائمة الأشرطة المنتقاة من قبل أكاديمية الفنون في السنوات الأخيرة فقط يمكن أن تعطي فكرة حقيقية عن مدى تنوع السينما الأمريكية بما في ذلك تلك المنتجة من قبل الشركات الهوليودية الضخمة: لنتفحص مثلا أشرطة، لم يسمع بأغلبها للأسف معظم المشاهدين العرب بالرغم من نجاحها الكبير في القاعات الأمريكية وحيازتها على جوائز الأكاديمية (الأوسكار) وهي ليست بالتالي أشرطة على الهامش، مثل "الساعات" (The Hours) سنة 2002، و"21 غرام" (21 Grams) سنة 2003، و"ميستك ريفير" (Mystic River) سنة 2003... إلخ وهي جميعا أشرطة مميزة من حيث المحتوى ولكن أيضا من ناحية الأسلوب الفني بشكل يجعلها بحق طليعية وتستحق أن تُدرس في المدارس السينمائية.
في مقابل ذلك فإن "السينما ألاوروبية" تعاني أزمة ثقة كبيرة يجعل أغلب إنتاجاتها إما بدون هوية محددة (تقليد أعمى ومبتذل لأشرطة أمريكية محددة سواء المغامرات والعنف) أو هي تجريبية بشكل مفرط مما يجعلها "إمكانات" سينمائية عوضا عن أن تكون مصادر حقيقية للإلهام ويتعلق ذلك تحديدا بتيار أساسي في السينما الفرنسية مثل أشرطة حون لوك قودار (Jean-Luc Godard) أو أيضا في السينما الألمانية أشرطة راينر فاسبيندر (Rainer Fassbinder). ولكن بالرغم من ذلك توجد تجارب سينمائية أوروبية ناجحة في السنوات الأخيرة حازت على اهتمام واسع (بما في ذلك في الولايات المتحدة بالمناسبة وحتى من قبل أكاديمية الفنون) مثل الشريط الفرنسي "أميلي" (Amélie) سنة 2001، والشريط الألماني "اركضي لولا... أركضي" (Run Lola Run) سنة 1998، ولو أن مخرجي الشريطين والممثلين الأساسيين فيهما قاموا بتكرار غير ضروري لنفس الرؤية والقصة في أشرطة أخرى لاحقة. وفي نفس الاتجاه يتميز الممثل-الملحن-المخرج البوسني الأصل أمير كوستوريشا (Emir Kusturica) بنوع سينمائي مميز يمكن اعتباره تيارا أساسيا وناجحا في السينما الأوروبية الراهنة. وعموما وبمعنى آخر لا توجد "سينما أوروبية ناعمة" وأخرى "أمريكية عنيفة وسطحية" في المطلق. إن ذلك ينم ببساطة عن جهل مريب بالمشهد السينمائي العالمي.
3
تميز جورج كلوني، إذا، بشريطين في هذا الموسم السينمائي، ونحن الآن في أوجه حيث لم يبقى على إسناد جوائز أكاديمية الفنون سوى أسابيع قليلة. الشريط الأول بعنوان "ليلة سعيدة، وحظا سعيدا" (Good Night, And Good Luck) والشريط الثاني بعنوان "سيريانا" (Syriana).
شريط "ليلة سعيدة، وحظا سعيدا" يتناول موضوعا حساسا في الظرف الراهن وهو مدى استقلالية الإعلام الإخباري الأمريكي عن الادارة الأمريكية وتحديدا عن مسألة "المصلحة الوطنية" وذلك في وقت يشهد تراجعا كبير من قبل الاعلام الأمريكي في أداء مهامه كإعلام إخباري مستقل، في وقت تصرف فيه أبرز الإعلاميين الأمريكيين في حرب العراق كمراسلين عسكريين لا يخفون موالاتهم للقوات الأمريكية الغازية، في وقت لبس فيه إعلامي محترم مثل تيد كابل (Ted Copple) الخوذة والبدلة العسكريتين ودخل بغداد على منصة دبابة أمريكية في صورة غازي أكثر من صورة إعلامي مستقل، في وقت منح فيه الإعلاميون الإخباريون الإدارة الأمريكية مجالا مفتوحا للدعاية الفضة للحرب دون محاولة التساؤل بجدية عن دوافعها ومبرراتها، وفي وقت قامت فيه صحف مرموقة مثل النيويورك تايمز والواشنطن بوست بالترويج المبرمج للحملة الدعائية التي سبقت الحرب على العراق بدون أي تقصي مهني للمعلومات.
يسترجع شريط جورج كلوني (وقد قام فيه بدور ثانوي في التمثيل ولكنه كان مخرجه والمنتج الأساسي له، حيث يبدو أنه عانى الكثير لتحقيق ذلك حتى أنه رهن فيلته الفارهة في الريف الإيطالي لتوفير المال اللازم) يسترجع إذا شريط جورج كلوني فترة مماثلة تميزت بتأثير الصراع الدولي الذي تخوضه الحكومات الأمريكية في استقلالية النخب المثقفة بما في ذلك المسئولين الإعلاميين: استرجع الشريط مرحلة الماكارثية حينما قام السيناتور السيئ الصيت جوزيف ماكارثي (Joseph McCarthy) في بداية السنوات الخمسين بإعداد قائمات سوداء للملاحقة والاقصاء المهني في أوساط السينمائيين والكتاب والإعلاميين بدعوى ارتباطهم بالحركة الشيوعية وأقام في الكونغرس جلسات استماع رسمية ومفتوحة لازالت تحتفظ بذكراها المخيفة حتى الان.
اختار كلوني شخصية شهيرة وأساسية في الإعلام الإخباري الأمريكي لمعالجة تلك الفترة: إدوارد موروو (Edward Murrow) وقد قام بأدائه بشكل رائع ديفيد ستراثيرن (David Strathairn). كان موروو المحرر الإخباري الرئيسي في قناة سي بي أس (CBS) والمسؤول الأساسي مع فريد فريندلي (Fred Friendly) والذي قام بأدائه جورج كلوني على برنامج إخباري أسبوعي "شاهده الآن" (See it Now). وكان موروو قبل ذلك مراسل إذاعي ذاع صيته خلال تغطيته للحرب العالمية الثانية وهو ما أهله لأن يكون من ضمن الجيل الأول للإعلاميين التلفزيين وذلك في بداية عصر الشاشة الصغيرة وانتشارها في المشهد الإعلامي الأمريكي خلال الخمسينات. وكان من ضمن الأوائل الذين صارعوا من أجل التأسيس لإعلام تلفزي إخباري جدي وواجه في هذا الاطار جهود تحويل التلفزة الى مجرد "صندوق تسلية" كما لاحظ في الشريط وهي مسألة تتكرر على امتداد الشريط. لكن القضية الأساسية في الشريط هي قرار موروو مواجهة الأسلوب الترويعي والتضليلي للسيناتور ماكارثي في وقت ساد فيه الصمت على الاعلام الاخباري بشكل يصل حد التواطؤ وهو ما أثار حفيظة الاعلامي الأمريكي الذي رأي في ذلك تجاوزا خطيرا على حرية الإعلام. وفي وقت لم يجرؤ أحد على فضح أساليب ماكارثي قام موروو مع فريق العمل في برنامجه تجميع المعطيات اللازمة وشن حملة مضادة عليه وهو ما انتهى الى الإسهام في فضح ماكارثي ومحاصرته ومن ثمة تقديمه للتحقيق. وقد بقي أسلوب موروو في تقديم الأخبار خلال الحلقات التي تناولت أساليب ماكارثي مرجعية بالنسبة للإعلام الإخباري الأمريكي، وحتى الآن بقي أسلوبه الجذاب والجاد مؤثرا وهو ما تجسم رمزيا في الطريقة التي ينطق بها الجملة-الخاتمة في برنامجه، وهي عنوان الشريط: "ليلة سعيدة، وحظا سعيدا".
القصة معروفة ولكن كان التذكير بها ذي دلالات خاصة في الظرفية الراهنة وهو ما جلب انتباه وسائل الاعلام الأمريكية خاصة في مرحلة التراجع الأمريكي في العراق وانكشاف الأبعاد التضليلية التي سبقت الحرب هناك. لكن لم يكن الظرف السياسي وحده وراء النجاح الفني والجماهيري للشريط. كانت مهارات جورج كلوني كمخرج أساسية في تميز الشريط: حيث اختار أن يكون الشريط بالأبيض والأسود مما خلق سلاسة كبيرة بين الأجزاء الدرامية للشريط وتلك الوثائقية المأخوذة من أشرطة أصلية ترجع لفترة الخمسينات. كما كان التصوير في الاستوديوهات التلفزية (أين دارت أغلب أحداث الشريط) مناسبة للقفز بين الكاميراهات المختلفة وشاشات الاستوديو العديدة وهو ما جعل المشهد الذي يحتكره المخرج التلفزي أي تعدد زوايا النظر يتحول الى مشهد متاح للمشاهد ومركب أساسي من درامية الشريط. وهكذا كان الانتقال من شاشة الى أخرى ومن كاميرا الى أخرى وسيلة أساسية لنقل معاني التردد والاضطراب والصراع التي ميزت معركة موروو مع ماكارثي.
4
الشريط الثاني "سيريانا" تم افتتاحه يوم الجمعة. وشهدت قاعات السينما الأمريكية إقبالا كبيرا نظرا للحملة الدعائية التي سبقته والتي لم تكن مدفوعة الأجر في أغلبها بل طوعية نظرا لجلبه اهتمام النقاد والملاحظين السياسيين الذين أتيحت لهم فرصة المشاهدة المبكرة للشريط. تدور أحداث شريط "سيريانا" في نسق شديد التعقيد وأسرع بكثير من نسق شريط "ليلة سعيدة، وحظا سعيدا". يلعب هنا كلوني دورا أساسيا في التمثيل الى جانب الممثل المميز والجاد مات ديمون (Matt Damon) (كما تقاسم كلوني مع ديمون إنتاج الشريط) بالاضافة الى الممثل الصاعد جيفري رايت (Jeffrey Wright).
سيناريو الشريط يتكون من أربع قصص متقاطعة. القصة الأولى وهي القصة المحورية تدور حول "بوب" (جورج كلوني) وهو عميل في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (كان يعمل في الثمانينات في المنطقة العربية وتحديدا في بيروت) يعيش مرحلة تدهور قيمة عملاء الوكالة بعد انهيار جدار برلين وضياعهم وسط السياسة الأمريكية المضطربة في المنطقة العربية. يتصف "بوب" بالمشاغبة وخاصة رفضه الصمت على الأداء البيروقراطي في الوكالة ويعيش عبر مراحل الشريط عملية استفاقة تؤدي به لبدء التساؤل عن دوافع أعمال الوكالة خاصة بعد فشل عملية اختطاف "أمير عربي" كُلف بها في بيروت وهو ما أدى الى تضحية الوكالة به والتحقيق معه على أساس أنه مجرم يعمل لحسابه الخاص. ومن خلال "بوب" ينقلنا السيناريو الى مجال الأدوار التي تقوم بها الوكالة في المنطقة وتحديدا تعبيرها عن سياسة مستديمة للادارة الأمريكية في حماية مصالح الشركات النفطية الأمريكية وبشكل يتجاهل مصالح شعوب المنطقة. حيث يتم التركيز على قطر عربي خليجي كبير فيه حقول نفطية واسعة يتجه ملكه، بدفع من نجله "ناصر"، الى محاولة تنويع شركائه النفطيين على قاعدة الكفاءة من خلال التعاقد مع شركات صينية وهو ما أثار حفيظة أحد الشركات النفطية الأمريكية العملاقة المتمركزة في تكساس. ويقوم هنا المحامي الرئيسي للشركة، وهو صديق قديم للملك، بمحاولة التدخل في شؤون العائلة المالكة ودعم الابن الأصغر للملك على حساب نجله لخلافته، حيث يتم تصوير الملك في المراحل الأخيرة من حياته متنقلا على كرسي متحرك، وهو يخضع في النهاية لضغط الأمريكيين ليعين ابنه الأصغر التافه والمقرب من الشركات النفطية الأمريكية وليا للعهد. بالتضامن مع ذلك تشن وكالة المخابرات المركزية حملة على نجل الملك "ناصر" من خلال الترويج لصلاته بـ"منظمات ارهابية" ومن ثمة العمل على اختطافه (و هي العملية التي سيتكفل بها "بوب" ولكنها تفشل) حتى وإن أدى الأمر الى التعاون حتى مع حزب الله اللبناني. في النهاية، في آخر الشريط تنجح وكالة المخابرات المركزية في قتل "ناصر" بصاروخ موجه وذلك في خضم الصراع على الخلافة وبالرغم من سعي "بوب" الى انقاذ الأمير (يموت "بوب" مع الأمير في القصف الصاروخي الى جانب زوجة الأمير وأطفاله).
القصص الثلاث الأخرى تدور حول القصة المركزية حيث تقوم بتوضيح الجوانب الجانبية للصراع. من جهة أولى يتم تصوير مدى الفساد الذي يميز الشركات النفطية الأمريكية حيث يكشف محامي ناشئ (جيفري رايت) للشركة النفطية الأبرز، وهي ناتجة عن عملية دمج كبرى، حجم الفساد المستشري فيها وكيف أن ذلك أداة أساسية لـ"نجاح" الشركة وبدفع من مالكيها. المشهد الرئيسي في هذا الخط الدرامي كلام متهم أساسي في أعمال الفساد سيتم التضحية به لحماية الشركة حيث يصرخ في وجه المحامي الشاب "الفساد هو السبب في أننا ننتصر!". من خلال كواليس الشركة يتم التوغل في الارتباطات المريبة للتروستات النفطية بالدوائر السياسية والاستخبارية الأمريكية حيث تظهر الأخيرة بمثابة الخادمة لمصالح الأولى.
من جهة ثانية يتتبع السيناريو مسار محلل اقتصادي وتحديدا نفطي أمريكي طموح وساذج (مات ديمون) يعيش في سويسرا وقريب من أوساط العائلة العربية الحاكمة، ينتهي الى الاقتراب من "ناصر" والتحول الى مستشاره الاقتصادي. وهنا نرى من خلال المحلل الأمريكي الشاب صورة "ناصر" عن قرب حيث يشير الى امتعاضه من تبعية بلاده للولايات المتحدة ورغبته في تحديثها واستعمال ثروتها النفطية لتحقيق تنمية اقتصادية حقيقية وتذمره من التعامل الظالم في مملكة والده مع المرأة. ويتعرض الشريط الى محاولة "ناصر" تجميع أنصاره ولكنهم يشيرون الى "وجود عشرة آلاف جندي أمريكي" في البلاد، غير أنه يرد بأن هناك من "يرفض الوجود الأمريكي" مثله ومستعد لمواجهته.
وهنا تأتي القصة الرابعة. قصة المهاجر الباكستاني الشاب الى القطر الخليجي والذي يخسر عمله في الحقل النفطي بد شرائه من قبل الشركة الأمريكية العملاقة المتمركزة في التكساس. ليقع تدريجيا تحت تأثير مصري أصولي باسم "عجيزة" يدعوه للقيام هو وصديقه بعملية انتحارية ضد المصالح النفطية الأمريكية وتحديدا حقل نفطي بحري للشركة الأمريكية. وينتهي الشريط بنسق درامي مكثف مباشرة بعد قتل المخابرات الأمريكية للأمير "ناصر" بعملية الشاب الباكستاني من خلال اصطدامه بزورق بالحقل النفطي، حيث يقع تقديمه بشكل رومنسي كأنه مستعد للطيران وهو يقود الزورق المفخخ.
سيناريو الشريط شديد التعقيد وسيجد المشاهد الأمريكي العادي صعوبة كبيرة في تتبع أبعاده الدرامية المختلفة. ويرجع هذا التعقيد الى أن السيناريو قائم بالأساس على رواية (See No Evil) وهي لبوب باير (Bob Baer) وهو عميل حقيقي لوكالة المخابرات المركزية يشبه دوره الحقيقي في بعض الملامح دور "بوب" في الشريط ونقل في روايته معالم حقيقية من تجربته الفعلية. وقد شغل بوب باير مواقع متقدمة في وكالة المخابرات المركزية حيث عمل في الثمانينات في بيروت كما كان لعب دورا متقدما داخل العراق قبل الحرب (من داخل المجال الكردي في الشمال). غير أنه شكك في الحرب الأخيرة وحاول من خلال روايته مراجعة الدور الأمريكي في المنطقة ومسؤوليته في استمرار الاستبداد والفساد و"الارهاب" في المنطقة. ولهذا فقد أحدث وسيحدث الشريط ردات فعل قوية من قبل الأطراف المقربة من الادارة الأمريكية الراهنة المعروفة بقربها من الشركات النفطية ودعمها لعدد من العائلات العربية الحاكمة في الأقطار العربية النفطية. ويطرح في المقابل مراجعة راديكالية للصورة النمطية في الاعلام الأمريكي في علاقة بمصادر الاستبداد في المنطقة. كما أنه يطرح مراجعة للصورة النمطية التي تجعل من المعارضين للوجود الأمريكي معادين للتحديث وذلك من خلال تقديم الصورة الإيجابية لـ"ناصر"، بل بالعكس يشير الى أن تواصل التخلف يرجع للفساد المستشري بتشجيع من المصالح النفطية. من جهة أخرى يقدم الشريط صورة رومنسية للـ"الارهاب" جعلت له أبعادا إنسانية من خلال تتبع صورة الشاب الباكستاني البريئة تقريبا. ولهذا فقد بدأ البعض باتهام كلوني وستيفان قاقان (Stephen Gaghan) مخرج وكاتب سيناريو الشريط بشرعنة "الارهاب".
مهما كانا شريطي كلوني مثيرين للجدل فإنه يستحق الاحترام لجرأته وشجاعته على خرق محظورات سادت أخيرا في المشهد الاعلامي والسينمائي الأمريكي. وأثبت بعد كل ذلك أنه مثقف وليس مجرد نجم سينمائي ثري وفارغ. وأصبح من الواضح أن أكاديمية الفنون لن تستطيع تجاهل الشريطين حيث ستمنحهما في أقل الأحوال الترشيح لجوائز الأوسكار. إن السينما في هذه الحالة تصبح بديلا، ولو بشروطها الدرامية الخاصة، عن الفراغ الذي يمكن أن يتركه الإعلام الإخباري. وفي الواقع هذه الحالة الجديدة بدأت في التكثف منذ مدة ليست بالقصيرة غير أنها عرفت أوجها السنة الماضية مع النجاح الواسع للشريط الوثائقي لمايكل مور "9/11 فاهرينهايت".
الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية
">Link
http://www.middle-east-online.com/?id=35049
Link